آبائياتأبحاث

الكتاب المقدس في حياة وفكر ق. أثناسيوس الرسولي – د. وهيب قزمان

الكتاب المقدس في حياة وفكر ق. أثناسيوس الرسولي - د. وهيب قزمان

الكتاب المقدس في حياة وفكر ق. أثناسيوس الرسولي – د. وهيب قزمان

الكتاب المقدس في حياة وفكر ق. أثناسيوس الرسولي - د. وهيب قزمان
الكتاب المقدس في حياة وفكر ق. أثناسيوس الرسولي – د. وهيب قزمان

الكتاب المقدس في حياة وفكر القديس أثناسيوس الرسولي د. وهيب قزمان

أولاً: في الرسائل ضد الآريوسيين

 

د. وهيب قزمان

 

     إن كانت المؤلفات التي كتبها القديس أثناسيوس بعنوان “رسالة إلى الوثنيين”  و”تجسد الكلمة”، و”حياة القديس أنطونيوس” قد جعلت القديس أثناسيوس يحظى بمكانة مرموقة في كتابات الآباء “Patrologia“، لكن ما اكتسبه من مركز متميز بالفعل في التقليد الكنسي شرقًا وغربًا، إنما يُعزى إلى رسائله ضد الآريوسيين[1].

    وتكشف كتاباته الإضطهاد الذي تعرضت له الكنيسة منذ طفولته، لكن تشويه الآريوسيين المتعمد للفكر اللاهوتي والذي اجتاح الأسكندرية في عشرينيات عمره، فقد كان علامة فارقة في كل حياته وخدمته.

    ويوفر لنا التاريخ تلك الجدلية الفريدة بينه وبين آريوس إبان البدعة الآريوسية[2]. وقد أثبتت السنين المتتالية، دأب القديس أثناسيوس على توحيد الكنيسة القبطية تحت رئاسة كرسي الأسكندرية، وذلك بتأصيل فكره اللاهوتي بعد عصفه بالحركة الميليتية المناهضة للكنيسة، والتصدي للهراطقة الآريوسية، مما ساهم بحق في سلام الكنيسة.

 

1ـ استخدامه للكتاب المقدس:

     ونجد في الرسائل الثلاث ضد الآريوسيين، زخمًا واضحًا لاستخدام القديس أثناسيوس للكتاب المقدس. وحسب الإحصائيات هناك 156 كلمة من الكتاب المقدس لكل ألف كلمة في هذه الرسائل الثلاث، وهو حضور مكثف للغة الكتابية هنا، أكثر منه في الكتابات التاريخية الدفاعية أو الراعوية[3].

    والأكثر لفتًا للإنتباه هذا العدد الضخم من الكلمات المقتبسة من الكتاب المقدس[4]. ومن المعروف أن الجدل التعليمي التفسيري يتطلب الإستشهاد المُركّز بالكتاب المقدس، من أجل العرض التفسيري والشروحات، أكثر من البنية التي تعتمد على الصياغات في الكتابات الراعوية، والحوار حول السلوك والحياة المسيحية العملية. وتُظهِر جداول الإحصاء أن استخدامات نصوص العهد الجديد حوالي ضعف استخدامات واقتباسات العهد القديم. سواء كان القياس من خلال عدد الاقتباسات أو حتى عدد الكلمات المستخدمة من الكتاب المقدس نفسه.

    ويأتينا القسم الأكبر من نصوص العهد الجديد من الأناجيل، والتي يبلغ الاقتباس منها وحدها أكثر من ثلث إجمالي الاقتباسات في الرسالة الأولى ضد الآريوسيين. وأكثر الأناجيل إقتباسًا منها كان إنجيل يوحنا، إذ يبلغ حوالي ربع الاقتباسات الإجمالية والاستشهاد بالآيات في الرسائل الثلاث ضد الآريوسيين.

    نلاحظ أيضًا هنا أن القديس أثناسيوس يلتزم بحرفيه النص، على خلاف ما كان يقتبسه في الكتابات غير العقائدية. نخلص من هذا أنه يدقق في النص بحرفيته، بهدف توثيق التفسير العقائدي، ونجد في تلك الكتابات أن لأثناسيوس الرسولي نصوصًا مفضلة في إنجيل يوحنا، دائمًا ما يكرر الإستشهاد بها[5].

