الردود على الشبهات

الدفاعيات والثقافة المعاصرة من الحداثة وما بعد الحداثة – أليستر ماكجراث (الدفاعيات المجردة)

الدفاعيات والثقافة المعاصرة من الحداثة وما بعد الحداثة

الدفاعيات والثقافة المعاصرة من الحداثة وما بعد الحداثة – أليستر ماكجراث (الدفاعيات المجردة)

عن كتاب: الدفاعيات المجردة لأليستر ماكجراث

 
الدفاعيات والثقافة المعاصرة من الحداثة وما بعد الحداثة - أليستر ماكجراث (الدفاعيات المجردة)
الدفاعيات والثقافة المعاصرة من الحداثة وما بعد الحداثة – أليستر ماكجراث (الدفاعيات المجردة)

الدفاعيات والثقافة المعاصرة من الحداثة وما بعد الحداثة – أليستر ماكجراث (الدفاعيات المجردة)

 

        دائما ما تتم الدفاعيات في إطار ثقافي محدد. فالمرسلون المسيحيون إلى الصين والهند سرعان ما اكتشفوا أن الأساليب الدفاعية التي نجحت في أوروبا الغربية لم تكن فعالة في آسيا. وكان لابد من وضع منهجيات جديدة تتلاءم مع المناخ الثقافي والأنماط الفكرية التي تميز هذه المناطق. وهو ما يعني أن المنهج الدفاعي الذي يأتي بنتائَج عظيمة في إطار ثقافي معين قد يُثبت عدم فاعليته، بل قد يأتي بنتائج عكسية في إطار ثقافي آخر.

الدفاعيات والحداثة:

        عادةً مايُطلق على البيئة الثقافية التي سادت الغرب منذ حوالي سنة 1750 إلى1960مصطلح “الحداثة” “modernity”. وقد قام هذا الفكر على الاعتقاد بشمولية العقل البشري، أي أن هناك عقلاً مشتركًا يشمل جميع الناس والأزمنة، وهو قادر على إدراك أعمق أنظمة العالم. وكان العقل هو المفتاح الذي كشف غوامض الحياة، وكانت الحجة هي أداته في الإقناع. وأصبحت الحجة العقلية هي الأداة الموثوق بها في هذه الحقبة الثقافية. وسرعان ما أدرك العاملون في حقل الدفاعيات المسيحية أهمية هذا التطور. وأصبح الدفاع العقلاني عن الإيمان على درجة عالية من الأهمية.

        وكانت نوعيات الدفاعيات التي صممها الكُتَّاب المسيحيون للتفاعل مع الحداثة تركز على إظهار الأسس المنطقية والعقلانية للإيمان. وتم تأسيس العقائد الصحيحة على فرضيات صحيحة قامت بدورها على قواعد المنطق العقلانية. وهكذا، أصبح يُنظر إلى الدفاعيات، في المقام الأول، باعتبارها حججًا تقوم على المنطق وتُخاطب العقل البشري. وبينما تميزت هذه المنهجيات بالكثير من نقاط القوة، إلا أنها تجاهلت جوانب العلاقاتية والتخيلية والوجودية في الإيمان. وكما أشرنا آنفا “بليز باسكال” عَبَّر عن استيائه من الإفراط في التركيز على العقل. فماذا عن القلب البشري؟ وقد قال إن للقلب منطقه الخاص الذي يقوده للإيمان ولايمكن للعقل إدراكه.

        ومن النتائج الهامة لتأثير العقلانية على الدفاعيات المسيحية التقليل من أهمية كل مايُنظر إليه باعتباره “غير عقلاني” أو “غير منطقي” في الفكر المسيحي، مثل تعليم الثالوث. ولم يدافع عن هذه الفكرة في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر سوى القليل من المدافعين المسيحيين، إيمانًا منهم أنه يضع العقلانية المتشددة التي سادت عصرهم في موقف حرج. ولم يعاد اكتشاف الأهمية اللاهوتية لتعليم الثالوث ولم تُسترد الثقة في أسسه واتساقه المنطقي إلا بعد الحرب العالمية الأولى عندما تَلَقَّت عقلانيةُ عصرِ التنويرِ ضربةً قاسيةً مِن لاعقلانيةِ الحرب العالمية الأولى.

