الردود على الشبهات

هل المسيح هو الله حقّاً؟ فحص أقواله وأفعاله وشهود العيان

هل المسيح هو الله حقّاً؟ فحص أقواله وأفعاله وشهود العيان

هل المسيح هو الله حقّاً؟ فحص أقواله وأفعاله وشهود العيان

هل المسيح هو الله حقّاً؟ فحص أقواله وأفعاله وشهود العيان
هل المسيح هو الله حقّاً؟ فحص أقواله وأفعاله وشهود العيان

 

رئيس أساقفة كانتربري: “يسوع المسيح هو ابن الله حقًّا”.

جاين فوندا: “ربَّما كان هكذا في نظرك. أمّا في نظري فلا!”
رئيس الأساقفة: “حسناً، إمَّا هو ابن الله، وإمَّا ليس ابنه”.

محادثة في برنامج حواريّ (في “البحث عن الإيمان”، سي استيفان إيفانز)

“عندما يكفُّ المرء عن أن يؤمن بالله، فهو لا يؤمن بلا شيء. إنَّه سيؤمن بأيِّ شيء”.
الأديب البريطانيُّ ج. ك. شسترتُن

لقد واجه المسيح مهمَّة فائقة الصعوبة. فإنَّه وُلد في عائلة يهوديَّة قبل ألفَي سنة، وتربَّى في بلدة الناصرة الصغيرة في فلسطين، تلك الولاية النائية وغير المهمَّة بين ولايات الإمبراطوريَّة الرومانيَّة آنذاك. ودلَّ كلُّ مؤشِّر معروف على أنَّه نشأ صبيٍّ سويٍّ “كان يتقدَّم في الحكمة والقامة والنِّعمة عند الله والناس”.[1] على أنَّه لمَّا كان في نحو الثلاثين من العمر، وقف في مجتمع بلدته وأعلن ما فحواه: “لطالما كنتُ أنوي أن أقول لكم أمراً: إنِّي أنا الله!”.

لو أنَّ أحدًا من أصدقائي أو زملائي صرَّح تصريحًا كهذا، لكنتُ إمَّا أضحك وإمّا أبكي. إذ كنتُ أفترض أنَّه يمزح أو فقدَ صوابه! فماذا يجعل تصريح المسيح هذا مختلفًا أيَّ اختلاف؟ إن الطريقة الوحيدة التي تُتيح لي أن أنظر جدِّيًّا في تصريحٍ كهذا هي أن يُقدِّم لي قائلُه دليلاً قويًّا يؤيِّده. فلا بدَّ أن تُقدَّم لي بعضُ الأسباب التي تُبرهِن صدقيَّة الرجل.

هذا هو موقعُنا في فحصنا أيضًا. فقد تبيَّن لنا في الفصل الثاني أنَّ لدينا كلَّ سبب يحملنا على أن نثق بما رواه الإنجيل عن حياة المسيح باعتباره مصدرًا ثقةً لوقائع تاريخيَّة. وعليه، ففي وسعنا أن نستخدم مضمون الإنجيل للنظر في الدعوى المسيحيَّة القائلة إنُّ المسيح هو الله.

وما أنا بصدده ميدانٌ مألوفٌ لديَّ. ففي خبرتي المهنيَّة في حقل عِلم التبيُّؤ (دراسة علاقة الكائنات الحيَّة ببيئتها)، أصطحب طُلّابي أحيانًا إلى الميدان لتزويدهم بمعرفة مباشرة بشأن موضوع الدَّرس. وهذا ما أنوي أن أقترح القيام به بالنسبة إلى دعوى كون المسيح هو الله: القيام برحلة ميدانيَّة. ففي وسعنا أن نفحص بأنفسنا صدقيَّة هذه الدعوى بمرافقة شهود العيان عبرَ مَرويَّاتهم، وبسماعنا بآذاننا ما صرَّح به المسيح، ورؤيتنا بعيوننا ما فعله.

 

النظر في دعوى صيرورة الله إنسانًا

بيَّنة تصريحات المسيح

مسيح الله[2]

إنَّ الكلمات التي استخدمتُها آنفاً للتعبير عمَّا أعلنه المسيحُ في بلدته لم تكن اقتباسًا مباشرًا من كتاب العهد الجديد. وفي الواقع أنَّه يمكن الاحتجاج بأنَّ المسيح لم يُصرَّح في تلك المناسبة قطٌّ بأنَّ له طبيعةً إلهيَّة. فالحادثة كما هي مُدوَّنة في رواية الطبيب لوقا تُبيِّن أنَّ يسوع قرأ من سِفر إشعياء في كتاب العهد القديم.[3] وقد كانت هذه نبوَّةً معروفة جيِّدًا اعتقد اليهود أنَّها سوف تتمُّ في شخصِ المسيح، عند مجيئه. وقد ختم يسوع كلامه بقوله: “إنَّه اليوم قد تمَّ هذا المكتوب، في مسامعكم”. بعبارة أُخرى، قال المسيح: “ها أنذا هنا، مُستعدِّين كنتم أم لا!” فإنَّه كان يُصرِّح بأنَّه المسيحُ المُتنبَّأ به.[4]

لقد كان هذا تصريحًا قويًّا، تصريحًا تفوَّه به المسيح أيضًا في مناسبات أُخرى.[5] تُوضح هذا استجابةُ الذين سمعوه في ذلك اليوم: “أليس هذا ابن يوسف؟” وقد حفزت تساؤلاتهم يسوع على توقُّع ما من شأنه أن يكون توقُّعًا منطقيًّا في تلك الظروف، إذ قال: “على كلِّ حال، تقولون لي هذا المثل: “أيُّها الطبيب اشفِ نفسك…” وكان هذا مُوازيًا لقولنا اليوم: “بَرهِنْ ما تقوله!” ويتَّضح من سياق النصِّ أنَّ الناس رفضوا، وقتيًّا على الأقلّ، دعوى يسوع بأنَّه هو المسيح. فمَن كان على حقّ؟ البيِّنات الإضافيَّة وحدها يمكن أن تُجيب عن هذا السؤال.

الربُّ الإلَه

ومهما يكُن، فإنَّ كون يسوع هو المسيح أو لا، مقارنةً بالمسألة التي أُثيرت في محاورة حصلت بين يسوع والفرِّيسيِّين، بدا أمرًا شاحبًا. ففي تلك المحاورة تحدَّى تعليمهم أنَّ المسيح ستكون له فقط طبيعةٌ بشريَّة. ويسجِّل متَّى تعليل يسوع صراحةً:

وفيما كان الفرِّيسيُّون مجتمعين، سألهم يسوع قائلاً: “ماذا تظنُّون في المسيح: ابنُ مَن هو؟” قالوا له: “ابنُ داود”. قال لهم: “فكيف يدعوه داود بالروح “ربًّا”، قائلاً: “قال الربُّ لربِّي”… فإن كان داود يدعوه “ربًّا”، فكيف يكون ابنه؟” فلم يستطع أحد أن يجيبه كلمة…[6]

إنَّ بيت القصيد في هذا السؤال هو أنَّ إذا كان داود في المزمور الذي يتضمَّنه كتابُ العهد القديم يُشير إلى المسيح بوصفه ربًّا، فلا بدَّ إذًا أن يكون المسيح أكثر من مجرَّد سليل طبيعيٌّ لداود. والعبارة التي استعملها داود هي “يهوه قال لأدوناي” (الربُّ قال لربِّي). وكِلا الاسمين من أسماء الله، بحيث يمكن ترجمة العبارة هكذا: “الله قال لإلَهي”. ويُطلِق داود اللفظة الثانية على المسيح، الآتي من نسله. فإنَّ المسيح كان يُريهم كيف يكون غيرَ مناسب وغيرَ صحيح أن يُشير داود إلى أيِّ كائن بشريٍّ آخر مستخدمًا اللقب الإلهيّ “الربّ”. وكما يقول العالِم تاسكر: “إنَّ المسيح – بعبارةٍ أخرى – رُغم كونه من نسل داود، هو أيضاً ذو أصلٍ إلَهيّ”.[7] ولماذا يتطرَّق يسوع إلى هذا الأمر إلَّا لكي يُصحِّح غلطةً في تعليمهم عن طبيعة المسيح؟ من الواضح أنَّه أراد لهم أن يفهموا أنَّه الله وإنسانٌ معًا من حيث كونُه مسيحهم أو مُخلِّصهم الموعود به.