    ومن العهد القديم تأتينا الأغلبية من سفر الأمثال، خاصة وهو يستشهد بأمثال[6] وبعض المزامير[7]. أما بالنسبة للعهد الجديد فبعد الأناجيل يلجأ بالأكثر إلى رسائل القديس بولس الرسول. ويقبل القديس أثناسيوس رسالة العبرانيين ودون أي شك على أنها للرسول بولس، بل ونصف ما يقتبسه من القديس بولس يأتينا من هذه الرسالة[8]، مما يؤكد أنه كان يعشقها، وقد درسها جيدًا وبعمق لأهميتها للمؤمن.

    أما بالنسبة للإشارات الواردة من الأسفار الخمسة الأولى لموسى النبي فإنها تأتينا بصفة خاصة من قصة الخلق في سفر التكوين. ولا يرى القديس أثناسيوس أن رسائل الكاثوليكون بنفس القوة التي تضاهي رسائل بولس الرسول في الاعتماد عليها في توضيح ما غمض من الأسرار في العقيدة، خاصة في الحديث عن طبيعة وشخص المسيح Christology.

    وفي كتاباته يؤكد القديس أثناسيوس أن الآريوسيين، ورغم استخدامهم لنفس نصوص الكتاب المقدس الذي يستخدمه، فإنهم قد رفضوا الله الكلمة، ومن ثم رفضوا العمل بالكتاب المقدس، ككلمة الله. وهم يعصون الوصايا الكتابية، لذا فهم يُشبهون القوم الذين تنبأ عنهم الكتاب بالهلاك في سفر الأمثال، أما بقية الاقتباسات فتتناول أمورًا تعليميه.

    وقد اشتهر القديس أثناسيوس بالترتيب والمنهجية في دراسة نصوص الكتاب، فيما يخص تفنيد المزاعم الآريوسية، التي قسمها إلى أجزاء أولية وأخرى ثانوية، بشكل غاية في الدقة، وبطريقة تجعل القارئ ودون عناء، يكتشف على الفور كيف أساء الآريوسيين تأويل النص الكتابي.

ولا يركز القديس أثناسيوس على الأجزاء الثانوية لأنها لا تؤثر كثيرًا على سير الأحداث وتفنيد المزاعم الآريوسية، لكنه يشدد على تلك الأولية (الرئيسية) التي لجأ إليها الآريوسيون في تدعيم فكرهم اللاهوتي المنحرف. ولتسهيل الأمر نطلق عليها “النصوص الآريوسية السلبية”.

    أما النصوص التي يلفت القديس أثناسيوس أنظارنا إليها فهي التي يمكن أن نطلق عليها “النصوص التعليمية العقيدية الإيجابية”، أي تلك التي يبني بها قديسنا اللاهوت النيقاوي الأرثوذكسي، أما النصوص التي يظل القديس أثناسيوس يكرر الإشارة إليها دائمًا فندعوها النصوص الرئيسية.

وهي التي يعتبرها الدعامات الثابتة في تفسيراته وتفنيده للنصوص التي لجأ إليها الآريوسيين. وبالنسبة للقديس أثناسيوس، فإن الله الكلمة يتحدث من خلال كل الكتاب المقدس، لهذا فإن أي إقتباس أو إستشهاد لابد أن ينسبه للرب.

    وأحيانًا كان القديس أثناسيوس يلجأ إلى الذاكرة في اقتباس النصوص الكتابية ولذلك لا يأتي الاقتباس حرفيًا[9].

كما كان يلجأ إلى تقديم وتأخير ألفاظًا معينة في النص، بغرض التركيز على المعنى الأساسي، مقدمًا إياه على باقي النص ونعطي مثالاً على ذلك، كلمة سماوي حين يستبدلها القديس أثناسيوس بكلمة في السماء[10]، أو مثلما يُتبع الكلمات التي نطق بها الرب يسوع عن الآب في إنجيل مت29:10 بعبارة الذي في السماوات أو السماوي: “أليس عصفوران يباعان بفلس؟ وواحد منها لا يسقط على الأرض بدون أبيكم، (الذي في السموات أو السماوي)”.

