أبحاث

تاسيتوس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة

تاسيتوس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة

تاسيتوس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
تاسيتوس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة

الجزء الرابع – تاسيتوس 

تاسيتوس: المسيح المعدوم

يُعتبر “كورنيليوس تاسيتوس” بشكلٍ عام أعظم مؤّرخٍ رومانيّ، ومع ذلك فنحن لا نعرف نسبه، أو مكان وتاريخ ولادته وموته، ربّما عاش ما بين 56 و120م، وحتّى اسمه الأول ربّما كان بابليوس أو غايوس. لكننا نعرف أنه شغل عدداً من المناصب الإداريّة المهمّة، بما فيها القنصل الروماني لآسيا ما بين 112-113م، حيث كان قريباً من صديقه “بليني الأصغر”.

تناول عمله “التاريخ” من سنة 69 إلى 96 ميلادية، وهي فترة حكم الأباطرة “غالبا”، “أوثو”، “فيتيليوس”، “فيسباسيان”، “تيتوس”، “دوميشين”. ويتألف هذا العمل على الأرجح من اثني عشر كتاباً، بقى منها الكتب الأربعة الأولى وجزء من الكتاب الخامس. وكان آخر عمل غير منتهٍ لـ”تاسيتوس” هو “الحوليات”، الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 116م، ويتناول الأحداث خلال الأعوام 14 حتى 68 للميلاد، أي منذ موت أوغسطس وحتى نيرون، وقد ضمنها 16 أو 18 كتاباً. ولم يبق من “الحوليات” إلاّ أجزاء الكتب 1-4، والكتب 12-15 فقط فهي التي بقيت سليمة.

يُعدّ “الحوليات” واسمه الفعليّ: “منذ موت أوغسطس المعظّم”، أفضل أعمال “تاسيتوس” كما حظي باعتراف المؤرّخين على أنه أفضل مصادرنا للمعلومات عن هذه الفترة. ويكتب “تاسيتوس” بشكلٍ موجز ولكنه مُعَبِّر. ويبدو أنه يستخدم مصادره بحذر، حيث يكتب رواياتٍ لم يُطعن في دقّة أساسها بشكلٍ جديّ ابداً. وخلافاً لـ”سوتونيوس” فهو لا يهبط إلى مستوى نشر الشائعات والفضائح لإثبات وجهة نظره عن الإباطرة.

ويتّصف أسلوبه العامِّ بالتشاؤميّة، حيث يروي محنة الشعب الروماني وحالته في ظلّ النظام الحاكم، الذي أنتج سلسلة من الإباطرة غير الأكفاء غالباً، وغير الأخلاقيين عامّةً، من “تيبريوس” وحتّي “نيرون”. وقد علم “تاسيتوس” أنّ الإمبراطورية الأولى سوف تبدو فترةً سيّئةً، ولذلك فإن تحليلاته كانت لها استخداماتها لكنها قلّما حققت أي متعة – (الحوليات 4.339).

إن إساءات النظام الإمبراطوريّ قد أدّت إلى فسادٍ دينيّ وأخلاقيّ وسياسيّ لدى الشعب الرومانيّ، وقد أدّي هذا الفساد إلى عدم قدرة الطبقة الأرستقراطيّة إلى نقد التصرفات الفاسدة للإباطرة، واعتناق الناس في روما ذاتها مناهج دخيلة، بما فيها دياناتٍ دخيلة كالمسيحيّة.

كانت روما في حالة انحدار، إلاّ أن “تاسيتوس” لم يعتقد أن سقوطها كان أمراً حتمياً، فكان يكتب مؤمناً بنبُل الكتابة التاريخية الجيدة وتأثيرها الإخلاقيّ الإيجابيّ، وخاصّة على الأفراد الذين صاغوا مسار التاريخ، وهذا ما كان يعتقده معظم الرومانيين.

ونحصل على هذا التأثير الإيجابيّ من خلال إطراء الأفعال الحميدة والثناء عليها من أجل الأجيال القادمة، وشجب الأفعال السيئة بغية التأثير على الحكّام إيجابياً- (3.65)، وأن يتعلّم القارئ كيف يميّز الصواب من الخطأ – (4.33). كانت أعمال “تاسيتوس” منتشرةً بشكلٍ كبير في زمنه، وقد لا يكون من المبالغة القول: إنّ الإصلاح الذي حصل في الحكومة الرومانية في القرن الثاني يعود جزئياً إلى تأثير كتاباته.

