أبحاث

يسوع التاريخي في كتابات ما بعد العهد الجديد

يسوع التاريخي في كتابات ما بعد العهد الجديد

يسوع التاريخي في كتابات ما بعد العهد الجديد

يسوع التاريخي في كتابات ما بعد العهد الجديد
يسوع التاريخي في كتابات ما بعد العهد الجديد

في هذا الفصل الأخير، سنقوم بدراسة وثائق مسيحية تم كتابتها بعد العهد الجديد تشهد على يسوع التاريخي. أولاً، سنقوم بدراسة الأغرافا، وهي أقوال يسوع التي لم يتم “كتابتها” في الأناجيل الكنسية. ومن ثم سنقدم لمحة عامة عن كتابات نجع حمادي، كما سنقدم معالجة للوثيقة الأكثر أهمية بالنسبة لموضوعنا: إنجيل توما.

وبعد ذلك، سنقوم بدراسة الأسفار الدينية التي لم يشملها العهد الجديد، لا سيما وثيقتين تظهران في البحوث التي أجريت مؤخراً على يسوع التاريخي: إنجيل بطرس وإنجيل مرقص السري. أخيراً، سندرس وثيقة يهودية مسيحية من الاعترافات الكليمنتية الكاذبة، وصعود يعقوب الذي يحتوي على شهادة أكمل ليسوع.

الأغرافا: أقوال يسوع المتفرقة

لم يكن ممكناً للأناجيل الكنسية الأربعة جمع كل شيء قام به يسوع أو قاله خلال تأدية رسالته، أو حتى ما تذكره الكنيسة الأولى عنه. فهذه الأناجيل لا تحتوي إلا على مقتطفات من تقاليد يسوع، وعندما ينظر المرء إلى التداخل الواسع في المحتويات، سيجد أن هذه المحتويات ضئيلة. توضح الآية (21: 25) من إنجيل يوحنا هذه الانتقائية، وتفسرها على أنه تم تسجيل كل الأشياء الي قام بها يسوع، عندها لن يكون العالم قادراً على احتواء الكتب التي كانت ستكتب.

ويتفق الباحثون بصورة عامة: على أنه تم الحفاظ على تدفق كبير من التقاليد الشفوية، حيث تم إخضاعها للتنسيق والتنظيم. ويقول كثيرون: إنه تم تحديد أقوال يسوع وأفعاله ليتم استخدام كل ذلك في الكنيسة. ولم ينضب هذا التدفق عندما تمت كتابة الأناجيل الكنسية بين عامي 70 إلى 100م. بل استمر في التدفق خلال سنوات المسيحية الأولى، إلى جانب الكتابات المدونة والمستقلة عنها على حد سواء.

ورغم كل ذلك، قام يسوع بالتعليم من خلال “صوته الحي”، وحافظت الكنيسة الأولى واستخدمت تعاليمه على حد بعيد مع الصوت الحي، حيث فضل ذلك بعض قادة الكنيسة في القرن الثاني مثل بابياس. وقد كانت التقاليد الشفوية لأقوال يسوع بارزة في كل فترة من فترات العهد الجديد، وفي تاريخ الكنيسة التالية في القرن الرابع، وأحياناً ما كانت تجد طريقها إلى كتابات المسيحيين. فهم يقدمون لنا لمحة قد تكون كامل عن يسوع.

 إن الكلمة اليونانية “أغرافا” تعني حرفيا: “أشياء غير مكتوبة”. فهي مصطلح غريب ومضلل إلى حد ما، لأنه إذا كانت هذه الأقوال فعلاً غير مكتوبة، لما تم الحفاظ عليها على مدى ألفي عام. تشير الأغرافا في دراسة الكتابات المسيحية الأولى بصورة أساسية إلى التقاليد التي تتحدث عن يسوع ولم يتم كتابتها في الأناجيل الكنسية، إلا أنها وجدت طريقها من خلال عمليات الاقتباس التي وردت في كتابات أخرى للمسيحيين الأوائل.

وعلى الرغم من أن المصطلح يمكن أن يشير إلى الأعمال التي قام بها يسوع أو إلى الروايات السردية عنه، إلا أنه يبقى في الغالب يشير إلى الأقوال التي تم الاستشهاد بها والحفاظ عليها. إن تلخيص سبب ذلك ليس صعباً. الأقوال وحدها أو الأقوال التي تُسبق بمقدمة قصيرة لإغناء السياق الضروري، أسهل على الحفظ والاستشهاد من الروايات السردية. فعلى سبيل المثال: وُجدت كمية قليلة من الأغرافا في العهد الجديد، فالأصحاح (20: 35) يشير إلى قول ليسوع نقله بولس: “إنه لمن المبارك أن تعطي أكثر من أن تأخذ”.

