الردود على الشبهات

دور المرأة مع القديس بولس الرسول – القمص متى المسكين

دور المرأة مع القديس بولس الرسول – القمص متى المسكين

دور المرأة مع القديس بولس الرسول – القمص متى المسكين

دور المرأة مع القديس بولس الرسول - القمص متى المسكين
دور المرأة مع القديس بولس الرسول – القمص متى المسكين

يؤكد لنا بولس الرسول هذه الخدمة الخاصة بالنساء، كيف كانت تُقام خصيصاً في البيوت حيثُ كانت تجتمع النساء ككنيسة؛ ويكشف لنا في (رومية 16: 1ـ 16) عن خدمة المرأة التي كانت له عوناً كبيراً جداً في إرساليته. ويُحَدِّد أنواع الخِدَم التي كُنَّ يقُمن بها فيذكُر الآتي:

أـ شَمَّاسة قديسة في رحلة كرازِيَّة عبر البِحار، يُقَنِّنْها بولس الرسول في مصاف القديسين:

“أوصي إليكم بأختنا فيبي، التي هي خادمة (=شَمَّاسة διακονος) في كنيسة كنخريا، كي تقبلوها في الرب كما يَحِق للقديسين، وتقوموا لها في أي شي احتاجته منكم؛ لأنها صارت مُساعدة προστάτις لكثيرين ولي أنا أيضاً” (رو16: 1ـ 3). ويلاحظ هنا أن كلمة “ذياكونوس” تفيد معنى الخدمة الروحية الخالِصة، كذلك كلمة “پروستاتيس” تعني الشخص المُتقَدِّم في المُساعدة. ولا يفوتنا أن بولس الرسول يكتب إلى أهل رومية من كورنثوس، وأن فيبي هي خادمة لكنيسة كنخريا رسمياً، وهو يطلب من أهل رومية أن يُسهِّلوا لها خدمتها الكرازية في البلاد الغريبة، وإنما في وسط السيدات!! فهي هنا تقوم برحلة افتقاد لخدمة الكرازة بعيداً عن كنيستها، لذلك استحَقَّت لَقب “پروستاتيس” أي رئيسة أعوان.

كما يُلاحظ أن الإنطباع الروحي، الطاغي على مشاعر بولس الرسول من نحو هذه الشَّمَّاسة، هو أنها بلغت درجة القداسة، لذلك كان أول تأكيد في مديحها وتقديمها لكنيسة روما هو أنه يلزم أن تُقبَل وتُعامَل كقديسة. وهكذا تقبَّلت المرأة، الخادمة لأول مرة في كنيسة الرُسُل، حقوق القديسين: “كي تقبلوها في الرب كما يَحِق للقديسين”.

كذلك يلزم التنبيه، أن الخدمة بحد ذاتها διακονία هي موهبة من مواهب الروح القدس، يضعها بولس الرسول بين موهبة النبوة وموهبة التعليم: “ولكن مواهب مختلفة حسب النعمة المُعطاة لنا، أنبوة فبالنسبة إلى الإيمان، أم خدمة ففي الخدمة، أم المُعلِّم ففي التعليم” (رو12: 7).

وخدمة فيبي هنا ـ تُعَبِّر لأول مرة عن مفهوم الخادمة المُخَصَّصة لكنيسة مُعينة.

ب ـ خادمات تعبْن في الرب كثيراً، وجاهَدْن في الإنجيل مع بولس الرسول:

ـ سلموا على بريسكلا (امراة) وأكيلا (رجل) العاملَيْن معي في المسيح يسوع (τους συνεργούς μου εν Χρ.)، اللذين وضعا عُنقيهما من أجل حياتي، اللذين لستُ أنا وحدي أشكرهما بل أيضاً جميع كنائس الأمم، وعلى الكنيسة التي في بيتهما” (رو 16: 3ـ 5).

ويُلاحظ هنا كلمة “العامِلَيْن معي” كدرجة يرفع إليها بولس الذين شاركوه في عمل الكِرازة بصورة عالية، ويُعطيها لكل من: تيموثاوس “يُسلِّم عليكم تيموثاوس العامل معي” (رو16: 2)، وتيطس “تيطس شريك لي وعامل معي لأجلكم” (2كو8: 23)، وإبَفْروديتُس “إبَفْروديتُس أخي والعامل معي والمُتجنِّد معي ورسولكم والخادم لحاجتي” (في2: 25) “إفودية… وسنتيخي… وباقي العاملين معي الذين أسماؤهم في سفر الحياة” (في4: 2و3).

ـ “سلِّموا على تريفينا وتريفوسا التاعبتين في الرب κοπίαν وعلى برسيس المحبوبة التي تعبت كثيراً في الرب” (رو16: 12).

ـ “إفودية… وسنتيخي…، أسألك أنت أيضاً يا شريكي المُخْلِص ساعِد هاتين اللتين جاهدتا معي في الإنجيل ἐν τῷ εὐαγγελίῳ  مع اكليمندس أيضاً وباقي العاملين معي συνεργῶν  الذين أسماؤهم في سفر الحياة” (في4: 2و3).

هنا نساء كان تعبهن ظاهراً في وسط الجماعة، ومخصصاً للرب، وفي الإنجيل بالذات، أي للبشارة المُفرِحة بالقيامة والخلاص؛ وبولس الرسول يحمل في قلبه تأثيراً شديداً من جهة تعب هاته النسوة اللاتي كُنَّ يُجاهدن ويعملن مع بولس في نفس الخدمة الرسولية وبنفس الحماس والأسلوب الرسولي (معي συν) على التساوي (وإنما في محيط النساء بالتأكيد)، مما جعل بولس يرتفع في نشوة الروح ويرى ويتحقق أن أسماءهن كُتبت في سفر الحياة.

ويلاحظ أن إسم أفودية وسنتيخي يأتي قبل إسم اكليمندس الذي صار بابا وماما. وينبغي هنا أن يعود القارئ إلى تصريح اكليمندس الإسكندري عن خدمة النساء مع الرُسُل بنفس القوة والحماس والأسلوب الرسولي (إرجع إلى ص 27).