تصف الأجزاء 38 وحتّى 45 من الكتاب 15 من “الحوليات” الحريق الكبير في روما وآثاره في عام 64م، الأمر الذي أدّى إلى تقديم المسيحيين والمسيح إلى قرّائه. ويبدأ “تاسيتوس” وصفه المطوّل للحريق بطرح السؤال عن هويّة المسؤول عن الحريق. يقول: “وبعد هذا حلّت كارثةٌ أخطر وأسوأ من كلّ الحرائق التي حلّت بالمدينة. ولا يمكن التأكيد إن كانت الطبيعة أم سوء الإمبراطور وراء الحريق، حيث تعتمد كلّ نسخةٍ مراجعها الخاصّة”- (الحوليات 15.38.1). يقدّم “تاسيتس” وصفاً حياً مفصّلاً للحريق، حيث أن الوصف الموجز لا يفيه حقّه.

ويكفي القول هنا أنّه في الصباح المبكّر من 19 تمّوز عام 64 للميلاد، اندلع حريقٌ في منطقة “سيركس ماكسيموس- السرك الأعظم”، وظلّ ينتشر مدّة ستة أيام، وخاصّة في الأقسام السكنيّة من المدينة رغم كلّ الجهود المبذولة لإخماده. وتمكّنت السلطات في النهاية من إخماده عبر تدمير أجزاء من المدينة. لكنّ النار اندلعت من جديد وانتشرت مدّة ثلاثة أيام في مناطق أخرى من روما.

وبالمجمل، فمن أصل أربعة عشر قسماً من روما تمّ تدمير ثلاثة أقسام بالكامل، وتضررت سبعة أقسام، ولم يتبقّ إلاّ أربعة أقسام سليمة. وفضلاً عن الأضرار الماديّة والخسائر البشريّة فقد فُقد العديد من الكنوز الثقافية القديمة.

قدّم “نيرون” الكثير من العون في البداية في مساعدة المنكوبين والمشرّدين، ومن ثمّ في إعادة الإعمار الذي أدّى إلى مدينة مقاومة للنار وأجمل بكثير. لكن سرعان ما تبيّن أنه اراد استخدام قطعة أرضٍ خاصّة لبناء قصرٍ كبير، “القصر الذهبي- دوموس أورا”، في قلب روما. وقد أدّى هذا الأمر، بالأضافة إلى عدد من الأحداث المريبة التي جرت أثناء وعقب الحريق، إلى انتشار شائعات أنً “نيرون” هو من أمر بافتعال الحريق.

ويبدأ “تاسيتوس” الفصل 44 بغموضٍ مقصود، حيث يعدد في البداية الإجراءات الرسمية التي اتُخذت من أجل التعامل مع آثار الحريق، المرجّح حدوثه بتوجيهٍ من “نيرون”. وتمّ إرضاء الآلهة بمراسم خاصّة. كما تمت استشارة كتب العرافة، مما أدى لتقديم صلوات أكثر للآلهة: “فولكان”، “غيريس”، “بروسريين”، “جونو”. كما أقيمت مآدب عشاء وصلواتٌ استمرت طوال الليل من قبل نساءٍ متزوجات. ومن ثمَّ يكشف “تاسيتس” عن أسباب هذه الإجراءات:

– لم تُفلح الجهود البشرية ولا كرم الإمبراطور ولا حتّى استرضاء الآلهة بإنهاء الاعتقادات المشينة أنّ الحريق كان مفتعلاً. وبالتالي، ولإخماد الشائعات، قام “نيرون” بتحويل الأتهام إلى أولئك الذين كُرهوا لأعمالهم المشينة، ومعاقبتهم بأكثر الطرق غرابةً، والذين كانت العامّة تدعوهم “المسيحيين”. وقد أُعدم موجد هذا الاسم: المسيح، في فترة حكم “تايبريوس” على يد الإمبراطور “بيلاطس البنطي”.

وبعد إخمادها بفترة من الوقت، عادت الإشاعات الفتاكة للظهور مرّةً أخرى ليس في منطقة يهودا، مصدر هذا الشرّ، فحسب بل في مدينة روما أيضاً، حيث تجتمع كافّة الأشياء السيئة والمشينة من كلّ مكانٍ وتصبح شائعة. ولذلك، تمّ بدايةً اعتقال أولئك الذين اعترفوا بالأمر، ومن ثمّ وبناءً على معلوماتهم أُدين عددً كبير من الناس، ليس من أجل افتعال الحريق بل من أجل بغض الجنس البشريّ.

وأضيفت السخرية إلى نهايتهم، فقد كانوا يُغطّون بجلود الحيوانات الميّتة ويتركون للكلاب تمزّقهم، أو أنهم يصلبون وفي نهاية اليوم يحرقون كالمشاعل. قدّم “نيرون” حدائقه لتكون مكاناً للعرض، كما خصص عرضاً في سركه، مندمجاً مع الناس في ملابس سائق عربات، أو واقفاً على عربة السباق خاصتّه. ولذلك نشأ شعورٌ بالشفقة على الرغم من الذنب الذي يستحقّ أقسي العقوبات ليكون عبرةً يحتذى بها، وذلك لأن الجميع أحسّ أنهم يُعاقبون على هذا النحو إرضاءً لوحشيّة رجلٍ واحد وليس من أجل المصلحة العامّة.

