أبحاث

الصلات المفترضة بين المسيحية والديانات الوثنية هل هي حقيقيَّة؟

الصلات المفترضة بين المسيحية والديانات الوثنية هل هي حقيقيَّة؟

الصلات المفترضة بين المسيحية والديانات الوثنية هل هي حقيقيَّة؟

الصلات المفترضة بين المسيحية والديانات الوثنية هل هي حقيقيَّة؟
الصلات المفترضة بين المسيحية والديانات الوثنية هل هي حقيقيَّة؟

 

 إن ما يجعل المسيحية متفرّدة بين ديانات العالم المختلفة، هي أنها مؤسسة على التاريخ. بل بأكثر تحديد، ترتكز الديانة المسيحية على شخص يسوع المسيح كإنسان وكشخصية تاريخية حقيقية. ففكرة أن يصبح الله إنساناً في حيّز التاريخ، وأن يعيش بيننا، ويموت على صليب روماني، ويقوم من الأموات، هي جوهر الإعلان والبشارة المسيحية. ففي الحقيقة أن أحد المفاهيم المتضمنة في التجسد –في أن يصبح الله بشراً– هو أن التجسد يدعونا، بل ويطالبنا، بأن نختبر مصداقيته التاريخية.

فالأناجيل تذهب إلى مدى بعيد وتفصيلي في الحديث عن مكان وهوية وزمان خدمة يسوع. لذلك فإنها عملياً تحث القارئ على أن يفحص ويختبر صحة البيانات لكي يرى إن كانت الأمور كذلك. فأن نعتقد أنه يمكن للمرء أن يصبح مسيحياً بدون التمسك بتاريخية يسوع المسيح، فهذا خيال محض. إن المسيحية هي المسيح، فبدونه لا يكون للإنجيل المسيحي أي معنى، أو كما يعبّر الرسول بولس عن ذلك، في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، “وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ” (1كو 15: 14).

 لكن هناك مشكلة، وهي أن فكرة التجسّد، والميلاد العذراوي، والقيامة، قد لا تكون فكرة جديدة خاصة بالإيمان المسيحي. فالبعض يدّعي أنه كانت توجد مثل هذه الأفكار في الديانات الوثنية قبل نشأة المسيحية. كما يجادل فريك وغاندي في كتابهما الحديث: “يسوع الضاحك” (The laughing Jesus): “إن لقصة يسوع كل علامات الأسطورة، والسبب في هذا بسيط للغاية، هو أنها أسطورة. بل في الحقيقة أنها فقط أسطورة، ولكنها صورة يهودية لأسطورة وثنية!”.

يشير هذان المؤلفان إلى ثلاثة عشر نقطة للمقارنة بين آلهة الديانات الوثنية وبين يسوع المسيح:

أبوه هو الله، وأمه فتاة عذراء. رحّب به أتباعه كمخلّص، وبأنه الإله المتجسد وابن الله. ولد في كهف أو في مذود بقر حقير في الخامس والعشرين من ديسمبر على مرأى من رعاة. كان يحيط نفسه باثني عشر تلميذاً.

 عرض على أتباعه الفرصة لكي يولدوا ثانية من خلال طقوس المعمودية. قام بطريقة معجزية بتحويل الماء على خمر في حفل عرس. امتطى منتصراً أحد الحمير ودخل به إلى المدينة بينما كانت الجموع تفرش سعف النخيل تكريماً له. كان يهاجم السلطات الدينية، والتي شرعت في تدميره.

مات في وقت الفصح كذبيحة عن خطايا العالم، عن طريق الصلب في اليوم الثالث قام من الأموات وصعد إلى السماء في مجد عظيم ينتظر أتباعه عودته كحاكم وديّان في الأيام الأخيرة، يتم الاحتفال بموته وقيامته بواسطة وجبة طقسية من خبز وخمر، والتي ترمز لجسده ودمه بالاشتراك رمزياً في آلام وموت الإله، فإن مؤلفي هذه الأساطير يؤمنون أنهم سيشاركونه أيضاً في قيامته الروحية، ويعرفون الحياة الأبدية. هذه الأمور المتشابهة، إن كانت حقيقية، تفترض أن المسيحية مؤسسة فقط على مجرد الفراغ.

لكن هل هذه بالحق تشابهات حقيقية؟ وهل المسيحية هي مجرد أسطورة، ليس لها أساس تاريخي على الإطلاق؟ وهل انتحلت المسيحية أساطير الآلهة الوثنية؟ لن نستطيع أن نتعامل مع كل هذه القضايا في هذا الفصل ولكننا سنقدم إطاراً لتفسير البيانات.

إن الفكرة التي تقول إن المسيحية قد انتحلت أو سرقت محتواها الأساسي من الديانات الوثنية ليست جديدة، فهي تجد جذورها في “مدرسة تاريخ الأديان”، والتي تطورت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبمنتصف القرن العشرين، تم فضح تلك الفكرة على نطاق واسع، حتى بواسطة العلماء الذين كانوا يرون المسيحية ديانة طبيعية خالصة.

