إلحادالردود على الشبهات

المسيحية والمعقولية .. تيموثي كلر

المسيحية والمعقولية.. تيموثي كلر

المسيحية والمعقولية .. تيموثي كلر

المسيحية والمعقولية .. تيموثي كلر
المسيحية والمعقولية .. تيموثي كلر

هلم نتحاجج..

إشعياء 1: 18

الاستراحة فترة تفصل بين رحلة وأخرى، أو مهمة وتاليتها. وهذا هو موضعنا لآن. ففي أساس جميع الشكوك بشأن المسيحية معتقدات بديلة تتمثل في افتراضات تتعذر برهنتها بشأن طبية الأمور. وحتى الآن نظرت في المعتقدات الكامنة في أساس أكبر سبعة اعتراضات أو شكوك تساور أهل الحضارة الغربية من جهة الإيمان المسيحي. ومع احترامي لقسط كبير من التعليل العقلاني وراءها، فأنا في نهاية المطاف لا أعتقد أن أياً منها يجعل حق المسيحية غير معقول، أو حتى غير محتمل. إنما ينبغي لنا أن نقوم برحلة أخرى. فأن نحاج بعدم وجود أسباب كافية لإنكار المسيحية هو شيء، أما أن نحاج بوجود أسباب كافية للإيمان بها فشيء آخر. وهذا هو ما سأحاول القيام به في الجزء الباقي من هذا الكتاب.

ولكن قد يسأل سائل: “مهلاً، أنت تنوي أن تقدم لنا أسساً كافية للإيمان بالمسيحية! فكيف تعرف المسيحية؟ وكيف تعرف الصفة كافية”؟ فلننظر في هذين السؤالين على التوالي.

أية مسيحية؟

من الخارج يمكن أن تبدو الكنائس والطرائق المسيحية المختلفة متباينة إلى أبعد الحدود، شأنها شأن الحال في معظم الأديان المتمايزة تقريباً. ويعود سبب ذلك جزئياً إلى كون خدمات العبادة العامة تبدو متباينة غاية في التباين. كما يعود أيضاً، حسبما قلت في الفصل الثالث، إلى كون المسيحية الدين الأكثر انتشاراً بين حضارات العالم ومناطقه. ولذلك أضفي عليها عدد ضخم من الأشكال الحضارية المتنوعة. ويتمثل سبب آخر لكون المسيحيين يبدون كثيري التباين بعضهم عن بعض في الانشقاقات اللاهوتية الكبيرة

 التي حصلت على مر القرون. وقد كان أول انشقاق كبير بين الروم الشرقيين وكنيسة روما الغربية في القرن الحادي عشر. وتعرف الجماعتان اليوم بالكنائس الأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية الرومانية. أما ثاني انشقاق كبير فكان داخل الكنيسة الغربية، بين الكاثوليكيين والبروتستانتية.

من شأن جميع المسيحيين الذين ينظرون بعين الجدية إلى لاحق والعقيدة أن يتفقوا على اعتبار هذه الفروق بين الكنائس بالغة الشأن والدلالة. فهي تحدث اختلافاً بارزاً في كيفية اعتناق المرء لعقيدته الايمانية وممارسته لها.غير أن جميع المسيحيين، الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، يوافقون معاً على إقرارات الإيمان الرئيسية في السنوات الألف الأولى من تاريخ الكنيسة، كقانون الايمان الرسولي، والنيقوي، والخلقيدوني، والأثناسيوسي.

ففي إقرارات الإيمان هذه تبسط النظرة المسيحية الجوهرية إلى الحقيقة. وهي تشتمل على التعبير الكلاسيكي العريق عن المفهوم المسيحي لله بصفته ثلاثة في واحد. والاعتقاد بالثالوث يوجد رؤية إلى الكون مختلفة بصورة أساسية عن رؤية القائلين بتعدد الآلهة، والموحدين المنكرين للثالوث، والملحدين، على ما سأبين في الفصل الثالث عشر. وتشتمل الإقرارت أيضاً على تصريح قوي بلاهوت يسوع المسيح وناسوته الكاملين. وعليه، فإن المسيحين لا ينظرون إلى السيد المسيح

باعتباره معلما او نبياً إضافياً، بل ينظرون إليه بصفته مخلص العالم. وتعاليم من هذا النوع تجعل المسيحيين يشبهون بعضهم بعضاً أكثر بكثير مما يختلفون بعضهم عن بعض.