 

أنا كائن[8]

ولكنْ لماذا كان المسيح متخفّيًا؟ هل قام مرَّةً وقال توًّا إنَّه هو الله؟ لقد حصل ذلك فعلاً في إحدى المناسبات، إذ سأله القادة الدينيُّون صراحةً: “مَن تجعل نفسك؟” فقال في ما قاله: “الحقَّ الحقَّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن“. وحين نعلم أنَّ إبراهيم عاش قبل المسيح بنحو ألفَي سنة، يمكننا أن نفهم سؤالهم: “ليس لك خمسون سنةً بعد، أ فرأيتَ إبراهيم؟” فإنَّ المسيح كان هنا يُصرِّح بسَبْق وجوده، أي بأنَّه عاش قبل إبراهيم. وولادته طفلاً في بيت لحم لم تكن هي بدايته. وبالحقيقة إنَّ صياغته لجوابه بصيغة المضارع المستمرّ تُلمِّح أنَّه لم تكن له أيَّة بداية على الإطلاق.

وأهمُّ من هذا بكثير أنَّ يسوع استخدم لقب ” أنا كائن” (أو “أنا هو”) بالإشارة إلى ذاته. فقد كان هذا أحد أسماء الله التي يتضمَّنها كتابُ العهد الجديد.[9] وأنْ يفعل أيُّ إنسانٍ هذا كان أمرًا غير مسبوق. فقد كان معاصرو يسوع من اليهود يتهيَّبون أن يلفظوا اسم الله مجرَّد لفظ، خشية أن تدنِّسه شفاهُهم غيرُ الطاهرة. غير أنَّ يسوع لم يكتفِ بأن يلفظه بشفتيه، بل أيضًا استخدمه في بطاقة هويَّته الشخصيَّة، إن جاز التعبير.

ثمَّ إنَّ سياق الكلام في النصّ يدعم هذه النظرة أيضًا. فإذ سمع القادة الدينيُّون جواب المسيح، حاولوا أن يرجموه بالحجارة حتَّى الموت. وفي هذا دليلٌ واضح على أنَّهم فهموا ممّا قاله أنَّه ينسب الأُلوهة إلى نفسه، بما أنَّ مثل هذه الدعوى وحدها تُعتبر تجديفيَّة وتستوجب الموت بمقتضى شريعتهم.

واحد مع الآب[10]

طُلب إلى يسوع أو يُوضح هويَّته، في مناسبات أُخرى أيضًا. ففي عيد التجديد (تدشين الهيكل) شتاءً، سُئِل أيضاً: “إلى متى تُعلِّق أنفسنا؟ إن كنتَ أنت المسيح، فقُل لنا جهرًا”. وتضمَّن جوابُه هذه العبارة: “أنا والآب واحد”. فماذا عنى بذلك، يا تُرى؟

أحدُ الإحتمالات أنَّ الآب ويسوع هما “الشيءُ نفسُه تمامًا”. ومن شأن هذا أن يعني أنَّه بينما كان يسوع على الأرض، لم يكن في السماء أيُّ شخصٍ يعتني بالكون. فهما الشخصُ نفسُه. وهنا تفيدنا قواعدُ اللغة اليونانيَّة. كانَ يجب أن تكون الكلمة “واحد” بصيغة المذكَّر لو كان هذا هو المعنى المقصود. ولكنَّها ليست كذلك، فهي حِياديَّة الجنس (لا مذكَّر ولا مؤنَّث).

ويمكن أن تعني حياديَّة الجنس “على وفاق” أو “في انسجام”. ومن شأن هذا أن يكون موازيًا بعض الشيء لقولي إنِّي كنتُ في مشيئة الله. ولكنَّ سياق النص يُعارِض هذا. فلو كان هذا هو ما عناه المسيح، ما كان في وسعهم تسويغ عقوبة الإعدام الذي سعَوا إليه بوضوح إذ حاولوا رجمه بالحجارة. وكون المرء على وفاقٍ مع الله أو في إنسجام معه أمرٌ كان ينبغي لهم جميعاً أن يرغبوا فيه.

إنَّ مُعاصِري يسوع الذين تكّلَّموا اللغة عينها وشاركوه في الحضارة حينها كانوا في أحسن موقع يمكِّنهم من أن يعرفوا ما قصده بالتعبير “واحد”. وما فهموه واضحٌ في ما قالوه: “لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف: فإنَّك، وأنت إنسان، تجعل نفسك إلَهًا”. فالكلمة “واحد” هنا تعني “وحدة الجوهر”، أي أنَّ يسوع والآب متساويان. فإنَّ ليسوع جميعَ سجايا الآب الإلهيَّة. وهذا يوافق قواعد اللغة وسياق الكلام تمامًا، كما يفسِّر ردَّة فعل الفرِّيسيِّين العنيفة.

مِن فوق، لا من هذا العالم[11]

في أثناء سِني بحثي عن أجوبة، أتذكَّر تفكيري أنَّ يسوع كان، إلى أبعد الحدود، مثلَ أيِّ إنسانٍ آخر تمامًا. مثلاً، كان حديثه ينمُّ عن حكمة، إلَّا أنَّه لم يبدُ دالاًّ على انتسابٍ إلى الأُلوهة. وقد ساءلتُ نفسي عمَّا يدفع أيُّ امرئٍ إلى الإعتناء بإضفاء الأُلوهة عليه. ثمَّ أدركتُ لاحقًا أنَّني وقفتُ ذلك الموقفَ بدافعٍ من الجهل؛ أعني أنَّني لم أكن وافيَ الإطِّلاع على تعليم المسيح بحيث أعرف أفضل من ذلك. وفي ما بعد، حين بدأتُ أقرأ قِصَص الإنجيل، أدركتُ أنَّ قدرًا كبيرًا من تصريحاته لا يمكن أبدًا أن يكون على نحوٍ صحيح جزءًا من حديث أيِّ شخصٍ آخر.

حاول مثلاً أن تستخدم بعضًا من كلمات يسوع على أنَّها كلماتُك الخاصَّة في حديثك مع جارك المقيم في جوارِك: “أنتم من أسفل، أمّا أنا فمن فوق…” فلا بدَّ أن تسترعي انتباهه حتمًا، إلاَّ إذا كنتُ تسكن في شقَّة تقع في طابقٍ أعلى. وإذا أضفت ما قاله يسوع بَعد: “أنتم من هذا العالم، أمَّا أنا فلستُ من هذا العالم”، فقد تَضطرُّ جارك إلى الإسراع طلبًا للنجدة! ليست هذه تصريحات إنسان عاديّ. فأنْ تدَّعيَ أنَّك من عالَم آخر، ثم تُردِف قائلاً إنَّه إن لَمْ يؤمنِ الناس بأنَّك أنت الله (“أنا كائن”) يموتون في خطاياهم وينفصلون عنِ الله إلى الأبد إنَّما هو مجلبةٌ للهزء والسخرية… إلاَّ إذا استطعتَ بطريقةٍ مّا أن تؤيِّد دعواك بالبرهان.

إعطاءُ أيِّ إنسان حياةً أبديَّة[12]

تصوَّرْ نفسك جالسًا في استراحةٍ وسط مركز تجاريٍّ مزدحم. وإذا بك تُومئ لبضعة أشخاص كي يأتوا إليك، وتسألُهم بحرصٍ هل يرغبون في أن يعيشوا إلى الأبد. فإذ يؤخذون على حين غِرَّة، يُحدِّقون إليك في وجوم. ثمَّ تؤكِّد لهم أنَّهم إذا راقتهم فكرة حيازة الحياة الأبديَّة، بعد انعدام النظر فيها، يستطيعون أن يطلبوك فتمنحهم إيّاها. فأنا أشكُّ في أن يخلبَ لبَّك الزِّحامُ أمام مدخل بيتك!

غير أنَّ ذلك بعينه هو ما قاله يسوع: أنَّ في وسعه إعطاءَ الحياة الأبديَّة لمن شاء هو أن يُعطيَه إيَّاها. فلمرثا ومريم المكتئبتين لفقدان أخيهما العزيز لعازر، قال الربُّ يسوع: “أنا هو القيامة والحياة: مَن آمن بي – ولو مات – فسَيحيا؛ وكُلُّ مَن كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد”. فماذا يُحدِث الفرقَ بين قوله هو هذا وقولك أو قولي إيّاه؟ لا شيءَ سوى أن يتمكن واحدٌ منّا من تقديم الدليل على كونه يستطيع ذلك فعلاً! وذلك بعينه هو ما فعله يسوع، إذ أقام لعازر من الموت حيًّا أمام عددٍ كبير من شهود العِيان.

كلُّ سلطان في السماء وعلى الأرض[13]

تخيَّل أنَّك ذهبت إلى مؤتمرٍ يجتمع فيه رؤساء دُوَل العالم كلُّهم، ثُمَّ نظرتَ إليهم وجهًا لوجه وقلتُ: “لقد أُعطِيتُ كلَّ سلطةٍ في السماء وعلى الأرض”. إنَّ هذا تصريحٌ آخر من تصريحات يسوع البشريَّة “العاديَّة”، ومفهومٌ أنَّ لا بدَّ أن يُشكِّل تحدِّيًا مُهينًا للإمبراطوريَّة الرومانيَّة العظيمة في أيَّامه. وأعتقد أنَّني لا أُجافي الحقيقة إذا ارتأيتُ أنَّه لو جرى بعضٌ ممَّا قاله يسوع على ألسنتنا اليوم، لكُنَّا مُرشَّحين رئيسيِّين لأنْ نُحتجَز أو نُعالَج بسبب الاضطرابات النفسيَّة. وفي الحقيقة أنَّ المسيح مات فعلاً بسبب تصريحاته. فعلى مرِّ التاريخ حُكم على أشخاصٍ بالإعدام بسبب ما فعلوه، كجريمةٍ ارتكبوها مثلاً. غير أنَّ المسيح صُلب بسببِ ما نسبه إلى نفسه: ” … يجب أن يموت، لأنَّه جعل نفسه ابن الله”.[14]

من رحلتنا الميدانيَّة حتّى هذا الحدّ، لا يمكن أن يُخامِرنا كثيرٌ من الشكّ في أنَّ أحد الأسباب التي تحمل المسيحيِّين اليوم على أن يعتقدوا أنَّ المسيح هو الله يكمن في أنَّ أولئك الذين رافقوه قبل ألفَي سنة أخبرونا أنَّه صرَّح بأنه هو الله. ومُعطَيات حياته التي دوَّنها شهود العيان مُقنِعة للغاية. حتَّى إنَّ ألبرت شفايتزر، رغم كونه اعتقد أنَّ يسوع أساء فهم طبيعته الخاصَّة، أقرَّ بأنَّ البيِّنات المؤيِّدة لدعواه بأنَّه الله كانت جيِّدة. وقد كان إشكاليِّة أُطروحته التي قدَّمها كي يُمنَح شهادة الأستاذيَّة، في ستراسبورغ بفرنسا، كيف يمكن أن يكون المسيح سليم العقل ومع ذلك يقول إنَّه الله.[15] والرسم 1 يُلخِّص بيِّنات دعاوي المسيح.

خلاصة لدعاوٍ مُختارة أطلقها المسيح

لوقا 4: 14-21؛

يوحنّا4: 25 و 26

أنَّه المسيح (المُخلِّص المُنتَظَر)

يوصف المسيح أيضًا بكونه “إلهًا قديرًا”

و “أبًا أبديًا” في إشعياء 9: 6.

1
متّى 22: 41-42

أنَّه الرب الإلَه

المسيح من نسل داود وذو أصل إلهيّ.

2
يوحنّا 8: 53- 59

أنّه “أنا الكائن”

كان موجودًا قبل إبراهيم ويمكنه بحقٍّ أن يُسمَّى “الله”.

3
يوحنّا 10: 30-33

أنَّه والآب واحد

هو واحدٌ “في الجوهر” ، له جميعُ السجايا الإلهيِّة.

4
يوحنّا 8: 23 و 24

أنَّه من فوق وليس من هذا العالم

هو ذو أصل سماويّ.

5
يوحنّا 5: 21؛
10: 27 و 28

أنَّه يستطيع إعطاء أيِّ إنسانٍ الحياة الأبديَّة

له الحقّ في إعطاء أتباعه الحياة الأبديَّة والسلطان والقدرة على إعطائها.

6

متّى18: 28؛

يوحنّا19: 7

أنَّه صاحب كلِّ سلطان في السماء وعلى الأرض

هو ابن الله المُطلَق السلطان في كلِّ مجال.

7

الرسم 1

بيَّنة أفعال المسيح

كثيرون زعموا أنَّهم آلهة. حتَّى إنَّ القدِّيسين الهندوسيِّين يستطيعون اجتذاب جماهيرَ بقوًى سحريَّة مزعومة. ولكنَّ حياتهم، دائمًا أبدًا، تُقصِّر عن مستوى الأُلوهة، فيفقدون مصداقيَّتهم لدى أتباعهم. ولكنَّ يسوع هو الاستثناء. فكلَّما طال الوقت الذي قضاه الناس معه، ازدادوا يقينًا بأنَّ دعاويه صحيحة. في هذه النقطة تُضفى على فكرة رحلتنا الميدانيَّة أهميَّةٌ خاصَّة. ففي وسعنا أن نرى يسوع بعيون أولئك الذين مشَوا معه. وقد دوَّن لوقا تاريخ ما فعله يسوع على مدى سنتين تقريبًا في أعقاب رفض الشعب لتصريحه في الناصرة. وفي أثناء تَينِكَ السنتين غيَّر كثيرون أفكارهم فيه. وتحوُّلهم من الشكوكيَّة إلى القبول مؤثِّرٌ ورائع. فماذا غيَّر أفكارهم؟

إنَّ الجواب عن هذا السؤال واضحٌ جليًّا لكلِّ من يأخذ على مَحمِل الجِدَّ تاريخ روايات الكتاب المقدَّس لسيرة حياة يسوع. فشهود العيان يروون أمورًا فعلها كانت مُذهِلة. وكثيرون من معاصريه اقتنعوا من هذه الأحداث فآمنوا بطبيعته الإلهيَّة، رغم أنَّهم كانوا مُعَدِّين سلفاً للوقوف ضدَّ هذا الاستنتاج. وإذا شئنا، ففي وسعنا الآن أن ننظر بأنفسنا إلى ما رأوه يفعله. فإنَّنا سنكمل رحلتنا الميدانيَّة.

 سُلطة الغفران وإبطال عواقب الخطيَّة[16]

 

 تأسرنا عدَّة أحداثٍ مما رواه لوقا في إنجيله. فبعدما أعلن يسوع في الناصرة أنَّه هو المسيح، ذهب إلى كفرناحوم الواقعة على الشطِّ الشماليِّ الغربيِّ من بحر الجليل. وهُناك، في بيتٍ يُرجَّح أنَّه كان للرسول بطرس، اجتمع كثيرون من القادة الدينيِّين المقتدرين جدًا، من فرِّيسيين وعُلماء شريعة (كَتبة). ولأنَّ الحشود حالت دون الاقتراب من الموقع، عمد بعض الرجال الحاملين مفلوجًا على نقّالة إلى تقديمه ليسوع من خلال نقرةٍ أحدثوها في سقف البيت. وفي الحال إستجاب يسوع للمفلوج بالقول: “يا صاح، خطاياك مغفورةٌ لك!” فاستاء الفرِّيسيُّون والكتبة من ذلك: “مَن هذا الإنسان الذي ينطق بتجاديف؟ مَن يقدر أن يغفر الخطايا إلاَّ الله وحدَه؟ “فما الذي حملهم على وقوف هذا الموقف الهجوميّ؟

تصوَّرْ أنَّه بينما كنت أُكلِّم جماعةً، هبَّ أحدُهم واقفًا، واندفع نحو المنصَّة، ثمَّ ألقاني أرضًا بضربةٍ قاسية. ثمَّ ما لبث أن تغيَّر قلبُه، فاعتذر مرارًا وتكرارًا، وتوسَّل إليَّ طالبًا المغفرة. فإذا غفرتُ له، فهل يُرجَّح أن باقيَ مُستمِعيَّ يتَّهمونني بالتجديف أو الكُفر، لاغتصابي حقًا من حقوق الله؟ لن يكون ذلك مستبعدًا فحسب، بل يُرجَّح أن يُطروني على خيَّريتي أيضًا. ولكنْ، على نحوٍ ما، كانت الظروف في وضع يسوع مختلفةً فعلاً عنها في مشهدي الخياليّ. فلأُحاول مرَّةً أُخرى بعد .

بيت بطرس

عبرَ الشارع تمامًا، مقابل مجمع كفرناحوم، بُني الأساس السُداسيُّ الأضلاع لمبنًى يعود إلى القرن الخامس م على الخرائب التي ما تزال ظاهرة والتي بقيت من بيت الرسول بطرس .

يكاد شخصٌ أخر من مُستمِعيَّ أن يصرعني مرَّةً ثانية، فيعتذر إليَّ عن ذلك. ولكنْ قبل أن أتمكَّن من الإجابة، يتقدَّم شخصٌ آخر غيره و يقول للذي ضربني: “أُريد منك أن تعرف أنَّني أغفر لك ضربَك لِدُن!” فحتَّى في حال ضعضعتي، لا بدَّ أن أسأل عن علاقة هذا الفريق الثالث بالمسألة. ذلك أنَّ الإساءة وُجهَّت إليَّ، ومن حقِّي أنا وحدي فقط أن أُبديَ المغفرة. فهذا الفريق الثالث ليس في موقعٍ يخوِّله أن يغفر ولا حقَّ له بأن يفعل ذلك. والآن، بالنسبة إلى الفرِّسيِّين وعلماء الشَّرع، كان يسوع هو هذا الفريق الثالث. فمن غير المرجَّح أنَّه رأى هذا الرجل سابقًا ذات مرَّة. وبحسب عِلمنا، لم يكن ذلك الرجل قد فعل ليسوع ما يستوجب أن يطلب منه المغفرة عنه. ومهما كانت الخطيَّة التي وُجدت في حياة هذا المفلوج فهي إنَّما كانت معصيةً موجَّهةً ضدَّ الله. وعليه، فإنَّ الله ينبغي أن يبذل الغفران! وبما أنَّ القادة الدينيِّين لم يكونوا قد فهموا أو قبلوا أنَّ يسوع هو الله، فقدِ استنتجوا منطقيًّا أنَّه أذنب بالتجديف، لكونه – وهو فريقٌ ثالثٌ – قدِ اغتصب الموقع والحقَّ الخاصَّين بالله وحده دون سواه.

أضِف إلى ذلك أنَّهم بلا شكِّ كانوا يفكِّرون بأنَّ هذا كان مجرَّد كلام باطل. فهم لم يصدِّقوا أنَّه قد أزال فعلاً خطايا المفلوج. وبعدُ، فإنَّه لأمرٌ صعبٌ بالحريِّ أن تُثبِت بصورةٍ مرئيَّة أنَّك قد غفرت خطايا إمرئٍ ما. ولكنْ في هذه الحادثة وُجِدت طريقة. فإنَّ لوقا يُسجِّل ردَّ يسوع للتحدِّي:

“ولكِنْ لكي تعلموا أنَّ لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا” – قال للمفلوج – “قم واحمِل فِراشك، واذهب إلى بيتك”. ففي الحال قام أمامهم وحمل ما كان مضظجعًا عليه، ومضى إلى بيته وهو يمجِّد الله. فأخذت الجميعَ حيرةٌ ومجَّدوا الله وامتلأوا خوفًا، قائلين: “إنَّنا قد رأينا اليوم عجائب!”[17]

إنَّ شفاء مشلولٍ في الحال وصرفَه إلى بيته حاملاً فِراشَه هو في ذاته أمرٌ مُذهِل. ولكنْ كيف برهن هذا أنَّ يسوع قد نزع خطايا الرجُل؟ لقد بدا أنَّ الجماعة الواسعي المعرفة اقتنعوا تمامًا. ويكمن الجواب في فهم مُعتقَد معيَّن كان يعتنقه اليهود يومذاك. ذلك أنَّهم كانوا يَرون علاقةً مباشرة بين الخطيَّة وما يعقبها من قصاص في صورة الألم والمعاناة ونحوهما.

فعلى صورة معادلة كان من شأنهم أن يقولوا:

 وجود الخطيَّة يؤدِّي إلى عاقبة الخطيَّة   

بعبارةٍ أُخرى، لو كنت أصعد درجًا مع جماعة من أترابي اليهود في القرن الأول م، وتأذّيت بسبب زلَّة لأحتشدوا حولي وسألوني أيَّةَ خطيَّة إرتكبتُ مؤخَّرًا! وهذا التوجُّه العقليُّ يوضحه أيضًا تلاميذ المسيح في مناسبة أُخرى، لمَّا سألوه عن كون بلوى المولود أعمى ناتجةَ من خطيَّة أبويه أو خطيَّته هو.[18] وعليه، فلما جيء بالمفلوج إلى يسوعٍ على نقَّالة، رأى القادة الدينيُّون في شلله عاقبةً لخطيَّته. وقد يسَّر ذلك فرصةً ليسوع كي يُبرهِن إزالة خطيَّة الرجل على نحوٍ كفيل بأن يُقنِعهم، أي بشفائه إيّاه. فإذا كان وجود الخطيَّة قد سبَّب وجود الشلل، فإنَّ إزالة الشلل تعني إزالة الخطيَّة التي سبَّبته.

إزالة عاقبة الخطيَّة تُبرهِن إزالة الخطيَّة التي سبَّبتها

 وكان ردُّ الفرِّيسيين وعُلَماء الشرع: “إنَّنا قد رأينا اليوم عجائب”. ولئنِ استخدم المسيح مثل هذا المنطق لتلبية احتياجهم إلى برهانٍ صريح على سلطته الإلهيَّة في ذلك اليوم، فإنَّه لم يُشارِكهم فعلاً في نظرتهم التبسيطيَّة بشأن العلاقة بين الخطيَّة وعواقبها.[19]

 السُّلطة على الموت

في قرية نايين بجنوب الجليل، لاقى يسوع موكب جنازة متوجَّهًا إلى دفن ابن وحيدٍ لأُمِّه الأرملة. وما فعله يسوع إذ ذاك مدوَّن في إنجيل لوقا:

فلمَّا رآها الربّ، تحنَّن عليها وقال لها: “لا تبكي!” ثمَّ تقدَّم ولمس النعش، فوقف الحاملون. فقال: “أيَّها الشابّ، لك أقول: قُم!” فجلس الميت وابتدأ يتكلَّم. فدفعه إلى أمِّه. فأخذ الجميعَ خوفٌ ومجَّدوا الله …..[20]

أمرٌ مخيفٌ حقًّا. فلو كنتُ حاضرًا حين جلس هذا الشابُّ في نعشه،لاستدعى الأمرُ أن أبحث عن مكانٍ أقعد فيه! لقد فاض قلب يسوع حنانًا على الأرملة، وأقام ابنها من الموتِ حيًّا. وكثيرون آخرون من الذين شهدوا ذلك اليوم تحنَّنوا أيضًا. ولكنْ كان البكاء هو كلَّ ما استطاعوا فعله. فالهوَّة بين الطَّرفين هائلة. والطريقة الوحيدة لمنع الحادثة أن تُغيِّر نظرة كل شخص في يسوع تغييرًا جذريًّا هي إنكارُ ما حدث فعلاً. ولكنْ على أيِّ أساس؟ إنَّ الأناجيل هي الأكثر موثوقيَّةً وصدقيَّةً بين جميع المدوَّنات القديمة. وقد أدرك الذين شاهدوا هذه المعجزة يومذاك أنَّ يسوع شخصٌ فريد، كما تُبيِّن تعليقاتُهم من قبيل “قد قام فينا نبيٌّ عظيم” و”افتقد الله شعبه!” فإنَّ ابن يوسف لم يفعل قطُّ أمرًا كهذا من قبل. وبات أصعبَ فأصعبَ على مُعاصِريه أن يُشيروا إليه بوصفه ابن النجّار فحسب. وفي الفصل الأوَّل تبيَّن لنا أنَّ الموت يكون الظافرَ الأقصى في حياتنا إذا كان المُثلَّثُ المُتناهي كلَّ ما هو موجود. ولكنَّ المسيح أثبت أنَّه إنْ توكَّلنا عليه لكونه الله اللامُتناهي والمتجسِّد فالموتُ عندئذٍ لن يكون هو الظافرَ بعدُ بالنسبة إلينا.

جوهريًا، تدور مشكلة معنى التاريخ حول هذا السؤال:   “مَن هو الإنسان ذاتُه، وما هو أصله، وما مصيرُه النهائيّ؟

وخارج إطار الإعلان المركزيِّ في الكتاب المقدَّس عن الخلق والسقوط في الخطيَّة والفداء بيسوع المسيح، ما من جوابٍ حقيقيٍّ يمكن أن يُوجَد عن هذا السؤال…

هيرمَن دُويَروِيرد

أُستاذ الفلسفة الهولنديُّ

السُّلطة على الطبيعة[21]

كان يسوع وتلاميذه يعبرون عبر الجليل في قارب صَيدٍ من النوع الشائع يومذاك، مُجهَّزٍ بحُجرة للنوَّم والخَزن تحت غطاءٍ متنيٍّ، إذ هبَّت ريحٌ شديدة وخطر العاصفة هددت حياتهم، ما زال الصيَّادون الجليليُّون يعرفونها حتَّى اليوم. وفي حضمِّ ذُعر التلاميذ، أيقظوا يسوع. “فقام وانتهر الريح وتموُّج الماء، فانتهيا وصار هدوء”. ولكوني عالِمًا، فإنَّ نواميس الطَّبيعة معروفةٌ عندي. وإذ ننظر إلى يسوع نقف وجهًا لوجه أمام واضع النواميس. فقد كانت سيطرته على عناصر الطبيعة فوريَّة وحاسمة، حتَّى إنَّ الذين كانوا برفقته سألوا سؤالاً في محلِّه: “مَن هو هذا، فإنَّه يأمر الرياح أيضًا والماء فتطيعه؟” سؤالٌ جيِّدٌ جدًا.

إنَّ الأحداث المسروده آنفًا هي أربعة فقط من الأحداث الأربعة والثلاثين التي دوَّنها في الأناجيل شهود العيان الذين رافقوا المسيح. فإن كان يسوع مجرَّد معلِّم بشريٍّ، فهل كان يستطيع أن يغفر الخطيَّة المُرتكبة بحقِّ الله، ويشفيَ الجسد المادِّيَّ، ويُقيم الموتى أحياءً، ويأمر الطبيعة كي تُطيعَه؟ ربَّما قال بعضٌ إنَّه فقط النبيِّ إيليّا الذي أجرى أفعالاً معجزيَّةً أيضًا مع كونه إنسانًا.

ولكنْ كان هنالك فرقٌ أساسيٌّ بين الإثنين لا بدَّ أن يراه بجلاء تامٍّ ولا سيِّما اليهودُ الذين عاشوا في زمن المسيح. فقد كان من مزايا جميع الأنبياء أن يُصدِّروا أو يختموا كلَّ ما يفعلونه بالقول “هكذا يقول الربّ” أو “هكذا فعل الربّ” ونحوهما. وما من نبيٍّ واحدٍ ادّعى مرّةً أنَّ له سلطةً لإجراء معجزة بمعزلٍ عن الله. غير أنَّ يسوع قال: “أنا هو القيامة والحياة”، و”أنا أُعطي حياةً أبديَّة”، و”أنا هو نور العالم”. فلو كان مجرَّد نبيّ، لكان إذ ذاك كافرًا أو كاذبًا.[22]

براهين مُقنِعة أُخرى كثيرة

قضت استراتيجيَّة يسوع بإعطاء الناس أسبابًا لتصديق دعواه بأنَّه الله. وقد كانت دعوة واضحة: “إن كنتُ لست أعمل أعمال أبي، فلا تؤمنوا بي. ولكنْ إن كنتُ أعمل، فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال…”[23] ذلك هو ما قد عكفنا على النظر فيه، أعني معجزات يسوع. ثُمَّ إنَّني، بعد بحثٍ قريب العهد، لاحظتُ أيضًا مؤشِّرات أُخرى تدلُّ على أُلوهيَّة المسيح في ما تضمَّنته الوثائق التاريخيَّة، أي الأناجيل الأربعة.

تقبُّل العبادة[24]

قبل مباشرة المسيح خدمته العلنيَّة، قاسى تجارب شتَّى في البريَّة طوال أربعين يومًا. ولمَّا دُعي إلى التعبُّد للشيطان لقاء الحصول على مملكة أرضيَّة، اقتبس ما قالته التوراة: “للربِّ إلَهك تسجد وإيَّاه وحده تعبد”.[25] وفي أثناء خدمته لاحقًا، وجَّه أتباعُه عبادتهم إليه، فتقبَّلها دون أيِّ تلميح إلى الاعتراض. بل إنَّه بالحقيقة أبدى استحسانه تجاهها. فلا بُدَّ أن يستنتج المرء أنَّ يسوع إمَّا كان مُنافِقًا بغيضًا وإمَّا عدَّ نفسه مستحقًّا أن يتقبَّل ما هو من حقِّ الله وحده. وفي مناسبة أُخرى، تقبَّل يسوع الحَمد والتسبيح وسوَّغهما باقتباسه من مزمور في كتاب العهد القديم ينصُّ أنَّ الله أعدَّ مثل هذا التسبيح لنفسه.[26]

   السُّلطة على الأرواح الشيطانيَّة[27]

في مدينة كفرناحوم، واجه يسوعَ إنسانٌ تسكنه أرواح شرِّيرة. فزجر المسيحُ الروحَ الشيطانيَّ قائلاً: “اخرس واخرج منه!” وحصلت طاعةٌ فوريَّة لا شكَّ فيها. فمَن يحوز سلطةٌ كهذه؟ ليس لدينا خِياراتٌ كثيرة. وقد أدرك القادة الدينيُّون اليهود ذلك، فاتهموا يسوع ذات مرَّة بأنَّه هو نفسه يسكنه شيطان ولذلك يطرد الأرواح الشرِّيرة ببعلزبول رئيسها. أمَّا الخِيار الآخر فهو أنَّه كان صاحب سلطان لأنَّه هو الله. وقد كانت ردَّة فعل أهل كفرناحوم قولهم: “ما هذه الكلمة؟” أو: ماذا يُبيِّن لنا هذا الفعل بشأن مَن هو فاعلُه؟ لقد أدركوا أنَّ سلطةً كهذه كانت دليلاً على كونه أكثَر من مجرَّد إنسانٍ عاديٍّ. 

دعوى كون المسيح بلا خطيِّة والطريقَ الوحيد وفديةَ البشر

إنَّ صورة المسيح التي تطلع من مثل هذه الرحلة الميدانيَّة عبر الوثائق التاريخيِّة غالبًا ما تكون مدهشةً لمن كانوا شكوكيِّين. هكذا كانت لي قبل سنين كثيرة عندما شككتُ في صدقيِّة الوثائق المكوِّنه للكتاب المقدَّس. وفي حين أنَّ جُملةً من الملاحظات التي أوردتُها آنفًا هي حصيلة بحثٍ أحدث عهدًا، فإنَّ المعرفة المحدودة التي حزتُها آنذاك فعلاً اضطرَّتني إلى إعادة النظر في موقفي من المسيح. ففضلاً عن كلِّ ما تبقَّى، صرَّح يسوع تصريحات محدَّدة إذا صحَّت تجعله فريدًا. ذلك أنَّه صرَّح بأنَّه بلا خطيَّة: “مَن منكم يُبكِّتني على خطيَّة؟”[28] كما قال حصرًا إنَّه هو الطريق الوحيد إلى الله: “أنا هو الطريق والحقُّ والحياة: ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلاَّ بي”.[29] كذلك أيضًا قال إنَّ لحياته قيمةً فائقة بحيث تفدي البشر وتعيدهم إلى الله، الأمرُ الذي لا يستطيع أن يفعله أيُّ كائنٍ بشريٍّ آخر.[30] فبالنظر إلى هذا كلِّه، لا يُفاجئُنا أن يكون المسيح قد أحدث تغييرًا جذريًّا هائلاً في حياة تلاميذه. 

 خلاصة لأفعالٍ مختارة قام بها المسيح

لوقا 5 : 17 – 26

برهن سلطته في غفران الخطايا

غفر معاصي لا يقدر أن يغفرها أحدٌ غير الله  أزال عواقب الخطيَّة الوقتية والأبديَّة.                                   

 

1

لوقا  7 :  11 – 16

برهن سلطته على إقامة الموتى

 كسر طوق العبودية الذي فيه أمسك الموت بجميع الناس.

2
 لوقا 8 : 22 -25

برهن سلطته على الطبيعة

أصدر أمره، فأطاعه ناموسُ الطبيعة.

3

متى 14 :33 و

 28 :17

تقبُّل العبادة من أتباعه

قبل السجود والعبادة الذين قال إنَّهما واجبان لله وحده دون سواه (لو4 :8).

4
 لوقا 4 : 33 -36

برهن سيطرته على الأرواح الشيطانيَّة

أصدر أمره، فأطاعه عالَم الأرواح.

5

 يوحنا

 8 : 46

عاش حياةً بلا خطيَّة

لم يستطع أحد أن يتَّهمه بأيَّة خطيَّة.

6

  يوحنا 14 :6

مرقص10 :45 مزمور 49 : 7-9

كانت لحياته قيمةٌ فريدة أمام الله

قدَّم حياته لله فديةً  في سبيل إعطائنا الغفران.

7

 الرسم 2

تحديد الخيارات المنطقيَّة

لا بدَّ لأيِّ مَن تعرَّف بالمُعطَيات التاريخيَّة المتعلِّقة بالمسيح من أن يواجه إتِّخاذ قرارٍ بشأنه. وقد طرح يسوع نفسُه السؤال الحاسم على أولئك الذين شاهدوا تلك البيِّنات شخصيًّا طوال مدَّةٍ تخطَّتِ السنتين. ففي خلوةٍ على مقربة من قيصريَّة فيلبُّس، عند سفح جبل حرمون، سأل المسيح تلاميذه: “مَن تقولون إنِّي أنا؟”[31] ومع أنَّ نحو ألفَي سنة من الزمان تفصلنا عن هذا السؤال، فهو مازال وثيق الصِّلة جدًّا بالموضوع. ماذا عساك أن تقول؟ وأيَّة خياراتٍ لدينا؟

 يسوع أُسطورة

عُمِّمت هذه الفكرة قبل حلول القرن العشرين، وأُضيفت عليها شرعيَّة لا تستحقُّها، فقط لأنَّ البيِّنات التي تدحضها كانت غير معروفة بعد. وكان هذا الموقف معقولاً عندما كانت وثائق العهد الجديد تُحسَب مُدوَّناتٍ كُتبت في أواخر القرن الثاني م. ولكنْ بعدما ثبت أنَّ أسفار العهد الجديد كلَّها تعود إلى القرن الأوَّل م، إلى عهدٍ باكر في نطاق حياة شهودِ العيان (كما بحثنا في الفصل 2)، فإنَّ هذه الفكرة لم تعُد قابلة للدِّفاع عنها والتمسُّك بها.

يسوع كاذبٌ

لقد صرَّح المسيح بأنَّه الله، وفهم أولئك الذين سمعوه ما كان يقوله. ومن شأن الفحص المنطقيِّ لهذه الدعوى أن يُؤدِّي إلى ثلاثة خِيارات إضافيَّة بخصوصه. فأوَّلاً، إمَّا أن يكون وإمّا لا يكون ما صرَّح بأنَّه هو. وما زالت الاستطلاعات تبيِّن أنَّ نسبة تفوق 90% من أهل أميركا يؤمنون بوجود إلَهٍ أو قوّةٍ عُليا. ولكنْ إذا سُئلوا عن كون المسيح هو الله تحديدًا، فإنَّ كثيرين يتردَّدون في الذهاب إلى ذلك الحدّ. فمن الشائع أن يعتقد المرء أنَّ يسوع هو مجرَّد إنسانٍ عجيب، أو معلِّم أخلاقيّ عظيم. ولكنْ هل هذا الموقف منطقيٌّ بالنظر إلى تصريحه بأنَّه الله؟

وإن صرَّح المسيح بأنَّه الله، وهو ليس من يُصرِّح بكونه إيَّاه، فهو إمَّا علم ذلك وإمَّا لم يعلمه. والآن، إذا ادَّعى أنَّه الله، وهو يعلم أنَّه ليس الله، فعندئذٍ يكون كاذبًا: كذب بشأن هويَّته وتقبَّل العبادة كما لو كان هو الله القدير. وإن كان يسوع كاذبًا، يكون قد خدع جماهير أكثر عددًا ممَّا خدع أيُّ بشريٍّ آخر، لأنَّ الحركة المسيحيّة التي أطلقها هي أكبر ديانة في العالم. ولا يمكن أن يكون أكبر كاذب عاش على الإطلاق، ويكون أيضًا معلِّمًا أخلاقيًّا عظيمًا. ثُمَّ إنَّ من شأنه أن يكون مُغفَّلاً، لأنَّه مات في سبيل تلك الكذبة. فهل كان يسوع كاذبًا؟ كلاَّ، لأنَّ خُلقه المصوف في جميع المُدوَّنات التاريخيَّة يُبرِزه شخصًا ذا فضيلة وكمال.

كلاَّ، لأنَّه أمرٌ لا يمكن تصوُّره أن يتمكَّن يسوع من الاحتفاظ بجماعةٍ من الأتْباع المكرَّسين مدَّةَ بضعٍ سنين بغير أن يضبطه أحد ملتبسًا بالخداع. كلاَّ، لأنَّ قيامته من الموت حيًّا أثبتت صدقيَّته.

يسوع مجنون

أوَّلَ وهلة، قد يبدو الخِيار الآخر معقولاً: أي أنَّ يسوع لم يَدرِ أنَّه ليس هو الله. فيسوع ادَّعى أنَّه الله، وهو لم يكن كذلك، إلاَّ أنَّه فعلاً حسب نفسه كذلك. أمن الممكن أنَّ يسوع كان مخدوعًا؟ إنَّ أُ. كُوينتِن هايدر، الطبيب النفسانيُّ الممارِس في مدينة نيويورك، حلَّل أخبار سلوك يسوع وشخصيَّته وعلائقه بحثًا عن أعراض اضطرابٍ نفسيّ. وقد ختم دراسته مستخلصًا أنَّ البِّينات لا تدعم الفكرة القائلة بأنَّ يسوع كان مجنونًا، بل بالحريِّ تؤكِّد أنَّه كان ذا مزايا تدلُّ على السلامة العقليَّة الفائقة.

المرءُ حرٌّ في أن يقول بأنَّ يسوع، من جرَّاء الانخداع الصادق، انتسب إلى الأُلوهة. ولكنْ إذا وقف المرء هذا الموقف، فإنَّه يَقِفُه بغير أيِّ دليل سيكولوجيّ داعمٍ له، بل إنَّه يقفه فعلاً على الرُّغم من الأدلَّة الوافرة الدَّاعمة لنقيضه.[32]

إدعاء المسيح 

يسوع هو الربّ

يبقى خِيار واحد فقط. لقد صرَّح يسوع بأنَّه هو الله ــــ وهو كذلك. فإنَّه هو الربّ. ولدينا اعتبارٌ أخير يحمل أهميَّة كبيرة ويجعل هذا الخيارَ هو أفضلَ خيار تدعمه البيِّنات.

الدليل الحاسم: قيامة يسوع

لقد وعد يسوع مرارًا في أثناء خدمته التي دامت ثلاث سنين ونصفًا بأنَّه سيقوم حيًّا من بين الأموات.[33] وبالحقيقة أنَّه لمَّا سأله اليهود البرهان الذي يقدِّمه لإثبات صحَّةَ مايقول عن ذاته، قال: “انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أُقيمه”.[34] وكان في الواقع يتكلَّم عن “هيكل جسده”، أي عن قيامته الفعليَّة من الموت بجسده. ومن شأن هذا الإمتحان الرئيسيِّ أن يُبيِّن كونه صادقًا. فلا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ جميع مؤسِّسي الدِّيانات الأُخرى، كبوذا ومُحمَّد مثلاً، ماتوا. ويتوجَّه الناس إلى أضرحتهم كي يؤدُّوا لهم فروض الإكرام. غير أنَّ الميسحيِّين لا يفعلون ذلك، لأنَّ المسيح ليس في القبر، بل هو حيّ. وليس من عَلَمٍ دينيٍّ آخر يعرفه البشر قدَّم قطعًا أيَّ دليل موضوعيٍّ مُقنع على أنَّه قام من الموت حيًّا. فلستُ أعتقد أنَّه من الممكن أن نتصوَّر أيَّ برهانٍ أعظم من قيامة المسيح لإثبات صحَّة دعواه بالانتساب إلى الأُلوهة. ولكنْ هل حصلت القيامة فعلاً؟ إنَّ اللورد دارلنغ، رئيس المحكمة السابق في بريطانيا والمتمرِّس بديهيًّا بتمحيص البيِّنات، كان مقتنعًا بأنَّ القيامة دعائمَ منطقيَّةً قويَّة:

إنَّ لبَّ القضيَّة في كون يسوع ما أعلَن أنَّه هو، أو عدم كونه كذلك، يجب أن يتوقَّف بالتأكيد على حقيقة القيامة، أو عدمها. فبشأن هذه النُقطة العُظمى، لا يُطلَب منّا فقط أن يكون لنا إيمان. إذ أنَّ لدينا في مصلحتها باعتبارها حقيقةً حيَّة بِّينات دامغةً كثيرة، سلبيَّة وإيجابيَّة، واقعيَّة وظرفيَّة، بحيث لا يمكن لأيِّ قاضٍ ذكيٍّ في العالم أن يُخفِق في إصدار حُكم بأنَّ خبر القيامة صحيح.[35]

فما هي البِّينات التي أقنعت الناس على مدى القرون، من ذوي المِهَن والاختصاصات المختلفة، حتَّى أصحابَ المهارات المصقولة في تمييز الحقِّ من الباطل؟ ثمَّة ثلاث حجج رئيسيَّة.

قبر يسوع وُجِد فارغًا

حتَّى التلاميذُ أنفسُهم ساورتهم الشكوك. وقد تراءت لهم شهادة النساء أنَّهنَّ شاهدن المسيح بعد قيامته حيًا “كالهذيان”.[36] وبعد، فقد كان هنالك حَرَسٌ رومانيٌّ قوامُه ستَّة عشر عسكريًّا، وحجرٌ وزنُه طنٌّ ونصف مختومٌ بختمٍ رومانيّ وسادٌّ لباب القبر. وكان معنى زحزحته الموتَ بأيدي الحرّاس، أو موتَ الحرّاس الذين سمحوا بزحزحته. وقد أُعدَّ جسد المسيح للدفن كمومياء بنحو ثلاثين كلغً من الأطياب الصمغيَّة داخلَ أكفانٍ من القماش.[37] وكانت الأكفان ما تزال في القبر على حالها، إلاَّ أنَّ الجسد لم يعُد موجودًا داخلها.[38] وقد قال توما ما فحواه أنَّه أن لم يَر في يدَي المسيح الدليل المادِّيَّ المتمثِّل في أثر المسامير فلن يُصدِّق أبدًا خبر القيامة. ولمَّا أراه المسيح ذلك، آمن حقًّا.[39]

ثمَّ إنَّ السُلطات اليهوديَّة التي كان أربابُها في أفضل موقعٍ يُتيح لهم فحص الوقائع، لم تحاول قطُّ دحضَ كونِ القبر فارغًا، بل سعت فقط إلى تفسير سبب فراغه.[40] وها هو الدكتور ﭙول مايِر، المؤرِّخ بجامعة ميشيغن الغربيَّة، يلخِّص الوضع الجاري :

وعلى ذلك، فإذا زُرنا جميع البيِّانات بدقَّة وإنصاف، نجد أنَّه من المسوَّغ حقًّا ـــ بمقتضى قوانين البحث التاريخيّ ـــ أن نستنتج أنَّ قبر يوسف الراميَّ، ذاك الذي دُفن فيه يسوع، وُجِد بالفعل فارغًا صبيحةَ أحدَ القيامة. ولم يتمَّ حتَّى الآن اكتشافُ أدنى دليلٍ في المصادر الأدبيَّة أو النقوش أو الآثار من شأنه أن يَدحَض هذا التصريح.[41]

يسوع ظهر بجسده لأشخاصٍ كثيرين بعد قيامته

تُسجِّل الأناجيل التاريخيَّة عشرة ظهورات مرئيَّة مختلفة تراءى فيها يسوع للناس في أثناء الأربعين يومًا التالية لموته وقيامته. فإنَّ يسوع “ظهر لصفا (بطرس)، ثمَّ للإثني عشر. وبعد ذلك ظهر دفعةً واحدة لأكثر من خمس مئة أخٍ أكثرهم باقٍ إلى الآن، ولكنَّ بعضهم قد رقدوا…”[42] ويُعلِّق سي.ه.دُد قائلاً: “لا يكاد يوجد أيُّ غرضٍ آخر من ذكر حقيقة كون معظم الخمس مئة أخ ما زالوا على قيد الحياة، سوى أنَّ بولس يقول في الواقع: إنَّ الشهود حاضرون فاسألوهم!”[43] ولم تكن تلك الظهوراتُ هَلوَساتٍ، لأنَّها كانت متفرِّقة و متنوِّعة في الزمان و المكان والشخصيّات. ثمَّ إنَّ الهلوسات لا تكون واحدةً بالنسبة إلى 500 شخص، كما كانت الحالة النفسيَّة المؤاتية للتصديق والتوقُّع غير متوافرة، إذ إنَّ التلاميذ اقتنعوا رُغم إرادتهم. ولم تكن ظهوراتُ الربِّ توهُّماتٍ أو تخيُّلات، لأنَّه وقف بينهم وقال: “انظروا يديَّ ورجليَّ، أنِّي أنا هو؛ جسُّوني و إنظروا، فإنَّ الروح ليس له لحم و عظام كما تَرون لي”.[44] وهو قد أكل معهم أيضًا.[45]

وبعد، فإنَّ شهادة المصادر السلبيَّة هي المُقنِعة على نحوٍ خاصّ. فقد ظهر يسوع لأخيه يعقوب الذي سبق أن رفضه في أثناء خدمته العلنيَّة، ويعقوب صار في ما بعد قائدًا في كنيسة أورشليم التي أذاعت بُشرى القيامة.[46] وقد شهد الرسول بولس أنَّ ظهور المسيح المُقام له لمَّا كان شاولَ الطرسوسيَّ، عدوَّ المؤمنين ومُضطهِدَهم، هو الذي غيَّره وهداه.[47]

حياة التلاميذ تحوَّلت

إنَّها حقيقة معروفة جيِّدًا أن تلاميذ يسوع هجروه، وأنكروا ارتباطهم به، في أثناء اعتقاله ومحاكمته وصلبه.[48] وكان سبب ذلك خوفهم على حياتهم. ثمَّ كانت لهم إختباراتٌ حقيقيَّة صدَّقوا أنَّها ظهورات فعليَّة من جانب المسيح المُقام. عندئذٍ تحوَّلوا من أُناسٍ خائفين مختبئين في العليَّة إلى مُعلِنين جسورين لقيامته. حتَّى إنَّهم باتوا مستعدِّين للموت في سبيل قناعتهم. وفي الواقع أنَّ جميع الرسل الأحد عشر الباقين، ما عدا واحدًا، ماتوا ميتة شهداء، إلاَّ أنَّ أيًّا منهم لم ينكر قطُّ أنَّه رأى يسوع حيًّا بعد قيامته، ولا حتَّى إنقاذًا لحياتهم. فمن شأن الناس أن يموتوا في سبيل ما يؤمنون بأنَّه حقّ، إلاّ أن أحدًا لن يموت في سبيل ما يعرف أنَّه باطل. وقد استنتج غاري هابِرماس، الفيلسوف والمتخصِّص في الدفاع عن العقيدة المسيحيَّة ولا سيَّما حقيقة القيامة، هذا الاستنتاج الهامّ: “إنَّ تحوُّل التلاميذ يُبرهِن أنَّهم آمنوا حقًّا بأنَّ المسيح قد قام من بين الأموات، ويَدحَض نظريَّة الخديعة (سرقة الجسد)، بسبب هذا التحوُّل وأيضًا بسببِ كون الكذبة لا يمضون إلى الاستشهاد طائعين”.[49] وفي فضيحة ووترغيت السياسيَّة في الولايات المتَّحدة، أواسطَ سبعينيَّات القرن العشرين، إيضاحٌ لهذه النقطة. فإنَّ محامين مُحنَّكين، إذ واجههم خطر السَّجن بضع سنوات، لم يكونوا قادرين ولا راغبين أن يُبقوا على تستُّرهم الإحتياليّ.

حذارِ أن تغلط: إن كان قد قام فعلاً، فذلك كان جسده. وإذا كان انحلال الخلايا لم ينعكس، والجُزيئات لم تلتحم من جديد، والأحماض الأمينيَّة لم تضطرم ثانية، فعندئذٍ لا بدَّ أن تسقط الكنيسة

جان أبدايك

سبع مقطوعات شعريَّة بمناسبة الفصح”

ويُذكَر أنَّ ج.ن.د. أندرسُن، المدير السابق للدراسات القانونيَّة العُليا في جامعة لندن، قال بحقٍّ أنَّ القيامة هي “إمَّا أسمى حقيقة في التاريخ وإمَّا خدعةٌ كُبرَى…”، وإذا كانت صحيحة فإنَّ “إخفاق المرء في تكييف حياته بمقتضى مضامينها يعني خسارةً يتعذَّر تعويضها”.[50]

حُكمٌ ذو أرجحيَّة عالية

يجب أن يكون القارئ هو القاضي الذي يحكم بموجب البيِّنات. أفمن المنطقيِّ أن نعتبر يسوع إمّا كاذبًا وإمَّا مجنونًا وإمَّا مجرَّد مُعلِّم أخلاقي؟ إنَّ الأُستاذ الأكسفورديَّ سي إس لِويس عدَّ ذلك مُستبعدًا تمامًا:

إنَّني أسعى هنا إلى منع أيِّ شخص أن يقول القول الغبيَّ حقًّا و الذي غالبًا ما يقوله الناس بالنسبة إلى المسيح: “أنا مستعدٌ لقبول المسيح على أنَّه معلِّم أخلاقيٌّ عظيم، ولكنَّني لا أقبل دعواه بأنَّه الله”. ذلك القول هو الأمر الوحيد الذي يجب ألاَّ نقوله. إذ إنَّ إنسانًا يكون مجرَّد إنسان ويقول مثل تلك الإدِّعاءات التي قالها يسوع لن يكون معلِّمًا “أخلاقيًّا” عظيمًا. إنَّه لا بدَّ أن يكون إمَّا مخبولاً، على مستوًى واحد مع مَن يقول إنَّه بيضة مسلوقة، وإمَّا إبليسَ الجحيم! إذ لا بدَّ من أن تحسم خيارك: إمَّا أنَّ هذا الشخص هو ابن الله، وإمَّا أنَّه مجنون، أو أسوأ من ذلك. ولك إمَّا أن تُسكِتَه حاسبًا إيّاه أبله، وتحتقره وتقتله كما لو أنَّه شيطان، وإمَّا أن تجثو عند قدميه وتدعوه ربًّا وإلهًا. إنَّما لا نطلعنَّ بأيِّ فكرة إستعلائيَّة لا قيمة لها، عن كونه معلِّمًا من البشر عظيمًا. فهو لم يترك هذا مُتاحًا لنا، ولا قصد أن يجعله مُتاحًا![51]

ولكنَّ الحجج العقليَّة لمصلحة المسيحيَّة تعزّزت عندي بعدما قرأت “المسيحيَّة المجرَّدة” بقلم سي أس لويس. ففي نهاية الأسبوع لم يكن يمكنني أن أتصوَّر كيف يُعقل ألَّا تؤمن بيسوع المسيح”