ويشير بولس نفسه في مناسبة نادرة إشارة صريحة إلى أقوال يسوع (1كورنثوس 7: 10، 14: 9، 11: 24-25، كلمات قربانية)، وربما رسالة (تسالونيكي الأولى 4: 15-17). كذلك، تتكرر بعض الأغرافا في القراءات المختلفة لمخطوطات العهد الجديد، على سبيل المثال، هناك قراءة مختلفة للوقا (6: 5) في مخطوطة بزا في القرن الخامس، تقول:

في نفس اليوم، عندما رأى أحد الرجال يعمل في يوم السبت، قال له يسوع: “أيها الرجل، إذا كنت تعرف حقاً ما أنت فاعل، فأنت سعيد، لكن إذا لم تكن كذلك، فأنت رجيم وتنتهك القانون”. إن أفضل مثال معروف عن كتابات الأغرافا السردية هي قصة المرأة التي وقعت في الزنا، القصة المحفوظة في بعض مخطوطات (يوحنا 7: 53-8: 11)، وهي تقليد غير موجود في أفضل مخطوطات يوحنا.

وسننظر أثناء تناولنا للأغرافا في أقوال يسوع غير المكتوبة التي سجلها آباء الكنيسة، بالإضافة إلى تلك الأقوال الموجودة في الكتب القديمة للعهد الجديد. فتدعي عدة مقاطع جاءت عن آباء الكنيسة الأوائل، على سبيل المثال: بابياس، يوستينوس الشهيد، ترتوليان، إكليمندس الإسكندري، وآخرون، أنها تحتوي على أقوال يسوع التي ربما جاءت من تقليد شفهي موثوق. فبعض الاستشهادات جاءت في وقت أبكر من غيرها، إلا أن هذه الاستشهادات وحدها لا تتضمن الأصالة.

فقد كتب بابياس (60-130)، وهو أسقف هيرابوليس في فريجية، تفسيراً لكلمات الرب يقع في خمسة كتب أسماها: “الصوت الحي والباقي”، حيث كان الهدف منها جمع كل التقاليد الشفوية ليسوع، وهذا عمل غير موجود في الكتابات المسيحية. وهذا الكتاب مفقود حالياً، إلا أن إيريناوس اقتبسه في القرن الثاني، وكذلك الأمر بالنسبة ليوسبيوس في القرن الرابع.

وإذا أردنا الحكم عليه من خلال نوعية الاقتباسات القليلة التي بقيت، فقيمة الكتاب لا تذكر. وقيل الشيء ذاته على القسم الأكبر للأغرافا التي بقيت على قيد الحياة. ويمكننا الاطلاع على بعض العينات من الأقوال القليلة ليسوع المشكوك في صحتها من أجل إظهار الطابع العام لها:

ستأتي أيام عندما تحمل كل شجرة عنب 10000 غصن، وكل غصن يحمل 10000 غصين، وكل غصين يحمل 10000 عنقود، وكل عنقود يحمل 10000 حبة عنب، وكل حبة عنب عندما تُعصر ستنتج خمسة وعشرين مقداراً من الخمر. عندما يمسك أي قديس بأي عنقود، سيصرخ عنقود آخر: أنا أفضل عنقود، خذني! بارك الرب من خلالي! وبالمثل، فإن حبة ستنتج عشرة أرطال من الدقيق الفاخر النقي اللامع.

وستصبح غيرها من الفواكه والبذور والأعشاب مثمرة وفقاً لطبيعتها بصورة نسبية. وستعيش جميع الحيوانات التي تتغذى على منتجات هذه التربة بسلام وانسجام مع بعضها البعض، وستخضع خضوعاً كاملاً للبشر. (إرنايوس، ضد الهرطقات 5. 33. 3)

والد الرب وإخوته يقولون له: يوحنا المعمدان يُعمد لمغفرة الخطايا. دعنا نذهب ليعمدنا. لكنه قال لهم: هي ارتكب آثاماً. من أجل أن أذهب ليعمدني؟ إلا هذا الشيء الذي قلته للتو فهو خطيئة الجهل. (جيروم، حوار ضد البيلاجيين 3. 2، نقلاً عن إنجيل النصارى المفقود).

يشبه ملكوت الآب امراً يريد قتل صاحب السلطان، وبينما هو في بيته، امتشق سيفه وطعن الجدار ليتأكد من قوة ساعده، ثم قتل صاحب السلطان. (إنجيل توما 98).

إن إخوتي وورثتي هم أولئك الذين ينفذون رغبة والدي، وبالتالي لا تصيح لأحد والدي على الأرض، لأن هناك سادة على الأرض، لكن الآب في السماء، ومنه تنحدر جميع العائلات سواءً كانت في السماء أو على الأرض. (إكليمندس، قصيدة الأنبياء 20).