فما تعريف المسيحية؟ في سبيل اهدافنا، سأعرف المسيحية بأنها مجمل المؤمنين الذين يوافقون على هذه الإقرارت الإيمانية الجامعة. فإنهم يؤمنون بأن الإله الواحد المثلث الأقانيم قد خلق الكون، وأن البشرية قد سقطت في الخطية والشر، وأن الله قد رجع لإنقاذنا في شخص يسوع المسيح، وأن السيد المسيح بموته وقيامته قد أتم لنا خلاصنا حتى يمكن أن يقبلنا الله بالنعمة، وأنه قد أنشأ كنيسته- جماعته أو شعبه-باعتبارها الأداة التي بواسطتها يواصل مهمته الخاصة بالإنقاذ والمصالحة والخلاص، وأنه في آخر الزمان سيرجع كي يجدد السموات والأرض، مزيلاً من العالم كل شر وظلم وخطية وموت.

إن جميع المسيحيين يؤمنون بهذا كله، ولكن ليس من مسيحيين يؤمنون بهذا فقط. فما إن تسأل: ” كيف تتصرف الكنيسة بوصفها أداة لأداء عمل المسيح في العالم؟” و” كيف يتم موت السيد المسيح خلاصنا؟” وكيف يقبلنا الله بالنعمة؟” حتى يعطيك الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت (الإنجيليون) أجوبة مختلفة. وعلى الرغم من

 تصريحات الكثيرين بأنهم مسيحيون لا طائفيون، لا يوجد من تنطبق عليهم هذه الصفة بكامل معناها. فلا بد لكال امرئ من أن يجيب عن أسئلة “كيف” هذه لكي يعيش حياة مسيحية، وهذه الأجوبة تضعك في الحال ضمن أحد التراثات وإحدى الطوائف وسواهما.

من المهم أن يعي القراء هذا الأمر: أني أدافع في هذا الكتاب عن حق المسيحية على وجه العموم، لا عن سلك معين فيها. ولابد أن يلاحظ بعض القراء المشيخيين الفطناء أني أسكت عن بعض من معتقداتي اللاهوتية الخاصة لمصلحة قيامي بكل ما في وسعي لتمثيل المسيحيين أجمعين. ولكن حين أتطرق إلى وصف الإنجيل المسيحي في ما يتعلق بالخطية والنعمة، أفعل ذلك حتماً بصفتي مسيحياً إنجيلياً، ولا أردد أصداء معتقدات من شأن مؤلف كاثوليكي مثلاً أن يرددها.

أية معقولية؟

أريد أن أبين وجود أسباب كافية للإيمان بالمسيحية إن أشخاصاً بارزين في الغرب بين منكري الإيمان المسيحي اليوم- أمثال ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins) ودانيال دنت (Daniel Dannett) وسام هرس (Sam Harris) وكريستوفر هتشنز (Christopher Hitchens) يصرون على عدم وجود أسباب كافية تعلل وجود الله. فيقول دوكنز مثلاً إن دعوى وجود الله عي فرضية علمية ينبغي أن تخضع للبرهنة العقلية[1]. فهو وزملاؤه الشكاكون يريدون برهنة منطقية أو تجريبية على وجود الله تكون محكمة ومتماسكة، ومن ثم تقنع الجميع تقريباً. وهم لن يؤمنوا بالله قبل الحصول عليها.