 

2ـ تفسيره للكتاب المقدس

     يمكن فهم الكتاب على أنه “حقل واسع ممتد من الكلمات والصور مرتبطة بعضها ببعض بواسطة موضوع رئيسي أو قصة مركزية “[11]. وليس هذا الوصف إقتباسًا من القديس أثناسيوس، لكنه يناسب طريقة قراءته للكتاب المقدس[12]، لأن اهتمامه الأكبر كان بهذا الموضوع الرئيسي أو القصة المحورية في الكتاب. وهذه القصة المحورية هي قصة الخلق والسقوط والفداء، والتي تتخلل كل أحداث الكتاب من أوله إلى آخره[13].

    إن فهمه لهذه القصة تجعله بطرحها واضحة المعالم في رسالته إلى الوثنيين، إذ يصف حالة البشرية في الكون المخلوق قائلاً: [إذا ما تأمل المرء في نظام الكون يجب أن يدرك الله صانعه وبارئه، حتى وإن كان لا يُرى بالأعين الجسدية…. كما قال بولس الرسول ” لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات ” (رو20:1) وأيضًا “نحن أيضًا بشر تحت الآلام مثلكم، نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها (أع15:14، 16)][14].

    أما كتابه “تجسد الكلمة“، فيعتبر أعظم تسجيل مسيحي يوضح بقوة ومنطق لا يُجارى عمل الله العجيب وتدبيره في فداء البشرية من الهلاك، وتجديدها، إذ يقول إن: [ الرب قد أكمل عملين عجيبين في وقت واحد: الأول تكميل موت الجميع في جسده، والثاني قضاؤه على الموت والفساد كلية بسب إتحاد “الكلمة” بالجسد، لأنه كان لابد من الموت، وكان لابد أن يتمم الموت نيابة عن الجميع لكي يوفي الدين المستحق على الجميع ] [15].

لذا يعتبر القديس أثناسيوس أن موت المسيح هو أصل ورأس ومبدأ الحياة لنا = ἀρχὴ ζωής  لأنه بذبيحة جسده وضع حدًا لحكم الموت الذي كان قائمًا ضدنا، ووضع لنا أصل ورأس الحياة برجاء القيامة من الأموات الذي أعطاه لنا.

    وهذان السفران كما يؤكد شاف Schaff[16]، هما أول مجهود علمي في المسيحية عن أهم العقائد المسيحية المتعلقة بالله والعالم، الخطية والفداء. ويمكن اعتبارهما الفاكهة الناضجة للبراهين الإيجابية في الكنيسة الأرثوذكسية. وويتضح من سيرة وحياة القديس أنطونيوس ذلك التحدي اليومي الذي يواجه كل إنسان مسيحي من جانب قوات الشر التي هزمها الرب، والتي لا تزال تمارس محاولاتها ضد الإنسان، بما تبقى لها من أساليب خداع بغرض هزيمته وقهره.

    وتأتي تالية في الأهمية، تلك الصور التي تذخر بها روايات الكتاب كعناصر للسرد. وهي مفيدة في توصيل المفاهيم إلى القراء والسامعين. ويكمن الحق الإلهي وراء مدى إدراك البشر له، وهم محدودو الفكر في إدراكهم للكلمات المستخدمة، لكن الصور وهي كلمات في شكل صور للإشارة إلى وقائع وحقائق معينة لا يمكن إدراكها بالكلمات وحدها، فإن تلك الصور تجعل اللاهوت مفهومًا.

وعلى المستوى الأخلاقي، مثلما هو الحال في الكتابات التاريخية والدفاعية، تأتي الصور في شكل أمثلة Exempla ، ونعني بها هؤلاء الأشخاص الذين نقرأ عن أفعالهم، ونتأمل سلوكياتهم في الروايات الكتابية. ومن ثم فهم مرتبطون بالأساس بالصور النهائية للخير والشر، للخطية والخلاص. وقيمة هؤلاء الأشخاص في السرد الكتابي تعتمد على مدى أمانتها في الاقتداء بالكلمة (اللوغوس) ومدى شركتهم فيه.

    ومن هنا يمكننا أن نحاكي النماذج الأمينة ونتمثل بهم ونشترك في الله الكلمة كما اشتركوا هم، مقتدين بهذه النماذج الكتابية لشخوص حية أمينة، هذا ما نعنيه بلفظة Biblical exempla.

ولكن على المستوى العقيدي، فإن النماذج أو الصور المرشدة لنا هي الباراديجماتا الكتابية[17] Biblical Paradeigmata  أي النماذج العقيدية في الكتاب المقدس التي توحي لنا بالطرق والسبل التي نتبعها في فهم الحق الإلهي. وفي حالة الرسائل ضد الآريوسيين، فإنها توضح لاهوت الكلمة (اللوغوس).

    ومن الطبيعي أنه في حالة الكتاب المقدس. كما هو الحال في أية وثيقة مكتوبة، فإن وسيلة التعبير هي بالكلمات. فالكلمات إذن هي حاملة المعاني، بل هي حاملة الكلمة (اللوغوس) نفسه في الكتاب المقدس. ويمكن للقديس أثناسيوس الحديث عن الحضور الإلهي في كلمات الكتاب المقدس بلغة تتجاوز المصطلح السرائري على مستوى التجسد الإلهي.

ولكن التعبيرات مهما كانت فهي قاصرة عن إدراك هذه المعاني العميقة. فقد ننظر إليها بشكل مختلف ونسيء فهمها، أو قد نخلط بين مفهوم وآخر. ومن هنا نعجز عن إدراك تلك النماذج Paradeigmata الكتابية الرائعة، التي تصورها تلك الكلمات. وبهذا يحل رأينا القاصر محل القصد الإلهي الكامل، أي يحل رأينا هنا epinoia محل القصد الكامل Dianoia وتلتبس علينا القصة بكاملها.

ولهذا كان من المهم ألا نفسر الكتاب المقدس كشبكة من كلمات فقط دون التركيز وإعادة التركيز على المجموعة الكاملة للصور التي تتكون منها القصة. فإن كان الكل يُصيغ الأجزاء ويشكلها فهو يبقى كاملاً، ولكن قراءة الأجزاء “مجهريًا” وهو ما يسمى “بالاجتزاء أو الإنتقاد” قد يسبب شرخًا أو تصدعًا في القصة بكاملها.

    إن دراسة حالة واحدة للجدل التفسيري عند القديس أثناسيوس مثل فيلبي9:2، 10، الواردة في الرسالة الأولى ضد الآريوسيين في الفصول 37ـ50، سوف يخدم هذا الغرض جيدًا. لأنه نموذج لكل الاستراتيجيات والآليات في علم التأويل الكتابي. ففي الرسالة الأولى ضد الآريوسيين[18]. يبدأ القديس أثناسيوس الحوار مع الآريوسيين قائلاً:

    [ بما أنهم يتعللون بالأقوال الإلهية في فيلبي9:2، 10 ويفرضون عليها تفسيرًا منحرفًا بحسب فكرهم الخاص، لذلك من الضروري أن نرد عليهم لكي نثبت صحة الأقوال الإلهية، ونوضح أنها تحوي الفكر المستقيم. فهم إذ يقولون إن الرسول بولس قد كتب يقول: ” لذلك رفعه الله أيضًا (مجده مجدًا عاليًا)، وأعطاه إسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض ” (في9:2، 10). ويزعمون كما لو أنه “لذلك” مُجِّد وحصل على نعمة ( بإعتبار أن هذه النعمة) كأجر لاختياره وما أنجزه ].

    ثم في الفصل التالي من الرسالة[19] يستكمل رده عليهم قائلاً: [إن الرب لم يكن أصلاً في حالة وضيعة ثم رُقيَّ، بل بالأحرى إذ كان إلهًا فقد أتخذ صورة عبد، وبإتخاذه صورة العبد، لم يرتقِ، بل أذل (وضع) نفسه. إذن أين أجر الفضيلة في هذه الأمور؟ لأنه إن كان وهو الإله، قد صار إنسانًا، وبتنازله من علوه لا يزال يُقال إنه يُرفَّع (أي يمجد مجدًا عاليًا) فمن أين يُرفَّع وهو الله!].