        ومع ذلك، استجابت الدفاعيات المسيحية بوجه عام استجابة جيدة لتحديات العقلانية، ووضعت منهجيات جديدة في الدفاعيات تتفق مع “روح العصر”. وقد افرز هذا العصر بعض الأعمال التي تمثل علامات بارزة على طريق الدفاعيات. فقد ألَّف “إدوارد جون كارنل” Edward John Carnell (1919- 1967) كتابًا يُعَد نموذجًا للدفاع المنطقي الانجيلي[1] عن الإيمان المسيحي.[2] إلا أنه بمرور الوقت أصبحت كثرة استخدام هذه المؤلفات تسبب مشكلة، لسببين:

  1. كل عصر يُوَلِّد شكوكه وتحليلاته وانتقاداته الخاصة بشان الإيمان المسيحي. فالكثير من القضايا التي اعتبرها “كارنل” وغيره من مدافعي هذا العصر قضايا مهمة تبدو اليوم قليلة الأهمية. وقراءة المؤلفات الأقدم في مجال الدفاعيات تشبه بحق الذهاب في رحلة عبر الذاكرة تزينها أسماء الكُتاب والمجادلات التي أصبحت لا تمت بصلة للعصر الحاضر .
  2. الكثير من مدافعي عصر الحداثة تفاعلوا مع محيطهم الثقافي مستخدمين منهجيات رأوا أنها تلائم جمهورهم، ومنها الاعتماد على الحجة العقلانية بوصفها الأساس لبناء ايمان موثوق به. ومقياس نجاح الدفاعيات، كما سنرى، هو قدرتها على إثارة اهتمام جمهور بعينه والتواصل معه. إلا أن فرضية الحداثة التي تعطي الأولوية للعقلانية أصبحت الآن موضع شك، مما يشكل صعوبات امام المنهجيات الدفاعية التي تقوم على العقلانية أو تستند إليها.

          ومن المشكلات التي تنشأ هنا أن المناهج العقلانية في الدفاعيات تميل إلى الحد من العنصر السري الباطني في الايمان المسيحي لكي تُقَرِّب المسيحية إلى العقل. ولكن الانجيل يحوي بعض الأفكار الإلهية التي تتجاوز قدرة العقل البشري. حتى إن المدافعين، حتى يكسبوا المجادلة مع خصمهم، أحيانًا ما يستعيرون فرضيات الخصم. وهكذا يمكن أن تتحول ميزة تكتيكية إلى ضرر استراتيجي. فخطورة النماذج الدفاعية التي تتعامل مع المذهب العقلاني أنها غالبًا ما ينتهي بها الحال إلى استيراد العقلانية إلى المسيحية، بدلاً من تصدير الإنجيل إلى الثقافة العقلانية.

صعود تيار ما بعد الحداثة:

          تواجه مسيحية الغرب في مطلع القرن الحادي والعشرين محيطًا ثقافيًا أكثر تعقيدًا وتنوعًا مما اعتاده المدافعون في منتصف القرن العشرين. فالآن أصبح المسيحيون أفرادًا وجماعات يعيشون في عالم ما بعد الحداثة. والمناهج الدفاعية التي نجحت في الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين أصبحت نشازًا في المناخ الثقافي الذي أعقب هذه الفترة.

ظهر مصطلح “ما بعد الحداثة” ”postmodernism” حوالي عام 1971. وقد استُخدم بادئ الأمر للإشارة إلى طراز معماري جديد، لكنه ىسرعان ما انسحب على عالم الأفكار. وأصبح مصطلح ما بعد الحداثة يشير إلى الاعتقاد الثقافي المتنامي القائل بفشل الحداثة وضرورة إصلاحها. وقد ركز هذا الاتجاه في البداية على إخفاقات “الفن الحديث” في التفاعل مع الخيال البشري، ولكنه سرعان ما امتد إلى القضايا الاجتماعية والمشكلات الناتجة عن الاعتقاد السائد بحتمية التقدم، مثل حتمية تحول المجتمعات إلى التصنيع “industrialization” وحتمية الامتداد الحضري “urbanization”. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحركة الناشئة لم تُسمِّ نفسها بأنها “مضادة للحداثة” ”antimodernism”. فحركة ما بعد الحداثة لا ترفض كل جوانب الحداثة، ولكن دعاتها يعتبرونها محاولة لدمج أفضل ما في العالم الحديث بأفضل عناصر التقاليد الكلاسيكية والتخلص من الجوانب الغير مرغوب في كلٍ منهما.

وقد تعرضت حركة ما بعد الحداثة لنقد لاذع بسبب ضحالتها الفكرية، ولاسيما من حيث أنها تنتقي عناصرها من أكثر من مذهب. فمن الذي يقرر ما نختاره من الماضي والحاضر وندمجه في مذهب واحد؟ إلا أن الحجة التي يقدمها كُتاب ما بعد الحداثة هي أن الحركة تمثل محاولة لدفع المجتمع والفكر للأمام على نحو يستفيد من أفضل أفكار الماضي دون أن يسقط في في فخاخه. فمن أهم ما يعنون به مثلاً مقاومة “الأنظمة الشمولية” الكاسحة مثل الماركسية التي كانت من أبرز خصائص الحداثة التي أصبحتمن أبرز خصائصالحداثة التي أصبحت اليوم تُعتبر قميصًا فكريًا وثقافيًا يضيق بمن يرتديه. وكما سنرى بعد قليل، هذا النقد لهذه “الأحادية” “uniformitarianism” التي برزت في فكر الحداثة له أهمية كبيرة في الدفاعيات المسيحية.

