روحيات

التجسد والجسد – الله ظهر في الجسد – أيمن فايق

يا من تحتقر الأجساد وتعتبرها لا تليق بأن يحل فيها الله ويسكنها، فأنك باحتقار الجسد تظهر انعكاسات قلبك الخفي، لأنك دنست جسدك وأهنت أعضاؤه بعبثك بالميول الغير منضبطة والتي على خلاف الطبيعة والقصد التي خلقه الله لأجلها، فاختبرت الشرّ وتذوقت الموت فيه (أي الجسد)، وعرفت أن الخطية خاطئة جداً، وكم يصعب عليك أن تتخلص منها بقدرتك ولا بذكائك ولا بأصوامك ولا بأي طقس تفعله لأنها خَلَّفت فيك بقايا الموت التي تشعره في حزن قلبك واضطراب نفسك، ولكونك أدركت كم أن طبيعة الإنسان فسدت بتمامها…
وبكونك تجد أن الله لا يستمع إليك ولا تقدر أن تراه أو تستطيع أن تقترب من محضره وتشعر حضوره الفائق وترى وتبصر نوره العظيم، لأن أعمالك لا تتناسب مع قداسته، فأنك تأكدت يقيناً أن الله لا يحل في هذا الطبع الفاسد أو يتعامل معه، لأن كيف لعديم الفساد أن يتقابل مع الفاسد، ولكونك تصورت أن الشرّ والخطية منبعها الجسد فأن في عينيك يستحيل أن يأتي الخالق ليحل ويسكن هيكل جسد مخلوق، هذا من جانب، ومن جانب آخر، ترى كيف لخالق الأجساد أن يسري عليه قانون الجسد الذي له احتياجاته الخاصة التي تتناسب مع الأرض ووجوده في هذا الكون، فهذا عار عظيم في عينيك…

ولكن لنوضح سوياً هذا اللغو الحادث نتيجة الصراع القائم مع فساد الطبيعة التي اختلت الموازين الخاصة بها، فانحرف الإنسان عن مساره الطبيعي واكتنفته الظلمة وساد عليه الموت بالفساد، وأصبح تحت سلطانه، وظن أن بتدينه وعمل صلاحه القادر عليه يستطيع أن يستعطف مراحم الله، ويحصل عليها بقليل أو كثير من الأعمال بجهده المبذول، فاتكل على قدرته وظن أن أعماله تخلصه، مع أن بالخبرة في حياتنا نجد أننا لن نستطيع أن نُخلِّص أنفسنا من سلطان الموت، الذي يعمل فينا ويكسينا بالظلمة حتى أننا لا نستطيع أن نرى النور الإلهي الفائق، أما ما نعتقد أننا نراه من ملامح إلهية، فما هو إلا صورة باهتة تعلمناها من الصغر ولا تعطينا قوة للرؤية الحقيقية لله الحي ونحن خاضعين للفساد الذي يعمل فينا ويفتت قدراتنا ويشل حركتنا الروحية تجاه الله، لأنك لو قدرت واستطعت – بكثير من التدريب – أن تكف عن أن تُخطأ في وصايا الله، كيف تجعل نفسك ترى نور الله، هل بظنونك أنك تراه، أم تظن أنك تستطيع أن تستحضر الله وكأنك بتحضر روح مثل السحرة والمشعوذين !!!

وهل الله يخضع لي ولك حتى أننا نستطيع أن نستحضره بقوتنا أو بصراخنا أو بأي شيء نقدمه، من مال أو ذبائح أو طقوس، حسب منطقك، أو المنطق الذي تربيت عليه، وهل هذا ينفع الله بشيء !!!

فهل الله يأكل الذبائح أو يزيد بالعبادة أو يُنتقص منه شيئاً لو قصَّرت أنت في عبادتك وعطاياك !!! وكيف تظن: أن يقبل الغير مادي بالمادي، وكيف الله العالي هو فوق كل علو يتنازل للإنسان ويستمع إلى عبادته، أو يصغي لصوته !!!

