الردود على الشبهات

هل الله قاسي ؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم

هل الله قاسي ؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم

هل الله قاسي ؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم

هل الله قاسي ؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم
هل الله قاسي ؟ أسئلة وأجوبة عن طبيعة الله في العهد القديم

طرح الفيلسوف الكبير إيمانويل كانط على نفسه ذلك السؤال الذي لا يزال مطروحًا حتى اليوم[21] :” كيف يمكن للإنسان أن يتيقّن من أن الله هو الذي يكلّمه من خلال نصوص الكتاب المُقدّس؟” وكان كانط يعتقد أنّه لا تُوجد إجابة شافية لهذا السؤال. على العكس من ذلك فقد كان يستنتج أنه، في بعض الحالات يُمكن أن يعرف الإنسان أنّ من يتحدث إليه ليس هو الله.  وبحسب رأي الفيلسوف، يحدث هذا الأمر عندما يتعارض سلوك أو أمر إلهي مع القانون الأخلاقي العالمي. كما هو الحال مثلاً في (تكوين 22) حيث يأمر الرب إبراهيم بالتضحية بإبنه وبحسب كانط، فقد كان الأولى بإبراهيم أن يُجيب على هذا الطلب بالأسلوب الآتي:” إني لعلى يقين بأنه لا يجب عليّ قتل ابني، وما لست على يقين به هو أن تكون، أنت من يُكلّمني في هذه اللحظة. إلهًا بالحقيقة”

 

مثل هذه الكلمات تتطابق تماماً مع روح عصر التنوير في مُواجهة بعض نصوص العهد القديم التي تضعنا في مواجهة إلهٍ غير مفهوم. لماذا إذاً يبدو العهد القديم وكأنه يقدم لنا إلهًا قاسيًا؟ فالكثير من النصوص تؤكد صورة الإله المُعادي للإنسان: فمجموعة رؤى الأنبياء عاموس وهوشع وميخا على سبيل المثال تحوي إعلانات عن الدّينونة من القسوة حتى أنّها تُشبه إعلان حرب من الله ضد شعبه.  (عاموس 2: 13) “هأنذا أضغط ما تحتكم كما تضغط العجلة الملآنة حزماً” (إرميا 5 : 15) “لذلك هكذا قال الرب إله الجنود: من أجل أنكم تتكلمون بهذه الكلمة، هأنذا جاعل كلامي في فمك نارا، وهذا الشعب حطبا، فتأكلهم “. بيد أن هذه النصوص المتناهية الشّدّة تنضوي تحت التفسير النبويّ للتّاريخ. فليس هناك ما يُؤكِّد هنا أن الله قد تحوّل إلى عدوٍّ. لكنَّ الدّينونة المُعلنة تأتي بسبب المظالم الاجتماعية والزيغان الدّينيّ الذي يتّهم به يهوه شعبه من خلال أنبيائه ومؤرخيه.

 

إلا أن هنالك بعض الحالات التي يبدي فيها إله العهد القديم شدّة. إن لم يكن عنفًا. دُونما ذنب واضح للإنسان. مثل تلك النصوص هي التي أثارت اعتراضات كانط وتظل غير مقبولة لدى عدد لا بأس به من معاصرينا. كيف يمكن لله أن يصل في قسوته إلى حدِّ تعريض خلائقه للتّجربة؟ فالإله الذي يصرّ على تقديم أو يقبُّل ذبائح بشريّة من الأطفال ألا يكون بذلك إلهاً قاسياً ودموياً؟ ليس إلهاً خالقاً وفادياً؟ وكيف يتأتى أن تكون خطة إله العهد القديم أن يقتل الذين يؤمنون بأنهم يعيشون في ظلّ حمايته؟

 

إذا ما ابتغينا محاولة الإجابة على مثل هذه الأسئلة. فإننا مقبلون على الأقل على مخاطرتين: الأولى هي التبنّي المُسبق لوضع المدافع الذي يقلل من شأن هذه النصوص. والثّانية هي الضياع في غمرة الملاحظات العامّة التي لا تأخذ على محمل الجدّ ما تريد هذه النُّصوص قوله.

 

اقترح عليكم إذاً أن تنطلق دراستنا من واقع أربعة نصوص. في البداية قصّتان تتعاملان مع ذبائح بشريّة من الأطفال يأمر بها الله أو يسمح بها. والحديث هنا عن نص سفر التكوين الذي ذكرناه قبلاً ونصّ (قضاة 11). وهي ذبيحة ابنة يفتاح. بعد ذلك نوجه اهتمامنا لنصّين آخرين يبدوان أنهما يذهبان إلى أبعد من ذلك حيث نرى الله وكأنه يسعى إلى القضاء على الرجال الذين كانوا موضوعا لوعوده: يعقوب في (تكوين 32) وموسى في (خروج 4).

 

الله والذبائح البشرية (تك 32، قض 11 )

في العديد من الديانات القديمة كان يتم تقديم الذبائح البشريّة وخاصّة من الأطفال. في أوقات الأزمة عندما لا يجد المُجتمع أمامه سبيلاً سوى ذلك للحصول على الدعم الإلهيّ لصالحه. وقد إحتفظ العهد القديم ببعض اللمحات لتلك المُمارسات، ففي (2 ملوك 3 :26-27) ” فلما رأى ملك موآب أنّ الحرب قد اشتدّت عليه أخذ معه سبع مئة رجل مُستلّي السيوف لكي يشقّوا إلى ملك أدوم، فلم يقدروا.  فأخذ ابنه البكر الذي كان ملك عوضاً عنه، وأصعده محرقة على السور. فكان غيظٌ عظيم على إسرائيل. فانصرفوا عنه ورجعوا إلى أرضهم” لا شكّ أن الُكتّاب الذين نقلوا إلينا هذا النصّ قد أُصيبوا بصدمةٍ بسبب محتواه، ولعلّ ذلك هو السبب في أنّه يبدو مقتضباً، إلاّ أنّ ما تتحدّث فيه هذه النصوص واضح للغاية، فملك موآب الذي دخل حرب مع إسرائيل لم يجد بُدّاً من تقديم ابنه لكموش إله الموآبيين. وبحسب الظاهر فقد كان من شأن هذه الذّبيحة أن تُثير حنق كموش ضد الإسرائيليين الذين كان عليهم أن يتركوا مواقعهم. ويدين النصّ مثل تلك الممارسة حيث يُنبئنا بأن الإسرائيليين قد استاءوا بشدّة من تصرّف ملك مؤاب حتّى أنّهم أسرعوا بأنفسهم بمغاردة أراضيه. لقد كانت الشّريعة تُحرّم بشدة تقديم الذبائح البشرية (تث:18: 10-12) “لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار، ولا من يعرف عرّافة، ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يرقي رقية، ولا من يسأل جانا أو تابعة، ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب. وبسبب هذه الأرجاس، الرب إلهك طاردهم من أمامك”. لذا فعندما يطلب الله من إبراهيم أن يُقدّم ابنه له ذبيحة. أو عندما يقبل أن يضحي يفتاح بأبنته. أفلا يكون بذلك متناقضاً مع نفسه؟