فهل من خطب أو خلل في ذلك؟ أجل حسبما أعتقد. فإن هؤلاء الكتاب يقيمون البراهين المسيحية بواسطة ما سماه بعضهم “عقلانية قوية” (Strong Rationalism)[2]. وقد أرسى أنصار هذه ما سمي “مبدأ الاثبات” (Verification principal)، أيأن أحداً لا ينبغي أن يعتنق أي افتراض إلا إذا أمكنت برهنته عقلياً بالمنطق، أو تجريبياً بالاختبار الحسي[3]. فما المقصود “بالبرهنة “؟

إن البرهان، حسب هذا الرأي، هو تقديم حجة قوية جداً بحيث لا يتوافر أي سبب لعدم تصديقها لدى أي شخص تعمل قدراه العقلية بطريقة سليمة. فالملحدون واللاأدريون يطلبون “برهاناً ” من هذا النوع، غير أنهم ليسوا منفردين في التمسك بالمعقولية القوية. ويؤكد مسيحيون كثيرون أن حججهم المؤيدة للإيمان قوية جداً بحيث إن جميع الذين يرفضونها أنما يقفلون أذهانهم حيال الحق بداعي الخوف أو العناد[4].

على الرغم من جميع لا كتب التي تدعو المسيحيين إلى تقديم البراهين على معتقداتهم. فإنك لن تجد الفلاسفة يفعلون ذلك، ولا حتى أكثرهم إلحاداً. فالغالبية العظمى ترى أن المعقولية القوية يكاد يستحيل الدفاع عنها[5]. وذلك لأنها، في المقتم الأول، لا يمكن أن ترتقي هي ذاتها إلى مستوى معاييرها الخاصة. فكيف تستطيع أن تبرهن تجريبياً أنه لا ينبغي لأحد أن يؤمن بشيء ما دون برهان تجريبي؟ إنك لا تستطيع ذلك، وهذا يبين أن المسألة في آخر المطاف مسألة إيمان[6]. كذلك تفترض المعقولية القوية أيضاً انه يمكن إحراز “إطلالة من لا مكان”، أي موقف موضوعية بشكل كامل تقريباً ولكن، جميع الفلاسفة اليوم يتفقون فعلياً على أن ذلك مستحيل. فنحن نقبل على كل تقييم فردي بكل نوع من الاختبارات والمعتقدات السابقة التي تؤثر تأثيراً قوياً في تفكيرنا وفي طريقة قيام عقولنا بعملها. وعليه، فليس من الانصاف أن نطالب بحجة يضطر جميع الأشخاص العاقلين لأن ينحنوا لها.

إن الفيلسوف توماس ناجل (Thomas Nagel) ملحد، ولكنه في كتابه الكلمة الفصل (The Last Word) يعترف بأنه لا يستطيع أن يقبل على مسألة إله بأية طريقة توصف بأنها منعزلة أو غير متحيزة. فهو يقر بأن لديه “خوف الدين” ويشك في أن أحداً يستطيع أن يتطرق إلى هذه القضية بغير دوافع قوية جداً إلى رؤية الحجج تنحاز إلى جهة أو أخرى.

إني أتحدث بشأن… خوف الدين في ذاته. وأنا أتكلم انطلاقاً كم خبرة شخصية لكوني عرضة لهذا الخوف على نحو قوي، أريد للإلحاد أن يكون صحيحاً…ليس أني لا أؤمن بالله فحسب وآمل على نحو طبيعي أن أكون على حق في اعتقادي، بل إني أرجو ألا يكون الله موجوداً! لست أريد أن يكون الكون على ذلك المنوال…. ويساورني الفضول بشأن وجود أيس انسان لا مبال حقاً بكون الله موجوداً أو غير موجود- أي إنسان لا يريد على وجه الخصوص أن يكون أي الجوابين صحيحاً، مهما كان اعتقاده الشخصي الفعلي في المسألة[7].

تصور قاضياً تعرض أمامه دعوى أحد فريقيها شركة له فيها استثمار مالي ضخم.