ج ـ نساء يُصلين ويتنبأن داخل الكنيسة:

هذا التسجيل جاء ضمن دفاع بولس الرسول عن التقليد بوجوب تغطية رأس المرأة أثناء التواجُد في الكنيسة هكذا: “أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح، وأما رأس المرأة فهو الرجل، ورأس المسيح هو الله؛ كل رجل يُصلي أو يتنبأ وعلى رأسه شيء يشين رأسه، وأما كل امرأة تصلي προσευχομένη  أو تتنبأ προφητεύουσα  ورأسها غير مُغَطَّى فتَشِين رأسها… لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سُلطان على رأسها من أجل الملائكة” (1كو11: 3ـ 10).

هنا تسجيل هام جداً يوضِّح أن النساء كُنَّ يحضرن مع الرجال ويصلين، ويتنبأن بمُقتضى مواهب الروح القدس التي مُنحت لهُن كباقي المؤمنين الرجال، وهنا يأتي وضع النسوة وهُنَّ يتنبأن مساوياً تماماً لوضع الرجال وهم يتنبأون، ولا فرق إلا وجوب تغطية الرأس؛ وإنما لا يتجاوز هذا الوضع دور المؤمنين العاديين، ولا يرتفع إلى مفهوم الرئاسة في الخدمة أو قيادة الصلاة، فالكلام هنا محدود في خوارس المؤمنين، وبالذات في محيط النساء.

هذه الموهبة التي أُعطيت للمرأة بالتساوي مع الرجل هي تحقيق صادق لنبوة يوئيل النبي، أن الروح القدس سيحل على النساء ويجعلهن يتنبأن سواءً بسواء مع الرجال: “ويكون بعد ذلك أني أسكُب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم… وعلى عبيدي (الرجال) وعلى الإماء (عبيدي من النساء) أسكُب من روحي في تلك الأيام” (يوئيل2: 28و29).

أما مسألة تغطية الرأس بالنسبة للمرأة فلا تُشير إلى تدنِّي في المرتبة عن الرجل، ولكنها تعبير عن الدخول في مجال الإختفاء عن العيون، لتصير صلاتها، أو يصير تنبؤها بغير تشتُت وبلا عثرة عند الآخرين، وتمييزاً لها عن الرجل أمام الله والملائكة، مظهره أنها لا تزال تحترم وتخضع لنسقِ حُسن الخلقة الأولى التي خلقها الله بها كأنثى، حتى وبعد حصولها على ملء حريتها وخلاصها وفدائها وتساويها بالرجل.

أما قوله أن رأس المرأة هو الرجل، فهذا أيضاً لا يُقلِّل لا من كرامة ولا من مساواتها للرجل، لأن بولس الرسول أردف شارحاً بإيجاز قائلاً: “ورأس المسيح هو الله”. وغني عن التعريف حقيقة مساواة المسيح كإبن لله الآب، سواء في الكرامة أو المجد أو الجوهر والصفات، غير أن الآب هو آب والإبن هو إبن، ويمتنع أن يكون الآب إبناً أو الإبن آباً؛ هكذا الرجل والمرأة في الروح وفي المسيح، فتساويهما في كل شيء بالروح أمام الله وفي ميراث المسيح لا يُغَيِّر حقيقة أن الرجُل سيبقى رجلاً وأن المرأة ستبقى امرأة.

ويُلاحظ في نهاية العصر الرسولي وما بعده، أن دور الأنبياء والذين يتنبأون كان يأتي، ليس كحالة إلهام وحسب، وإنما كوضع حمل مسئولية داخل الكنيسة كتعيين الروح القدس. وبولس الرسول يضع درجة التنبؤ ما بين درجة الرسولية ودرجة المُعلمين: “وضع الله أناساً في الكنيسة أولاً رُسُلاً ثانياً أنبياء ثالثاً مُعلمين…” (1كو12: 28)؛ ولكن على أساس أن تسلسُل الدرجات الرئاسية هو في الكنيسة بالنسبة للرجال فقط؛ أما قيمة الموهبة ـ بحد ذاتها ـ كتنبؤ بالنسبة للنساء، وإن بقيت خارج الترأُّس على الجماعة الرسمية المجتمعة في الكنيسة، فهي تبقى في كرامتها كدرجة أعلى من درجة التعليم، وإن كانت لا تعطيها حق التراُّس، وسنأتي على شرح ذلك في حينه.

ويُعلِّق القديس إبيفانيوس أسقف قبرص (315ـ 403م) على ذلك بقوله:

[ لم يحدُث قط أن اُختيرت امرأة لتكون (صاحبة درجة) بين القسوس والأساقفة، ولكن قد يقول واحد أنه كانت توجد أربع عذارى، بنات فيلبُس المُبَشِّر، كُنِّ يتنبأن، هذا صحيح ولكن لم يقُمن بمُمارسة الكهنوت ιερατεια. وأنه حقاً توجد فى الكنيسة درجة (طغمة) الشماسات τάγμα διακονισσῶν، ولكن غير مسموح لهُن أن يَعملن كقسوس، أو يقُمن بأي عمل له علاقة بهذه الوظيفة] (1).

هذا بالإضافة إلى أن البنات الأربع العذارى اللواتي لفيلبُس المُبَشِّر أحد السبعة الشمامسة، اللواتي سبق ذكرهن في ص27، هاته النبيات عِشنَ حياتهن غلى سن مُتقدمة في عذراويتهن، مما يدُل على أنهن كُنَّ نذيرات بتولية على مستوى الرهبنة، إنما داخِل بيت أبيهن، وقد وصلتنا أخبار هاته العذارى النبيات في سرد يوسابيوس القيصري لتاريخ الكنيسة على فم غايس:

[ أن هاته العذارى الأربع مع أبيهن فيلبُس دُفِنَّ معاً في مدينة هيرابوليس التي خدم فيها فيلبُس المُبَشِّر مع بناته، ويُقال على فم بوليكرات أن إثنتين منهن دُفنتا في هيرابوليس، وأما الثالثة فدُفنت في أفسُس ](2).

