الردود على الشبهات

إله العهد القديم هل هو إله يغار من بشر؟ شبهة والرد عليها

إله العهد القديم هل هو إله يغار من بشر؟ شبهة والرد عليها

إله العهد القديم هل هو إله يغار من بشر؟ شبهة والرد عليها

babel-large_trans++A1OSm6rjnnMUazHmmk33xW82lVc9OgFyy0DzoWDbvdY

” وَكَانَتِ الارْضُ كُلُّهَا لِسَانا وَاحِدا وَلُغَةً وَاحِدَةً. وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقا انَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي ارْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنا وَنَشْوِيهِ شَيّا». فَكَانَ لَهُمُ اللِّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ.وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لانْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجا رَاسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لانْفُسِنَا اسْما لِئَلَّا نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الارْضِ». فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو ادَمَ يَبْنُونَهُمَا.وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ وَهَذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالْانَ لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ انْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لا يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ». فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الارْضِ فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ.لِذَلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لانَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الارْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الارْضِ.” (تك1:11-9).

هذه القصة تطرح العديد من الأسئلة:

يقول د. منقذ بن محمود السقار: (( و مرة أخرى تذكر التوراة أن الله خاف من اجتماع البشر و تآلفهم و عزمهم على بناء برج عظيم رأسه في السماء، فنزل و بددهم قبل ان يحققوا غايتهم. فهل يعقل ان خالق السماوات و الأرض، الرب العظيم يخشى من تمام هذا البرج فيسعى لتفريق البشر قبل ان يصل برجهم السماء؟ و هنا نتساءل عن الطول الذي كان سيصل اليه بناء البشر قبل آلاف السنين، بل نتساءل: أو لا يعلم الرب ان البشر يعجزون عن مناطحة السحاب فضلاً عن قرع أبواب السماء!))* *1

ويقول علاء ابو بكر: ((لماذا بلبل الله ألسنة العاملين في برج بابل؟ وهل يغار الله من الأبراج العالية وناطحات السحاب؟ أليس فكرة بلبلة الألسن تتمشى مع الفكر الصهيوني الاستعماري (فرّق تَسد)؟ هل الرب غير واثق من نفسه؟ وهل يخشى عبيده؟ هل الرب لا يحب الخير للبشر فنزل وبددهم في أول اتحاد لهم على خير؟ *2*

للإجابة على هذة الأسئلة أقول:

أولاً: لاهوت الخلق:

هل الله يغار من الإنسان؟ هل الله يغار من بناء الأبراج؟ كلاّ وألف كلاّ. إن النص ليس فيه كلمة (يغار) ولا معناها إطلاقا، ومن يفهم هذا لا يفهم لاهوت الخلق، فمن هو الإنسان حتى يغار الله منه؟!  أليس الله هو الذي وضع فيه كل الإمكانيات العقلية والجسمانية!  أليس الله هو الذي أشرق عليه بنور علمه الإلهي فاستطاع أن يصل إلى ما وصل إليه من تقدم ورقي؟!

إن الكتاب المقدس يعلمنا ان الله خلق الإنسان على صورته (تك27:1)، وميزه عن سائر الكائنات الأخرى بالعقل المفكر، و الإرادة الحرة، و الضمير الحساس، و القدرة على الإبداع و الإبتكار، والقدرة على التعلم المستمر، و التواصل مع الآخرين و مع الله. وقد جعله الله تاجاً للخليقة وسيداً لها، وقال له بعد ان خلقه:” اثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلاوا الارْضَ وَاخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الارْضِ”(تك28:1). لاحظ الأفعال: ((اثْمِرُوا، اكْثُرُوا، امْلاوا الارْضَ، اخْضِعُوهَا، َتسَلَّطُوا عَلَى …)). وقد اعطى الله الإنسان مطلق الحرية في إدارة الكون وكل ما فيه، ومنحه كل إمكانيات النجاح والتطور، ولم يضع الله عليه قيوداً، ولم يفرض عليه شروطاً معينة، انما سلمه الكون بكل ما فيه، ولذلك يتغنى داوود قائلاً: “بِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ. تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.” (مز 5:8).