فلأن لديه رغبة شديدة في رؤية الدعوى تجريفي مجرى معين، يستعفي من الجلوس للنظر فيها. فإن ناجل يقول إننا جميعاً مثل هذا القاضي فيما يخص مسألة الله. إذ على أساس اختباراتنا المتعلقة بالدين، ومعتقداتنا والتزاماتنا الأخرى، وكيفية عيشنا لحياتنا، نحن جميعاً مهتمون جداً برؤية الدعوى المختصة بالله تجري في سبيل أو آخر. إنما المشكلة تكمن في كوننا لا نستطيع أن نستعفي. فلأن ناجل يرفض المعقولية القوية، فقد كان له – على الرغم من شكوكيته- احترام جزيل تجاه الايمان والدين. وهو على نحو مبين، من حيث اللهجة والمنطلق، عن كتاب مثل داوكنز وهرس.

ثم إن عدم القدرة على الدفاع فلسفياً عن “المعقولية القوية ” هو السبب الذي من أجله ما تزال كتب دوكنز ودنت تلقى معاملة خشنة على نحو مدهش في المجلات الثقافية المحترمة. فمثلاً، كتب العالم الماركسي تري إيغلتون (Terry Eagleton) مراجعة قاسية نقدية لكتاب ريتشارد دوكنز “وهم الله” في مجلة لندن ريفيو أف بوكس (London Review Of Books). وقد انتقد إيغلتون كلتا فكرتي دوكنز الساذجتين، أي أن الايمان لا ينطوي على أي مكون عقلاني وأن العقل غير مؤسس إلى حد بعيد على الإيمان.

 يحسب دوكنز أن كل إيمان هو إيمان أعمى، وأن أولاد المسيحيين والمسلمين يربون حتى يؤمنوا دون تساؤل أو شك. ولكن حتى رجال الدين المتزمتون الذين انهالوا علي بآرائهم في المدرسة الثانوية لم يفكروا هكذا. فبالنسبة إلى المسيحية الأساسية، ما يزال المنطق والبرهان والشك الصادق تؤكد كلها دوراً لا يتجزأ في العقيدة الإيمانية…. إن العقل من غير ريب، لا يسير الطريق كلها عند المؤمنين (لا يفهم تماماً من المؤمنين)، ولكنه لا يفعل ذلك أيضا عند أغلب الأشخاص اللادينيين المتمدنين الحساسين. حتى ريتشارد دوكنز نفسه يسلك بالإيمان أكثر منه بالعقل. فنحن نعتنق معتقدات كثيرة ليس لها تسويغ عقلاني معصوم، غير أن قبولها- رغم ذلك- معقول[8].

وإن رفضنا المعقولية القوية، فهل نعلق عندئذ في النسبية، حيث السبيل على الحكم على مجموعة من المعتقدات دون الأخرى؟ كلا البتة. وقد بينت في الفصلين الثاني والثالث أن المحافظة على النسبية الكاملة أمر مستحيل[9]. أما الأسلوب الذي سأنتهجه في م ا تبقى من هذا الكتاب فيسمى “المعقولية النقدية” (Critical Rationality)[10] وهي تفترض وجود بعض الحجج التي سيجدها كثيرون من ذوي التفكير المنطقي – أو حتى معظمهم – مقنعة على الرغم من عم وجود حجة واحدة تكون مقنعة لكل إنسان دونما اعتبار لوجهة النظر. كذلك تفترض أن بعض أنظمة الايمان أكثر معقولية من غيرها، ولكن جميع الحجج يمكن تجنبها منطقياً في الأخير. ذلك ان في وسعك دائماً أن تجد داعياً إلى التملص منها

لا يكون مجرد انحياز او عناد. غير أن ذلك لا يعني أننا لا نستطيع أن نقيم المعتقدات بل فقط أنه لا ينبغي لنا أن نتوقع برهاناً حاسماً، ومن عدم الإنصاف أن نطلبه. فحتى العلماء لا يسلكون هذا السبيل..