ضوابط على الحقوق وأسباب ذلك:

يعود التقليد الإنجيلي، وخاصةً بواسطة بولس الرسول، بعد ما صب الحقوق كلها بالتساوي على نصيب المرأة ليكون مساوياً بالروح وفي الروح مع الرجل فى كل شيء، يعود ويضع لها ضوابط، ويظهر وكأنه حريص كل الحِرص من أن تُستغَل الحُريَّة خطأ من أجل الجسد ويفلت زِمام الكنيسة.

فهو في نفس الرسالة التي كتب فيها: “ليس الرجل من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب، لأنه كما أن المرأة هي من الرجل، هكذا الرجل أيضاً هو بالمرأة” (1كو11: 11و12)، وهكذا يبدو كل شيء وكأن المرأة قد دانت لها الرئاسة في الكنيسة؛ يعود تواً إلى وضع كل حق في حدوده ونصابه. فالحقوق التي مُنحت للمرأة هي روحية صِرف، فهي لها المسيح ككُل، ولها الروح القدس والأسرار والمواهب جميعاً على مستوى الروح، لميراث نصيب مساوٍ تماماً(3) ومُشترك في كل شيء مع الرجل، في المسيح لله!! ولكن حينما ينحدر بولس الرسول إلى الكنيسة التي لاتزال تعيش على الأرض تحت نير الجسد ووسط عالم شرير ومعاثر حتمية، يبدأ ينظر للمرأة كما ينظر إليها إنسان هذا الدهر. فهي أُنثى، وموضع إلتفات، ومصدر إعثار خطير بصوتها ووجهها وكيان جسدها، بل وفي كل حركة وسكنة من حركاتها وسكناتها.

إذن طالما نحن نعيش في الجسد فيتحتم أن نتحاشى إعثار الجسد وخاصةً داخل الكنيسة، وعليه يلزم للمرأة مراعاة الآتي:

أولاً: ممنوع الكلام في الكنيسة بالنسبة للنساء:

“لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذوناً لهُن أن يتكلمن λαλείν بل يخضعن كما يقول الناموس “أيضاً” (أو بحسب ما يقوله الناموس καθὼς καὶ ὁ νόμος λέγει)، ولكن إن كُنَّ يُرِدن أن يتعلمن شئياً فليسألن رجالهن في البيت لأنه قبيح بالنساء أن يتكلمن λαλείν في كنيسة، أم منكم خرجت كلمة الله؟ أم إليكم وحدكم انتهت؟ إن كان أحد يحسب نفسه نبياً أو روحياً فليعلم ما أكتبه إليكم أنه وصايا الرب، ولكن أن يجهل أحد فليجهل” (1كو14: 34ـ 38)

هنا يكشف لنا بولس الرسول عن أمرين غاية في الأهمية:

الأمر الأول هو أن التقليد بحسب الناموس القديم كان يمنع المرأة أن تتكلم في كنيسة (مجمع مؤمنين يجمع رجالاً ونساءً).

ثم الأمر الثاني هو أن موضوع صمت المرأة في الكنيسة هو ضمن وصايا الرب التي استلمها الرُسُل وبالتالي بولس الرسول من المسيح، وعليه فإن بولس الرسول من هذا المُنطلق وبهذه الثقة يقطع في الأمر ويجعله غير قابل للمناقشة، ويوصي الروحيين وذوي المواهب أن يثقوا أن هذه هي وصية الرب لكي يتمسكوا بها. ولكن إن تماحك أحد وأراد أن يتجاهل هذا فإنه يتركه على جهله: “ولكن إن كان أحد يظهر أنه يحب الخصام فليس لنا عادة مثل هذه ولا لكنائس الله” (1كو11: 16).

كذلك نود أن نشرح كلمة “يتكلمن” λαλείν ، فهي تعني الكلام بأسلوب التعليم الليتورجي الوعظي كما جاءت في سفر العبرانيين: “اذكروا مرشديكم الذين كلموكم (ἐλάλησαν) بكلمة الله” (عب 13: 7). وهذا ما يقصده بولس الرسول بأكثر وضوح في رسالته إلى تيموثاوس.

ثانياً: ممنوع على النساء أن يُعلِّمن الرجال أو يتسلطن عليهم في الكنيسة:

“لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع (ὑποταγή). ولكن لستُ آذن أن تُعَلِّم (διδάσκειν) وتتسلط على الرجل، بل تكون في سكوت. لأن آدم جُبل أولاً ثم حواء. وآدم لم يُغوَ ولكن المرأة أُغويت فحصلت في التعدي. ولكنها ستخلص بولادة الأولاد إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعَقُّل” (1تي2: 11ـ 15).

هنا يهدف بولس الرسول من منع المرأة عن تعليم الرجال، ليس لأن التعليم ممنوع عليهن أو مُمتنع لديهن، لأن كل المواهب يشتركن فيها، ولكن لأن تعليم المرأة للرجال في الكنيسة يعطيهن الرئاسة أو التسلُّط على الرجل، وهذا يراه بولس الرسول غير جائز. لذلك فهو يؤكد على المرأة بضرورة السكوت بكل خضوع في حضرة الرجال داخل الكنيسة، كأمر نهي، حتى لا يتسلطن على الرجال. ومن هنا يأتي المنع البات من الدخول في الرسامات التي تعطي حق التعليم داخل الكنيسة، وبالتالي الرئاسة على جماعة المؤمنين، وهنا ينغلق الباب أمام المرأة للإشتراك في إقامة الإفخارستيا.

فإن كان قد سبق لبولس الرسول أن أعطى صورة تحمل التصريح الواضح للمرأة للصلاة والتنبؤ في الكنيسة كإحدى المؤمنات، وعلى أحسن حال في وسط النساء، فهو هنا يقطع الطريق على المرأة من أن ترفع صوتها بالتعليم، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى تأدية خدمة الإفخارستيا التي تحمل معنى الترأُّس على جماعة المؤمنين ككُل.