 

الامتحان في تكوين 22 :1-19

النصّ الذي يُطلق عليه التقليد اليهودي اسم L’Aqédah اي ” الرّابط ” لا شك أنه الأشهر في كل قصّة إبراهيم ( تك 12-25). وقد كثُرت فيه تفسيرات اللاهوتيين اليهود والمسيحيين، وألهَمَ الكثير من اللوحات الفنية (مثل رامبرانت وشاجال ودالي). كما أنه أثار الكثير من الملاحظات الساخرة والمُتصلّفة. كما فعل وودي آلان على سبيل المثال[22]

 

في عام 1994 عرض التلفزيون الفرنسي فيلماً تليفزيونياً عن إبراهيم. وقد أحدث الفيلم موجةّ في ردود الأفعال العنيفة ظهرت في بريد القرّاء في جريدةLE MONDE  وهكذا كتب أحد القُرّاء ” أب يتطوع بذبح ابنه الصغير كتقدمة لإله لا يراه في حديثٍ آتٍ من السُّحب أن يقوم بهذه المجزرة حتى ما (يمتحنه) كان أفضل لذلك الأب أن يرفض مثل هذا الأمر. إنّ هذه القصة الرّهيبة هي التي لا يزال يُمجدّها المؤمنون والتي أضحت في أيّامنا مسؤولة عن ذبح الخراف التي كُتب عليها ان تكون ضحايا صامتة منذ ذلك الحين”[23]

 

وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا».  فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ».  فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ اثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَإِسْحَاقَ ابْنَهُ، وَشَقَّقَ حَطَبًا لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ. وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: «اجْلِسَا أَنْتُمَا ههُنَا مَعَ الْحِمَارِ، وَأَمَّا أَنَا وَالْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ، ثُمَّ نَرْجعُ إِلَيْكُمَا». فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ الْمُحْرَقَةِ وَوَضَعَهُ عَلَى إِسْحَاقَ ابْنِهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ النَّارَ وَالسِّكِّينَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا. وَكَلَّمَ إِسْحَاقُ إِبْرَاهِيمَ أَبِاهُ وَقَالَ: «يَا أَبِي!». فَقَالَ: «هأَنَذَا يَا ابْنِي». فَقَالَ: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟»  فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا. فَلَمَّا أَتَيَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ، بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ الْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ الْحَطَبَ وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَوْقَ الْحَطَبِ. ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ. فَنَادَاهُ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «إِبْرَاهِيمُ! إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا» فَقَالَ: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي». فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ.  فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذلِكَ الْمَوْضِعِ «يَهْوَهْ يِرْأَهْ». حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: «فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى».وَنَادَى مَلاَكُ الرَّبِّ إِبْرَاهِيمَ ثَانِيَةً مِنَ السَّمَاءِ  وَقَالَ: «بِذَاتِي أَقْسَمْتُ يَقُولُ الرَّبُّ، أَنِّي مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فَعَلْتَ هذَا الأَمْرَ، وَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً، وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيرًا كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، وَيَرِثُ نَسْلُكَ بَابَ أَعْدَائِهِ، وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي».ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى غُلاَمَيْهِ، فَقَامُوا وَذَهَبُوا مَعًا إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ. وَسَكَنَ إِبْرَاهِيمُ فِي بِئْرِ سَبْعٍ. (تك 22: 1-19).

“وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله (تأتي الكلمة في العبريّة مسبوقة بأداة تعريف مما يُوحي بفكرة المسافة بين الله والإنسان) إمتُحِن إبراهيم (يمكن ترجمتها بأن الله إختبر إبراهيم). فقال له: “يا إبراهيم”. فقال: “هأنذا” فقال: “خذ ابنك وحيدك الذي تحبه. إسحاق. واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك ” (ع 1-2)

بهذه المُقدّمة إرتبطت القصة بالأحداث السّابقة الخاصّة بإبراهيم وتكمُن المُعضلة الرئيسية في عُقم الزوجين إبراهيم وسارة اللذين لهما أعطي الوعد الإلهي بالابن ومن ثم بالنسل العظيم. وتحقق هذا الوعد أخيراً. فبعد عقبات متعدّدة (احتجاز سارة في بيت ملك غريب (تك 12:20). مخاطرة إبراهيم بحياته عند خروجه للحرب (تك 14). إستعجال الزوجين تحقيق الوعد (تك 16). شكّ إبراهيم (تك 17). وسارة (تك 18) وعندما جدّد الله الوعد بالولادة تحقق الوعد أخيراً في (تكوين 21) مع ميلاد إسحاق. بعد هذه القصة مباشرة يأتي الله بأمره ليضع صحة وعده وأمانته موضع الشك. ويذكر أحد المفسرين المعاصرين أن إبراهيم ربما اختبر في ذلك الشكّ في أن الله يناقض نفسه [24]