تمّ التشكيك بأمانة هذا الجزء في موضوعٍ ما، حيث يحمل النصّ بعض الإشكليات المهمّة كما تُظهر النسخ القياسيّة النقديّة. أدّت هذه الإشكاليات وغيرها في تفسير النصّ إلى عددٍ من الإدعاءات حُرّفت كلّها، أو الأجزاء الرئيسيّة منها. لكن هنالك أسباباً وجيهة تجعلنا نوافق الغالبية العظمى من الباحثين على أنّ هذا النصّ صحيحٌ بشكلٍ أساسيّ، على الرغم من الإشكاليات الناتجة بشكلٍ كبير عن أسلوب “تاسيتس” المختصر.

فهذا الفصل عامَةً يحمل نمط “تاسيتس” من حيث أسلوبه ومحتواه، كما ينسجم النصّ مع سياقه، ويُعتبر الخاتمة اللازمة للنقاش السابق حول حريق روما. وبما أن كتاب التأريخ لـ”سلبيسيوس سيفيروس” يتطابق مع جزءٍ كبيرٍ منه في بداية القرن الخامس، فلا بُدّ أنّ معظم التحريفات قد حدثت في الفترة الممتدة بين القرنين الثاني والرابع.

وبسرور ظاهر تشير “نورما ميلر” إلى أن “مفسّري النصوص القديمة من الوثنيين، ذوي النوايا الحسنة، لا يعبّرون عن أنفسهم بأسلوب “تاسيتوس” اللاتيني”، ويمكن أن يُقال الشيء نفسه عن الكتبة المسيحيين. وأخيراً، لا يمكن أن يكون أيّ من المزورين المسيحيين قد أشار إلى المسيحيّة بهذا الازدراء كما رأينا في “الحوليات 15.44″، إضافة إلى أنه لم يكن موضوعاً وصفياً فقط عند إضافة معلوماتٍ عن المسيح في “15.44.3”.

وتأتي الصعوبة النصيّة الوحيدة ذات الأهمية الخاصّة بدراستنا من الاستخدام الأول والوحيد لكلمة “مسيحيين” في الفصل 44. فمعظم النسخ النقدية القديمة تَقرأ “Christianoi”: “مسيحيين”. على أية حال، فإن النصّ الأصليّ لأقدم مخطوطة باقية، من الحقبة الثانية لعائلة “ميديتشي” في القرن الحادي عشر الميلادي، والتي تُعدّ بشكل شبه مؤكّد مصدر كافّة المخطوطات الباقية الأخرى، يَقرأ Chrestianoi: “كريستونيين”.

ويصححها أحد المفسّرين الثانويين لتُصبح Christianoi، وهي القراءة الأكثر تفضيلاً على أنها الأقدم والأصعب، وتتبناها النسخ النقدية الحالية الثلاث، ويستخدمها الباحثون الحديثون، كما أنها تُعطي معنًى أفضل ضمن سياقها.

ويصحح “تاسيتوس”، بإسلوبٍ مطابقٍ لنمطه الاختزاليّ، الفهم الخاطئ لكلمة “العامّة” بكتابة أنّ موجد هذا الاسم هو “المسيح” وليس “كريستوس” الاسم الشائع الذي أعطته العامّة ضمنياً. كان يمكن لـ”تاسيتوس” أن يكتب “موجد هذه الخرافات”، أو شيئاً مشابهاً، لكنّه يلفت انتباهنا بعبارته، الغريبة إلى حدً ما، إلى اسم الحركة من أجل ربطها مباشرةً وبشكلٍ صحيح باسم المسيح. ولا يمكننا التأكد من قراءة “كريستونيين” بسبب النقص في المخطوطات، لكن على العموم فإنها مرجّحة أكثر من “مسيحيين”.