أنا البوابة الحقيقية. (هيبوليتوس، التفنيد 5. 8. 20).

هذه هي الأغرافا التي كانت تخضع للفحص في معظم الأحيان من أجل موثوقيتها الممكنة:

أطلب الأشياء العظيمة، وسيمنحك الله ما هو صغير. (إكليمندس الإسكندري، ستروماتا 1. 24. 158).

اطلب الأشياء العظيمة، وسيتم منحك الأشياء الصغيرة، اطلب الأشياء السماوية، وسيتم منحك الأشياء الدنيوية (أوريجانوس، في الصلاة 2).

القريب مني قريب من النار، والبعيد عني بعيد عن الملكوت. (أوريجانوس مواعظ عن إرميا 3. 3، إنجيل توما 82)

سيأتي الكثيرون باسمي مرتدين من الخارج ملابس من جلود الغنم، لكنهم من الداخل ذئاب خاطفة (يوستينوس، حوار مع تريفون 35: 3).

سيكون هناك انقسامات وهرطقات. (يوستينوس، حوار مع تريفون 35: 3).

إن تم تجميعكم معي في حضن ولم تحافظوا على وصاياي، فسوف أطردكم وأقول لكم: اذهبوا عني! لا أعرف من أين جئتم، أنتم مرتكبو الخطيئة. (2 كليمنت).

لا يمكن لأحد الحصول على ملكوت السماء إن لم يفتتن. (ترتليان، في المعمودية 20).

لقد اخترت لنفسي الأفضل، أفضل أولئك الذين أعطاني إياهم أبي في السماء. (أوسابيوس من قيصيرية، التجلي الإلهي 4. 12، نقلاً عن الإنجيل بحسب العبرانيين).

الذي يقف اليوم بعيداً سيكون غداً بالقرب مني. (أوكسيرينخوس بابيروس 1224).

وأخيراً يأتي هذا القول الذي يعد من أكثر أقوال الأغرفا إثارة والأكثر مناقشة:

كونوا صرافي نقود أكفاء! (أوريجانوس، تعليق على يوحنا 19. 7. 12، المواعظ 2. 51. 1، 3. 50. 2، 18. 20. 4، الكثير من آباء الكنيسة، بالمجمل نحو سبعين استشهاد أو تلميح).

كيف يمكن تقييم الأغرافا في مسيرة البحث عن يسوع التاريخي؟ فقد توصل معظم العلماء الذين عملوا على هذه التقييمات إلى استنتاج سلبي بالكامل فيما يتعلق بمصداقيتها. حتى أن العملية هي عملية سلبية ومستبعدة، وإن هذه الأقوال التي يمكن تفسيرها على أنها صدرت عن يسوع تلاشت قبل كل شيء.

إن المعايير المستخدمة في المقام الأول هي تلك التي تتعلق بالمحتوى، التي تتخلص من الأقوال التي تم تضمينها في القصص السردية الأسطورية فيما بعد، على سبيل المثال، والتي هي بكل وضوح غنوصية، أو مستمدة من جدليات القرن الثاني، ومن تلك المتعلقة بتاريخ التقليد، التي تستبعد، على سبيل المثال: الأقوال التي تعتمد من الناحية الأدبية على الأناجيل الكنسية، أو تلك التي نشأت بصورة واضحة في كتابات أخرى. إن المجموعة الأولى من الأغرافا التي ذكرت أعلاه تندرج في هاتين الفئتين.

يختلف العلماء في تطبيق هذه المعايير، فبعضهم يستبعد ببساطة قولاً مثل: “إنه لمن المبارك أن تعطي أكثر من أن تأخذ”. لأنه يعكس الحكمة اليهودية واليونانية الرومانية، حتى وإن كان القول يبدو أنه ينسجم شكلاً ومضموناً مع رسالة يسوع الحقيقية.

في الوقت الذي عادةً ما يظهر فيه أن أقوال الحكمة العامة قد تم إدراجها في التقليد المسيحي، لا يمكن أن يكون هذا هو الوضع دائماً. إذا تم استبعاد كل شيء يحمل توجه الحكمة الشائعة، سيكون ذلك بمثابة أن نفترض خطأ أن يسوع التاريخي لم يستخدم نهائياً الحكمة الشائعة حوله. وبعد تطبيق معياري المصداقية، يتم اختبار تلك الأقوال المتبقية وفق مواد يسوع المفترض أن تكون حقيقية في الأناجيل الكنسية.

في النهاية، قد يكون عدد من الأغرافا حقيقياً، وعلى الأرجح قلة مختارة من تلك الأغرافا، إلا أن الغالبية العظمى منها غير حقيقية نهائياً. ومع التيار الواسع للتقليد الشفوي والاهتمام بأقوال يسوع التاريخي في الكنيسة الأولى، نتوقع أن يكون الكثير من تلك الأقوال حقيقياً، إلا أن هناك عدة أسباب لا تجعل القضية كذلك.