لا شكّ أن القارئ يعرف الحقيقة أكثر من إبراهيم إذ أنّ الرّاوي يُعلِن له من البداية غرض الله من وراء ذلك وهكذا يجد نفسه أمام توتّر دراماتيكي خاص إذ لا يمكنه أن يوصّل للشّخصيّة الرئيسيّة ما كان يعرفه بالفعل، وهذه الحَبكة تُستخدم دائماً في أفلام التشويق والإثارة خاصّة لدى ألفريد هيتشكوك. على سبيل المثال يعرف المشاهد من هو المجرم لكنّه لا يستطيع التّدخّل لتحذير البطل الذي يشكّ في شخص آخر في ظل حبكة شيطانيّة إلاّ أنّه يبدو لنا الامتحان في (تكوين 22). ليس فقط قاسياً. بل غير مُحتمل. ولسنا الوحيدين الذين نشعر بذلك إزاء هذا النصّ، فمُنذ وقت مبكّر فسّر الربيون الأمر بذبح إسحاق على كونِه ليس من الله. بل من الشيطان (كما فعل راشي المُفسّر اليهوديّ في العصور الوسطى) تفسير يهوديّ آخر يجعل الشيطان يتدخّل في المشهد كذلك؛ لكن بهدف منع إبراهيم من إطاعة الأمر (مثال: التفسير الربي لسفر التكوين “بريشيت رب”). فقد واجه الشيطان إبراهيم بآية من آيات التوراه: سافك دم الإنسان يسفك دمه” (تك 6:9). يوضّح هذا بجلاء أن الربيين كانوا على وعي بالمُعضلة اللاهوتية في ذلك الأمر الإلهي. قامت ماري بالماري بمحاولة معاصرة لنفي الجانب السيّئ من (تكوين 22: 1-2). فبحسب رأيها لا يعدو الأمر كله سوى سوء فهم خطير من جانب إبراهيم فقد لجأت إلى ملاحظة راشي الذي أشار إلى الترجمة الحرفيّة للأمر الإلهي هي:” إصعد إلى الجّبل ” فتوصّلت إلى إستنتاج أنّ الله لم يطلب مُطلقاً من إبراهيم ذبيحة دمويّة، وهي تكتب قائلة: “لو أنّ الله أراد التضحية بإسحاق فإنّ كل هذه القصة تكون امتحانًا قاسيًا (والتالي سخيفاً …..) لكن لو أنّ الله لم يُرد هذا الأمر وأنّ إبراهيم تصوّر ذلك في البداية. فإننا نكون بذلك أمام انكشاف مساحة الخيال لدى إبراهيم وتغيير إيمانه”[25]. بحسب هذه القراءة التحليليّة النفسيّة يكون الأمر علاجاً يداوي به الله إبراهيم من فهمه الخاطئ لله. مثل هذه القراءة الجذّابة حتماً لا تُقيم وزنًا كبيرًا للنصّ الكتابيّ وكل ما يحمله من صدمة[26]. فالتّعبير “يصعد” في كل العهد القديم إنّما هو مصطلح فنّي يشير إلى إصعاد محرقة. أي ذبيحة تحرق بالكامل ليصعد دخانها نحو الله. فالأمر الذي صدر لإبراهيم موجود إذاً بالفعل. بحسب كاتب (تكوين 22). وقد فَهِم إبراهيم جيّداً ما طلبه منه الله. فالنّصّ الكتابي يحمل الكثير من التخطيط. فهو لا يخبرنا بأيّ ردّ فعل من جانب إبراهيم: لا محاولة لمناقشة الأمر مع الله كما حدث في (تك 18) أو طلب لتوضيح الأمر. فقد أطاع وبدأ تنفيذ الأمر: “فبكّر إبراهيم صباحاً وشدّ على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه” (تك 3:22).

لقد تصرّف إبراهيم تماماً كما فعل في بداية قصّته مع الله. ففي (تكوين 12) أمره الرب قائلاً ” اذهب من أرضك… إلى الأرض التي أُريك ” (ع 1) وقد إتّخذ أمر الربّ في (تكوين 22) نفس الصّياغة: “اذهب إلى أرض المريا….. ” (ع 29) وهذان هما النّصان الوحيدان في سفر التكوين اللذان يحتويان على صيغة التوكيد lék leka. ويحمل اسم المريا في العبريّة معنى الفعل يرى المستخدم كذلك في (تكوين 12: 1). في (تكوين 12) كان على إبراهيم أن يترك ماضيه وفي (تكوين 22) كان عليه التضحية بمستقبله وفي النصّين كان عليه أن يذهب. فيم كان يفكّر؟ ماذا قال لابنه إسحاق؟ يبقى النصّ صامتاً عن إجابة هذه الأسئلة. فهو لا يهتم بدراسة نفسيّة. وهذا النصّ هو ما يجعل من سير الاحداث أمراً غير مُحتمل. وقد كُسِرَ هذا الصمت مرةً واحدة حين سأل إسحاق قائًلا:”هوذا النار والحطب. ولكن أين الخروف للمحرقة؟ “(ع7). وأجاب إبراهيم: “الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني” وتبدو هذه الإجابة غامضة: فهل كان إبراهيم يأمل أو يعرف أنّ التضحية بإبنه لن تتم. أم علينا أن نفهم أن الكلمتين الأخيرتين”يا ابني” إنما تشيران إلى الحَمَل. بمعنى: أنّ ابني سوف يكون محل الحَمَل؟

لم يكن إبراهيم يسعى لكسب الوقت، فقد بنى المذبح ووضع عليه ابنه دون أن يذكر لنا النص أيّ رد فعل عن إسحاق. ورفع يده ليذبحه. وفي هذه اللحظة فقط تدخّل ملاك الرب. وصلت الحبكة الروائيّة أخيراً إلى الحلّ وحصل إبراهيم على لقب “خائف الله” وحلّ مكان الصبي كبشر رآه إبراهيم في الغابة، ولكن على الرغم من هذه “النهاية السعيدة” والحديث الثاني للملاك والذي كرّر فيه الوعود المقطوعة لإبراهيم الحديث في (تك 22: 15–18). بحسب رأي المفسّرين إنما هو شرح قام به محرر خارجي). فإننا نجد أنفسنا غير مدفوعين لأن نطلق زفرة ارتياح. فأوّل كل شئ إستمرّ صمت إبراهيم. ويقول (تكوين 19:22) بكل بساطة إن” إبراهيم رجع إلى غُلاميه فقاموا وذهبوا معاً إلى بئر سبع”. لا تذكر هذه الآية الآخيرة عودة إسحاق مما حير المفسرين كثيرًا. فناك بعض الشُّرَّاح (اليهود والمسيحيين) الذين إدّعوا أن إبراهيم قد ذبح إبنه فعلا. خاصّة إذا قرأنا (تكوين 19:22) بعد (تكوين 10:22) مباشرة فإنّ هذه النظرية قد تكون صحيحةّ. إلاّ أنّ هذه الفكرة تسير في تناقض تام مع كل ما يريد النصّ قوله. كما سوف نرى.

من الأمور المعبّرة حقًا أن يكون (تكوين 22) هو المشهد الوحيد في قصّة إبراهيم الذي يقوم فيه بتقديم ذبيحة. من المؤكد أنه طوال سنيّ إرتحالاته كان يبني مذابح. لكنّها غالباً كانت مذابح “بروتستانتية ” بما أنّه كان يستخدمها فقط لينادي بإسم الرب. ونشعر بأن كُّتاب تلك النصوص كان لهم مواقفهم ضد ممارسات تقديم الذبائح. ف (تكوين 22) هو بالتأكيد النصّ الوحيد الذي نري فيه إبراهيم مقدماً لذبيحة. وكان هذا المشهد يدور فوق جبل المريا وهذا الإسم ليس إسماً جغرافيّاً لكنّه اسم لاهوتي مبني بواسطة الفعل raaah ” يرى” والذي يمثّل كلمة مفتاحيّة في الرّواية. بحسب سفر أخبار الأيام (2اخ 3: 1) فإن جبل المريا هو جبل هيكل أورشليم. وكان كاتب (تكوين 22) يحمل غالباً في ذهنه هذه الإشارة. فقد كان على دراية باللاهوت التثنوي الذي بحسبه كان هنالك مكان واحد لممارسة العبادة الذبائحيّة ألا وهو هيكل أورشليم.