إن العلماء معارضون جداً للقول بصورة جازمة إن نظرية ما قد ” تبرهنت”. حتى ريتشارد دوكنز يعترف بان نظرية داروين تتعذر برهنتها على نحو نهائي، وبأنه قد تبرز إلى النور حقائق جديدة تضطر أخلاقنا إلى التخلي عن الداروينية، أو إلى تعديلها بحيث لا تكاد تعرف”[11]. ولكن ذلك لا يعني أن ليس في وسع العلم أن يفحص النظريات ويجد بعضاً منها أسهل إثباتاً من سواها بكثير بواسطة التجريب. وتعد نظرية ما مثبتة تجريبياً إذا كانت تنظم البينات وتفسر الظواهر أفضل مما تفعل ذلك أية نظرية بديلة يمكن تصورها. أي إذا أفضت بنا، من طريق الاختيار، إلى أن نتوقع بدقة حوادث كثيرة ومتنوعة أفضل من أي تفسير منافس للمعطيات ذاتها، فهي عندئذ تكون مقبولة، وإن لم “تتبرهن” (بالمعنى المعقولي القوي).

وفي الكتاب “أهنا لك إله؟” (Is There a God) يَحاج الفيلسوف الأكسفوردي ريتشارد سوينبور، على نحو فعال بأن الإيمان بالله يمكن أن يفحص ويسوغ بالطريقة نفسها (إنما لا يبرهن)[12]. فهو يقول عن الرأي القائل بوجود الله يفضي بنا إلى أن نتوقع الأمور التي نلاحظها: أن هنالك كوناً بالفعل، وأن قوانين علمية تشتغل في داخله، وأنه يضم كائنات بشرية ذات وعي وحس أخلاقي يتعذر محوه. وهو يحاج بأن النظرية القائلة بعدم وجود الله لا تفضي بنا إلى أن نتوقع أياً من هذه الأمور.

وعليه، فإن الايمان بالله يقدم ملاءمة تجريبية فضلى، إذ يشرح ويعلل ما نراه أفضل من التفسير البديل للأمور. ما من نظرة في الله يمكن أن تبرهن، ولكن ذلك لا يعني أن ليس في وسعنا ان نمحص ونوزن أسس مختلف المعتقدات الدينية لنجد أن بعضها، أو حتى أحدها، أكثر معقولية من الأخرى.

الله الروائي

إنما لا أريد أن يعتقد أحد أني أتبنى ” المعقولية النقدية” كما لو كانت نوعاً من ثاني أفضل شيء.فإن كان إله الكتاب المقدس موجوداً بالفعل، تكون ” المعقولية النقدية” تماماً هي الطريقة التي بها ينبغي أن تقارب مسألة كينونته ووجوده.

لما عاد رائد فضاء روسي من الفضاء وقال إنه لم يجد الله، رد سي. أس. لويس بأن ذلك مثل صعود هاملت إلى علية قصيرة للبحث عن شكسبير. فإن كان الله موجوداً، فهو لن يكون غرضاً آخر من جملة أغراض الكون يمكن أن يوضع في مختبر ويحلل بالأساليب التجريبية. إنه يتواصل معنا بالطريقة التي بها يتواصل الروائي مع الأشخاص الذين تشتمل عليهم مسرحيته. ففي مقدورنا (نحن الأشخاص) أن نعرف مقداراً لا بأس به عن الروائي، ولكن فقط إلى الدرجة التي بها يختار الكاتب أن يضمن الرواية معلومات عن ذاته. ولذلك، فليس في وسعنا بأية حال أن ” نبرهن” وجود الله كما لو كان غرضاً س داخل عالمنا كلياً، مثل الأوكسجين والهيدروجين أو جزيرة في المحيط الهادئ.

 ويعطينا لويس صورة بيانية أخرى لمعرفة الحقيقة بشأن الله إذ يكتب: “إني أؤمن بالله مثلما أصدق أن الشمس قد أشرقت ليس فقط لأني أراها، بل لأني بها أرى كل شيء آخر”[13]. تصور النظر إلى الشمس مباشرة لكي تتعلم عنها. إنك لا تستطيع أن تفعل ذلك فهي ستحرق كشبكيتي عينيك تماماً وتدمر قدرتك على استيعابها. ولكن طريقة أفضل بكثير للتعلم عن وجود الشمس وقوتها ونوعيتها تتمثل في النظر إلى العالم الذي تريك إياه، كي تعرف كيف تدعم كل ما تراه وتمكنك من رؤيته.