فكيف نستجيب إذًا لهذا التحول الثقافي الكبير؟ ربما الخطوة الأولى أن نضع هذا التطور في حجمه الحقيقي، ويساعدنا على ذلك أن نمعن النظر في تاريخ الكنيسة. فكل جيل يعتقد أنه يقف في نقطة حرجة من التاريخ. فحتى القديس أغسطينوس أسقف هيبو الذي كتب في مطلع القرن الخامس ذكر أن الكثيرين من معاصريه كانوا يتوقون لأيام الماضي الجميل عندما كانت المسيحية تحظى بالدعم والأمن من الامبراطورية الرومانية. وكذلك “برنارد الذي من كليرفو” Bernard of Clairvaux الذي كتب بعد أغسطينوس بسبعمائة سنة، أشار إلى ما شعر بها الكثيرون في عصره من حنين لعصر أغسطينوس. والكثير من كُتاب القرن السادس عشر عبَّروا عن اشتياقهم أن يعيشوا في عصر “برنارد الذي من كليرفو”، لأن أيامه كانت أفضل بكثير! فمن السهل جدًا أن نرى أن الماضي كان أفضل. ولكن علينا أن نتذكر أننا نميل إلى إضفاء صبغة مثالية رومانسية على الماضي، وخاصةً إن كنا لانجد لنا مكانًا في الحاضر ونشعر باغترابنا عنه.

إلا أن مهمتنا ألا نظل أسرى الحنين للماضي، بل أن نتعامل مع تحديات الحاضر مستغلين أساليب الدفاعيات التي استُخدِمَت في الماضي طالما أنها مفيدة (وهي غالبًا كذلك). والدفاعيات غالبًا ما تعمل في مواجهة مايطرأ على المحيط الثقافي من تحولات. إلا أن الإنجيل لا يتغير، ولكن الاسئلة المطروحة عنه والتحديات التي يواجهها هي التي تتغير تغيرًا كبيرًا حسب الإطار الثقافي. فقد اجتاح مد الحداثة المشهد الثقافي في فترة معينة من التاريخ ولكنه الآن يتراجع مفسحًا الطريق لحركة ما بعد الحداثة التي أصبحت هي التيار السائد. وفي المستقبل قد يتغير الوضع تمامًا.

ويجب ألا ينزعج المدافعون المسيحيون من صعود تيار ما بعد الحداثة، لأن الإيمان المسيحي يمتلك موارد وفيرة تمكنه من مواجهة هذا التحدي. كل ما في الأمر أننا لم نستخدم بعضها على مدى عصور طويلة لأنها لم تكن ملائمة للنظرة الحداثية. ولا شك أن صعود تيار مابعد الحداثة يضع تحديات حقيقية أمام الدفاعيات المسيحية، إلا أنه من الواضح أن يخلق أيضًا فرصًا حقيقية. ومن الواضح أيضًا أن هذا الاتجاه الثقافي الجديد يشكل تحديات أمام الكنائس من حيث إنه يجبرها على أن تعيد النظر بشكل جاد في بعض الأمور. فهل الأساليب المتبعة في الكرازة بالإنجيل هي الأفضل؟ أم أنها تضرب جذورها في اتجاه فكري قديم حتى إنها تسقط مع سقوط الحداثة؟

يرى الكثير من المدافعين الغربيين الأصغر سنًا أن المسيحية أصبحت شديدة التداخل مع الأنظمة المحببة في الحداثة؛ تلك الفترة المزدهرة في تاريخ أوربا الثقافي التي سادت من حوالي سنة 1750 حتى 1960. ومن ثَمَّ، صعود تيار ما بعد الحداثة يتيح الفرصة لمراجعة هذا الاتجاه. فالحقائق التي اعتبرها الكُتاب السابقون ضرورة لاهوتية ربما يثبت أنها كانت فقط تتماشى مع ثقافة عصرهم أو أنها كانت مرتبطة بحقبة تاريخية معينة.