فإذا كان كاتب هذا النّص على دراية بمثل هذا اللاهوت، فإنه يمكن أن يكون كتب هذا النصّ قبل القرن السادس قبل الميلاد وكان على عِلمٍ كذلك بحقيقة أنه في أزمات طاحنة كان شعب إسرائيل يمارس على غِرار جيرانه، تقديم الذبائح البشريّة.  فسفر الملوك يدين العديد من الملوك بسبب تعبيرهم لأولادهم في النّار. تلك الممارسات البربريّة التي تؤكدها الحفريات يبدو أنها ازدهرت بوجهٍ خاص في اللحظة التي واجهت فيها ممكلة يهوذا خطر الفناء. إذاً كيف كان يمكن مُواجهة تلك الممارسات الدمويّة؟ كان يمكن حظرها. وكان هذا هو الاختيار الذي عمدت إليه الشّريعة. هل كان الحظر فقط كافياً؟ ألم يكن من الأجدى الشرح لأولئك الذين فكّروا في إدخال الذّبائح البشرية الى عبادة يهوه أنّ يهوه نفسه كان يرفض تلك الفكرة بوضوح؟ في (حزقيال 25:20) قدّم الله ملاحظة في غاية العجب: “واعطيتهم أيضاً فرائض غير صالحة. وأحكامًا لا يحيون بها” وهي ملاحظة تشير دون شك الى ذبائح الاطفال (ع 31). وهذا مثال مثير للإهتمام للحوار مع الدين الشعبي. فالكاتب لا يُنكر بحزم كل رابطة بين تلك الذبائح وعبادة يهوه. لكنّه يسعى لأن يشرح لقرّائه أن ممارسة هذه الذبائح إنما هي إشارة إلى غضب الله.

إنّ (تكوين 22) يحمل في البداية هدفاً نسبيّاً فهو عبارة عن قصة تعليميّة تشرح أن الذبيحة البشريّة الوحيدة التي طلبها الله جاءت في سياق خاص جدّاً (امتحان جدّ إسرائيل) وأن الله بنفسه قد أبطل هذه التقدمة بذبيحة حيوانيّة. يمكن إذاً قراءة (تكوين 22) على كونه مجادلة رائعة ضدّ الذبائح البشرية.

إلاّ أن هذه القراءة لا تلتفت إلى كل العمق الموجود في النصّ، ففي زمن السّبي. وجد شعب يهوذا نفسه في حالة من اليأس الشديد. هل نسي الله كل وعوده؟ هل كان على مستقبل إسرائيل ان يتم التضحية به على مذبح التّمثّل بالثقافة البابليّة؟ هكذا أصبح إبراهيم، في (تكوين 22) نموذجاً للإيمان بالله بالرغم من المظاهر. في مواجهة العقلانية إلى خبرة إبراهيم مثلت بالتالي موقف جماعة شعرت بحرمانها من هويتها ومستقبلها. وهكذا يُقدّم (تكوين 22) صورة إله أصبح غير مفهوم. لكن في نفس الوقت تعيد لنا القصة مسألة الصورة التي لدينا عن الله، فنحن نريد إلهاً يتوافق مع مثالية الإنسان المستنير إله عادل ومتسامح …… إلخ. أي إله على صورة الإنسان بوجه خاص – الإنسان المثالي. إن الخطورة في مثل هذا الإله. المرسوم بحسب مثاليّة الإنسان أن يتحول بحسب الصياغة اللاهوتيّة لكُتّاب الأسفار المقدسة إلى صنم لا يفعل شيئاً سوى أنه يمنح الشرعيّة لكل طموحات الإنسان أياً كانت. وقد عَمِد الكثير من المفكّرين اليهود المعاصرين إلى وضع هذه القصة في مقابل قصة آلام الشعب اليهودي خلال فترة الفاشيّة الألمانيّة والأوروبيّة مما يطرح التساؤل حول إمكانية الحديث عن الله بعد المحارق. هل أصبح الله إلهاً قاسياً جدّاً أم أنه إنسحب من عالم البشر القاسي؟

نفس هذا السؤال مطروح ربما بشكل مختلف في الرواية الواردة في (قضاة 11).

ذبيحة إبنة يفتاح (قض 11: 29-40)

للوهلة الأولى يمكن قراءة هذه القصّة في سفر القضاة على كونها النّسخة المؤنّثة لتلك التي قمنا بتحليلها قبلاً. ففي القصّتين نجد أباً مُجبراً على تقديم ابنه / ابنته كمحرقة (تك 2:22 / قض 30:11)، وفي الحالتين الطفل / الطفلة وحيد لأبيه (تك 2:22 / قض 30:11). ويلعب الفعل ” يرى” دوراً مهمّاً في النصّين: فإبراهيم قال لإسحاق إن الله “يرى” الذبيحة للمحرقة (تكوين 8:22) ويفتاح رأى ابنته التي أصبحت بذلك الضحيّة المُختارة. استبدال إسحاق بكبش كان وعد الله لإبراهيم بذريّة لا مثيل لها (تك 17:22)، بينما اختفت ابنة يفتاح دون أن تعرف رجلاً (قض 39:11). لقد تحوّلت النهاية السعيدة في (تكوين 22) إذاً إلى نهاية دراميّة. إن كاتب سفر (القضاة 11) يستقي إذاً من (تكوين 22). ممّا ينبّهنا إلى أنّ القصة الواردة في (قضاة 29:11) وما يتبعها ليست مطلقاً من بقايا العصور السحيقة التي فيها لم تكن إسرائيل قد بلغت مستوى عالياً من الروحانيّة كما يؤكد الكثير من المفسّرين. على العكس من ذلك فنحن نتعامل هنا مع نصّ تم إدراجه بعد فوات الأوان في السرد التاريخي لحقبة السّبي والتي تشمل أسفار التثنية إلى ملوك الثاني. لكن لماذا تم هذا الإدراج في حوالي القرنين الخامس أو الرابع قبل الميلاد، دعونا نرصد أولا اختلافاً في الطول بين (قضاة 11) و (تكوين 22). ففي قصّة التضحية بإبنة يفتاح التي لا نعرف لها اسم، لا يوجد أمر من الله يطلب هذا الفعل، يفتاح نفسه هو الذي نذر نذراً للرب إذ وجد نفسه في الحرب مع العمونيين قائلا “إن دفعت بني عمو ليديّ، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأُصعده محرقة”(قض 30:11ب-31) وكانت النتيجة الدرامية لهذا النذر ان ابنته هي التي بادرت للقاء أبيها، وبالتالي أصبحت هي الضحيّة.  يوضح المشهد التالي كيف أنّ قصة إبنة يفتاح قد تمّت إضافتها إلى التّاريخ التثنوي الذي، في نسخته الأوليّة. لا يحمل أية إشارة إلى نذر يفتاح. وتكون الأعداد 11: 29 – 33 / 12: 1 وحدة روائيّة لا تحمّل أية إشارة إلى إبنة يفتاح.