فهنا إذاً لنا سبيل للتقدم. إذ لا ينبغي لنا أن نحاول” النظر إلى داخل الشمس”، إن جاز التعبير، مطالبين ببراهين لا تدحض عن الله.

إنما ينبغي لنا بالأحرى أن “ننظر إلى ما ترينا الشمس إياه “. فأي تفسير للكون يحوز “القدرة التعليلية ” الأقوى لإضفاء معنى على ما نراه في العالم وفي ذواتنا؟ لدينا إحساس بأن العالم ليس على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها. ولدينا إحساس بأننا ناقصون كثيراً، وعظماء جداً رغم ذلك. ولدينا توق إلى المحبة والجمال لا يمكن أن يلبيه أي شيء في هذا العالم. ولدينا حاجة ماسة جداً إلى معرفة المعنى والغاية. فأية رؤية إلى الكون تعلل هذه الأمور أفضل تعليل؟

لا يدعي المسيحيون أن إيمانهم يزودهم بالعلم الكلي أو معرفة مطلقة للحقيقة. فالله وحده حائز ذلك. غير أنهم يؤمنون بان التفسير المسيحي للأمور – الخلق والسقوط والفداء والاصلاح الشامل- يضفي على العالم معناه الأكمل. فأطلب إليك أن تتخذ المسيحية كنظارة وتنظر إلى الكون بها. وانظر مقدار القدرة التي تحوزها على تفسير ما تعرفه ونراه..

إن كان إله الكتاب المقدس موجوداً، فهو ليس رجلاً في العلية، بل هو الروائي. وهذا يعني أننا لن نتمكن من أن نجده كما يمكن أن نجد غرضاً مستتراً بواسطة قدرات الاستقصاء التجريبي، بل يجب علينا بالأحرى أن نجد المفاتيح المفضية إلى معرفة حقيقته تلك التي كتبها في صلب الكون وفي داخلنا أيضاً. ولذلك السبب، إن كان الله موجوداً، نتوقع أن نجد أنه يخاطب ملكاتنا العقلية. وإن كنا قد خلقنا ” على صورته” باعتبارنا كائنات شخصية عاقلة، ينبغي أن يوجد شيء من الرنين (وجود التردد نفسه بين شيئين) بين فكره وفكرنا.

ويعني ذلك أيضا أن العقل أو المنطق وحده لن يكون كافياً. فإن الروائي لا يمكن أن يعرف إلا من طريق الإعلان الشخصي وحده.لذا وجب علينا أن نلقي نظرة على ما يقوله الكتاب المقدس عن الله والحالة البشرية.

ولكن الدليل الحاسم على وجود الله، حسب الرأي المسيحي، هو يسوع المسيح نفسه. فغن كان الله موجوداً، فلا بد لنا نحن الأشخاص في مسرحيته من أن نرجو أنه قد ضمن المسرحية بعض المعلومات عن ذاته. غير أن المسيحيين يؤمنون بأنه فعل ما يتخطى إعطاءنا المعلومات. فهو قد كتب ذاته في صلب المسرحية بصفته الشخص الرئيس في التاريخ، حينما ولد يسوع في مذود وقام من بين الأموات.

وهو الشخص الذي ينبغي أن نتعاطى معه.

[1] Dawkins, The God Delusion, p. 31 ff.

[2] For a non-technical introduction……

إذا أردت مدخلاً غير تقني إلى الفرق بين المعقولية القوية والمعقولية النقدية راجع

Victor Reppert, C. S. Lewis’s Dangerous Idea (Inter-Varsity, 2003), pp. 30-44.

[3] المقالة المشهورة التي كتبها دبليو كاي كليفورد في هذا الموضوع كان عنوانها “أخلاقيات الايمان”

وفيها قال ” من الخطأ دائماً وفي كل مكان وبالنسبة إلى أي شخص كان أن نصدق أي شيء بناء على بينات [تجريبية] غير وافية”.

  1. J. Ayer’s most well-known text was Language, Truth, and Logic.

[4] See Reppert for examples.