شارلز كولسُن

رئيس لجنة “أخويَّة السجون”

إنَّ رحلتنا الميدانيَّة الخياليَّة عبر وثائق الأناجيل، وإن كانت بعيدةً من أن تكون شاملة، استعرضَت فعلاً وفحصت عيِّنة واسعة من المُعطَيات التاريخيَّة المتوافرة. وبقدر ما يمكن أن يكون أيُّ شيء من الأزمنة القديمة وافيًا، أعتقد أنَّ البيِّنات تؤيِّد الدعوى بأنَّ يسوع هو تجسُّد الإلَه الشخصيٍّ اللامُتناهي. وقد شهد الدكتور إدوِن ياموشي، عالِمُ الآثار والخبيرُ البارز، فقال: “إنَّ البيِّنات التاريخيَّة عزَّزتِ انتِذاري ليسوع المسيح على أنَّه ابن الله الذي يُحبُّنا وقد مات لأجلنا وأُقيم حيًّا من بين الأموات. حقًا إنَّ الأمر بهذه البساطة!”[52]

وإنَّ لمضامين هذه الحقيقة إمكانيَّة تغيير نظرتنا إلى الحياة تغييرًا جذريًّا هامًّا. فهذه القضايا تتخطَّى كونها أكاديميَّة، إذ هي أيضًا خُلقيَّة. فأمامك خِيار وقرار يقضي بأن تقبل المسيح أو ترفضه على أنَّه الربّ. ولك الحرِّيَّة بأن تتحول مبتعدًا عنه. ولكنَّ المخاطر المتربِّصة أعظم من أن تُتيح لنا الاستخفاف بالمسألة. فقد قال الربُّ يسوع:

“أنا هو القيامة والحياة: مَن آمن بي، ولو مات، فسيحيا. وكُلُّ مَن كان حيًّا، وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد!”[53]

للتركيز و البحث

  1. لماذا يُعَدُّ أمرًا بالغ الأهميَّة في المسيحيَّة أن يكون يسوع هو الله أو لا يكون ؟ هل توافق على أنَّ مسألة كون المسيح هو الله فعلاً هي أهمَّ قضيَّة بالنسبة إلى صحَّة المسيحيَّة؟ لماذا نعم، أو لماذا لا؟
  2. روى شهودُ العِيان الذين عاصروا المسيح أنَّه كان صاحب سلطة على الأرواح الشرِّيرة والموت والمرض والطبيعة، وأنَّه كان يقدر أن يغفر الخطيَّة ويُبطِل عواقبها الأبديَّة. فلماذا تكون هذه التصريحات مهمَّة في تحديد هويَّته؟
  3. على أساس بيِّنة أفعال المسيح المعروضة في هذا الفصل، هل يمكنك أن تُفكِّر في خِيارات أُخرى يمكن أن تُنسَب ألى يسوع، غير الثلاثة المذكورة (كاذب، مجنون، ربّ)؟ إن كان نعم، فوضح وناقش.
  4. ماذا غيَّر فكر معاصري يسوع، حتَّى الكثير من الشكوكيِّين بينهم، من النكران إلى الإيمان بأنَّ المسيح هو الله؟ (راجع حالتَي توما في يوحنّا 20 : 24-28، وشاول الطرسوسيِّ في أعمال الرسل 9: 1-20). ابحث في دور البيِّنات والعقل كأساسٍ للإيمان بيسوع.
  5. كيف أثَّرتِ المعلومات التي يتضمَّنها هذا الفصل في فهمك الخاصِّ لهُويِّة يسوع؟

[1]  لوقا52:5.

[2]  راجع لوقا4: 14-30.

[3]  إشعياء61: 1و2

[4]  قد يُحتَجُّ بأنَّ دعوى يسوع بأنَّ المسيح لا تعني بالضرورة انتسابًا إلى الأُلوهة. ولكن بالنظر إلى التحدِّي الذي أطلقه في متَّى22: 41-46، لا شكَ أنَّه قصد بذلك أيضًا أن يُصرِّح بأنَّه الله. وفي لوقا4: 18و19، اقتبس يسوع من إشعياء61: 1و2. فبحسب عين السِّفر الذي يتضمَّنه كتابُ العهد القديم (إش6:9) دُعي المسيح “إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا”. ومعرفة يسوع المؤكَّدة لهذا المقطع لا بدَّ أن تعني أنَّ تصريحه بكونه المسيح هو أيضًا تصريح بكونه الله.

[5]  يوحنّا4: 25و26؛ مرقس8: 27-30.

[6]  راجع متّى22: 41-46.

[7] R.V.CG. Tasker, The Gospel according to St. Mathew (Grand Rapids, MI: Eardmans, 1978), In the Tyndale N.T. Commentaries.

[8]  راجع يوحنّا8: 53-59.

[9]  راجع خروج14:3.

[10]  راجع يوحنّا 10: 22و23.

 راجع يوحنّا 8: 23و24.[11]  

 راجع يوحنّا21:5؛ 27:10و28؛ 25:11و26.[12]

 راجع متّى18:28.[13]

 يوحنّا7:19.[14]

[15] John W. Monrgonery, History or Christianity (Minneapolis: Bethany, 1965), p.63.

 راجع لوقا5: 17-26.[16]

 لوقا5: 24-26.[17]

 يوحنّا 9: 1-3.[18]

 على أساس إجابة يسوع بشأن مأساتين وقعتا في زمانه وذُكرتا في لوقا 13: 1-5 (مقتل بعض أهالي الجليل على يد بيلاطس ومصرع 18 شخصًا من جرّاء انهيار برج عليهم) واضحٌ أنَّه لم يعلِّم أنَّ جميع العواقب التي تحصل في الحياة هي نتيجة لخطيَّتنا الشخصيَّة. غير أنَّه قال فعلاً إنَّ الخطيَّة خطيرة جدًّا بحيث تؤدِّي إلى الموت. وبما أنَّنا جميعنا أخطأنا، فقد قال إنَّنا في حاجةٍ إلى التوبة كي نُنقَذ من الموت.[19]

 لوقا 7: 11-16.[20]

[21]  راجع لوقا 8: 22-25.

 متّى 28:7و29. راجع أيضًا يوحنَّا14:4؛ 12:8؛ 25:11 طلبًا لأمثلة.[22]

 يوحنّا 37:10و38.[23]

[24]  راجع لوقا 4: 1-13؛ متّى33:14؛ 17:28؛ يوحنّا 38:9.

 قارن متّى 10:4 مع تثنية 13:6.[25]

 قارن متَّى 15:21و16 مع المزمور 2:8.[26]

 راجع لوقا 4: 33-36 ومتَّى 24:12.[27]

 يوحنّا46:8.[28]

 يوحنّا 6:14.[29]

 راجع مرقس 45:10 مع المزمور 49: 7-9.[30]

 لوقا 20:9.[31]

[32] Jon A. Buell and Q. Quentin Hyder, Jesus: God, Ghost or Guru? (Grand Rapids, MI: Zondrvan, 1978), p.102.

 راجع مثلاً متَّى 21:16؛ 9:17؛ 32:26.[33]

 يوحنّا 19:2.[34]

[35] Michael Grean, Man Alive (Downers Grove, IL: Inter Varsity Press, 1968), pp. 53-54, as quoted in Mc Dowell, p. 193-194.

 لوقا 11:24.[36]

 يوحنّا 39:19و40..[37]

[38]  يوحنّا 4:20و8

 يوحنّا 20: 24-29.[39]

 متّى 28: 11-15.[40]

[41] Paul L. Maier, First Easter (San Francisco: Harper + Row, 1973), p.120.

 1كورنثوس 5:15و6.[42]

[43] C.H. Dodd, “The Appearances of the Risen Christ: A study in the form criticism of the Gospels”, in More New Testament Studies (Manchester: U. of Manchester Press, 1968), p.128.

 لوقا 39:24.[44]

 لوقا 24: 41-43.[45]

 راجع يوحنّا 5:7؛ 1 كورنثوس 7:15؛ أعمال 13:15.[46]

[47]  طلبًا لشهادة الرسول بولس الشخصيَّة راجع أعمال 9: 1-22.

 راجع متَّى 56:6، 69-75؛ يوحنّا 19:20.[48]

[49] Gary Habermas, The Resurrection of Jesus (New York: University Press of America, 1984), p.39.

[50] J.N.D. Anderson, The Evidence for the Resurrection (Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 1966), pp. 3-4.

[51] C.S. Lewis, Mere Christianity (New York: Macmillan, 1952), pp. 55-56.

[52] Edwin Yamauchi as quoted in Strobel, p. 90.

 يوحنّا 25:11و26.[53]