فَكَانَ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى يَفْتَاحَ، فَعَبَرَ جِلْعَادَ وَمَنَسَّى وَعَبَرَ مِصْفَاةَ جِلْعَادَ، وَمِنْ مِصْفَاةِ جِلْعَادَ عَبَرَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ. وَنَذَرَ يَفْتَاحُ نَذْرًا لِلرَّبِّ قَائِلاً: «إِنْ دَفَعْتَ بَنِي عَمُّونَ لِيَدِي، فَالْخَارِجُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي عِنْدَ رُجُوعِي بِالسَّلاَمَةِ مِنْ عِنْدِ بَنِي عَمُّونَ يَكُونُ لِلرَّبِّ، وَأُصْعِدُهُ مُحْرَقَةً».ثُمَّ عَبَرَ يَفْتَاحُ إِلَى بَنِي عَمُّونَ لِمُحَارَبَتِهِمْ. فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِهِ. فَضَرَبَهُمْ مِنْ عَرُوعِيرَ إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى مِنِّيتَ، عِشْرِينَ مَدِينَةً، وَإِلَى آبَلِ الْكُرُومِ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا. فَذَلَّ بَنُو عَمُّونَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ أَتَى يَفْتَاحُ إِلَى الْمِصْفَاةِ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِذَا بِابْنَتِهِ خَارِجَةً لِلِقَائِهِ بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ. وَهِيَ وَحِيدَةٌ. لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلاَ ابْنَةٌ غَيْرَهَا. وَكَانَ لَمَّا رَآهَا أَنَّهُ مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَقَالَ: «آهِ يَا بِنْتِي! قَدْ أَحْزَنْتِنِي حُزْنًا وَصِرْتِ بَيْنَ مُكَدِّرِيَّ، لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى الرَّبِّ وَلاَ يُمْكِنُنِي الرُّجُوعُ». فَقَالَتْ لَهُ: «يَا أَبِي، هَلْ فَتَحْتَ فَاكَ إِلَى الرَّبِّ؟ فَافْعَلْ بِي كَمَا خَرَجَ مِنْ فِيكَ، بِمَا أَنَّ الرَّبَّ قَدِ انْتَقَمَ لَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ بَنِي عَمُّونَ». ثُمَّ قَالَتْ لأَبِيهَا: «فَلْيُفْعَلْ لِي هذَا الأَمْرُ: اتْرُكْنِي شَهْرَيْنِ فَأَذْهَبَ وَأَنْزِلَ عَلَى الْجِبَالِ وَأَبْكِيَ عَذْرَاوِيَّتِي أَنَا وَصَاحِبَاتِي». فَقَالَ: «اذْهَبِي». وَأَرْسَلَهَا إِلَى شَهْرَيْنِ. فَذَهَبَتْ هِيَ وَصَاحِبَاتُهَا وَبَكَتْ عَذْرَاوِيَّتَهَا عَلَى الْجِبَالِ. وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ الشَّهْرَيْنِ أَنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى أَبِيهَا، فَفَعَلَ بِهَا نَذْرَهُ الَّذِي نَذَرَ. وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ رَجُلاً. فَصَارَتْ عَادَةً فِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ بَنَاتِ إِسْرَائِيلَ يَذْهَبْنَ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَنُحْنَ عَلَى بِنْتِ يَفْتَاحَ الْجِلْعَادِيِّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ. (قض 29:11 – 40)

وَاجْتَمَعَ رِجَالُ أَفْرَايِمَ وَعَبَرُوا إِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ، وَقَالُوا لِيَفْتَاحَ: «لِمَاذَا عَبَرْتَ لِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ وَلَمْ تَدْعُنَا لِلذَّهَابِ مَعَكَ؟ نُحْرِقُ بَيْتَكَ عَلَيْكَ بِنَارٍ». فَقَالَ لَهُمْ يَفْتَاحُ: «صَاحِبَ خِصَامٍ شَدِيدٍ كُنْتُ أَنَا وَشَعْبِي مَعَ بَنِي عَمُّونَ، وَنَادَيْتُكُمْ فَلَمْ تُخَلِّصُونِي مِنْ يَدِهِمْ. وَلَمَّا رَأَيْتُ أَنَّكُمْ لاَ تُخَلِّصُونَ، وَضَعْتُ نَفْسِي فِي يَدِي وَعَبَرْتُ إِلَى بَنِي عَمُّونَ، فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِي. فَلِمَاذَا صَعِدْتُمْ عَلَيَّ الْيَوْمَ هذَا لِمُحَارَبَتِي؟». وَجَمَعَ يَفْتَاحُ كُلَّ رِجَالِ جِلْعَادَ وَحَارَبَ أَفْرَايِمَ، فَضَرَبَ رِجَالُ جِلْعَادَ أَفْرَايِمَ لأَنَّهُمْ قَالُوا: «أَنْتُمْ مُنْفَلِتُو أَفْرَايِمَ. جِلْعَادُ بَيْنَ أَفْرَايِمَ وَمَنَسَّى» (قض 1:12 – 4)