أمّا الأدب الثانوي الذي يناقش كتابات “تاسيتوس” فهو شامل، وتتمثل أكبر مشكلةٍ في الدراسة الإكاديمية للفصل 44 في الربط بين الحريق واضطهاد “نيرون” للمسيحيين. هل كان “تاسيتوس” على حقّ في الربط بينهما بهذه القوّة؟ أم هل هما حدثان غير مرتبطين؟ كما يؤكّد كافّة المؤرّخين القدماء الباقين الذين كتبوا عن الحريق، وهل كان “نيرون” من أمر بافتعال الحريق؟ أم أنه كان حادثةً وحسب، أم هل صحيحٌ أنّ المسيحيين هم من أشعل النار؟ وتحت أي سلطةٍ قانونيّة أو حكمٍ قضائيّ تمّ معاقبة المسيحيين؟

ويمكن أن نتناول هذه الإشكليات ها هنا لأنها تؤثّر على موضعنا الأساسيّ، من خلال ما يقوله “تاسيتوس” عن المسيح. فمن بين كافّة المؤلفين الرومان، يقدّم لنا “تاسيتوس” أكثر المعلومات دقّة حول المسيح. لكنّ ما يقوله بشكلٍ واضح حول المسيح ينحصر في بداية جملةٍ واحدة في 15.44.3:

“أُعدم موجد هذا الاسم، المسيح في فترة حكم “تايبريوس” على يد وكيل الإمبراطور “بيلاطس البنطي”.

وفيما يلي نتتبع العناصر الأساسيّة الثلاثة لهذه العبارة: “اسم المسيح”. والمسيح بوصفه موجد حركة المسيحيين. وإعدامه في فترة حكم “تايبريوس” على يد وكيل الإمبراطور “بيلاطس البنطي”.

وكما رأينا، فإن “تاسيتوس” يهجئ كلمة “المسيح” بشكلٍ صحيح، ويستخدم هذه التهجئة ليصحح الخطأ الشائع “كريستوس”. ويتسم عمله بالمجمل بالانتباه لدقة التفاصيل. وبالنسبة “لتاسيتوس” فإن المسيحيين، وبالتالي موجدهم، ليسوا بالتأكيد “الكريستونيين”، أي “الجيدين والطيبين”، وبالأحرى فهم مكرهون لأعمالهم الشائنة- (15.44.2).

إن الكلمة التي يستخدمها “تاسيتوس” لوصف الأعمال الشائنة هي “flagitia”، وهي الكلمة التي استخدمها من قبل في (15.37) عن نيرون. ويقول: إن المسيحيين أصحاب “خرافات مهلكة” – (15.44.3)، ويحملون ذنباً يستحقّ أقسى العقوبات ليكون عبرةً يحتذى بها – (15.44.5).

يستخدم “تاسيتوس” كلمة “مسيح” على أنها اسم شخصيّ. وعلى ضوء الدقة التوثيقيّة التي تميّز عبارات “تاسيتوس” عن المسيح، فلماذا لم يستخدم “تاسيتوس” الاسم الشخصيً “يسوع”؟ ولا يمكن أن ننتقص من دقّة “تاسيتوس” الكليّة بسبب اعتباره كلمة “مسيح” اسماً شخصياً، وعدم معرفته اسم “يسوع” وذلك لسببين: أولاً، توجّه العهد الجديد نفسه إلى استخدام كلمة “مسيح” على أنها اسم علم مستقلّ عن “يسوع”.

ويمكن أن يكون هذا التوجّه قد انعكس في الاستخدام الذي وصل “تاسيتوس”، كما كان الأمر بالتأكيد في الاستخدام المسيحيّ الذي وصل “بليني” – (الرسائل 10.96). ثانياً، وأكثر أهميّة، حتّى لو أن “تاسيتوس” كان يعرف اسم “يسوع” فعلى الأرجح أنه لم يكن ليستخدمه في هذا السياق، لأن ذلك كان ليتداخل مع تفسيره لأصل “المسيحيين” من “المسيح” مما سيُربك قرّاءه.

يدعو “تاسيتوس” المسيح بموجد هذا الاسم لـ”المسيحيين”. ولا يعني هنا أن المسيح قد أسمى حركته تيمناً باسمه، بل إنّ عبارة “موجد هذا الاسم” تعني أن المسيح هو موجد الحركة التي تحمل اسمه، وبذلك يكون هنالك رابطً ماديّ بين الاسمين. فهم يُدعون المسيحيين لأنهم ينتمون إلى جماعة المسيح. هذا الرابط مهمّ في كيفيّة ربطه الضمنيّ للعقاب الذي تلقّاه المسيح مع العقاب الذي تلقّاه أتباعه على يد “نيرون”. كما أن تصريف كلمة “Christianoi” باللاحقة “-ianoi” التي تدلّ على الازدراء، يتناسب تماماً مع هذا السياق، حيث لا يوجد أي شيء جيّد لدى “تاسيتوس” ليقوله عن المسيحيين.

كان من الممكن أن يكتفي “تاسيتوس” بهذا المقدار من وصفه للمسيح، بعد أن فسرّ أصل كلمة “المسيحيين” بنسبها إلى اسمه. لكنًه يتابع بإخبار قرّائه أن المسيح ” قد أعدم في فترة حكم “تايبريوس” على يد وكيل الإمبراطور “بيلاطس البنطي”. يقوم العديد من المترجمين الإنكليز بقلب ترتيب العبارتين” في فترة حكم “تايبريوس” “و” على يد وكيل الإمبراطور “بيلاطس البنطي” إلاّ أنّ “تاسيتوس” وضعها بالترتيب الأمثل الذي يتوجب عليه أثناء الترجمة.