كيف يمكننا إذًا أن نشرح الإنجيل أو ندافع عنه أو نوصله في هذا الوضع الثقافي المتغير؟ بينما أؤمن أن اتجاه ما بعد الحداثة يمثل صعوبة فكرية من حيث إمكانية الدفاع عنه والحفاظ عليه، إلا أنني أقبل أنه مازال يُشكِّل المدارك الثقافية للناس. وعلينا أن نصل إليهم في النقطة التي يقفون فيها، لا النقطة التي نرى نحن أنهم يجب أن يكونوا فيها. وعلى أي حال، فأنا أؤمن أيضًا أنه يتيح لنا فرصًا جديدة للكرازة بالإنجيل وتوصيله، وهذا ما سأتناوله لاحقًا.

يظن بعض المدافعين الأقدم أن أفضل طريقة لإعلان الانجيل في محيط ما بعد الحداثة أن نحاول إعادة الناس إلى الحداثة. ولكن هذا الأسلوب خاطئ ومستحيل. ولن أدافع، في هذا الكتاب، لا عن الحداثة ولا ما بعد الحداثة ولن أنقد أيًّا منهما. كل ما سأفعله أني سأعتبرهما “معطيات” ثقافية شَكَلَّتها الحداث التاريخية وسافترض أن لكُّل منهما نقاط قوة ونقاط ضعف. فلا شك أن تيار ما بعد الحداثة يضع أمامنا بعض التحديات، ولكني أظن أن الكنيسة قادرة على التصدي لها والاستفادة منها.

 

الدفاعيات وحركة ما بعد الحداثة:

ما هي إذًا القضايا الأساسية في مذهب “ما بعد الحداثة” الذي نتحدث عنه؟ أصبح التقليد المقدس في هذا المضمار هو أن نبدأ أي حديث عن حياة الكنيسة وشهادتها في عصر ما بعد الحداثة بطرح أكاديمي مفصل للنشأة التاريخية لحركة ما بعد الحداثة، وجذورها الفسلفية، ومضامينها الثقافية، مع تزيينه ببعض الملاحظات الحصيفة التي تشير إلى أن المصطلح يتسم في حد ذاته بالميوعة التي قد تصل إلى حد التضليل. إلا أنه من الواضح أن هذا المذهب يمثل شيئًا لايستهان به حدث في الثقافة الغربية أثناء الحقبة الماضية حتى لو كان وصفه وصفًا دقيقًا مازال يشكل صعوبة.

قد تكون أكثر السمات المميِّزة لاتجاه ما بعد الحداثة هو رفضه لمِا سأطلق عليه الأحادية، أي الإصرار على أنه لا توجد إلا طريقة واحدة صحيحية للتفكير، وطريقة واحدة صحيحة للسلوك، ويرى كُتاب ما بعد الحداثة أن هذه التوجهات هي ما تكمن وراء النازية والستالينية اللتين يعتبرونهما الوجه المرئي غير المقبول للأحادية. وهم يرون أن الدعوة للتوحيد والتنميط تؤدي إلى القهر من حيث إن الناس يُجبَرون على الدخول في قالب واحد وحيد سابق التجهيز، حيث يُختزل” الآخر” “the other” بلا هوادة إلى “المِثل” “the same”، على حد تعبير بعض فلاسفة ما بعد الحداثة البارزين.

وهكذا يمكن اعتبار تيار ما بعد الحداثة رد فعل مضادًا لهذه الأشكال من التفكير التي يعتبرها هذا التيار الجديد قهرية. ومن ثمَّ، خلق بدلاً منها مناخًا ثقافيًا يحترم التنوع ويسعى لتقويض تلك النظرة الجامدة المُقَيَّدة القهرية. فهو في المقام الأول رد فعل ضد الحداثة التي حاولت اختزال كل شيء لمجموعة موحدة من الأفكار في محاولة للتحكم في الآخرين والسيطرة عليهم، مما يجعلها نوعًا من الستالينية الفكرية أو الثقافية التي تتسم برفضها للتنوع في قراءاتنا للعالمَ. وهكذا ترى مدرسة ما بعد الحداثة أن الحرية الإنسانية مرهونة بالنجاح في تحديد ما يتحكم في الناس من “قصص كبرى” “metanarratives”[3] ومواجهتها ثم تقويضها.

        إلا أنه من الإنصاف أن تشير إلى أن تيار ما بعد الحداثة أيضًا له قصصه الكبرى المميِّزة التي ترقى فوق النقد. بل إن بعض هذه القصص الكبرى أصبحت التقليد القويم السائد في بعض قطاعات الثقافة الغربية، مما يطرح أسئلة جوهرية على دعاة ما بعد الحداثة الذين يرفضون “الصورة الكبرى” للواقع. ولنأخذ مثلاً من يؤمنون بالنسبية التي تقول بأن كل وجهات النظر في موضوعٍ ما على نفس الدرجة من الصحة حتى لو كانت تبدو ظاهريًّا غير متوافقة بعضها مع بعض. وهذا الموقف يقوم أساسًا على فهم للواقع (بل يمكن أن تقول “قصة للواقع” أو قصة كبرى) يتعارض تعارضًا واضحًا وصريحًا مع قصص أخرى للواقع تنظر إليه، ولو من حيث المبدأ، باعتباره مفتوحًا للخبرة العامة وللنقاش العام.

