آبائياتأبحاث

عمل الروح القدس عند الآباء القس أثناسيوس اسحق حنين

عمل الروح القدس عند الآباء القس أثناسيوس اسحق حنين [1]

عمل الروح القدس عند الآباء القس أثناسيوس اسحق حنين [1]

عمل الروح القدس عند الآباء القس أثناسيوس اسحق حنين
عمل الروح القدس عند الآباء القس أثناسيوس اسحق حنين

عمل الروح القدس عند الآباء القس أثناسيوس اسحق حنين


مقدمة:

          الروح القدس هو الرب المحيي المنبثق من الآب المسجود له وممجد، والواحد مع الآب في الجوهر، والناطق في الأنبياء، ومتمم التدبير الإلهي، ومُرسِل الخدام، وهو الماء الحيّ الذي يروي عطش الإنسان لله، ويقول تعال إلى الآب[2]. والروح القدس يهيئ القلب لاستقبال المسيح في الكنيسة، التي هى جسده ومجتمع الوحدة بين السمائيين والأرضيين. ذلك الجسد الممتلئ بالأسرار الإلهية، الأسرار التي تجعل الكنيسة أم ولود بالروح القدس، والذي يملأ الكل في الكل (أف23:1). والروح هو الذي يشفع في المؤمنين بأنات لا ينطق بها، ويُعلّمهم أوليات حياة الصلاة (رو26:8). وهو روح الوحدة وروح الافتداء بيسوع المسيح، والروح هو الذي يفحص كل شئ حتى أعماق الله (1كو10:2)، وهو روح السجود (يو4) وهو النار الإلهية التي تنالها النفوس المؤمنة في إنسانها الداخلي، وهم يعيشون في هذا العالم. وهذه النار، أى نار وحرارة وشهادة الروح القدس لن تظل حبيسة النفوس بل سوف تنطلق إلى الخارج لتصير ظاهرة[3].

أولاً: عمل الروح القدس ومعرفة الثالوث:

          لقد شدّد علماء تاريخ العقيدة على أن مفهوم الخلاص عند الآباء لا ينفصل عن عمل الثالوث الآب والابن والروح القدس[4]. فإن عمل الخلاص الذي تممه ابن الله الوحيد يظهر جليًا في إيمان الكنيسة الأولى كإعلان الثالوث الأزلي، والإعلان الإلهي Apokάluyij يستمد أصوله من الثالوث وفيه يجد كماله. وهذا البُعد الثالوثي للخلاص والإيمان يظهر بوضوح في الاختبار الأول والأساسي في الخلاص، وهو المعمودية بالدفن والقيامة مع المسيح. وهذه المعمودية ترتبط منذ البدايات الأولى بالإيمان بالآب والابن والروح القدس، والعهد الجديد يشهد لهذه العلاقة ” إن كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم” (رو11:8). فالرسول بولس يُلخص فحوى الحياة الجديدة، التي سيحصل عليها الذين يضعون كل ثقتهم في الله الواحد. والتي هى معرفة الله في بُعدها الاختباري. هذه المعرفة الاختبارية لخصها القديس يوحنا عندما سجل لنا صلاة يسوع الختامية: ” لكي يعرفوك أنت الإله الحقيقي ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو3:17). أن أكثر ما يُفرح قلب الآب هو أن نتمعن في وجه النور، أى وجه ابنه الحبيب الذي به سُرّ. وأكثر ما يبهج الروح القدس هو أن يشهد في قلوبنا، وفي الكنيسة، وفي العالم والتاريخ للمسيح. وهذا هو فحوى التعاليم اللاهوتية للآباء الرسل والآباء الرسوليين. والدارس لتاريخ العقيدة الثالوثية وعلاقتها بالتجسد والفداء الذي لابن الله لا يملك إلاّ أن يتساءل عن تلك اليقظة الروحية، والحس اللاهوتي المرهف الذي أوصل الكنيسة في القرون الأولى إلى الاعتراف بالإيمان بيسوع المسيح ربنا ومخلّصنا من ناحية، ومن ناحية أخرى وبنفس القوة والروح تعلن إيمانها بالله مثلث الأقانيم. ولنطرح السؤال بشكل محدد أكثر، كيف وصل المسيحيون الأوائل إلى تجسيد هذا الإيمان في المعمودية. وذلك أن كل مؤمن بالثالوث وبالتجسد والفداء يجب أن يؤمن ويعتمد ليس فقط لموت المسيح حسب شهادة بولس ” أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة” (رو1:6ـ4). ولكن وبنفس الدرجة أن يؤمن ويعتمد باسم الآب والابن والروح القدس حسب وصية الرب ” فاذهبوا إلى جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت19:28)[5]. وهنا يرى الباحثون أن لدى الآباء بُعدان لسر الثالوث القدوس في عمله في تاريخ الخلاص البعد الأزلي والدائم والكامن Immanente وهذا يكشف ما كان عليه الثالوث منذ الأزل، والبعد التدبيرى economique وهذا يكشف عن عمل الثالوث في ملء الزمن. واصطلاح “التدبير” معروف في تعاليمنا اللاهوتية فى صلوات الكنيسة القبطية [أكملت التدبير بالجسد، ودبر حياتنا كما يليق][6]. ولدينا اعترافات بالإيمان من النوعين الثالوثي والخرستولوجي[7]؛ أى بعقيدة الله الثالوث، وعقيدة الخلاص الممنوح لنا في شخص ابن الله، الذي صار إنسانًا يحتل مركز الصدارة في الحياة المسيحية. وهنا يأتي دور وعمل الروح القدس، فالفداء هو الشركة في الحياة الأبدية حياة الثالوث والممنوحة لنا في يسوع المسيح بالروح القدس. فالله في تواضعه ورغبته أن يقترب من البشر لكي يخلّصهم، أعلن الله عن  نفسه: الآب والابن  الروح القدس. وهذا السر العظيم الذي للتقوى، أى سر استعلان الثالوث حسب تعبير بولس (1تي16:3) هو مركز الحياة المسيحية، وأساس كل الإبداعات، والمخاض الروحي الصادق. وللأسف فإن هذا السر العظيم الذي للتقوى يبدوا أنه لا يأخذ حقه من الاهتمام عند البعض وسط بعض الاتجاهات التقوية التي لا تقوم ولا تتأسس على محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس، بل على واجبات دينية ثقيلة ومثاليات أخلاقية تعجيزية يقف أمامها الإنسان يأسًا محبطًا له صورة التقوى ولا يذوق قوتها. ويأسف الراصد للحركة الروحية التي فيها يسعى الناس بجهد ذاتي لا يخلو من صدق من أجل التمتع بالحياة في الله، ولكنهم لا يتعاملون مع روح الرب تارة بسبب التواضع والإحساس بعدم الاستحقاق، وتارة أخرى بسبب عدم المعرفة وكذلك بسبب تشتت الجهد الإنساني في متاهات دينية تترك الإنسان أسير الذات أو الأشخاص أو الأحوال أو الألوان أو الأنقاض.

ثانيًا: ثمار الروح القدس عند القديسين أثناسيوس الرسولي وكيرلس الكبير:

          والروح القدس هو حامل الخليقة، مُلهِم الأنبياء. هو الذي حوَّل الصيادين إلى كارزين والذي جعل الزناة بتوليين. لقد القديس أثناسيوس شدّد على أهمية عمل الروح القدس فى الحياة المسيحية. أيضًا يرى القديس كيرلس أن الصعود لا يشكل نهاية عمل الرب الخلاصي نحو العالم[8]، بل اعلان اللوغوس المتجسد يستمر في عمل الروح القدس الخلاصي. فإن صعود المخلّص إلى السموات هو زمان نزول الروح القدس (أن قول الرب بأنه خير لكم أن أنطلق إلى السموات) هو قول حق لأن قد حان زمان نزول الروح القدس[9]. ويلاحظ القديس كيرلس أن الاستنارة التي يهبها الروح القدس ليست هى اعلانًا جديدًا ولكنها نور اللوغوس فهى اعلان الابن الوحيد وهذه الاستنارة ممتدة ومستمرة بغير انقطاع إلى أبد الدهور ويتابع القديس كيرلس عمل الروح القدس وثماره في تاريخ البشرية فيرى أن تاريخ البشرية والعالم قد بدء بنفخة الروح القدس، فبداية الوجود الإنساني تزامنت مع عطية الروح القدس، فبهذه النفخة خُلق الإنسان على صورة الله، فالروح القدس هو عطية الله الأولى للإنسان.

          وهنا نجد القديس كيرلس في اتفاق مع القديس أثناسيوس الذي يرى أن الآب يخلق كل شئ بالكلمة في الروح القدس[10]. ويذكر القديس كيرلس السبب وراء إعطاء الله الروح القدس للإنسان عند خلقه، ويكمن فى أنه بدون الروح القدس فإن الكائن الذي خلقه من العدم سوف ينتهي إلى العدم. وهذا معناه أن الروح القدس حاضر بعمله وثماره منذ بداية التاريخ البشري، ومن أول ثماره وعمله هو إعلان الله في التاريخ. ومن هنا يرى أنه بالسقوط خسر العالم الروح القدس، فلقد تعرت الطبيعة البشرية من النعمة الأولى، وحُرِم الإنسان من الروح القدس وتحول من إنسان عاقل حكيم إلى إنسان غير متعقل. ويرى القديس كيرلس أن النفخة الواردة في (يو22:20) تتوازى مع نفخة التكوين (7:2)، أى الخلاص بإعادة الخلقة. وهذا لا يعني عند القديس كيرلس أن العهد القديم كان يخلو من عمل وثمار الروح القدس. والدليل على ذلك شهادة الأنبياء لله. ويرى القديس كيرلس أن تمزق حجاب الهيكل وقت الصلب تعني قدرة الإنسان بالروح أن يعرف أسرار الاعلان الإلهي أكثر من قدرة إنسان العهد القديم. فمن ثمار الروح القدس ازدياد المعرفة فالتلاميذ بعد أن حصلوا على الروح القدس بعد القيامة صاروا أكثر معرفة مما سبق.

          الروح القدس يقود المؤمنين إلى مجتمع جديد، مجتمع الناس الجدد وتأسيس المجتمع الجديد هو القصد الأخروي من التاريخ البشري (رؤ1:21). والإنسان الجديد الذي يعيش بالروح يمتلك صفات جديدة، وهى مواهب وعطايا الروح القدس. ومن بين هذه الصفات الجديدة التي هى ثمار الروح القدس في الإنسان الجديد يذكر القديس كيرلس الشجاعة وعدم الاضطراب، والانتصار على الجبن الساكن في الطبيعة الساقطة، والجرأة والإقدام على المبادرات الجديدة. وهذه كلها تشكل ثمار تفوق الطبيعة القديمة، لأنها ثمار حضور الروح القدس. والروح القدس يشهد بكلمات حكمة ويخبر كل ذهن مفتوح أن الكلمة المتجسد هو هو الله بالحق (1كو3:12) مولود من الله الآب. وبفعل الروح القدس تُستعلن وتتمجد ألوهية الكلمة المتجسد، والروح القدس يعطى للخلاص بصماته في الحياة الحاضرة، ويحقق الوحدة بين الزمان الماضي والزمان الحاضر أى بين الاعلان الإلهي وحاضر الكنيسة، وبلغة الليتورجيا القبطية بين “كما كان” وبين “هكذا يكون”، ” من جيل وإلى جيل وإلى دهر الدهور”. وهكذا بالروح القدس يصير فعل الفداء بكل بركاته اللاهوتية والكنسية والروحية والإنسانية والتاريخية أفعالاً حاضرة (الآن وهنا). ويطرح هذا الأمر أحد اللاهوتيين المعاصرين بطريقة لغوية معبرة بقوله (إن الفعل الماضي الذي يعبر عن تجسد الكلمة في الماضي يصير بالروح القدس فعل مضارع تام في حياة المؤمنين والكنيسة)[11].

          وهنا لابد من سؤال يطرح نفسه كيف تتحقق بركات الفداء في حياة المؤمنين؟ وكيف يختبر المؤمن؟ وهنا يتكلّم العلماء عن الكنيسة أو “الكائن الكنسي” على حد تعبير الأسقف يوحنا زيزيولاس[12] والذي يرى أن الوحدة بين البشر هى سعي كياني واشتياق وجودي. وأن الكنيسة هى مكان تحقيق هذه الوحدة الإنسانية. والإفخارستيا هى فعل هذه الوحدة بالروح القدس واستدعاء الروح القدس الذي يعلن حضور المسيح في الإفخارستيا، وهذا يُخلّص الكنيسة من الفردية التقوية والنفسانية التي لا تتفاعل عمليًا مع الروح لتحقيق معنى وحدة الأعضاء فى الجسد الواحد، أى وحدة الكنيسة جسد المسيح، وتجعل الأشخاص في الكنيسة يتجاوزون أوجاعهم البيولوجية وفرديتهم ليعيشوا سر الشركة بالروح.

ثالثًا: عمل الروح القدس فى حياة آباء البرية وكتاباتهم:

          فى كتاب “حياة أنطونيوس” يركز القديس أثناسيوس ـ فى إطار وصفه لحياة القديس أنطونيوس ـ على شخص المسيح والتشبه به. وفى رسائل القديس أنطونيوس نجد أن هذه الرسائل تتكلم كثيرًا عن حضور الروح القدس في جهادات الراهب اليومية. لقد قام العلماء الغربيون بدراسة الرسائل ولاحظوا اختلافًا بينها وبين بقية كتابات أنطونيوس ولاحظوا ارتفاع مستواها اللاهوتي، ويعود ذلك إلى غزارة حضور الروح[13]. ونلاحظ أن الحديث عن الروح القدس في التراث القبطي لا يستعمل كثيرًا التعبيرات الفلسفية، ولا يدخل في جدل نظري عن طبيعة الروح بل يتكلّم مباشرة عن فعله وأثره وثماره العملية ويلجأ إلى الكتاب المقدس ويتكلّم عن شخصيات الكتاب وعمل الروح القدس فيهم كحقيقة واقعة أمامه، متخطيًا الحواجز التاريخية. فنجده وهو يتكلّم عن تبعية المسيح والخروج ورائه يتحدث عن ابراهيم ودعوة ابراهيم ليخرج ويتبع الرب. وينتقل من ابراهيم إلى الذين يتبعون الرب ليوم (فإن الروح القدس يدعوهم ويهون عليهم كل الأمور حتى يُحلى لهم الدخول والتوبة ويكشف لهم طرقها بالحقيقة ليتوبوا بأرواحهم وأجسادهم)[14]. وحينما يتناول قضية العلاقة بين الروح والجسد فإن الروح يضع (قوانين الطهارة) والروح يعطى للقدمين أيضًا طهارتهما. فقد كانتا قبلاً لا تسعيان مستقيمًا بحسب إرادة الله، أما الآن فالعقل إذ قد اتحد بالروح، خاضعًا لسلطانه، يحقق طهارتهما، لكي يتحركا وفقًا لإرادته ليذهبا ويخدما في الأعمال الصالحة إلى أن يتغير الجسد كله ويصير تحت سلطان الروح. ويذهب القديس أنطونيوس إلى أبعد من ذلك إذ يرى في الانتصارات التي يحققها إتحاد الجسد بالروح في الجهاد الروحي الآن عربونًا للجسد الروحي المزمع أن يقوم في قيامة الصديقين. ويتحدث القديس أنطونيوس عن روح البنوة والسجود بالروح ويقدم لنا أنطونيوس تاريخ عمل الروح القدس من بداية الخليقة بالناموس (لأن الناموس روحي) إلى حضور الرب في النفس بالروح القدس ” حقًا أيها الأحباء بالرب إنه ليس في وقت واحد فقط يفتقد الرب خليقته بل منذ بداية العالم. فإن كل من يأتي إلى خالق الكل بناموس عهده المغروس فيهم يكون الله حاضرًا مع كل واحد منهم بصلاحه ونعمته بالروح القدس” ويربط بين البنوة بالروح والتعلّم من الروح والسجود بالروح “الذين استحقوا هذه النعمة وسعوا بكل قوتهم ونيتهم قبلوا روح البنوة وتعلّموا من الروح القدس استطاعوا أن يسجدوا للخالق كما يجب”[15].

          ويقدم لنا القديس أنطونيوس فى رسائله صورة رائعة لتاريخ الخلاص في إطار تدبير الروح القدس “ويشبه الكنيسة بالبيت الذي وضع أساسه الله وبسبب محبته أقام موسى على البيت ووضع لنا أساس البيت التي هى الكنيسة الناطقة الواحدة ومشيئته أن يرد الخليقة إلى الخلقة الأولى فبنى موسى البيت ولم يكمله وأقام الله بعده جماعة الأنبياء بهذا الروح الواحد فبنوا هم أيضًا الأساس الذي وضعه موسى ولما رأى هؤلاء الآباء المتسربلين بالروح أن لا يقدر أحد أن يشفي الخليقة سوى الابن الوحيد”[16].

رابعًا: ثمار الروح القدس عند القديس مقاريوس:

1 ـ سمات اللاهوت واحدة وناصعة وأرض المواهب خصبة ومتعددة الثمار:

          من ثمار الروح القدس الواضحة في حياة الكنيسة الأولى كنيسة الرسل، وعند الآباء سواء اللاهوتيين أو النساك نجد المصدر الإلهى الذى يغترفون منه هو واحد ومع ذلك فالمواهب متعددة. فالنعمة تظلّل الجميع والمواهب تزين الكنيسة والكل يخدم والكل يثمر ” فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل ولكنه يعطي أظهار الروح للمنفعة” (1كو1:12ـ3). ويعبّر القديس مقاريوس عن هذه الوحدة قائلاً [ فكما تحدثنا عن أنواع من البذور، وأن كثير منها يُزرع في نفس الأرض وينتج أنواعًا مختلفة من الثمار. وهكذا نفس الأمر بالنسبة للأشجار فالبعض منها كبير والبعض صغير ولكن أرض واحدة تجمع جذورها جميعًا. هكذا أيضًا الكنيسة السماوية فهى واحدة ولكن بها أعداد لا تحصى، وكل فرد فيها يتزين بمجد الروح بطريقة فريدة خاصة به… هكذا أيضًا القديسون فإنهم متأصلون في سماء واحدة هى سماء اللاهوت ولكن بطرق متنوعة، وهم متأصلون أيضًا في الأرض غير المنظورة هكذا الأفكار التي تأتي إلى البشر فهى مختلفة ولكن الروح إذ يأتي إلى القلب فإنه يصنع فكرًا واحدًا، فإن الذين هم من فوق والذين هم أسفل هم تحت تدبير وقيادة روح واحد ][17].

2 ـ الشركة الأخوية:

          الترجمة العملية للمصدر الإلهى الواحد والتعدد في المواهب هو الشركة الأخوية، أو العيش المشترك والمدينة السماوية (عظة12) والعائلة السماوية (عظة23). وأن هذه الشركة تستوعب كل الطاقات من المصلين البسطاء إلى القراء والعلماء حسب تعبير خادم الروح القدس مقاريوس الكبير [ ينبغي أن يسكن الاخوة معًا في محبة كثيرة، وسواء كانوا يصلون أو يطالعون الكتب المقدسة، أو يمارسون أى نوع من العمل يتأسسون على أساس المحبة المقدسة المتبادلة. وبهذه الطريقة فإن الميول المتنوعة تكون مقبولة فالذين يصلون والذين يقرأون والذين يعملون يستطيعون أن يعيشوا معًا جميعًا في اخلاص وبساطة بعضهم مع بعض لأجل منفعتهم][18] الأمر اللازم لتحقيق هذا التعدد، وهذه الشركة الأخوية في خدمة المواهب هى ” أن يحصل الإنسان في داخل نفسه على كنز وعلى الحياة في عقله، هذه الحياة التي هى الرب نفسه، حتى أنه سواء كان يشتغل أو يصلي أو يقرأ فلا يزال حاصلاً على ذلك النصيب الذي لا يزول الذي هو الروح القدس[19]، والذي يحصل على الكنز في داخله سيقتني روح التمييز ليعرف قيمة الأخ وجهاد الأخ “.

3 ـ الروح القدس بين تاريخ الكنيسة وتاريخ العالم:

          الآباء يرون عمل الروح القدس في بعديه الشخصي والكوني، أى في عمله في تاريخ النفس البشرية وعمله في الكون. والقديس مقاريوس يرى تشابهًا بين خروج النفس من ظلمة الخطية وبين خروج شعب الله من ظلم فرعون ويصنع لنا ما يسميه العلماء المعاصرين (تاريخ الخلاص) فيقول [وفي ظلال الناموس سمى موسى مخلّصًا لإسرائيل لأنه أخرجهم من مصر وكذلك الآن فإن المسيح المخلّص والمحرر الحقيقي يدخل إلى مكامن النفس الخفية ويخرجها من ظلمة مصر ومن النير الثقيل والعبودية القاسية المرة][20] وبعد هذه الرؤية الكونية والتاريخية لتاريخ الخلاص يتحوّل مقاريوس إلى تطبيق هذه الرؤية على الإنسان ويدعوه إلى اليقظة والسهر والاستعداد الدائم لترك أرض العبودية والذكريات الأليمة. وكما أرسل الله موسى ليخلّص الشعب من العبودية، فإن الرب سوف ينظر إلى صبرنا ويفتح القلوب المغلقة، ويسكب علينا موهبة الروح القدس. وهكذا نرى أن الفكر الآبائي لا يتأمل في علاقة الإنسان بالروح القدس من فراغ تاريخي وكوني بل يجعل من مواهب الروح علامات في الزمان الحاضر والآتي. إن تاريخ العالم بالروح يصير تاريخ الروح في العالم ونذكر هنا القول الآبائي [إن لم تكن روحيًا في جسدياتك فستصير جسديًا في روحياتك]. أى أن الروح يعمل في الجسد وعلاقاته أى في الواقع وامتداداته ولا يكون هناك فجوة بين هموم العالم ومسيرة الكنيسة وبين أنين النفس الساجدة وآمال الإنسان المعاصر.       ” فالإنسان الروحي يُحكَّم في كل شئ، ولا يُحكَّم فيه من أحد” (انظر 1كو15:2)، أى يستطيع أن يصدر حكمًا أو يبدي رأيًا فى كل شئ. فالإنسان الروحي يملك من البصيرة والوعي والثقافة الروحية والكنسية والكونية ما يجعله مستعدًا في كل وقت ليس لمجاوبة كل من يسأله عن سبب الرجاء الذي فيه فقط (1بط15:3)، بل ليصدر حُكمًا ويقول رأيًا يجعله يسيطر على الأحداث ويوجه الأمور وذلك حسب موقعه ومواهبه، ويصير بركة (تك2:12) ولا تستطيع الأحداث مهما كانت تاريخية أو شخصية أن تبدي فيه رأيًا نهائيًا (لأنه قد يتأثر مؤقتًا بسبب جوع ما في الأرض) (تك10:12) أو تهدد مصيره الزمني أو الأبدي (رو35:8)، أو تتحكم في مسيرته مادامت تلك المسيرة في الرب بالروح القدس ولبنيان جسد المسيح الذي هو الكنيسة ملء الذي يملأ الكل (أف17:1ـ23).

4 ـ النمو في الروح هو شركة بين الإنسان والروح:

          النمو الروحي هو من صميم العمل المشترك بين الروح والإنسان، وهو القبول الإنسانى الطوعي والمتواضع والصابر على التدريب الروحي في شركة الروح القدس، وهذه الشركة مع الروح يحققها الرهبان فى البرية، أما المسيحيون فى العالم فيحققونها فى التزامهم بخدمة الناس والمجتمع. أى ما اعتدنا أن نسميه الجهاد الروحي، والجهاد الروحي عند الآباء هو الإيجابية في السعي الروحي. وهذه الإيجابية يقدمها لنا القديس مقاريوس في صورة كتابية رائعة تجمع بين جهاد الإنسان، وعمل النعمة بشكل عملي بعيد عن المناظرات الكثيرة اللاحقة وفي هذا النص يشرح كيفية نمو النفس في الروح من خلال أحداث يومية محددة، وتعاملات إلهية واضحة ” لقد أمر الله موسى ـ في الشريعة ـ أن يصنع حية من نحاس، ويرفعها ويثبتها على رأس ساري، فكان كل من لدغته الحيات ينال الشفاء بمجرد تثبيت نظره على الحية النحاسية ولقد صنع موسى هذا بتدبير وقصد إلهي حتى أن أولئك المعوقين بالاهتمامات الأرضية، وعبادة الأصنام، ولذات الشيطان وكل أنواع الشر وهذه الأشياء هى سم الحيات ـ فإنهم بهذه الوسائل يتطلعون إلى أعلى إلى ما هو فوق إلى الأمور السمائية .. ويتقدمون رويدًا رويدًا .. ويتعلموا .. وهكذا ننمو في الروح”[21]. إذًا النمو الروحي عند الآباء هو التأمل في أحداث الحياة من خلال عمل الروح، أى أن الحياة وأحداثها تصير (وسائل إيضاح مسموعة ومرئية) تقود النفس إلى رؤية السماويات، والنمو في الروح وسط المعطيات الواقعية أى الأرضيات. فالتجسد وعمل الروح القدس جعل من الأرضيات طريقًا إلى السماويات، والعلاقة بالروح القدس هنا على الأرض، والآن في الزمان الحاضر تُحدد مسيرة الإنسان في أبعادها الأخروية، ” لذلك فأى إنسان لا يطلب الحياة بينما هو على الأرض ولا ينال حياة لنفسه التي هى نور الروح الإلهي فإنه حينما يخرج من الجسد يُنقل بعيدًا إلى مناطق الظلمة التي على اليسار ولا يدخل إلى ملكوت السماوات إذ تكون نهايته في الجحيم مع ابليس وملائكته” (مت41:25)[22].

[1] كاهن كنيسة مار مرقس بأثينا باليونان.

[2]  أغناطيوس الأنطاكي، رو2:7.

[3] عظات ق. مقاريوس، مركز دراسات الآباء ص 102.

[4] انظر المرجع الهام عن القديس كيرلس الكبير للبروفيسور ستليانوس بابادوبلوس أستاذ الآبائيات السابق بجامعة أثينا. والصادر باليونانية في أثينا مطبوعات الأبوستوليكي دياكونيا 2004 ص 88.

[5] انظر باسيل شتودير: الله مخلّصنا: الفداء في إيمان الكنيسة الأولى ترجمة فرنسية من الألمانية إصدارات سيرف 1989 ص9. Basil Studer, Dieu Sauveur La Redemption dans La Foi de L,Eglise Ancienne

[6] الخولاجي المقدس دير العذراء برموس ص 96، 317.

[7] Kwnatantinou B. Skouterh وأيضًا J.N.D.KELLY, Early Christian Creeds, London 1972, Istoria Dogmatwn, Aqhna 2004.

[8] PG 74, 456A, 453D.

[9] PG 74, 436A.

[10] انظر المعجم الآبائي لامبي ص 1101.

[11] انظر K.E.Papapetrou, H Apokaluyij tou Qeou kai h Gnwsij Autou, Aqhnai 1969 sel. 79.

[12]  الوجود شركة، إصدار مركز دراسات الآباء، القاهرة 1989م.

[13] انظر حياة القديس أنطونيوس للقديس أثناسيوس الرسولي سلسلة المصادر المسيحية رقم 400 باريس 1994 ص 71.

[14] رسائل انطونيوس ص 12.

[15] الرسالة الثانية.

[16] المرجع السابق، ص30.

[17]عن عظات القديس مقاريوس انظر: عظات القديس مقاريوس الكبير، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية 1991، عظة 32، ص283.

[18] عظة 1:3.

[19] المرجع السابق، عظة3:3.

[20] عظة 6:11.

[21] العظة 11 ص 105.

[22] العظة الثلاثون، ص272.

عمل الروح القدس عند الآباء القس أثناسيوس اسحق حنين [1]

تقييم المستخدمون: 4.3 ( 1 أصوات)