    ثم يستنكر إدعاءهم بأنه نال إسمًا للعبادة كأجر له مستندًا إلى المزامير قائلاً: [كيف نال هو الاسم للعبادة، وهو الذي كان دائمًا معبودًا باسمه؟ ومن قبل أن يصير إنسانًا، كان القديسون يتوسلون إليه قائلين: “خلصني يا الله باسمك” (مز1:54)، وأيضًا “البعض يفتخر بالمركبات، والبعض الآخر بالخيل، وأما نحن فباسم الرب إلهنا نتمجد” (مز7:20) ].

    ويتبع القديس أثناسيوس منهجًا متماسكًا في تفنيد النصوص الآريوسية الكتابية، التي أعتمد عليها الآريوسيين في محاولة تحوير معنى النص لخدمة مزاعمهم، تجعله يأتي بنصوص تؤكد فكرته، وتؤيد منهج الكتاب في تدعيم شخص اللوغوس، خصوصًا تلك التي تتحدث عن اسم اللوغوس صراحة في فيلبي9:2 “لذلك رفَّعه الله أيضًا وأعطاه إسمًا فوق كل اسم”.

فهو يأتي كما رأينا بكل النصوص المتاحة والتي تتضمن “الاسم”، لتدعيم شرحه اللاهوتي عن شخص الابن قبل تجسده الإلهي لأجل خلاصنا. تدعيمًا لنقطة بحثه هذه، مثل (مز3:53، مز8:19، عب6:1)، ورغم أن نص عب6:1 لا يذكر اسم المسيح هكذا صراحة، إلا أن القديس أثناسيوس يفهم أن كلمة “الاسم” المذكور في رسالة فيلبي9:2 له علاقة بالعبادة، والتي لا يذكرها هذا النص الحالي.

وثمة نصان محوريان يشيران إلى هذا الاسم الإلهي، هما يو1:1، يو14:1. لهذا يعمل القديس أثناسيوس فكره من خلال الكلمات الواردة بنص فيلبي9:2 كنص محوري.

    ثم ينشغل قديسنا في الرسالة الأولى ضد الآريوسيين في الفصلين 42،41 بنسج ترفيّعأنه  الابن مع ترفيع البشرية المفتداة في عبارات غاية في القوة والوضوح. وهو ما يلزمنا ذكره هنا.

لأن هذا الترفيع والرفعة “كتبت أيضًا من أجلنا نحن”: [وعبارة “رفعَّه” (أي مجده مجدًا عاليًا)، لا تعني أن جوهر الكلمة قد أرتفع، ولكنها تعني ارتفاع (أو ترفع) بشريته. لأن الإنسان هو الذي كان في مسيس الحاجة إلى هذا (التمجيد)، بسبب وضاعة الجسد، وبسبب الموت…

    ولأجل هذا يُقال عنه إنه كإنسان مُجد أيضًا عنا ومن أجلنا، لكي كما بموته قد متنا جميعًا في المسيح… فإننا في المسيح نفسه أيضًا قد مُجدنا مجدًا عاليًا، مُقامين من بين الأموات، وصاعدين إلى السموات ][20].

    هذه الصورة الكاملة إذن تعطي لأثناسيوس الرسولي أساس العودة إلى ذلك الإتحاد بالمسيح، ويؤكد على أن هذه العِلة (αίτιον) الخاصة بالإتحاد بالمسيح، التي يشير إليها، هي السبب في الرِفعة التي نالتها البشرية. أي أن المسيح “قد ترفع” وأنه فد أُعطي إسمًا فوق كل إسم”، وهذا كله كان لحسابنا ولأجلنا نحن υπέρ ημῶν, δι ημᾶς .

    ولما كانت القراءة السطحية لنص فيلبي9:2 تجعل البعض يظن أنها تعني أنه رُفِّع، لأنه “وضع نفسه وأطاع حتى الموت”، فإن القديس أثناسيوس يوضح هذا الأمر في العبارات الإفتتاحية للرسالة الأولى ضد الآريوسيين في الفصل 44، والتي يقول فيها القديس أثناسيوس صراحة {إن هذه الآية (فيلبي9:2) لا تعني تمجيد اللوغوس ذاته، بإعتباره لوغوس، (لأنه كما سبق أن قلنا، إن اللوغوس عالٍ وإنه مثل الآب)، ولكن نص الآية يُشير إلى قيامته من بين الأموات بسبب تأنسه.