        والواقع أنه ليس من السهل وضع تعريف محدد لمصطلح ما بعد الحداثة، حتى إن كبار روادها ينظرون إليها بطرق مختلفة، ويقول بعضهم إنها بطبيعتها لابد بالضرورة أن ترفض أي شكل من أشكال التعريفات. وهكذا، يصبح أقصى ما نصبو إليه اقتراح توصيف أو نوع من الوصف المختصر لما بعد الحداثة. وفيما يلي سأطرح شرحًا حديثًا ثاقبًا يجلو الغموض عن الموضوعات الرئيسية في تيار ما بعد الحداثة أقتبسه من كتابات “كفن فانهوزر” Kevin Vanhoozer، وهو أحد أساتذة اللاهوت الإنجيليين البارزين في “كلية ويتون” Wheaton College بولاية إلينوي.[4]

        يرى “فانهورز” أن ظاهرة ما بعد الحداثة المعقدة يمكن تلخيصها في أربعة انتقادات توجهها لطرق التفكير الأقدم:

  • العقل: يشير “فانهوزر” إلى أن كُتاب ما بعد الحداثة ينظرون بعين الريبة إلى منهج الحداثة الذي يقوم على أن الحجة هي أداة التفكير المنطقي. فبينما كانت الحداثة تؤمن بعقل شامل وحيد، ترى ما بعد الحداثة أن هناك أنواعًا كثيرة ومختلفة من العقلانية. “إنهم يرفضون فكرة العقلانية الشاملة، والعقل عندهم أمر نسبي يتوقف على المحيط الموجود فيه.”
  • الحق: يقول “فانهوزر” إن مدرسة ما بعد الحداثة تشك في فكرة الحق بسبب استخدامه في تقنين القهر، أو تبرير الامتيازات الممنوحة للبعض. وهي تعتبر أن الحق “قصة جذابة يرويها أشخاص في مواقع السلطة ليبقوا على رؤيتهم للعالم الطبيعي والاجتماعي وتنظيمهم له.”
  • التاريخ : يرى “فانهوزر” أنه بينما حاول كُتاب الحداثة إيجاد أنماط عامة موحدة تشمل التاريخ، فإن ما بعد الحداثة “ترفض الإيمان بالقصص التي تحاول تقديم نوع من التاريخ العام الموحد.” وهو ما يعني من وجهة نظر المدافعين المسيحيين أن أي محاولة لاكتشاف مغزى عام في قصة يسوع الناصري سينظر إليه بعض المنتمين إلى ثقافة اليوم بقدر كبير من الشك.
  • الذات: يشير “فانهوزر” إلى أنه تبعًا لما سبق. يرفض تيار ما بعد الحداثة أي فكرة تقول بوجود “رواية واحدة صحيحة لتاريخ الشخص”، وبالتالي يخلص تيار ما بعد الحداثة إلى أنه “ليست هناك رواية واحدة صحيحة لهوية المرء.” وهكذا تصبح كل أساليب فهم الفرد لنفسه مفتوحة النهاية وجزئية. وليست هناك إجابة موحدة للسؤال عن ماهية الهوية الانسانية.[5]

وتكمن أهمية تحليل “فانهوزر” في أنه يساعد على تحديد ماستواجهه المناهج الأقدم في الدفاعيات المسيحية من عثرات وشكوك في أطر ما بعد الحداثة. إلا أنه من الواجب ملاحظة نقطتين على وجه الخصوص :

  • يجب ألا ننظر أبدًا إلى ما بعد الحداثة على أنها تعطي تعريفًا لما هو “صواب” أو “حق”. ولكنها مناخ ثقافي شَكَلَّتَه قيم ومعتقدات معينة. وتيار ما بعد الحداثة، مثل الحداثة، هو في الأساس نظرة علمانية، فلا هو ضد المسيحية ولا مؤيدًا لها. ولكنه يعكس إطارًا ثقافيًا علينا أن نقدم فيه الدفاعيات.
  • الكثير من المنهجيات الدفاعية التي نعتبرها “تقليدية” قديمة هي في الواقع منتجات حديثة نوعًا ما وتمثل استجابات لإطار الحداثة. فالمدافعون الذي أرادوا أن يخاطبوا الحداثة وضعوا منهجيات مصممة خصيصًا لفرضيات الحداثة، وأهمها أولوية العقل.