أولاً، الحفاظ على هذه الأقوال يرجع إلى حد ما إلى المصادفة التاريخية. ويعود فضل الاستشهاد بتلك الأقوال في الكتابات المسيحية إلى قضايا لاهوتية في القرون الأربعة التالية، وليس نظراً للاهتمام بأقوال يسوع التاريخي في حد ذاتها. كما لم يتم الحفاظ على هذه الكتابات نظراً لأقوال يسوع التاريخي التي احتوت عليها. وبالتالي، ليس لدينا أي طريقة يمكننا من خلالها أن نعرف على وجه اليقين أن كانت تلك الأقوال التي بقيت على قيد الحياة تمثل تلك التي لم تعد موجودة.

ثانياً، عادة ما تأتي هذه الأقوال بسياق وجيز أو معدوم، وبالتالي يكون الأمر أكثر صعوبة إذا ما أردنا التأكد من صحة ادعاءات هذه الأقوال. أحياناً يشير الكتّاب الذين يقتبسون تلك الأقوال إلى مكانها في العهد الجديد، لكن ليس دائماً. فتلك الأقوال هي حقاً “أقوال معزولة” كما وصفها أوتفريد هوفياس، وعزلتها تلك تجعل تفسيرها صعباً.

ثالثاً، على الرغم من أنه تم نقل هذه الأقوال على أنها ممعنة في القدم، إلا أنه تم تسجيلها بعد يسوع بفترة زمنية لا بأس بها. لكن لا يشكل هذا الأمر ضربة تلقائية لمصداقيتها، لأنه يمكن للتقليد الشفوي أن يكون متوازناً ومطابقاً للأصل لفترة طويلة. ومع ذلك، تنطبق القاعدة التاريخية العامة: كلما كان التقليد أقرب، سواء كان مكتوباً أو شفوياً ولا يفتقد إلى أصله المزعوم، كلما كان أفضل.

رابعاً، كما مر سابقاً فأساس المقارنة هو أقوال يسوع التاريخي في الأناجيل الكنسية، وعادة ما تكون الأناجيل السينوبتية، وهذا يعني أن الأقوال التي تختلف اختلافاً كبيراً من حيث الشكل أو المضمون من المرجح أن تكون مستبعدة على الرغم من أنها قد تكون حقيقية. علاوة على ذلك، يعني ذلك أن إمكانية الحصول على أي مناظير جديدة وهامة تتعلق بيسوع من الأغرافا تصبح بعيدة المنال. باختصار، في حين أن الحكم على حقيقة أقوال الأناجيل الكنسية صعب بما فيه الكفاية، إلا أن الحكم على حقيقة الأغرافا يعد تحدياً أكبر بكثير.

عندما يطبق الباحثون الحاليون هذه المعايير الصارمة يكون هناك نتائج هزيلة. فقد حدد يواكيم جيريمياس ثماني عشرة أغرافا يمكن أن تكون أقوالاً حقيقية ليسوع، تم اقتباس معظمها أعلاه، إلا أن هوفياس قلص تلك القائمة إلى سبع. ووفقاً لأي عدد من هذه العددين، تمثل الأقوال التي يمكن أن تكون حقيقية قسماً صغيراً للغاية من إجمالي الأغرافا.

ويقول هوفياس إن الأقوال الوحيدة غير المشتقة فيما يتعلق بتاريخ التقليد، والتي يحق لها أن تكون حقيقية، هي تلك الأقوال الواردة في مخطوطة بزا، وقول “القريب مني/ البعيد عني” من أوريجانوس وإنجيل توما، والقول من بابيروس أوكسيرينخوس، والقول الوارد في إنجيل العبرانيين. وأفضل طريقة لتفسير الأقوال الأخرى هي أنها اختلافات أو اندماجات بين مقاطع العهد الجديد. ولهذه النتيجة الهزيلة معنيان.

الأول هو أن الجزء الأكبر من الأغرافا الذي لا يمكن له الادعاء بأنه حقيقي يصبح أكثر فائدة في فهم المجموعات المختلفة في بداية المسيحية التي قامت بإنتاجه. هذه هي المهمة الرئيسية للدراسة العلمية للأغرافا. أما المعنى الثاني فهو عندما يتم وزن هذه الأقوال السبعة أو الثمانية عشر، فإنها تضيف أقل القليل من حيث الكمية أو النوعية إلى التعاليم الكنسية ليسوع. وصحيح ما توصل إليه أحدث مسح قام به جون ماير أن تلك الأقوال لا تضيف شيئاً جديداً إلى تصورنا عن يسوع التاريخي.

يسوع التاريخي في كتابات ما بعد العهد الجديد

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !