أبحاث

العلم وأيام الخليقة – د. يوسف يعقوب

العلم وأيام الخليقة – د. يوسف يعقوب

العلم وأيام الخليقة – د. يوسف يعقوب
العلم وأيام الخليقة – د. يوسف يعقوب

العلم وأيام الخليقة – د. يوسف يعقوب

أثارت الإكتشافات العلمية الحديثة عن نشأة الكون وكوكب الأرض جدلاً وسط اللاهوتيين المسيحيين. كيف يمكننا أن نفهم سرد الأصحاحات الأولى لسفر التكوين لقصة الخلق في ظل الإكتشافات العلمية التي تبدو متخالفة معه؟ يجب هنا أن نتذكر أن مثل تلك الأسئلة ليست لها إجابات قاطعة يتفق عليها كل المسيحيين، لكنهم جميعاً يتفقون على مصداقية الكتاب فيما يعنيه. وهنا مركز القضية! ماذا يعني الكتاب المقدس عندما يقول أن الله خلق الأرض في  ٦ أيام؟ هذا السؤال ليس سؤال علمي بحت، بل هو سؤال تفسيري عن معنى ذلك النص. لذلك، يجب أن نفهم أن القضية هنا ليست صراع بين الكتاب المقدس والعلم، بل هي قضية منهج التفسير الذي نتّبعه.

تنقسم الآراء إلى قسميّن أساسيين. الأول يتمسك بحرفية النص اللفظي،“اليوم“ هو  ٢٤ ساعة وبالتالي خلق الله الأرض في أسبوع مثل الأسبوع الذي نعرفه اليوم. هذا الرأي، رغم عدم انتشاره، يحاول أن يضمن ثقة القارئ في صحة الكتاب المقدس. يعتقد مؤيدو هذا الرأي أن المساومة في المعني اللفظي لكلمة “يوم” قد تؤدي بنا إلي الشك في حقائق أكثر أهمية، كقيامة المسيح مثلاً، ولذلك يغلقوا الباب على كل إجتهادات تفسيرية حتى وإن اضطروا أن يسدوا آذانهم لصوت الاكتشافات العلمية الحديثة. يعتمد مؤيدوا هذا الرأي على الواقع المتغير للعلم ونظرياته، لذلك يظنون أنه في يومٍ ما ستظهر نظريات جديدة لتعود لدعم المعنى اللفظي للنص الكتابي.

القسم الآخر يحاول أن يسمح ببعض المرونة في تفسير النص، لا مانع أن نقول أن “اليوم” تعبير رمزي. التعبير الرمزي ليس تعبير خرافي، بل هو يستخدم صورة من واقع خيالي ليعبر عن شئ حقيقي. لنفترض أنني قلت لك: “لقد جئت هنا طائرآً على الطريق الصحراوي ”، بالتأكيد أنا لا أعني أني لدى أجنحة وسافرت مرفراً فوق الطريق الصحراوي (أنا أعرف هذا بفضل العلم الذي عرّفني أن الإنسان لا يملك أجنحة).

لكن هذا لا يعني أن تلك الجملة غير صادقة، قد تكون غير حرفية ولكنها تعبر عن شئ حقيقي جداً، ألا وهي السرعة. نحن نستخدم تلك اللغة بصفة مستمرة وفي مواقف لا حصر لها، لماذا إذن نستثني الكتاب المقدس من ذلك؟ يتمسك مؤيدو هذا الرأي أيضاً بمصداقية الكتاب المقدس، ولكنها تسمح لكُتّابه أن يستخدموا صور بلاغية وحكايات وكنايات ليعبروا عن الواقع الحقيقي العميق الذين يكتبون عنه.