        علينا أن ندرك أن لنا الحرية في تصميم المنهجيات الدفاعية التي تقدم الإنجيل بأمانة من ناحية، وتلائم محيطنا الثقافي من ناحية أخرى. وبذلك نكرر أسلوب “الدفاعيات التقليدية” في استجابتنا لما يطرأ من تغيرات على المحيط الثقافي الذي نخاطبه. فلا يمكننا استخدام منهج صُمم ليخاطب عقلانية القرن الثامن عشر للدفاع عن الإيمان مع أبناء القرن الحادي والعشرين الذين يعتبرون العقلانية فكرة بالية ومُقَيِّدة.

        فمثلاً تيار ما بعد الحداثة يعتبر الاستناد إلى الحجج العقلانية مشكلة. ولكنه ينجذب بشدة للقصص والصور. علاوة على أن اتجاه ما بعد الحداثة يُقدر الحق الذي يُثبت قابليته للتطبيق في الحياة العملية أكثر من الحق الذي يتم التدليل عليه بالحجج العقلية. وهذا يساعدنا أن ندرك سبب أن “الدفاعيات المتجسدة” “incarnational apologetics” التي تؤكد الأهمية الدفاعية للحياة الأمينة الشاهدة أصبحت شديدة التأثير في السنوات الأخيرة. وكما سيتضح في فصل لاحق، يمكننا عادةً التصدي بسهولة لهذا التحدي الجديد، ليس باختراع منهجيات جديدة في الدفاعيات بل باستعادة منهجيات أسبق جعلها صعود العقلانية تبدو قديمة الطراز.

وكما سنرى، قد يؤدي صعود تيار ما بعد الحداثة إلى تغيير بعض ما نتبناه من أساليب، ولكنه لايُبطل مهام الدفاعيات المسيحية ولا أسسها الفكرية. فالمبادئ الأساسية تبقى دائمًا دون تغيير:

1.افهم الإنجيل.

2.افهم الإطار الذي تقوم فيه بالدفاعيات.

  1. صمم أساليب دفاعية تقدم الإنجيل بأمانة وتبني على “أرضية مشتركة” أو “نقاط التقاء” مع الإطار الثقافي.

 

المنهج المعتمد في هذا الكتاب:

        تتعدد طرق تقديم الدفاعيات. فبعض الكتب تستخدم منهج “دراسة الحالة” بتقديم عدد من الاعتراضات أو الصعوبات المتعلقة بالإيمان المسيحي. ثم يتم دراسة كلٍ منها وتقديم الإجابات لها. وبعض الكتب تستند إلى الأدلة التاريخية أو العقلانية التي تثبت صحة الإيمان. في حين تنطلق فئة أخرى من مبدأ أنه لا يمكن فهم العالم دون أن تكون المرجعية لله. إلا أن هذا الكتاب لا يعكس أي منهج لأي مدرسة من مدارس الدفاعيات، بل يهدف إلى تمكين مستخدميه من التفكير بأسلوب دفاعي، مستفيدًا من أفضل الدفاعيات لدراسة القضايا المطروحة.

        ويمكن إيجاز المنهج الأساسي للكتاب في سلسلة الخطوات التالية. وسوف نتناول كلاً منها بمزيد من التفصيل فيما بعد. ولكني في هذه المرحلة أكتفي بعرضها.

  • افهم الايمان :

       أولاً، فهمك للإيمان المسيحي فهمًا جيدًا هو أمر أساسي. إلا أن هذا الفهم يجب أن يشتمل على بعد دفاعي. أي أنه علينا أن نفكر كيف يمكن للموضوعات الرئيسية في الإيمان أن تتلامس مع الناس وتتفاعل مع خبراتهم وأفكارهم، وهو ما يتطلب محاولة تكوين “نظرة من الخارج” للإيمان وطرح السؤال: كيف يتجاوب غير المؤمن مع الجوانب الجوهرية في الإنجيل؟ بدلاً من أن ينصب كل اهتمامنا على القضايا التي تشغل المؤمنين.

       فمثلاً قد يسأل أحد أساتذة الكتاب المقدس السؤال التالي: ” كيف يساعدنا مثل الابن الضال في فهم علاقة يسوع الناصري بالديانة اليهودية؟” أما المدافع يسأل سؤالاً مختلفًا، مثل: “كيف يساعدنا هذا المثل في فهم عالم الشخص غير المؤمن؟” فالمدافع عليه أن يكتشف كيف يمكن لما يحويه الإيمان من أفكار وقصص وصور ذهنية أن يتفاعل مع واقع الحياة اليومية.

  • افهم جمهورك :

       ثانيًا، من المهم أن تفهم الجمهور الذي تخاطبه. من هم؟ رأيت من خبرتي الشخصية أن الناس يختلفون اختلافًا كبيرًا، كما كان الحال في زمن العهد الجديد. قارن بين الأساليب التي استخدمها بطرس في خطابه لجمهور يهودي (أع2) وأساليب بولس وهو يخاطب جمهورًا يونانيًا (أع17) ولاحظ الاختلاف الجذري بين الاثنين. سترى أن الإنجيل الذي يقدمه كلاهما ويبرز جماله إنجيل واحد ولكن الطرق مختلفة تمامًا تلائم العالم الذي ينتمي إليه كلٌ من هاتين الفئتين المختلفتين. فكل جمهور له أسئلته واعتراضاته ومشكلاته التي يجب التفاعل معها، وله كذلك “نقاط التقاء” وأبواب مفتوحة أمام الإيمان.

       ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أن المعرفة بالإيمان المسيحي تختلف اختلافات شاسعة من جمهور لآخر. فبعض الناس ليس لديه أي معرفة بالكتاب المقدس، ويعتبره لا يمت بصله له على الإطلاق. وبعضهم مازال يحتفظ في ذاكرته ببضعة نصوص كتابية ويُكن تجاهها مشاعر طيبة، مثل (مزمور1:23) “اَلرَّبُّ رَاعِيَّ.” والناس مختلفون اختلافًا كبيرًا أيضًا في انتماءاتهم الثقافية. فبعضهم يتبنى مفاهيم الحداثة، في حين أن مجموعة أخرى تتبنى مفاهيم ما بعد الحداثة. بعض الناس يحب الأدب الكلاسيكي، بينما يُفضل آخرون الحديث عن أحدث المسلسلات التلفزيونية. بعض الناس يفكر بأساليب مجردة جدًا، في حين أن آخرين يستخدمون الصور أو القصص كأدوات للتفكير. وفي كل حالة ينبغي أن نجد الطريقة المثلى لتوصيل الإيمان المسيحي بلغة تناسب خبرة المستمع ومعرفته.

  • تواصَل بوضوح:

       ثالثًا، علينا أن نترجم إيماننا إلى لغة يفهمها مستمعونا. وقد تساعدنا في هذا الصدد المناقشات الدائرة حول الترجمة الكتابية حيث إنها تلفت انتباهنا لضرورة توصيل رسالة الكتاب بلغة عصرية مفهومة، كما أشار “سي. إس. لويس” في ملاحظة حكيمة قائلاً: “مهمتنا أن نقدم ما لازمن له (هو هو أمس واليوم وغدًا- عب 13 :8) بلغة زماننا.”[6] إن امتيازنا ومسئوليتنا أن نُعبر عن حق الإنجيل الذي يصلح لكل زمان بلغة وصور ذهنية تلائم مستمعينا. ولذلك، فالمدافع هو شخص يترجم حقائق الإيمان إلى لغة الثقافة الدارجة.

  • ابحث عن نقاط التقاء:

       رابعًا، يجب علينا أن نحدد ما في الثقافة والخبرة الإنسانية من نقاط التقاء مع الإنجيل. فالله لم يترك نفسه بلا شاهد في التاريخ أو الثقافة أو الخبرة الإنسانية (أع 14 : 17) ومهمتنا أن نحاول تحديد ذلك الشاهد (سواءٌ أكان في الطبيعة، أو المجتمع، أو العُرف الأخلاقي) ونستخدمه باعتباره نقطة تلاقي لإعلان الانجيل.

  • قَدِّم الإنجيل كله:

      خامسًا، لابد أن نحترس من أن نُفقر نداء الإيمان المسيحي بأن نحصره في الأجزاء التي نستمع بها شخصيًا أو نراها جذابة لنا. فقد أكد “سي. إس. لويس” أن المدافع لابد أن يميز تمييزًا دقيقًا بين “الرسالة المسيحية” و”أفكاره الخاصة.” وإن فشلنا في هذا التمييز فلن نقدم للمستمعين الإنجيل بل سنقدم لهم من الانجيل مانراه مهمًا وشيقًا. ويرى “لويس” أن الفخ الذي قد نقع فيه من التركيز على ما يعجبنا شخصيًا ومانقبله يُفقر الإنجيل. وينتهي بنا الأمر إلى الإعلان عن أنفسنا في الوقت الذي يجب فيه أن نعلن عن المسيح.

      إلا أن تأثير الإيمان المسيحي على حياتنا مهم في حد ذاته في الدفاعيات. لماذا؟ لأنه يشهد على قدرة الإنجيل على تغيير وجود الشخص. ويقصد “لويس” أننا لابد ألا نقدم المسيحية انطلاقًا من تفضيلاتنا الشخصية، بل نُظهر قدرتها على التفاعل مع أعمق مستويات الوجود البشري، أي مع قلوبنا، وعقولنا، وأرواحنا.