لذلك فإن الإنسان هو الذي يصنع الأحداث، وهو الذي يشيد المباني ويصلح الأراضي ويقيم المزارع. هو الذي يبني المدن ويقيم الإمبراطوريات ويغزو الفضاء. هو الذي يستخرج الذهب والبترول من باطن الأرض، وهو الذي صنع الطائرة والصاروخ والكمبيوتر والفيديو …. إلخ. هذا التقدم المستمر بفضل عقل الإنسان وقدراته وحريته التي منحها له الله.

وعندما ندرس كلمة الله نجد ان الله يريد الإنسان طموحاً ومبدعاً  و ناجحاً، حتى تستمر عجلة الحياة في تقدم مستمر. لقد كان القديس أرينيموس من القرن الثالث يقول: ((مجد الله الإنسان الحي ))، بمعنى انه كلما كان الإنسان أكثر حيوية و نشاطاً و طموحاً و ابداعاً كلما تمجد الله الله من خلاله. وكان القديس مكسيموس المعترف يقول ((إن الله يتعطش لكي يؤله الإنسان)).

نعم إن الله أب، والأب يسر بأن يصبح ابنه مثله مكتمل الرجولة. ويتمنى أن يرى ابنه في غاية السعادة والراحة والنجاح. لذلك نقول إن كل نجاح يحققه الإنسان سواء من خلال اكتشاف جديد، أو تقدم علمي يساعد الإنسان على ان يعيش حياة أفضل وأرقى، مثل زرع الأعضاء والهندسة الوراثية، الاستنساخ، خريطة الجينات البشرية. فهذه العلوم ليست تهديداً للخالق ولا تحد له كما يدعي البعض بل تمجيد له، وتحقيق لقصده نحو العالم.

بل لا يوجد إيمان حقيقي دون اكتشاف للطاقة الهائلة التي وضعها الله في الإنسان، وللإمكانيات الموجودة في الكون والتي يجب علينا اكتشاف اسرارها. فالله يساند كل اختراع جديد، ويؤيد كل عالم في معمله، ويسند كل من يسعى ويبحث لرفاهية وتقدم الجنس البشري. فهو مصدر كل مهارة وموهبة للعمل. ألم يقل الوحي: “وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْظُرْ! قَدْ دَعَوْتُ بَصَلْئِيلَ بْنَ اورِي بْنَ حُورَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بِاسْمِهِ. وَمَلَاتُهُ مِنْ رُوحِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ. لاخْتِرَاعِ مُخْتَرَعَاتٍ لِيَعْمَلَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاس. وَنَقْشِ حِجَارَةٍ لِلتَّرْصِيعِ وَنِجَارَةِ الْخَشَبِ. لِيَعْمَلَ فِي كُلِّ صَنْعَةٍ.” خر(1:31-5).

ثانياً: ما هو هدف بناء البرج؟

يا ترى لماذا فكروا في بناء البرج؟ لقد قالوا:” هَلُمَّ نَبْنِ لانْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجا رَاسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لانْفُسِنَا اسْما لِئَلَّا نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الارْضِ” (تك4:11). لاحظ هنا نبرة الكبرياء والتجبر وتأليه أنفسهم. يقول (E. F. Kevin) ((كان القصد الأول هو ضمان الدفاع، والسيطرة السياسية. و ربما كان لغرض ديني و لعلم التنجيم، و لكن من الواضح أن الدوافع الدفينة لهذا العمل كانت الإكتفاء الذاتي للبشر، و العصيان على الله))*4*. يقول ويليم مارش: (( في الأساطير القديمة و التي ذكر بعضها يوسيفوس أن نمرود كان غير تقي، و هو  الذي أمر ببناء البرج ليعصى الله و ينقذ به شعبه من طوفان ثان))*5*.

فلم يثق هؤلاء البشر في مواعيد الله التي اعطاها لجدهم نوح. فأخذوا في بناء البرج المرتفع حتى إذا حل الطوفان مرة أخرى يجدون لأنفسهم ملجأ فيه. ونسوا أن الله هو الملجأ الحقيقي، وأن الأمان في الإيمان الصادق. لقد أظهروا بهذا العمل عدم ثقتهم في ميثاق الله مع أبيهم نوح، وحسبوا الله غير أمين في مواعيده. لقد كان هدفهم كقولهم ((هَلُمَّ نَبْنِ لانْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجا رَاسُهُ بِالسَّمَاءِ)) (تك4:11). لقد أرادوا ان يتحدوا القدرة الإلهية. متخيلين أن الطوفان حتى لو اتى ثانية فلن يصل الى رأس هذا البرج. أما الرب فقد أبطل مشورتهم ليعلمهم أنه ليس في مقدور أحد تحدي القدرة الإلهية.

ثالثاً: لماذا بلبل الله ألسنتهم؟

هل الله يغار من بناء الأبراج؟ وهل يسلك سياسة فرق تسد؟ كلا. إن ما حدث في بلبلة الألسن هو شفقة من الرب على الإنسان، إذ أن الإنسان في جهله ظن أنه يمكنه أن يبني برجاً رأسه في السماء. ترى ماذا كان سيحدث لو ظلوا يبنون؟ هل كانوا سيستطيعون الاستمرار؟! وإلى أي ارتفاع كانوا سيصلون دون أن ينهدم عليهم البناء؟ إن بناء ناطحات السحاب لم يصل إليه الإنسان إلا بعد علم كبير في القرن العشرين. وبرغم كل العلم فإنه لن يستطيع إنسان بناء برج رأسه في السماء. وحتى لو وصل إلى أعلى ارتفاع فلن يضير الله في شيئ، بل يسعده. إذا فعل الإنسان هذا بتواضع، لأن الله يريد نجاح وتقدم الإنسان، وأن يكتشف أسرار الكون.

لكن حقاً لقد أشفق الله على الإنسان الذي ظن في كبريائه انه يمكنه أن يتحدى الله. وأرجو أن تلاحظ ما قاله الرب عنهم: “هَذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالْانَ لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ انْ يَعْمَلُوهُ” (تك6:11). فعندما يتمادى الإنسان في الخطأ لا يتوقف، فيزيد الشر في العالم، ولذلك أراد الله أن يحد من انتشار الشر في العالم بأن يفرقهم. ولا يمكن المقارنة بين هذا البرج الذي يدل على التكبر والتعالي والشر، وبين الأبراج الضخمة وناطحات السحاب التي نراها اليوم. لقد بدد الله البشرية وفرقها عند برج بابل ليس لأنها اتحدت على فعل الخير، ولكن لأنها تكبرت وأرادت الاعتماد على ذاتها دون الله، وقد فقدت الثقة في الوعد الإلهي بأنه لن يكون هناك طوفان آخر بعد.

فلا تعتبر بلبلة الألسن غيرة وحقد من الله، لأن الله محبة، وهو الذي خلق الإنسان من جوده وفضل محبته. لكن بلبل الله ألسنة البشر بهدف معالجتهم من الدوافع الشريرة للعصيان، وحماية لهم من سقوط البرج عليهم. وكان في هذه البلبلة أيضاً خير للناس الذين انتشروا في أرجاء الأرض. فاستغلوا خيرات الأرض عوضاً عن تكدسهم في مكان واحد، يتزاحمون فيه على موارد الحياة. مما يسبب خصاماً وشجاراً وقتالاً ودماراً وهلاكاً.

إنها ليست ساسة فرق تسد بل سياسة فرق تنقذ. فهو لم يفرق أناساً متحابين يصنعون الخير بل يؤذون بعضهم البعض، وهو لم يفرق الألسن ليستفيد شيئاً. إنما فرق الألسن عقاباً لهم على كبريائهم وأيضاً لئلا ينهار البناء عليهم فيقتلهم.

المراجع:

*1* منقذ بن محمود السقار.  هل العهد القديم كلمة الله؟ ص48.

*2* علاء أبو بكر.  البهريز ج1 ص268.

*3* كوستي بندلي.  إله الإلحاد المعاصر. ص63.

*4* أ.ف.كيفن.  تفسير الكتاب المقدس ج1 ص160.

*5* وليم مارش. السنن القويم ج1 ص103.