فأن كنت أنت تخجل من جسدك وتعتبره شيء ضار لك وغير نافع، أو تعتقد أنه دنس باعتراف كلماتك، أن الله يستحيل أن يتخذ جسداً مثل جسدي، وحاشا له أن يفعل هذا !!!
فهل تساءلت في نفسك، هل الله يحتقر الجسد الذي خلقه !!!
وهل الجسد الذي هو نتاج خلقة الله القدوس هو مصدر الشرّ أو مصدر الفساد !!!
أم أن الله غير راضي عن ما خلقه لأنه وجده كريه ولا يليق، أو أنه يتبرأ من صنعة يديه ويحتقرها، وكيف له أن يصنع هذا وهو الخير الكامل الذي يستحيل أن يخرج منه ما هو غير صالح !!!
وهل هذا هو إيمانك بالله الكلي الصلاح ومنبع الخيرات ومصدر الحياة !!!

الرب الذي قال لأرميا النبي: [ قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك ] (أرميا 1: 5)، والرب الذي اختار من البشر أنبياء وارتضى أن يخدموه وهم في نفس ذات الجسد الغير مختلف عن جسدك، أي يخدموه جسدياً، ولم يخجل من أن يخدمه إنسان، أو خجل من أن يدعو بَشر ليحملوا رسالته المقدسة، وأن يخاطبهم ويعطيهم وعده وكلماته المهيبة.
فإذا كان لم يخجل من خلقة الجسد وصنع معجزة عظيمة للغاية، إذ أخذ من تراب الأرض وصنع إنسان ونفخ فيه نسمه حياة خاصة بروحه، ووضع فيه صورته ومثاله، لكي يكون مُكَرَّم على نحوٍ خاص منفرد به عن باقي الخليقة كلها، كيف يخجل إذن من أن يخفي لاهوته في الجسد الذي هو صنعة يدية الطاهرتين [ يداك صنعتاني وأنشأتاني، فهمني فأتعلم وصاياك ] (مزمور 119: 73)

فالذي يخلق الأطفال في الأحشاء، ويجعلهم يولدوا بلا مكر، أو يحملون غشاً، بل في براءة يولدون وقد صاروا أحباء أخصاء له، لكي يرينا كم أن الجسد في ذاته لا عيب فيه ولا دنس، فهو الذي خلق الرجل والمرأة بلا تفريق، وليس هُناك عضو من الأعضاء التي خلقها الله منذ البدء نجساً أو دنساً في ذاته، بل ما يُفسد الجسد هو الزنى والدعارة وكل شيء يُخالف الطبيعة، أي كل شيء مُخالف الناموس الطبيعي الذي وضعه الله في الضمير.

فليصمت إذاً كل من يُهين جسده ويغتاب صانعها، ولنذكر معاً قول الرسول: [ الجسد ليس للزنا بل للرب والرب للجسد ] (1كورنثوس 6: 13)، وأيضاً يقول: [ أم لستم تعرفون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم ] (1كورنثوس 6: 19)، وكرامة أجسادنا هي في المسيح يسوع إلهنا، وحفظها من الدنس بالتوبة المس
تمرة وبتمسكنا بناموس روح الحياة الجديدة في المسيح يسوع، وتقديمها ذبيحة حية مرضية مقبولة بعبادة عقلية متقدة بالمحبة وفاعلة بالإيمان الحي.