يأتي إلى ذهن القارئ لهذا النّص على الفور توازٍ يتمثّل في قصة إيفيجيني كما يقدّمها لنا يورييديس (نحو عام 410 ق.م). في مسرحيّة ” إيفيجيني توريس. وعد الملك أجاممنون في خضمّ إحدى الأزمات العسكريّة الآلهة بأن يقدّم أفضل ما سوف تقدّمه تلك السنة له ذبيحة لها. وحددت الرؤيا ابنته لتكون الذبيحة. وقد اشترك يفتاح وأجاممنون في نفس ردود الأفعال الغامضة أمام هذه التضيحة، فقد تأسف كلٍّ منهما على إبنته ولام نفسه التي دفعته لتقديمها كذبيحة. في (قضاة 11) وعند يورييديس البطلتان هما الفتاتان اللتان قبلتا الموت لإيفاء النذر الأبوي. في غالب الأمر أراد كاتب (قضاة 11) تقديم ابنة يفتاح على كونها الصورة العبريّة لايفيجيني ويمكن شرح ذلك بالتأثير المتنامي للثقافة الهللينية على اليهوديّة بداية من القرن الخامس قبل الميلاد. في تلك الحقبة كانت الهللينية. كما اليهودية تمر ب ” ازمة لاهوتيّة” فيما يتعلق بتدخّل الآلهة لصالح البشر. ويمكننا في الواقع أن نستنتج أنّ توجّه الله في (قضاة 11) كان صادماً، فهو قد قبل في ظاهر الأمر نذر يفتاح بما أنه قد نجح في حملته العسكريّة وبالتالي فالله لم يُبد أي تدخل للوقوف ضد الذبيحة البشرية. في حقيقة الأمر لا يتدخل الله أبداً في القصة فهل هو إله قاس يسمح بأن يتم بإسمه تقديم محرقة بشريّة؟ بعض عالمات اللاهوت ألقين باللّوم على هذا الإله الذي وقف في صفّ يفتاح ضد إبنته. لكن مثل هذا النقد المعاصر (والمفهوم ايضاً) لا يحمل أيّ إنصاف للنّص فهو نصّ يتناول غياب الله في عالم البشر لكن أيضاً على مسؤولية الإنسان في إدخال الله لهذا العالم.

إنّ نذر يفتاح المتهوّر وغير المسؤول ستكون له نتائج مميتة. فالرّاوي الذي قدم لنا هذه المأساة في عجالة يبدو أنه زميل لكاتب (سفر الجامعة 4:5-5) الذي يقول “إذا نذرت نذرا لله فلا تتأخر عن الوفاء به. لأنه لا يسر بالجهال. فاوف بما نذرته أن لا تنذر خير من ان تنذر ولا تفي.” نجد أنفسنا هنا في مواجهة نوع من الشكّ اللاهوتي بشأن الفكرة القائلة بأن الأفعال الطقسيّة البشرية (والتي يقع تحتها بند النذر) يُمكنها ضمان وجود العلاقة مع الله. “الله في السماوات وأنت على الأرض. وهذا الشِّعار الذي يرفعه الجامعة ينطبق بقوة على روح (قضاة 11)”. ويحافظ الكاتب كذلك على الأبعاد التي يهتم فيها بفكرة التّربية الإلهيّة. وهي فكرة كانت لا تزال غامضة في (تكوين 22). فهو يرسم إلهاً قد يبدو لنا قاسياً: غير أنه قبل كل شئ إله يقف في وجه كل زيغان للبشر ويواجه البشر بقسوتهم. القصّتان اللتان درسناهما يؤكدان على أن الله إله متباعد لا يمكن لمنطق الإنسان المؤمن أن يحتويه لكن هنالك نصوص أخرى يوجد فيها الله بالقرب من الإنسان إلى الحدّ الذي يقترب فيه من إفنائه [27].

الله الذي يأتي ليقتل

تمثّل شخصيتا يعقوب وموسى أهمّية خاصّة في بناء الهويّة اليهوديّة فيعقوب هو أبو الأسباط الاثني عشر التي منها أتت وحدة الشعب اليهوديّ على أساس النسل. وموسى كان الوسيط الأساسيّ للناموس. وكان الإلتزام بهذا الناموس هو الأمر الحاسم في تماسك اليهوديّة. إلاّ أنّ نفس هاتين الشخصيتين اللتين اختارهما الله سوف تقابلان نفس هذا الإله كمقاوم أتى ليقتلهما. بالنّسبة ليعقوب حدث هذا الاختبار في لحظة عبور كان عليه أن يعبر مخاضة يبوق لكي يتقابل بعد ذلك مع أخيه. وأتى التّدخل الإلهي في لحظة بدأ فيها هذا البطل ناجحاً في كلّ الإختبارات التي مرّ بها. فقد أصبح يعقوب غنيّاً وأسّس أسرة كبيرة وأصبح معروفاً في محيطه بالنّسبة للابان. ولم يكن باقياً أمامه سوى العودة لأرضه. وفي نفس هذه اللحظة بدأ كل شئ مهدداً بسبب الهجوم الإلهي المُباغت.

خَذَهُمْ وَأَجَازَهُمُ الْوَادِيَ، وَأَجَازَ مَا كَانَ لَهُ. فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ.  وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: «أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ». فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ.  فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ فَنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخْذِهِ.

لِذلِكَ لاَ يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِرْقَ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخِذِ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، لأَنَّهُ ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِ يَعْقُوبَ عَلَى عِرْقِ النَّسَا .(تك 23:32-32)

وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ أَنَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَهُ.  فَأَخَذَتْ صَفُّورَةُ صَوَّانَةً وَقَطَعَتْ غُرْلَةَ ابْنِهَا وَمَسَّتْ رِجْلَيْهِ. [28] فَقَالَتْ: «إِنَّكَ عَرِيسُ دَمٍ لِي». فَانْفَكَّ عَنْهُ. حِينَئِذٍ قَالَتْ: «عَرِيسُ دَمٍ[29] مِنْ أَجْلِ الْخِتَانِ». (خر24:4-26)

جاءت ضربة موسي بعد الرواية الطويلة عن دعوته، حيث أعلن يهوه نفسه كمن سوف يكون مع موسى وشعبه (خر 1:3-22). في نفس الوقت قام الله بتفنيد كل الإعتراضات التي ساقها موسى للتحلّل من إرساليته (خر1:4-18) يمكن للقارئ في النهاية أن يُطلق زفرة ارتياح، فالحريّة الموعود بها، يمكن أخيراً أن تتحقّق، ولكن في نفس اللحظة انقلبت كل الأمور رأساً على عَقِب بطريقة قاسية لم يكن لها سابقة. فالله نفسه أراد قتل النبيّ والمُحرّر الذي قام هو باختياره. والتوازيات بين (تكوين 23:32-32) و(خروج 24:4-26) واضحة:

 

  • القصتان تنتهيان بتغيير يطرأ على البطلين، تغيّر حالة يعقوب يشير إليها اسمه (يعقوب أصبح إسرائيل)، وتغير حالة موسى يشير إليه الختان.
  • في الحالتين يؤخذ البطل خلال رحلة عودته إلى مسقط رأسه. يعقوب نحو فلسطين وموسى نحو مصر.
  • الهجومان حدثا أثناء الليل.
  • في تكوين 32 المُهاجم لمس فخذ يعقوب. وفي خروج 4 تلمس صفورة رجلي موسي.
  • الهجومان تتبعهما مقابلة (نجد الفعل pagash – يقابل – في تكوين 32:18 وخر 27:4) تدور مع الأخ بأسلوب في منتهى الإيجابيّة. ففي كلتا القصتين إتّضح أنّ الصّراع مع الله كان مقدمة لعلاقة متوافقة بين البشر.