        ويجب ألا نُقَيِّد نداء المسيحية بالحد من الوسائل المستخدَمة لتوصيلها. فالكثيرون من المسيحيين في الغرب يركزون على الأفكار الجوهرية في المسيحية ويعتبرون الدفاعيات هي الدفاع العقلاني عن الحق المسيحي. وهنا أريد أن أوضح أن هذا صواب، وهو جيد ولكنه ليس الأفضل، وهو لا يمثل الحقيقة كلها، لأننا لابد أن نسير خطوة أبعد وننتبه أن الكتاب المقدس يستخدم صورًا ذهنية وقصصًا وأفكارًا ليوصل رسالته المحورية. وقد استخدم يسوع الناصري الأمثال لتوصيل الموضوعات الأساسية في ملكوت الله. وقد نجحت هذه القصص في غرس بعض الأفكار الجوهرية في أذهان مستمعيه. فكيف يمكننا اليوم أن نفعل ذلك؟

6- لاتكف عن الممارسة:

 سادسًا، الدفاعيات ليست مجرد نظرية، ولكنها ممارسة. علينا أن نعرف كيف نطبق الأفكار والأساليب الدفاعية في حياتنا اليومية؛ في حواراتنا، ومناقشاتنا، ولقاءاتنا، وفي كل تفاعلاتنا مع الآخرين. فالدفاعيات علم وفن. أي أنها تجمع بين المعرفة والحكمة. وهي تشبه الطبيب الماهر الخبير الذي يعرف نظريات الطب معرفة جيدة، ولكنه لابد أن يطبقها على مرضاه، وهو ما يتطلب أن يشعر بهم ويفكر في أفضل الطرق لمساعدتهم باكتشاف مشكلاتهم الحقيقية وإيجاد وسيلة لتوصيل المصطلحات الطبية لهم بلغتهم العادية وشرح كيفية التعامل مع المرضى.

          وسوف نتناول هذه الموضوعات الستة في الفصول التالية في دراستنا للموضوعات والمنهجيات المهمة في الدفاعيات المسيحية.

خطوة للأمام:

        تناولنا باختصار بعض الأسئلة الأولية المتعلقة بالدفاعيات. وبذلك أصبح المسرح مُعَدًا لدراسة أوسع فيما يلي حيث نعالج بعض هذه الموضوعات بمزيد من التفصيل. وسنبدأ بتناول الأسس اللاهوتية العميقة التي تقوم عليها الدفاعيات المسيحية.

 

 

[1] مصطلح “إنجيلي” evangelical في هذا الكتاب لا يشير إلى الطائفة بل إلى الاتجاه المحافظ في التفسير الكتابي مقابل الاتجاه الليبرالي المتحرر. (المترجمة)

[2] Edward John Carnell, An Introduction to Christian Apologetics (Grand Rapids: Eerdmans, 1948). For an analysis, see Kenneth C. Harper, “Edward John Carnell: An Evaluation of His Apologetics,” Journal of the Evangelical Theological Society 20 (1977), 133-46.

 

[3] يشير المصطلح في تيار ما بعد الحداثة إلى الأفكار التي تُقدم للمجتمع لإضفاء المشروعية على آليات التحكم فيه، وقد رفضها تيار ما بعد الحداثة، ويعتبر الفيلسوف “جان فرانسوا ليوتارد” “Jean-Francois Lyotard” رائدًا في استخدام المصطلح. (المترجمة)

[4] Kevin Vanhoozer, “Theology and the Condition of Postmodernity,” in The Cambridge Companion to Postmodern Theology, ed. Kevin Vanhoozer (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), 3-24.

[5] يعلق المفكر المسيحي د. ماهر صموئيل على أهمية ملاحظة اختلاف الواقع العربي عن الواقع الغربي من جهة مدى اتصاله بهذا التطور الفكري الذي حدث في الغرب. فالثقافة السائدة في المجتمع العربي حتى الآن تميل إلى ثقافة ما قبل الحداثة، وإن كانت بدأت تنحسر الآن مد العولمة وثورات الربيع العربي لحساب الحداثة، وبنسبة أقل لما بعد الحداثة. لذلك، على من يتصدون للدفاعيات المسيحية في العالم العربي أن يعوا أنهم يتعاملون مع ثلاثة أنظمة فكرية تسود المجتمع في الوقت نفسه. ولكن أهمها من وجهة نظره هو الحداثة. وبالتالي، على المدافعين أن يكثروا من استعمال الحجة المنطقية. (المترجمة)

[6] Lewis, “Christian Apologetics,” C. S. Lewis: Essay Collection (London: Harper Collins, 2000), 151.