فقوله: “أذل (وضع) نفسه وأطاع حتى الموت” (في8:2)، والتي يُضيف القديس بولس بعدها “لذلك مجدَّه (رفَّعه) الله مجدًا عاليًا” (في9:2) فإن القديس بولس يرغب أن يُبين أنه رغم أن الكلمة المتجسد كإنسان كان يُقال عنه إنه قد مات، ولكن لكونه الحياة، قد مُجِّد (رفِّع) بالقيامة.. لأنه هو نفسه الإله المتجسد.

(يتبع)

 

[1]  المرجع الرئيسي:J.D. Eenst, Leiden 2004, pp. 105 The Bible in Athansius of Alexandria,

2 ذلك الحوار المعروف باسم خطاب ضد آريوس في P.G28:440-501  وهناك أيضًا نسخة أرمينية.

3 استخدمت آيات الكتاب: 75 كلمة في الكتابات الدفاعية، 64 كلمة في التاريخية، 84 كلمة في الراعوية.

4 بالنسبة للرسائل الثلاث ضد الآريوسيين، يوجد 115 إقتباسًا لكل 1000 كلمة، وفي الكتابات التاريخية36، والراعوية 45.

5 إن الآيات التي يكرر قديسنا الاستشهاد بها أكثر هي يو1:1، 3، 14، 30:10، 14: 9ـ10.

6 تكرر الاستشهاد بأمثال8 عدة مرات في الرسالة الثانية ضد الآريوسيين.

7 يستشهد بالمزامير عمومًا بغزارة في كافة أعماله، ولكنها ترد أكثر نسبيًا في الرسائل الأولى والثانية ضد الآريوسيين.

8 يستشهد كثيرًا بالأعداد الأولى من الرسالة إلى العبرانيين في رسالته الأولى ضد الآريوسيين، وأيضًا بالعدد الثاني من الإصحاح الثالث من العبرانيين في رسالته الثانية ضد الآريوسيين.

9 ربما يرجع تعديل الاقتباس إلى أخطاء في النقل من المخطوطات الأصلية للرسائل الثلاث ضد الآريوسيين، خاصة أنه لا توجد لدينا هذه المخطوطات.

10 وردت في الفصلين10، 19 من الرسالة الثالثة ضد الآريوسيين. 

[11] Rebert L. Wilken, Thinking Biblially: Exegetical and Hermenutical Studies, May 1999. CF. Wilken, The Spirit of Christian  Thought, Yale university Press, 2003, PP.61-69. 

12 كما تقول Frances Young  في كتابها Biblical exegesis and the formation of Christian Culture  “فأن القصة المحورية عن قيام الابن بالخلاص العجيب هي التي تعيننا على فهم تفسير القديس أثناسيوس للكتاب، والمعبر عنها بكلماته الغنية، وصوره العميقة.

13 يستخدم نقاء الكتاب المحدثون عبارة القصة المحورية بطرق مختلفة، فيقولون إنها من حيث المبدأ تشمل الكل، ويمكن أن تسري على كل شخص.

14 الرسالة إلى الوثنيين للقديس أثناسيوس الرسولي، تعريب القمص مرقس داود سنة1981، فصل 35، ص104.

15 تجسد الكلمة: الفصول5:20؛ 1:21، ترجمة د. جوزيف موريس فلتس، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية سنة2000.

[16] Schaff, Nicene Christianity, P.82.

كما جاء في مقدمة كتاب الرسالة إلى الوثنيين، ص9.

17 الباراديجم هو النموذج أو المثال الذي يوضح العقيدة ويشرحها من خلال الكرازة، لأننا رسالة المسيح المقروءة من جميع الناس.

18 الفصل 17 من الرسالة الأولى ضد الآريوسيين، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد و الأستاذ صموئيل عبد السيد، إصدار مركز دراسات الآباء، سنة 1984.

19 الفصل 18 من الرسالة الأولى ضد الآريوسيين.

20 الفصل 41 من الرسالة الأولى ضد الآريوسيين.

الكتاب المقدس في حياة وفكر ق. أثناسيوس الرسولي – د. وهيب قزمان