 

إذا لقد إعتمد كاتب (خروج 24:4) وما يتبعه كثيراً على (تكوين 32). حيث تحوّلت معه إلى منحى أكثر قوّة وقسوة. فمنذ البداية يظهر المُهاجم على أنّه يهوه برغبة واضحة في القتل. لذلك فليس من المُستغرب أن الرابيين وآباء الكنيسة لم يستريحوا كثيراً لهذه القصّة. لقد وجدوا أنفسهم مدفوعين لإيجاد ألف سبب وسبب للقول بأنّ يعقوب وموسى كانا يستحقان الهجوم الإلهي. وفجأة تحوّل الله من إله قاس إلى إله يهذّب.

فبالنسبة ليعقوب كان التقدير بأن الله أراد أن يقوّمه بسبب انحرافاته الكثيرة. أما بالنسبة لموسى [30]. فقد ساد الإعتقاد بأنّه أهمل في إجراء الختان لإبنه. إلاّ أنّ النّصوص محلّ الدراسة لا تقدّم أدنى إشارة إلى خطيّة تستحق إثارة الغضب الإلهي. وجد المفسرون المعاصرون رأياً بشأن أصل هذه النّصوص: الرأي هو أن هذه النصوص تُعدّ نصوصاً بالية وان الإله الذي يظهر فيها ليس إلا شيطاناً أفرزته الخرافات الوثنية وأنه ليس إله الشعب العبريّ. هذا الادعاء لا يحلّ شيئاً في حقيقة الأمر. فما هي الأسباب التي يمكن أن تدعو كُتّاب الوحي إلى إلصاق شيطان ما بإله العهد القديم؟ بالإضافة إلى ذلك يمكننا بكل سهولة إثبات أن (تكوين 32) و (خروج 24  26) إنما هي نصوص تعود بالحريّ الى حقبة أكثر معاصرة.  وكما أشرنا سابقاً. قام الهجوم الإلهي بتغيير الشخصيتين الرئيسيتين. دعونا نتحوّل أولا نحو يعقوب. فقد تغيّر اسمه ليصبح إسرائيل وهو اسم فسّره النصّ على كونه معناه : لقد جاهد مع الله _( إيل )[31]. يمكننا تقريباً القول بأنّ القصّة تُوظّف لخدمة معنى إسم الشّعب الذي إتخذه في الجد الأكبر له. هذا التغيير في الاسم يعكس بدوره البحث عن هوية جديدة. فالهوية الآبائية القبليّة أصبحت عُرضة للشكّ ويتم إحلالها بهويّة أخرى هي هوية شعب الله التي تنتظر تعريفًا لها.

موسى كذلك تغير حاله وهذا بالنسبة للختان. وما يجب ملاحظته على وجه الخصوص هو أنّه تم إنقاذ حياته من الضربة الإلهية بسبب تدخّل زوجته صفورة ففي (خروج 24:426) كانت هي الشخص الوحيد الذي ذُكر اسمه. فقد كانت المقابل ليهوه. فبعد (خروج 15:1-22) “فرعون والقابلتان الحكيمتان” و (خروج 2:1-10) “إنقاذ موسى بواسطة ابنة فرعون” نجد أنفسنا أمام النصّ الثالث من سفر الخروج الذي يظهر فيه دور المرأة. ويتعلّق الأمر مجدداً بامرأة غريبة مديانيّة عربيّة بشكل ما وزوجة لموسى. في حقبة العودة من السّبي كانت مثل هذه الزيجات تُمثّل مُشكلة ويشهد سفري عزرا ونحميا أن الاتجاه المحافظ الوليد، والذي كان يمثله على وجه الخصوص نسبة من قدامى المسبيين، كان قد وضع تصوراً لهويّة يهوديّة ما بعد السّبي انطلاقا من اتجاه إقصائي قاس، هذه الاقصائيّة تجد التعبير عنها بوجه خاص في نقض الزواج بنساء غريبات والذي فرضه نحميا وعزرا (نح  23:13-27، عز 10) واستبعاد الغرباء من الأعياد مثل الفصح (عز 19:6-22، نح 43:12) لكن لم يشترك الجميع في ذلك الإتجاه المتشدد.

يأتي نصّ (خروج 24:4-26) في خضمّ هذه المعركة ليروي كيف أن صفورة غير اليهوديّة سوف تنتمي لشعب موسى. ليس فقط بمجرد الزّواج، بل بالدم. فالقصة في واقع الأمر تحدث في الطريق الذي كان يقود أسرة صفورة إلى شعب موسى. لكن قبل الوصول كان ينبغي عليها أن تكون جزءاً أصيلاً من هذا الشعب. وقد نجحت صفورة بنفسها في تحقيق هذا الاندماج من خلال مواجهتها مع يهوه، فهل كان يهوه هنا يُمثّل إله “المندمجين” في أورشليم؟ بهذا السّلوك الرمزي الذي قامت به إذ مسّت رجليّ موسى بالدّم فإنها قد اتّحدت به اتّحاداً زوجيّاً جديداً وحميماً بامتياز، وتشير حقيقة أن الطفل لم يكن مختتناً إلاّ أنّ الأم والابن لم يكونا جزءاً من اسرائيل، ومن خلال تصرّف الأم أمكن لهذا الاندماج أن يتحقّق. وقد كان إعلان صفورة في (خر25:4) ” إنك عريس دم لي ” بمثابة تأكيد لهذه العلاقة الجديدة. فالرابطة التي توحّد زوجين تُعدّ أقوى من كل الإعتبارات الإجتماعية أو العرقية أو الدينية.

إلاّ أنّ الأمر لا يتعلق فقط باندماج الأم والابن. فلا يجب أن ننسى أن صفورة هي التي أنقذت موسى من الضربة الإلهيّة بأن قامت بختان ابنها. بالنسبة للقارئ “المحافظ” يمكن أن تمثّل حالة موسى إشكاليّة. فالمشكلة اللاهوتيّة كانت كالتّالي: لكونه يهوديّاً مصريّاً.  فإنّ موسى كان دون شكّ مختتناً لكن ليس بحسب الطقس “المحافظ”. هل كان ذلك هو السبب وراء هجوم يهوه؟   لا يذكر لنا النصّ شيئاً في ذلك. إلا أنّه يقرّر أنه نتيجة للطّقس الذي قامت به صفورة ترك يهوه موسى في سلام. كان هذا الطّقس إذاً بمثابة ختان رمزي يبيّن صلاحية ختان موسى.