أمّا عبارة “قد أُعدم” فالأصل اللاتينيَ لها يطول قليلاً ليعني “إنزال عقوبة” وخاصّةً عندما تكون عقوبة الموت. لتصبح في هذا السياق “إنزال عقوبة الموت على” أي “إعدام”. يُعبّر “تاسيتوس” عن فكرة الموت بعدّة طرقٍ، ويتناسب هذا التعبير مع أسلوبه. لكنّه لا يقول صراحةً أنّ يسوع قد صُلب. بل إن إعدام “نيرون” للمسيحيين يربط مصيرهم بمصير المسيح الذي أُعدم في فترة حكم “تايبريوس”.

وكما يُشير “هاريس” فإن تكرار الفعل الأساسيّ في الأصل اللاتينيّ يربط العبارتين ببعضهما، كان المسيحيون “يُعاقبون بأكثر الطرق غرابةً” على يد “نيرون” و” أُعدم المسيح” على يد “بيلاطس”. وتتناسب فكرة حرق بعض، أو كلّ، المسيحيين مع العقوبة الخاصّة بافتعال الحريق في القانون الروماني، على أساس الألواح العشر القديمة. وبذلك جعل “نيرون” العقوبة مناسبةً للجريمة، لكنّه طبقها بقسوة وهمجيّة أدّت إلى تعاطف الناس مع المسيحيين.

أخيراً يُشير “تاسيتوس” إلى أن المسيح قد أُعدم في فترة حكم “تايبريوس” على يد وكيل الإمبراطور “بيلاطس البنطي”. (حكم الإمبراطور “تايبريوس” منذ عام 14 وحتى 37 للميلاد). ولا يذكر “تاسيتوس” العام الذي مات فيه المسيح، أو بالطريقة الأنسب: “صُلب من أجلنا المسيح”، وربّما لم يكن مهماً، وكأن قُرّاءه قد فهموا أنها جريمةً ضدّ روما.

كان “بيلاطس البنطي” الحاكم الروماني على منطقة يهودا من عام 26 إلى عام 36، وهي فترة تقع ضمن حكم “تايبريوس”. أُعطي اسم “بيلاطس” المكان في يهودا، والزمان بشكلٍ دقيق متوافق مع الأناجيل الكنسية ومع كتابات فيلون ويوسيفوس. تتفق الأناجيل الكنسية الأربعة أنّ “بيلاطس” هو بالفعل من أعطى الأمر بإعدام يسوع. ويتناسب هنا حكم “بروس”: “يمكن اعتبار أنه من سخرية التاريخ أن الأشارة الوحيدة الباقية إلى بيلاطس، في الكتابات الوثنية، تذكره بسبب حكم الموت الذي أنزله على المسيح”.

يُعدّ وصف “تاسيتوس” لـ”بيلاطس” على أنه وكيل الإمبراطور مفارقةً تأريخيّة، فقبل أن يمنح “كلاوديوس” عام 41 للميلاد كلّ حاكم إقليميّ من طبقة الفرسان لقبَ “وكيل الإمبراطور” كان الحاكم الروماني يُدعى “والي”. وقد أُثبت هذا الأمر من خلال الاكتشاف المثير لحجر بيلاطس في مدينة قيصريّة فلسطين عام 1961، وهو أول دليل كتابيّ لبيلاطس يعود لحوالي عام 31م.

ويقرأ: “إن طبرية [قيصريّة][1]، بيلاطس [البنـ]ـطيّ، [وا]لي يهودا، يمـ[نح]”. حتّى بعد هذا التغيير عام 41م، لا بدّ أنه كان هنالك حرية محددة في استخدام هذين اللقبين، وخاصّة في الكتابات غير الرسميّة. ويتّفق معظم الباحثين أنّ “تاسيتوس” مثل غيره من الباحثين، قد استخدم لقب “وكيل الإمبراطور” الذي كان شائعاً بشكلٍ أكبر في زمنه، بدلاً من اللقب الأقدم والأصحّ تاريخياً “والي”.

وكما يشير “ويلز” فبالكاد يؤثر مثل هذا الخطأ على دقّة عبارات “تاسيتوس” الأخرى عن يسوع. فاسم “بيلاطس البنطيّ” ومكانه وتاريخه معلومات مؤكّدة، كما أنّ الوالي أو وكيل الإمبراطور في يهودا كان يتمتع بصلاحيّة إعدام المجرمين الذين لم يكونوا مواطنين رومانيين.

ولنختم نقاشنا حول مضمون ما قاله “تاسيتوس” عن يسوع، فنجد أنه من الملفت أن معظم ما يقوله “تاسيتوس” عن المسيحيين سلبيٌ بشدةً ويثير أسئلة المؤرّخين، بينما ما قاله بصراحةٍ عن المسيح حياديّ ومقبول على أنه دقيق. وتقتصر إشاراته إلى حياة المسيح إلى إيجاد لحركته وموته، ويقدّم موت المسيح على أنه مسألةٌ رومانيّة فقط. وحتّى في حال علم “تاسيتوس” بالأمر فلم يكن لديه أدنى سبب لذكر مشاركة اليهود فيه.

إضافة إلى أن “تاسيتوس” لا يأتي على ذكر تعاليم المسيح، ولا يفسّر إعادة انبعاث حركته بعد قيامته، كما أنه لا يذكر أن المسيح كان يُعبد من قبل المسيحيين. أخيراً، لا ينسب “تاسيتوس” أيّاً من “أفعال المسيحيين المشينة” إلى المسيح، ربّما أنه لم يستطع لكن “تاسيتوس” ما زال يرى رابطاً سيئاً بين الاثنين. فالمسيحيون يتبعون رجلاً تمّ إعدامه من قبل روما، وهم يستحقّون الموت بشدّة. لكنّ خطأ “نيرون” كان بعقابه للمسيحيين الذي أثار التعاطف العام مع حركةٍ كانت بحقّ مكروهة، حتّى أن “تاسيتوس” نفسه شاركهم هذا التعاطف.

ما هو مصدر معلومات “تاسيتوس” عن المسيح؟ اقترح المؤرخون عدّة أنواع من المصادر، مكتوبة أو شفهية، مسيحيّة ورومانية. وأن نبيّن من أين لم يستق معلوماته، أسهل بكثير من ابيان من أين حصل عليها. أولاً، بالتأكيد لم يعتمد، بشكل مباشر أو غير مباشر، على أيّ كتابات جاءت من العهد الجديد.

ولا يمكن إثبات أي اعتماد كتابي أو شفهي بين وصفه وروايات الأناجيل، فالصياغة مختلفة تماماً، ويتمثّل التقاطع الوحيد بينهما باسم “بيلاطس البنطي”، وهذا أمرٌ يمكن الحصول عليه بسهولة من أيّ مكانٍ آخر. ولم يعتمد “تاسيتوس” في معلوماته على أي وثيقة مسيحيّةٍ أخرى، وذلك بسبب بغضه للمسيحيين.

ثانياً، لا يبدو ان “تاسيتوس” قد اعتمد على أيّ من الشائعات العامّة، لأنه عندها كان سيشير ربّما إلي ذلك بتعبيرٍ مثل “أخبر أو تحدّث”، أو بدعوتها صراحةً بالإشاعات، كما فعل في روايته عن أن “نيرون” قد اعتلى مسرحه الخاصّ ورافق إحراق روما بإغنيةٍ – (15.39)، والتي تحوّلت إلى الفكرة الشعبيّة أنّ :نيرون” كان يعزف على الكمان بينما روما تُحرق.

علاوةً على ذلك، فإن الإشاعات لا تؤدّي عادةً إلى دقّةٍ توثيقيّة عن مواضيع جدليّة مثل المسيح والمسيحيّة. ولا يمكننا أن ننكر إمكانية أن يكون “تاسيتوس” قد وجد هذه المعلومات عن المسيح في تاريخ رومانيّ آخر مفقودٌ الآن، واستخدمها مصدراً له. على أية حال، لا يمكن إثبات هذا الامر أيضاً، لأن “تاسيتوس” نادراً ما يشير إلى المكان الذي يعتمد فيه على مصادره، أو حتّي يسميّها.

مصدرٌ آخر محتمل، لكن غير مؤكّد، هو تقريرٌ الشرطة أو القضاء كُتب خلال التحقيقات بعد الحريق، والذي يمكن أن يكون قد ذكر أصل المسيحيّة. هل وجد “تاسيتوس” سجلاً عن المسيح بين السجلات الرومانية عالية المستوى؟ وقد كان هنالك نوعان من هذه السجلات الرومانية، “كومنتاري برينسيبس- The commentarii principis” و “أكتا سيناتس- The Acta Senatus”. تمثّل “كومنتاري برينسيبس” سجلّ المحكمة للإباطرة.

وتحتوي على سجلاّت مثل الحملات العسكريّة، المراسيم والقرارات وغيرها من إجراءات الإمبراطور القانونية. ويبيّن “تاسيتوس” أنّ هذه السجلات كانت سريّةً ومصانةً، وبذلك لم يكن باستطاعته الاطلاع عليها. ويُسجل في كتايه (التاريخ 4.40) توضيحاً للطبيعة السريّة لهذه السجلاّت، ويبيّن أنّ مجلس الشيوخ كان يرغب باستخدام “كومنتاري برينسيبس” عند التحقيق في الجرائم، لكنّ طلبهم إليها قد رُفض من قبل الإمبراطور بالإدعاء القديم للامتياز الحصريّ.

على الرغم من عدم قدرة “تاسيتوس” على الوصول إلى “كومنتاري برينسيبس” إلاّ أنّه يحتّج على الحالة السيئة المُفترضة للسجلات. ومن المحتمل أن نجد إشارةً أخرى إلى حالة هذه السجلات في رسائل “بليني” إلى “تراجان”، حيث أن “بليني” يقدّم النصّ الكامل في كلّ مرّةٍ يُشير فيها إلي إجراءٍ إمبراطوريّ. النوع الآخر من السجلات الرسميّة “أكتا سيناتس” سجلّ الأعمال والنشاطات الخاصّة لمجلس الشيوخ.

هذه السجلات كانت متاحة، ويقرّ “تاسيتوس” أنه كان يستخدمها، لكنّ تقريراً عن يسوع لن يوجد هنا على الأغلب. لن يكون تقريراً من “بيلاطس” أو من أيّ مسؤولٍ رومانيّ في يهودا، لأن منطقة يهودا كانت ولايةً إمبراطورية وليست تابعة لمجلس الشيوخ، وبذلك فإن حكّام هذه المنطقة لن يبعثوا بتقاريرهم إلى مجلس الشيوخ. لكن من الممكن أن يكون مجلس الشيوخ قد حقق في موضوع الحريق عام 64 وأجرى بحثاً عن المسيح من أجل التوضيح، وانتهى هذا التقرير في أرشيفه.

لكن يبقى هذا الأمر مجرّد افتراض، حيث لا يوجد لدينا أيّ إشارة لها من أيّ مصدرٍ باقٍ. علاوةً على ذلك، يستخدم “تاسيتوس” تعبير “وكيل الإمبراطور” في غير مكانه التاريخيّ، وقد يشير ذلك إلى أنه لم يستخدم وثيقةً رسميّة من السجل الإمبراطوريّ ولا من سجلّ مجلس الشيوخ، لأن هكذا وثيقة لن تقوم بمثل هذا الخطأ.

مصدرٌ ممتعٌ لمعلومات “تاسيتوس” مع أنه غير مرجّح، يمكن أن يُستنتج من القلّة من الكتّاب المسيحيين القدماء. يذكر هؤلاء الكتّاب أنّ “بيلاطس البنطي” كتب تقريراً إلى روما مباشرةً بعد موت يسوع، أو عندما بدأت حركته بالاتساع بعد موته. ويبيّن “يوستونيوس الشهيد”، عند كتابته ” الأعتذار الأول” إلى الإمبراطور حوالي عام 150، أن تقريراً عن محاكمة يسوع ومعاقبته كان يُدعى “سجلات بيلاطس” قد أرسل إلى روما، وأنه كان يحتوي حتّى على دلائل على معجزات يسوع – (الاعتذار الأوّل 48،35).

على الرغم من أن “تيرتولين” يكرر هذا الادعاء ضدّ مارسيون – (19،4.7/ الاعتذار – 12،5)، إلاّ أنه يبدو غالباً غير محتمل. فلا يمكن دعم هذا الادعاء، ولا يوجد لدينا أي أشارة إلى أنّ الحكّام الرومان كانوا يكتبون تقارير عن أفراد من غير المواطنين الرومان الذين حُكم عليهم بالموت. ومن المحتمل أكثر أنّ “يوستونيوس” افترض وجود هذه الوثيقة بمخيّلته الدينيّة لكي يدعم موقف المسيحيّة في أعين الإمبراطور، كما كان يمكن أنّ يدّعي أنّ الإمبراطور يمتلك “سجلاً لإحصاءات السكّان” ويُثبت أنّ يسوع ولد في بيت لحم! – (الاعتذار الأول 34).

أو أنّ “يوستونيوس” كان يعرف وثيقةً مسيحيّة ملفّقة ويعتبرها موثوقةً، كما فعل “تيرتولين”. في العهد الجديد وفي كتابات “فيلون” و”يوسيفوس” اشتهر “بيلاطس” بقسوته وعدم عدله بين رعاياه، ومن غير الممكن تصوّر أنه كان سيبعث تقريراً إلى الإمبراطور يبيّن فيه تفاصيل ما سيصبح أحد أكبر إخفاقاته. حتّى لو أن “بيلاطس” قد نظم تقريراً عن محاكمة يسوع، وهو ما يعتقده قلّة فقط اليوم، فقد كان سيُدرج في الأرشيف الإمبراطوري السريّ ولم يكن ليتوفّر لـ”تاسيتوس” أو غيره من الكتّاب.

وإن تسمية “تاسيتوس” لـ”بيلاطس” بوكيل الإمبراطور بدلاً من الوالي هو دليلٌ على أنّ معلوماته لا تعتمد على وثائق من “بيلاطس” نفسه، فما كان “بيلاطس” يكتب لقبه الخاصّ إلا بشكلٍ صحيح، وعندها كان “تاسيتوس” على الأرجح سينقله بأمانة.

المصدر المرجّح لمعلومات “تاسيتوس” عن المسيح هو تعامله الخاصّ مع مسيحيين، بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينما لا يأتي “تاسيتوس” على ذكر أيّ تجربةٍ مع مسيحيين، إلاّ أنه مرّ بفترتين من حياته حيث كان من الممكن أن يكتسب معلومات عنهم. تعود الفترة الثانية إلى كونه حاكم ولاية آسيا. في الوقت ذاته، كان صديقه المقرّب “بليني الأصغر”، حاكم ولاية بيثينيا المجاورة، قد واجه بعض الصعوبات في التعامل مع بعض المسيحيين. وكان من الممكن أن يجري “تاسيتوس” تحقيقاتٍ مشابهةٍ أو محاكماتٍ للمسيحيين، الذين تواجدوا في عدّة مدنٍ من آسيا، أو أنه اكتسب معلوماته من “بليني”.

أمّا الفترة الأولى التي قد يكون “تاسيتوس” تعلّم فيها عن المسيحيين فغالباً ما تلقى اهتماماً من قبل المؤرخين الذين يحاولون اكتشاف مصادر “تاسيتوس”. ففي عام 88 للميلاد، أصبح “تاسيتوس” عضواً في “كوينديسمفيري ساكريس فاسينديس- Quindecimviri Sacris Faciundis”. المنظمة الكهنوتية المكلفّة بعدة أمورٍ ومنها المحافظة على كتب العرافة، والإشراف على ممارسات الطوائف الدخيلة المُجازة رسمياً في المدينة.

ويتحدّث “تاسيتوس” في هذا الفصل عن استشارة كتب العرافة، ويعرف التدابير الشعائريّة التي تلت ذلك بدقّة –(15.44)، وهي أمورٌ كان يمكن أن يعلم عنها في خدمته في المنظمة الكهنوتية. وعلى الرغم من أنّ المسيحيّة لم تكن أبداً طائفةً مُجازة بشكلٍ رسميّ، فإنه من الطبيعي أن نفترض أن مجمعاً كهنوتياً مكلّفاً بتنظيم الأديان المشروعة سيعرف شيئاً عن الأديان غير المشروعة. ويصبح هذا الأمر محتملاً أكثر مع ازدياد ضرورة تمييز المسيحيّة غير المشروعة عن اليهوديّة المشروعة. وبذلك ربما تكون المعلومات عن طائفة المسيحيين المحظورة قد وصلت إليه في هذا الوقت.

على الرغم من أن ما قاله “تاسيتوس” عن المسيحيّة كان وسيبقى على الأرجح إشكالياً، إلاّ أنّ ما قاله عن المسيح واضحاٌ تماماً. ويقدّم “تاسيتوس” في معلوماته المتناثرة لكن الدقيقة أقوى دليل على موت يسوع خارج العهد الجديد. وقد يُعتقد أن ذكره المقتضب للمسيح يدعم بعض العناصر الأساسيّة للعهد الجديد.

ولكن هل تؤمّن “شهادة تاسيتوس” هذه دليلاً حاسماً على وجود يسوع؟ إذا استطعنا أن نتأكد أنّ رواية “تاسيتوس” كانت مستندة على مصدر غير مسيحيّ فإن الإجابة ستكون بالإيجاب، لكن وكما رأينا فلا يمكن تأكيد استقلالية مثل هذه المعلومات. وكما يستنتج “ر. ت. فرانس”: بينما يؤيّد دليل “تاسيتوس” روايات العهد الجديد عن موت يسوع، فلا يستطيع لوحده أن يثبت حصول هذه الأحداث كما تمّ إخبار “تاسيتوس”، أو حتّى إثبات وجود يسوع.

ويرى “فرانس” وهو محقّ بذلك، أنه يوجد عدد من الأدلة المقنعة عن وجود يسوع في العهد الجديد. ويفترض “تاسيتوس”، وهو مؤرّخ دقيق، وجود يسوع ولم يكن لديه سبب ليشك بذلك.

لقراءة بقية السلسلة:

[1]  ما بين الأقواس هو ما تمّ إكماله من الأحرف اللاتينية المفقودة.

تاسيتوس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)