[5] يبين كتاب ماكإنتابر ” عدالة من؟ أية معقولية؟” على نحو استفزازي ومقنع أن في الغرب وحده بضعة “تقاليد “مختلفة للعقلانية: الأرسطوطاليسي، الأوغسطيني التوماني (نسبة على توما الإكويني). واقعية الفطرة السليمة وفي كل من هذه التقاليد ينشط المنطق والعقل في إطار افتراضات أساسية مختلفة بشأن أمور مثل الطبيعة البشرية، وعلاقة العقل بالعاطفة والإرادة وعلاقة الفرد بالمحيط والتقليد الاجتماعيين وهلم جراً. فالحجة والعقلانية “تعرف بأنها الثبات أو الاتساق داخل مجمل مجموعة العقائد في تقليد ما. وربما وجد كثير من التداخل بين هذه العقلانيات، وقد تعد بعض الحجج مقنعة في غير واحد من هذه التقاليد. ولكن من المشكوك فيه أن هنالك أية حجة بشأن كينونة الله يمكن أن تكون مقنعة لكل فرد في كل تقليد عقلاني.

[6] من أفضل الدراسات النقدية عن رأي التنوير ” في المعقولية القوية هي المراجع التالية:

Faith and Rationality: on Reason and Belief in God., A. planting, and N. Wolterstroff, eds. (Notre Dame University press, 1983).

دعي الرأي التنويري “التأسيسية ” الكلاسيكية أو الديكارتية وقد لقي نبذا شبه شامل بين الفلاسفة راجع أيضاً:

Nicholas Wolterstorff, Reason Within the Bounds of Religion (Eerdmans, 1984).

[7] Thomas Nagel, The Last Word (oxford University press, 1997), p. 130.

[8] Terry Eagleton, “Lunging, Flailing, Mispunching”: A Review of Richard Dawkins’s The God Delusions in London Review of Books, vol. 28, no. 20, October 19, 2006.

[9] For a sophisticated case, see H. Siegel, Relativism Refuted: A Critique of Contemporary Epistemological Relativism (D. Reidel, 1987).

يصر القائلون بالنسبية على أن الحقيقة “صحيحة فقط في إطار معتقدات المرء الخاصة وأن كل إطار ذو صحة مساوية لجميع الأطر الأخرى، ويقول النسبيون إنه لا يوجد معيار يتخطى الأطر يستطاع التحكيم بين جميع ادعاءات الحقيقة ولكن دعوى النسبيين – كما يبين سيغل- أن جميع الأطر (وليس إطارهم فقط) متساوية هي بحد ذاتها معيار للحقيقة يتخطى الأطر. وبهذه الدعوى ينتقلون إلى خارج إطارهم الخاص، ويقيمون الآخرين بإطارهم الذاتي- الأمر عينه الذين ينكرونه على الآخرين.” وهكذا فإن النسبية لا تستطيع أن تعلن ذاتياً، ولا حتى أن تحسب ذاتها، من دون أن تهزم ذاتها” (صفحة 43).

[10] A readable Treatment of critical rationalism is in Reppert, C. S. Lewis’s Dangerous Idea., p. 36ff.

[11] From a Devil’s Chaplain (Weidenfield and Nicolson,2003), p. 81. Quoted in A. McGrath, The Dawkins Delusion (Inter-Varsity, 2007), p. 100 n16.

[12] “هذه هي البنية الأساسية لحجتي. إن العلماء والمؤرخين والمفتشين يلاحظون المعطيات وينطلقون منها إلى نظرية ما عما يفسر على النحو الأفضل حصول هذه المعطيات.  وفي وسعنا أن نحلل المعايير التي يستخدمونها لبلوغ استنتاج أن نظرية معينة تدعمها المعطيات أكثر مما تدعم نظرية أخرى …وباستعمال تلك المعايير عينها نجد أن الرأي القاتل بوجود الله يفسر كل شيء نلاحظه، لا مجرد سلسلة ضيقة من المعطيات”.

 Richard Swinburne, Is There a God? (Oxford University press, 1996), p. 2.

[13] . C. S. Lewis’s, “Is Theology Poetry?” The Weight of Glory and Other Addresses (Harper Collins, 1980), p. 140.