والآن لندخل في سرّ التجسد العجيب، الذي كان معجزة عُظمى في التاريخ الإنساني كله، وأمامه تتعثر الناس وتسقط في الفكر الذي لا يقبل أن يرى في الجسد ما هو طاهر أو ما يتناسب مع المجد الإلهي، لأن ما خلقه الله لا يستطيع أن يقدره، بل سقط في عينيه، لأن الجسد هو رداء النفس، وكل نفس مزقت ثوبها إذ استهلكته في الفساد والابتعاد عن خالقها، مشوهة الصورة المجيدة التي تسكنه، وأصبح غير صالح بالتمام، يحتاج لتجديده ليصبح جديداً بهياً كما كان أولاً وقبل أن يتذوق الإنسان مرارة السقوط من المجد الخاص به في محضر خالقه…

وأنه أمر في منتهى العجب، أن تولد الأجسام من أجسام أخرى، وإذا كان هذا الأمر عجيب للغاية ومُدهش جداً ولكنه يحدث، ولكن الأعجب أن يتحوَّل التراب إلى إنسان له عيون وعظم وأجهزة معقدة للغاية في منتهى الإعجاز، فانظروا كيف تم الخلق بأعجوبة، ووقف أمامها العلم مذهولاً، ولا زال يدرس ويعمل في كل جيل، بل ولا يزال يكتشف ما في هذا الجسد من معجزات فائقة لم يعرف منتهاها إلى الآن…

والآن أسأل كل من يصدق هذه الحقائق، من أين أتى آدم !! أليس من الله الذي أخذ تراب الأرض ورسم هذا الشكل العجيب بجمال ومنظر فائق خاص، فإن كان الطين تحوَّل إلى عين، ألا تستطيع العذراء أن تلد ابناً وتظل عذراء !!!
ولا عجب في هذا السؤال لأن العذراء نفسها قالت للملاك: [ لست أعرف رجلاً ]، ولكن الملاك قال لها ما هو أعظم [ الروح القدس يحل عليكِ، وقوة العلي تُظللك، ولهذا المولود منكِ يُدعى ابن الله ] (لوقا 1: 34، 35)

فالله الذي خلق الأجساد يستطيع أن يتنازل وأن يسكن فيها بإعجاز فائق الإدراك، لأنه خلق بتفوق ما لم يتصور أن يُصنع، إذ من طين الأرض صنع أعجب خلائقه، فكيف له أن يقف عاجزاً عن أن يصنع معجزة أعظم وهو أن يسكن بقوته الخاصة ولاهوته، هذا الهيكل الذي هو صنعه، لأنه لم يكن صُنع إنسان، لأن كيف له أن يستطيع أن يصنع معجزة خلق الإنسان ويعجز على أن يتخذ الجسد نفسه الذي خلقه مقراً لسكناه الخاص، ولكونه هو القدير أستطاع – بقدرته بكل سهولة ويُسر – أن يكيف قواه الخاصة حسب الجسد الذي اتخذه، وذلك لكي نستطيع أن نتعامل معه، فقد أخفى لاهوته في جسد إنسان لكي يقرب إليه كل إنسان ولا نصبح غرباء عنه ولا نعرفه ونظن أنه عنا ببعيد، بل يصير واحداً منا، لكي نصير له وبه نحيا ونتحرك ونوجد لكي يكون هو حياتنا فعلاً، إذ يصير الثوب الجديد لأجل الخلود وحياة الأبد، لأنه هو وحده من استطاع أن يُعالج خليقته التي تجرعت من كأس الموت، لذلك وهو الحياة ارتضى أن يأخذ جسداً ليدخل للطبيعة المائتة ليُحييها بقوته، لذلك كُتب لأجلنا:

+++ الشعب الجالس في ظلمة أبصر نوراً عظيماً والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور (متى 4: 16)
+++ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح (2كورنثوس 4: 6)
+++ ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً: أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة (يوحنا 8: 12)
+++ إذاً أن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً (2كورنثوس 5: 17)
+++ من يد الهاوية أفديهم، من الموت أُخلصهم، أين أوباؤك يا موت أين شوكتك يا هاوية، تختفي الندامة عن عيني (هوشع 13: 14)
+ أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية (1كورنثوس 15: 55)