التفسيرات الرمزية كثيرة ومتنوعة. هناك الذي يعطي كلمة يوم مساحة أن تكون حقب زمنية طويلة خلق الله فيها الأرض على مراحل متباعدة (استخدم فيها التطور الطبيعي وتدخل أحياناً خصيصاً ليخلق أشياءً أو كائنات جديدة). وهناك الذي يحاول أن ينظر للنص بصورة أشمل دون التركيز على كلمة يوم في حد ذاتها (هنا يجب أن نلاحظ أن تلك الكلمة تُستخدم بأربعة طرق مختلفة في هذا النص وحده. “يوم” قد تعني النهار، أو الآن، أو الفترة الحالية، أو عندما). يقترح بعض المفسرين أن الصورة التي يعبر عنها النص وكأن الله يبني لنفسه الكون (السماوات والأرض) كالهيكل الذي يسكن فيه مع الإنسان.

يبني الله ذلك الهيكل الكوني في ستة أيام ويسكن في داخله يوم السبت ليستمتع معه الإنسان في داخله، مشبهاً نفسه بالعامل الذي يعمل ستة أيام ليبني بيتاً ويستريح في اليوم السابع (السبت) لكي يستمتع مع أبناءه وبناته في داخل ذلك البيت. رأي آخر يقترح أن النص نص شعري يمكن أن يفهم كالميزان المتوازي. فبدل أن نقرأ النص بتسلل زمني من اليوم الأول للسادس، يمكننا أن نقرأه بالتوازي (اليوم الأول والرابع، الثاني والخامس، الثالث والسادس)، وتلك القراءة تُسهل صعوبات كثيرة تظهر مع القراءة الكلاسيكية (مثل ظهور النور وتتابع الأيام قبل خلق الشمس والقمر).
وهناك تفسيرات أخرى كثيرة.

نريد أن نلفت الانتباه أن ذلك المنهج التفسيري ليس رد فعل حديث لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدما كشف العلم لنا أن الكتاب المقدس ملئ بالخرافات. تاريخ اللاهوت المسيحي ملئ بنماذج مماثلة من لاهوتيين معروفين لم يشعروا بحرج أن يقولوا أن تلك النصوص رمزية وتحتاج إلى تفسير عميق بدون جمود لهدف الدفاع عن مصداقية الكتاب. هؤلاء مثل كلمنت السكندري (تلميذ الرسول بولس) والقديس أغسطينس، وتوما الأكويني، وچون كالڤن وآخرون كثيرون. ميّز هؤلاء بين النصوص التي تبدو بوضوح أنها ترمز إلى واقع أعمق والنصوص التاريخية التي تسرد أحداث حرفية وتاريخية.

لا نستطيع أن نضع تكوين ١-٣ في نفس البوتقة التي نضع فيها إنجيل لوقا مثلاً الذي يحدد في بدايته أنه يريد أن يسجل أحداث تاريخية عن حياة وموت وقيامة يسوع المسيح بالتحقيق مع شهود عيان. الكتاب المقدس هو مجموعة من الكتب المختلفة، لا يمكن أن نفسرهم كلهم بنفس الطريقة.

بدأت هذه المقالة بسؤال. ماذا يعني الكتاب عندما يقول أن الله خلق الأرض في ٦ أيام؟ ولكن لاحظ أني أريد التركيز الآن، ليس على عدد الأيام، بل على الله الذي يخلق. هذا النص لم ينشأ في فراغ، ولكنه نشأ في عالم عَبَد الناس فيه الشمس والقمر والنباتات والحيوانات والبحر، عالم وضع فيه الإنسان نفسه في مكان الله ونصّب نفسه سيداً على الكون. كاتب التكوين يقول أن الله (يهوه) هو الذي خلق هؤلاء كلهم. الموضوع هنا ليس عن كيفية خلق الله للكون، ولكن إعطاء العبادة لمن يستحق العبادة: الله لا المخلوقات، الله لا الإنسان.

المصادر:

Collins, C. John. Genesis 1-4: A Linguistic, Literary, and Theological Commentary. Phillipsburg, NJ: P & R Pub., 2006.

Lennox, John C. Seven Days That Divide the World: The Beginning According to Genesis and Science. Grand Rapids, MI: Zondervan, 2011. 

Walton, John H. The Lost World of Genesis One: Ancient Cosmology and the Origins Debate. Downers Grove, IL: IVP Academic, 2009. 

 

العلم وأيام الخليقة – د. يوسف يعقوب

تقييم المستخدمون: 3.7 ( 1 أصوات)