لنلاحظ كذلك الحقيقة المدهشة في أن امرأة هي التي تقوم بالختان. وأكثر من ذلك أنها امرأة أجنبيّة تحطّم تابوهاً مزدوجاً. فهي تقوم بممارسة كانت قاصرة على الوطنيين وتجاسرت على مواجهة إله إسرائيل. وعندما مارست صفورة الختان (خروج 4: 25) لانجد اللفظة الفنية (يختن) الدّارجة لكن نفس الفعل “يقطع” التي كانت تستخدم في العبرية للتعبير عن إقامة عهد، وفي (تكوين 17) حيث الحديث عن العهد مع إبراهيم كانت علامة العهد هي الختان. هذا العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم “إتّسع بواسطة امرأة ليشمل كل أولئك الذين يبغون الانضمام لشعب يهوه”.

القصتان الواردتان في (تكوين 32) و (خروج 4) جزء من الملاحم الوطنيّة الكبيرة للشّعب العبريّ. الملحمة الآبائية وملحمة الخروج من مصر. مثل هذه القصص مُعرّضة دائماً لخطر قراءتها وتفسيرها بنظرة استعلائيّة. وما حدث ليعقوب وموسى من جانب الله أتى ليكسر الخطابات الجامدة التي تظن امتلاك الحقيقة المطلقة عن الله والبشر.

إلاّ أنّه يبقى أمر أن توجُّه الله يبدو قاسياً ويُستعصى على كل محاولة للشّرح. فيهوه الذي يبغي مثل ذاك الذي قام بدعوته لخدمته يمثّل أمراً غير مفهوم. علينا أن نتجنّب ” إبتذال” هذا الأمر بتفسيرات متسرّعة على شاكلة “ليس من المُستغرَب كتابيّاً أن يضرب الله خادمه، فهذا إظهار لمحبته الغيورة”[32]. على العكس من ذلك، من كتابات العهد القديم في حقبة ما بعد السّبي وخاصة في سفر أيوب.

في خطابنا اللاهوتيّ، ينبغي مقاومة الميل لإنكار الجانب غير المفهوم من إله الكتاب المُقدّس، وتذكّرنا النّصوص التي شرحناها توّاً بهذا الأمر. على نفس المِنوال، تُعتبر المسيحيّة غير مفهومة فيما يتعلق بعار الصّليب، فصرخة المرنم في (مزمور 22):” إلهي إلهي لماذا تركتني؟” على لسان يسوع المذبوح على الصّليب تنهي كل حدود لخطاب لاهوتي “منطقي”.

 

قسوة الله أم قسوة البشر؟

هل الله إله قاسٍ؟ هل يُواجه الإنسان كخصم له؟ تقودنا نماذج القصص الأربع التي قمنا بدراستها دراسةً موجزة إلى الإستنتاج التالي: يتعلق الأمر بقصص كُتبت في سياق من الممارسات الإنسانيّة الوحشيّة، إن لم تكن قاتلة: توجّهات أصوليّة وذبائح من الأطفال، والسلوك الإلهيّ الذي يبدو لنا اليوم قاسياً هو الذي طرح للنقاش أم قسوة الإنسان، بمعني آخر، إن هذه النصوص تُعالج في المقام الأول قسوة البشر وليس قسوة الله. لذا يمكننا أن نتساءل حول معرفة ما إذا كانت القسوة الإلهية كانت ببساطة نتيجة إسقاط للقسوة الإنسانيّة على الله. والإجابة هنا ستكون إجابة نفسية مؤكدة.

 

إن غالبية النصوص الدينية الكبرى تحوي نصوصاً يصبّ فيها الله جام غضبه على الإنسان، وغالباً دونما سبب ظاهر، هذه النصوص تُذكّر الإنسان بهشاشة وجوده وكذلك بهشاشة قناعاته اللاهوتيّة. فحيثما يظهر الله كإله غامض. بل وقاس، لا يبقى أمام المؤمن سوى حلّ واحد، أن يلتحق بمدرسة “أيوب” ففي نفس اللحظة التي رفض فيها القسوة الإلهيّة بجرأة يُحسد عليها. لم يجد له ملاذاً سوى أن يصرخ قائلاً:” أما انا فقد علمت أن وليي حي والآخر على الارض يقوم” (اي 19: 25) وهكذا لاذ بالله لمواجهة الله.

 ________________________

[21] Dans “Der Streit der FakutÖten. cité d” aprés T.VEIJOLA. “Das Opfer des

[22] (22) Voir sa satire “Le manque d, humour du Pére des croyants” facilement accessible dans B. Sarrazin, La Bible parodiée, Paris, 1993, pp.110-111.

[23] (23) Cité d’aprés A. SEGGAL, Abraham.  Enquếte sur un patriarche, Paris, 1995, p. 412

[24] (24) Cf. O.H. Steck, “1st Gott grausam/” dt la reprise de ses remarques chez R. Martin – Achard, Abraham sacrifant.  De L’épreuve de Moriya a la nuit d˃Auschwitz, Aubonne, 1998, pp. 59-60.

[25] Le sacrifice interdit, Freud et La Bible, Paris, 1986, p. 197.

[26]   هذه إشكاليّة جعلت M. Balmary يستبعد كل بًعد تاريخي من تفسيره للنّصوص الكتابيّة، مثال ملاحظات ذات الصلة ب Dominique Stein “وايضاً تحليل نفسي”، Lectures psychanalyitqueś de la Bible, Paris, 1985

[27] في هذا الموضوع يوجد مقال رائع A. de PURY, “Le Dieu qui vient en adversaire De quelques differénces a propos de la perception de Di dans L’Ancien Testament”.  dans R. KUNTZMaNN (éd) Ce Dieu qui vient.  Mélanges offerts a Bernard Renaud, Lectio Divina 159, Paris, 1955, oo.45-67.

[28] تعبير مخفف للأعضاء التناسلية.

[29] جذر الكلمة يدل على علاقة ناتجة عن زواج (زوج – صهر – زوج أم) في اللغة العربية الفعل يعني “مختون”

[30] الذي كان بلا شكّ سابقاً في الظروف التي يقوم عليها انظر تكوين 32.  ملاحظة يعقوب بأثر رجعي “رأيت الله وجهاً لوجه ونجّيت نفسي”

[31] وهو في واقع الامر ليس المعنى الحقيقي لإسم إسرائيل الذي هو بالأحرى الله يملك او الله يُحارِب

[32] A. L ACOCQUE, Le devenir de Dieu, Paris, 1967, p 151.