الأسباب التي يُقدمها بولس الرسول لهذا المنع:

من جهة المُساواة في الحقوق والمواهب التي تجعل المرأة شريكة مع الرجل ومساوية له تماماً في الميراث السمائي مع المسيح في الله، فبولس أكَّد ذلك ببراهين، ولكنه حينما واجَه إمكانية استخدام هذا الحق للترأُس على الرجال، امتنع أن يُعطي التصريح لنساء كليةً للتعليم داخل الكنيسة، الذي يحمل أيضاً معنى عدم التصريح لهُن بقبول الرسامات الرئاسية. وهنا بدأ بولس الرسول أيضاً يعطي البراهين، التي تبدو لأول وهلة أنها تنقض البراهين التي تُصرِّح بالصلاة والتنبؤ داخل الكنيسة.

فهو يقول هنا مُدللاً على عدم جواز الترأُّس على الرجل “لأن آدم جُبِل أولاً ثم حواء”. هذه هي العلة الأولى التي تمنع ترأُس حواء على آدم، أي المرأة على الرجل، وإلا نكون قد خالفنا نسق الخَلق الأول الذي كان حسناً جداً قبل الخطيئة.

ثم يعطي السبب الثاني: “وآدم لم يُغوَ، لكن المرأة أُغويَت، فحصلت في التعدي”؛ وهذه هي العِلَّة الثانية وهي الأخطر، فكيف يُصَرَّح للمرأة أن تُعلِّم الرجل النُصح والإرشاد أو تُقيم إفخارستيا الصُلح والغُفران، وهي العُنصر الأضعف إزاء الغواية والخطأ؟ وهي التي حصلت في التعدي وأوقعت آدم معها؟

هنا يرى بولس الرسول أنه إذا كانت حواء (المرأة) قد قدَّمت الخطيئة لرجُلها، فإنه من اللائق والواجب أن يُقدَّم لها النُصح أولاً، ثم الصفح والغُفران (الذبيحة) بواسطة الرجل!!

ولكن هذا كله لا يمنع أن تكون حقوق المرأة، القائمة في عطايا الروح القدس وفي جسد المسيح وفي ملكوت الله، مساوية تماماً لتلك التي للرجل وواحدة معه! …

ويؤكد على هذا المعنى العالم ترتليان (160ـ 240م) من شمال أفريقيا بقوله:

[ إن بولس الرسول قد أوصى المرأة بالصمت في الكنيسة بحيثُ لا تتكلم ولا حتى تسأل. أما حقها في أن تتنبأ فقد سبق أن أثبته ضمناً لما طالبها بأن تتغطى حينما تتنبأ](4).

ثالثاً: زي الصلاة داخل الكنيسة بالنسبة للمرأة: 

“فأريد أن يُصلي الرجال في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال، وكذلك أريد أن النساء (في الصلاة) يُزَيِّن ذواتهن بلباس الحشمة مع ورع وتعقُّل، لا بضفائر، أو ذهب أو لآلىء أو ملابس كثيرة الثمن، بل كما يليق بنساء مُتعاهدات بتقوى الله، بأعمال صالحة، ولتتعلَّم المرأة بسكوت في كل خضوع” (1تي2: 8ـ 11)

هنا يعطي بولس الرسول صورة لِما ينبغي أن يكون عليه زي المرأة في الصلاة داخل الكنيسة وسط الجماعة، أي أنه يوضح ضمناً أن المرأة تشترك بنصيبها في الصلاة والتنبؤ، إن كُنَّ صاحبات مواهب. كما سبق في 1كو11: 4و5، ولكن في حدود الحِشمة.

الجديد هنا أن بولس الرسول يضع ضوابط لحُريَّة وحقوق المرأة في الروح، لكي لا تمتد إلى الجسد، لئلا تصير المرأة مرة أخرى مثل حواء موضع غِواية وسبب تَعَدِّي؛ لباس المرأة الآن يُذَكِّرنا بالثمرة المُحَرَّمة التي قدَّمتها حواء لآدم في زي جميل، “جيدة للأكل… بهجة للعيون… شهية للنظر” (تك3: 6). والنتيجة: التعرِّي من نعمة الله؟ لكليهما؟؟!!

رُتبة الأرامل χῆραι

بتتبُع موضوع الأرامل في العهد الجديد نجده يَمُر بثلاثة أنواعٍ منهُن، لا علاقة للواحدة بالأخرى:

أولاً: يبدأ موضوع الأرامل في سفر الأعمال بالنوع العام الذي يرتزق من الكنيسة بسبب عدم وجود مصادر معيشة لهُن.

  • “وفي تلك الأيام إذ تكاثر التلاميذ حدث تَذَمُّر من اليونانيين على العبرانيين أن أراملهُم كُنَّ يُغفل عنهن في الخدمة اليومية” (أع6: 1).
  • “فقام بطرس وجاء معهما، فلما وصل صعدوا به إلى العُليَّة، فوقفت لديه جميع الأرامل يبكين ويرين أقمصة وثياباً مما كانت تعمل “غزالة” وهي معهن” (أع9: 39).

واضِح أن هذا النوع من الأرامل بأن يرتزقن من خيرات الكنيسة، ثم بدأن يشتغلن معاً بأيديهن ليعملن ملابس وأقمصة لعلها ملابس الخدمة؟ وهنا بداية عمل الأرامل في الكنيسة إنما على مستوى النشاط البدني وهو أقل مفهوم لكلمة διακονία.

ثانياً: “وأما أنت فتكلم بالتعليم الصحيح أن يكون الأشياخ… كذلك العجائز = πρεσβύτιδες (النساء المُتقدمات في السِن ـ الأرامل ـ وهُن المُقابل لمرتبة الشيوخ في الرجال) في سيرة تليق بالقداسة، غير ثالِبات، غير مُستعبَدَات للخمر الكثير، مُعلمات الصلاح (التعليم الحسن= καλοδιδάσκαλοι) لكي ينصحن الحدثات…) (تي 2: 1ـ 4).

هنا “أرامِل” على المستوى العام، وليس نظاماً مُحدداً. ولكن لكي يكون لهُن دور في الخدمة، يُشترط عليهن شروطاً وأن تكون لهُن سيرة في القداسة.

وفي شرح العلَّامة أوريجانس لرسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، يُقارن بين فيبي خادمة كنيسة كنخريا وبين هؤلاء الأرامل اللاتي يذكرهن بولس الرسول في الرسالة إلى تيطس.

ثالثاً: “أكرم الأرامل اللاتي هُنَّ بالحقيقة أرامل…، التي هي بالحقيقة أرملة ووحيدة وقد ألقت رجاءها على الله وهي تواظب على الطلبات والصلوات ليلاً ونهاراً… فأوصِ بهذا لكي يكُنَّ بلا لوم… لتكتتب أرملة إن لم يكُن عمرها أقل من ستين سنة امرأة رَجُل واحد، مشهوداً لها في اعمال صالِحة، إن تكُن قد ربَّت الأولاد، أضافت الغُرباء، غسلت أرجُل القديسين، ساعدت المتضايقين، اتَّبعت كل عمل صالح” (1تي5: 5ـ 10).

هذه هي الدرجة الأخيرة والكاملة في درجات الأرامِل، التي ينعتها بولس الرسول أنها أرملة حقيقية، وشروطها أدق جداً وأعمق من كل ما سبق، إذ يلزم أن لا تكون دون الستين سنة لأنها ستدخل ضمن العاملين في الكنيسة وشهود الإيمان، فيلزم ضمان السن لبلوغ مستوى الرزانة والخِبرة. ثم يُشترط أن تكون وحيدة، أي ألقت كل رجائها على الله الذي ستخدمه، وأن تكون مواظبة على الصلاة والطلبة ليلاً ونهاراً، بمعنى صلوات الليل وصلوات النهار المحددة، هذه تستحق في نظر بولس أن تُكرَّم.

نحن هنا نواجه اتجاهاً نسكياً مُحدداً، وحياة روحية داخلية عميقة، وحياة تأمُّلية تعيشها الأرملة، غير ما سبق من درجات الأرامل اللواتي تتجه حياتهن نحو العمل وأداء الخدمات نحو الجماعة. ولهذا ـ ولأول مرة ـ يتحدد طقس مُعَيَّن لهؤلاء الأرامل، إذ تتسجل أسماؤهن في سجل الكنيسة عندما يستوفين هذه الشروط.

ومن هذا يتضح لنا أن الأمر ليس هيِّناً، إذ يلزم الإختبار الدقيق، ثم الإختيار الذي يكون في أضيق الحدود، ليتكوَّن منهُن هيئة مُحددة داخل جماعة الكنيسة الرسمية، في موازاة الدرجات الكهنوتية الأخرى، وإن كانت لا تُحسَب منها.

اصطلاح الأرملة يدخل تدريجياً في الطرف النهائي لمسلسل الرُتَب الكهنوتية، وإن كان لا يُحسب منها:

1ـ بعد رسائل القديس بولس الرسول، تمدنا النصوص الكنسية بمؤلفات من عصر الآباء الرسوليين يبدأ فيها نظام الأرامل يدخل كنظام كنسي مُحدَّد:

+ فالقديس پوليكاربوس(1) هو أول من دعاهم “مذبح الله θυσιαστήριον “. وهذا الإصطلاح يتكرر بعد ذلك بكثرة، وهو مأخوذ من وصف القديس بولس الرسول لهن “أنهن يواظبن على الصلاة والطلبة ليلاً ونهاراً”. من هنا نشأت شفاعتهن في نظر الآباء الرسوليين.

+ والقديس إغناطيوس(2) عندما يتكلم عنهن، يدعوهن “العذارى المدعوات أرامل”. وهكذا تبدأ أوَّل نقلة لكلمة “الأرامل” من معناها العادي، لتدخُل ضمن الترتيب أو النظام الكنسي.

+ هرماس الأسقف(3) يعطينا صورة لإمرأة تُدعى “غراتيا”، كان عملها معه أن تنقل الرؤى الروحية التي يراها، لتقُصَّها على الأرامل الأخريات والأيتام، بينما كان يقرأُها هرماس على الشيوخ. وهكذا يبدو أن “غراتيا” كانت في درجة الأرامل، مما يوحي لنا أن درجة الأرامل كان منوطاً بها تعليم النساء.

+ ولكن القديس بولس الرسول هو أول من أشار إلى درجة الشماسية دون تحديد الإسم:

فبعد أن يذكر الرسول شروط الأسقف ثم شروط الشمامسة، يستطرد قائلاً: “كذلك يجب أن تكون النساء ذوات وقار، غير ثالبات، صاحيات، أمينات في كل شيء. ليكن الشمامسة كلُّ بعل امرأة واحدة، مُدبرين أولادهم وبيوتهم حسناً” (1تي3: 8ـ 13).

واضح جداً من تسلسُل النص أن القديس بولس الرسول لا يقصُد النساء عامةً، بل الشَّمَّاسات النساء، لأنه يضعهن بموازاة الشمامسة الرجال، ثم في آخر الدرجات. ثم يعود فيُفرِّق بين هؤلاء الشماسات النساء وبين النساء زوجات الشمامسة بعدهن. فهنا كلمة “النساء” التي أوردها القديس بولس الرسول تحمل معنى اصطلاحياً مُخصصاً، فهي تعني أنها “وظيفة كنسية للخدمة”، لأنها ذات شروط.

فكما خرج مع الرُسُل أخوات هُنَّ زوجات، للخدمة المُكمِّلة لخدمة الرُسُل تجاه النِسوة ولكن بدون طقس، وكما خرج من تحت الروح القدس نَبِيَّات بموازاة الأنبياء في الكنيسة إنما يخدمن النسوة بدون طقس، وكما بموازاة الشيوخ وُجدت العجائز اللاتي يخدمن الكنيسة بدون طقس؛ كذلك نجد في مُقابِل الشَّمامسة شمَّاسات يخدمن التعليم للنسوة ولكن بدون طقس. أي أننا نلاحظ أنه في مواجهة كل خدمة للرجال توجد خدمة مُحددة للنساء.

+ خطاب المؤرخ “بليني” الصغير يُلَقِّب هؤلاء الخادمات بـ “الشماسات”:

 في هذا الخطاب الموجه إلى الإمبراطور تراچان، في بداية القرن الثاني الميلادي، فيما يختص بمسيحيي بونتُس بآسيا الصُغرى، يقول المؤرخ بليني:

[ لقد قررت أنه صار من الضروري أن أحصل على معلومات بالتعذيب من امرأتين خادمتين ـ  ancillae ـ تُدعيان عندهم بالشماسات، (ministrae) (4).

أما كلمة Ministrae باللاتيني فهي التي تُقابِل διάκονος  باليوناني. وفي هذا التسجيل، تأتي هذه التسمية ذات مدلول وظيفي اختصاصي داخل الجماعة، ولكن التسمية التي جاءت باللاتيني ancillae (أي عبدتان) تفيد شيئاً من التدنِّي في الوظيفة. وهذا يُنبهنا أننا هُنا أمام طقس آخر غير طقس الأرامل اللاتي يحظين بالكرامة.

كذلك فإن المفهوم المباشر لعمل الشَّمَّاسات διάκονος  هنا هو الخدمة. ولكن ما هي هذه الخدمة؟ هل هي خدمة داخل الكنيسة؟ علماً بأن أي خدمة للنساء داخل الطقس الكنسي لم تتعدَّ قط مُساعدة الأسقف في مُباشَرة طقس التعميد وبالنسبة للنساء فقط، بالإضافة إلى حقهن في الإشتراك في العبادة الجماعية، وخدمة المرضى.

وهكذا يبدو واضحاً، أنه منذ هذا الوقت (بداية القرن الثاني)، بدأت خدمة الشَّمَّاسات بغرض مُساعدة الأسقف والشماس فيما يختص بخدمة النساء.

خطر الإنحراف، والتمادي في الحقوق التي ليست لهُن:

ومما يؤيد هذا أن جماعة الرُسُل أوضحت لنا كيف أن النساء بدأن يأخذن نصيباً كبيراً في الخدمات الرسمية للجماعة، وبأشكال متعددة، ولكن هذا لم يمُر دون شطط، لأن عِظَم الدور الذي كانت النساء يقُمن به في بداية انتشار الكنيسة، سهَّل لهُن الرغبة في القيام بمهام كان لا حقَّ لهُن فيها، بل إن دورهن الكبير هذا سهَّل لهُنَّ إفساد ما هو داخل في نطاق مسئوليتهن أيضاً.

وقد بدأ تسجيل ذلك منذ القرن الثاني في كنائس الهراطقة، غير أنه ليس من السهل معرفة الحدود بين ما كان أرثوذكسياً وما كان من عمل الهراطقة.

ولكن من الأمثلة الواضحة، ما كان حادثاً عند الهراطقة المدعوين: المرسيونيت Marcionites، الذين كانوا يدَّعون أنهم خُلفاء القديس بولس الرسول، ولهؤلاء وجَّه العلَّامة ترتليان أقواله هذه:

[ يالهذه البجاحة التي نراها بين نساء هؤلاء الهراطقة، إنهن تجرأن أن يُعلِّمن داخل الكنيسة، ويشتركن في المُناقشات، ويُمارسن إخراج الشياطين، مُدَّعين عمل الشفاء، بل ويُعمِّدن أيضاً](5).

وقيام النساء بالتعميد بهذه الطريقة ـ مُنفردات دون الأسقف ـ كان مُستهجناً حتى بين الهراطقة المرسيونيت أنفسهم.

وبهذا يُحدد لنا ترتليان، بكل إحكام، أنه فيما يختص بخدمة الأسرار فإن النساء كُنَّ ممنوعات تماماً، وهو يُسجل ذلك مرة أخرى بمُنتهى الوضوح:

[ غير مسموح للنساء أن يتكلمن في الكنيسة، وكذلك أيضاً فإنهُن ممنوعات من وظيفة إعطاء التعاليم أو العماد أو تقديم الذبيحة، كما يحظر عليهن أي إدِّعاء لأداء أية خدمة من اختصاص الرجال أو فيما يختص بالأسرار عامةً](6).

هذا فيما يخُص الأسرار رسمياً؛ أما فيما يخُص عمل الإرساليات والصلاة والتنبؤ داخل الكنيسة، فحقهنَّ في ذلك كان غير مُتنازع عليه. وهكذا استمرت النساء في هذا المضمار الذي كان مفتوحاً أمامهن. ولكن وحتى هذا الجزء الخاص بهن، لم يمُر دون إساءة وإفساد. وكُتُب الأبوكريفا تَصِف لنا إلى أي مدى شطحت النساء في أداء رسالتهن، كما في كتب الغنوسيين، وما اشتملت على إدِّعاء النسوة من الإستعلانات وكشف الأسرار، حيث كانت النسوة يُرافِقن قادة الهراطقة في الأسفار والأعمال، كما هو معروف في قصة صلاة هيلانة مع سيمون الساحر، ومارسيلينا مع مرقص ماجوس (مؤسس المارسيونيت)، وفيلومينا مع أبُللُّوس، وكذلك دور النَّبِيَّات في هرطقة المونتانيين.

لقد إدَّعى هؤلاء الهراطقة الحق الذي كان للرُسُل، أن يطُفن المُدُن مع زوجات كأخوات. ولكننا نكتشف من سيرة هؤلاء الهراطقة مع هاته النِسوة، أن عمل النِسوة بولِغَ فيه، كما أن هؤلاء الهراطقة الرؤوس استخدمن هؤلاء النساء لأغراضهن الخاصة!

العلَّامة ترتليان يصف رُتبة الأرامل فى كنيسة قرطاجنة:

يُعرِّفنا العلَّامة ترتليان أن الأرامل كانت لهن مواضِع خاصة في الكنيسة للدلالة على كرامتهن الخاصة، بل ويضع هذه الكرامة في وضع مقابل لكرامة القسوس إذ يقول إن المُذنبين الذين كانوا يريدون أن يتصالحوا مع الكنيسة كان عليهم أن يتقدموا في وسط الكنيسة “ويسجدوا أمام الأرامل وأمام القسوس”(7).  

[In medium ante uiduas, ante presbyteros]

ويَعتبر رُتبة الأرامل في الطرف النهائي من مسلسل الرُتَب الكنسية، إذ يقول لمن يطلب أن يتزوج مرة ثانية (من أفراد الشعب):

[كيف تطلُب أن تتزوج مرة ثانية بينما هذه الزيجة مُحَرَّمة على الذين تطلبها منهم (أي على المسئولين في الكنيسة): فإن الأسقف لا يكون قد تزوَّج غلا من امرأة واحدة، وكذلك القسوس والشمامسة يخضعون لهذا النظام والأرامل أيضاً. وهوذا أنت تريد أن تستنكر سيرة جميع هؤلاء بسلوكك الذي تريده لنفسك؟!](8).

من هذا النص يَتَبَيَّن أن رُتبة الأرامل كانت في نظر ترتليان داخلة مع رُتبة الأسقف والقس والشَّمَّاس ضمن الهيئة الكنيسة المسئولة عن حِفظ النظام الكنسي والإرشاد، بحيث أن كل من كان يريد أن يتزوج كان عليه أولاً أن يعرض عليهم مشروعه ويستشيرهم في ذلك.

وفي مواضع أخرى يُبيِّن بوضوح أن رُتبة الأرامل تدخُل ضمن النظام الكنسي “ordo”؛ ومعروف أن هذه الكلمة اللاتينية في كتابات ترتليان تُرادِف الكلمة “اكليروس” عند الكُتَّاب اليونانيين المسيحيين(9).

[كم من الرجال والنساء في نظام “ordo” الكنيسة يمارسون العفة! فقد فَضَّلوا أن يدخلوا في زيجة روحانية مع الله…](10).

فالنساء اللائي ضمن نظام ordo الكنيسة في زمن ترتليان، هُنَّ الأرامل:

[إن الزواج للمرة الثانية يُشَكِّل خطراً على الإيمان وعائقاً للقداسة فإن قانون الكنيسة ووصية الرسول (بولس) يُبيِّنان ذلك بوضوح، فإنهما لا يسمحان للرجال الذين تزوَّجوا مرة ثانية أن يقودوا الكنيسة، وكذلك لا يسمحان بقبول أرملة في النظام ordo (أي الرُتَب الكنسية الرسمية) إلا إذا كانت أرملة رجُل واحد. وهكذا فجميع المنتخبين في الكنيسة يُختارون من بين القديسين لأن المذبح المُقام لله ينبغي أن يكون طاهراً](11).

وجميع هذه النصوص تُبَيِّن وضع المرأة في الكنيسة ومساواتها مع الرجُل من جهة الكرامة، ولكن ينبغي أن يُفهم من ذلك أن هذه المُساواة تمتد إلى المستوى الوظيفي، فترتليان يقول بوضوح:

[غير مأذون للمرأة أن تتكلم في الكنيسة ولا أن تُعَلِّم أو تُعَمِّد أو ترفع القرابين أو تطلُب ما لنفسها أياً من الوظائف الخاصة بالرجل ولاسيَّما الخدمة الكهنوتية].

ولكن هذا التمايُز الوظيفي لا ينفي مُساواة المرأة مع الرجل على الصعيد الروحي. فترتليان يقول إن للعذارى كهنوتاً روحياً خاصاً يدعوه “كهنوت البتولية”(13) الذي يتم برفع الجسد كذبيحة سِرِّيَّة لله داخِل القلب.

وكذلك يؤكد حق المرأة في أن تتنبأ بالمساواة مع الرجل (بحسب نبوة يوئيل النبي2: 28).

[إن بولس قد أوصى المرأة بالصمت في الكنيسة بحيث لا تتكلم ولا حتى تسأل. أما حقها في أن تتنبَّأ فقد سبق أن أثبته ضمناً لمَّا طالبها بأن تتغطى حينما تتنبأ](14).

وفي موضع آخر يُبَيِّن أن المرأة التي ترى رؤى وإعلانات لا تدلي بها إلا أمام الشيوخ بعد انصراف عامة الشعب:

[إن بيننا اليوم أختاً قد حصلت على موهبة الإعلانات، فهي تنالها في الكنيسة أثناء صلاة الأحد إذ تقع فى الدهش بتأثير من الروح القدس، وتتكلم مع الملائكة بل وأحياناً مع الرب، وترى وتسمع أسراراً وتقرأ ما في قلوب الآخرين وتعطي العلاج للمحتاجين.

فسواء كُنا نقرأ الكتب أو نسبح بالمزامير أو نُلقي العظات أو نرفع الصلوات لله، فكل هذه تصير لها فرصة للرؤى. وذات يوم قلنا في العظة شيئاً ما عن النفس بينما كانت هذه الأخت تحت تأثير الروح. فلما انتهت الصلاة وانصرف الشعب قالت لنا بحسب عادتها في الإدلاء بما رأته ـ فإن رؤاها تُسجَّل بعناية شديدة حتى تكون مُحققة ـ قالت لنا: “لقد ظهرت لي نفس في هيئة جسمية، فكانت تبدو مثل روح ولكن ليس من نوع فارغ وباطل بل كان يبدو أنه يُمكِن لمسها. وكانت رقيقة ومُضيئة بزرقة السماء وبشكل مُشابِه تماماً لجسم الإنسان”](15).

ومن هذا يظهر أن المراة التي كانت ترى رؤى لم تكُن تُوقِف القراءات أو التسبيح بالمزامير أو سائر الصلوات، بل كانت تنتظر نهاية الإجتماع وتَدلي بها للقسوس بعد انصراف الشعب حتى يُسجِّلوها ويُحققوها، أي يتحققوا من صِحتها وأصالتها.

في كتاب “التقليد الرسولي” لهيپوليتس:

لقد وضع هيپوليتس هذا الكتاب حوالي سنة 215م، وهو يُعتبَر (بعد الديداخى) أقدم وثيقة تُقَدِّم لنا التعليم الشفاهي المُسَلَّم من الرُسُل للكنائس. وقد أُخِذَت عنه مُعظم التسجيلات اللاحقة لقوانين الرُسُل(16).

يوصي هذا الكتاب بتكريم الأرامل، بل إنه يَعتَبِر ذلك من شروط قبول الإيمان حتى أن الذي لا يُتمِّم ذلك لا يكون أهلاً لقبول المعمودية:

[حينما يُنتَخَب الذين سينالون المعمودية يجب أن تُفحَص حياتهم: هل عاشوا باستقامة لما كانوا موعوظين؟ هل أكرموا الأرامل؟ هل افتقدوا المرضى؟ هل قاموا بمُختَلَف أعمال البر؟](17).

ويُحدِد هيپوليتس أن رُتبة الأرامل هي نظام كنسي، وأن الإنضمام لها يكون تحت شروط وباختبار دقيق، ولكن لا يتضمن ذلك رسامة كنسية، لأن الرسامة تكون لأفراد الإكليروس لإقامة الليتورچيا:

[حينما تُقام καθίστασθαι أرملة لا تتم رسامتها χειροτονεῖν  (وضع اليد)، ولكنها تُعيَّن فقط بقبول هذا اللقب. وإن كان زوجها قد مات منذُ زمان كثير فلتُقَم، أما إن كان قد مات عن قريب فلا يجب أن تؤتمن، بل حتى وإن كانت مُتقدِمة في السِن لابُد من اختبارها زماناً ما (عسى أن تتزوج ثانية). فإن الشهوات أحياناً تشيخ مع الذي يُعطي لها مكاناً.

فيجب أن تُقام الأرملة بالكلمة فقط ثم تنضم للأرامل الأُخريات، ولكن لا تُوضع عليها اليد لأنها لا ترفع القرابين ولا تشترك فى الخدمة الليتورچية. فإن الرسامة تكون لأعضاء الإكليروس من أجل الخدمة الليتورچية. وأما الأرملة فهي مُقامة من أجل الصلاة العامة المفروضة على الكُل](18).

ويُبَيِّن هيپوليتس أن هُناك فرقاً بين رُتبة الأرامل ورُتبة العذارى، فهؤلاء الأُخريات لا يقبلن لا رسامة بوضع اليد ولا حتى تعييناً بالكلمة كمثل الأرامل، بل يكون لهُن فقط قصد داخلي προαίρεσις  (19) داخِل القلب من نحو حِفظ البتولية ومُمارسة النُسك والصلاة.

لَكِنَّه يعود ويُبَيِّن أن هذه السيرة لها قيمة كنسية مُمتازة. فالعذارى يشترِكن مع الأرامل في حمل عبء الكنيسة كلها من جهة الصلاة من أجلها:

[ينبغي على الأرامل والعذارى أن يَصُمْن كثيراً ويُصلين من أجل الكنيسة](20).

التلاميذ هربوا، والمريمات وقفن ينظُرنَ الصليب من بعيد.

ثم المريمات حاملات الطيب فجر القيامة.

أمانة المرأة التي لا تخور ولا تخاف في أصعب مواقف الخطر، حتى تُكْمِل واجبات العزاء، بروح الأمومة التي تتحدى الموت ـ لذلك كانت أول من رأى القيامة (مت27: 55و56)، (مر15: 40و41)، (لو24: 10)، (مر16: 1و2).

 

 

Pan. 79,3.

  • Hist. Ecc. 3, 31, 3, 4.

(3) 1كو11: 11.

——–

  • Phil. 4: 3.
  • Ad Smyrna., 13:1.
  • Vis. 2: 3.
  • Jean Daniélou, s. j.
  • , 41. 5; Baptism, 17: 4.
  • Vel., 9: 1.
  • La Pureté des mœurs, 13, 7 (في طهارة الأخلاق 13: 7)
  • La monogamie, 11, 1 (الزواج من امرأة واحدة11: 1)
  • van BENEDEN, Ordo. Uber den Ursprung einer Kirchlichen Terminologie, in Vigiliae christianae. 1969, txxiii, p. 161-176.

(10)Echortation à la chasteté, 13, 4 (الحث على البتولية 13: 4)   

(11) A ma femme, 1, 7, 4 (إلى زوجتي 1: 7: 4)                       

(12) Le voile des vierges, 9, 1 (غطاء العذارى 9: 1)                     

(13) La parure des femmes, 2, 12, 1 (زينة النساء 2: 12: 1)          

(14) Contre Marcion, 5, 8, 11 (ضد ماركيون 5: 8: 11)                 

(15) l’âme, 9, 4 (النفس 9: 4)                                            

(16) لقد أُدرج كتاب “التقليد الرسولي” ضمن قوانين الرسل المعروفة في الكنيسة القبطية. فالقوانين القبطية من 21 إلى 47 من الكتاب الأول تقدم لنا بالحرف الواحد نص هذا الكتاب المبكر الذى تسجلت فيه تعاليم الرسل. وعند ذِكر شئ من هذا الكتاب سنشير في الهامش إلى الموضع المقابل من قوانين الرسل المعروفة في الكنيسة القبطية.

(17)Tradition Apost, 20      التقليد الرسولي20، يقابل في قوانين الرسل قانون1: 33

(18) Ibid., 10. نفس المرجع السابق 10، يقابل في قوانين الرسل قانون1: 25            

(19) Ibid., 12.                 نفس المرجع السابق 12، يقابل في قوانين الرسل قانون1: 26

(20) Ibid., 23. نفس المرجع السابق 23، يقابل في قوانين الرسل قانون1: 35