ولكن في السنوات الأخيرة، فإن فكرة أن المسيحية قامت ببساطة بتعميد الآلهة الوثنية وتطبيق صفاتهم على يسوع الناصري، وجدت أتباعاً جدداً. فما الذي أدى إلى هذا التحول؟ وكيف يمكن لفكرة أنه لا يوجد تفرّد للمسيحية أن تحظى بمثل هذه المكانة اليوم؟

هناك مجموعة من العوامل مجتمعة هي التي أدت إلى مثل هذا التردّي. فاهتمام ما بعد الحداثة بالروحانية، بالإضافة إلى افتقارها المتزايد للأساس التاريخي، كان هو المكوّن الأساسي، ولكن هذه العملية بلغت ذروتها نتيجة لسهولة الوصول إلى معلومات غير المنقّحة عن طريق الإنترنت، والسلطة المؤثرة لهذه الأداة الإعلامية. كانت النتيجة هي معلومات فاسدة تضر العقل -وجبة فكرية زائفة من السهل ابتلاعها حيث أنها خالية من الجوهر. فعلى سبيل المثال، تذكر إحدى المقالات التي تم إرسالها عبر الإنترنت إلى موقع إلكتروني له نفوذ كبير ومضاد للمسيحية، ما يلي:

بعد إزروريس، جاء الكثيرون من ذوي الميلاد العذراوي، الآلهة المخلّصة المقامة من الأموات مثل: ديونيسس (يوناني)، وكريشنا (هندوسي)، وميثرا (فارسي)، وتموز (سومري -بابلي) … وحيث أن كريشنا عاش كما يزعم، قبل يسوع بقرون، فإن هذا سبب كاف للشك في أن يسوع كان مجرد نسخة مزيفة من كريشنا وغيره من الآلهة المخلّصة الذين كانت تتم عبادتهم في كل أنحاء العالم الوثني قبل يسوع بزمن طويل.

إن مثل هذه التصريحات غير المسئولة يمكن أن تصيب المسيحيين باضطراب عميق، ولكنها لا يمكن أن تمضي هكذا بدون تفنيد، لكن حيث أن الإنترنت قد جعل كل الآراء متساوية، فإنه يكون من الصعب على القارئ أن يعرف أين يذهب لكي يجد الإجابة الملائمة.

في هذا الجزء سوف نقوم بالإشارة إلى الافتراضات الخاطئة وراء التشابهات المزعومة، ثم سنقوم بعد ذلك بتحديد طبيعة الديانات السرية. وأخيراً، سوف نبحث في اثنين من الأمثلة الشائعة التي يستشهد بها كثيراً لاقتباس المسيحية من الديانات الوثنية -وهما الميلاد العذراوي، وقيامة يسوع المسيح من الأموات. هناك الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الجزء، ولكن هذا الملخص سيساعد القارئ على أن يفكر في المسيحية في علاقتها بالديانات الوثنية القديمة.

الافتراضات الخاطئة خلف التشابهات المزعومة

هناك خمسة افتراضات أساسية خاطئة تكمن خلف التشابهات المزعومة:

  1. التشابه بين يسوع المسيح والآلهة الوثنية يمكن أن يوجد في أية ديانة سرية.
  2. المصطلحات المستخدمة في الرسالة المسيحية تصلح بطريقة طبيعية لأن تستخدم في الديانات الوثنية.
  3. التشابهات توضّح التبعية الكاملة
  4. إن الديانات السرية كاملة التطور كانت توجد قبل وجود المسيحية.
  5. إن هدف وطبيعة الأحداث المفتاحية متشابه في كل من هذه الديانات.
  6. تتداخل هذه الافتراضات مع بعضها البعض، ولكن قد تكون هذه وسيلة مفيدة للتفكير في المغالطات المنهجية لأولئك الذين يزعمون أن يسوع لم يكن سوى إله أسطوري في ثوب يهودي.

المغالطة المركّبة

إحدى المغالطات الخاصة بالتشابه بين الآلهة الوثنية وبين يسوع المسيح هي أن الديانات الوثنية في الأغلب كانت تتداخل معاً كما لو كانت كلها ديانة واحدة -ديانة تتماثل تقريباً مع المسيحية في الكثير من أهم ملامحها. هذه هي المغالطة المركّبة، فهي تقول إننا إذ نجمع ملامح العديد من الديانات السرية المختلفة، ستبرز لدينا صورة موحّدة تظهر تشابهات قوية بينها وبين الإنجيل. لكن المشكلة الوحيدة هنا هي أن هذه الديانة الموحّدة هي ديانة اصطناعية، من نتاج خيال الكّتاب المحدثين.

لاحظ ألبرت شفايتزر، والذي كان يكتب في أوائل العشرين، أن “معظم الكتابات الشعبية تقع في هذا النوع من الأخطاء الخاصة بعدم الدقة. فهم يقومون بتصنيع نوع من الديانة السرية العامة، التي لم تكن موجودة أصلاً في الحقيقة، على الأقل في أيام بولس، من نتاج أجزاء مختلفة ومتفرقة من المعلومات.” لكن للأسف، تم تكرار هذه المغالطة المركّبة في الأزمنة الحديثة أيضاً. فيذكّرنا بروس ميتزجر بأن شكل العبادة الدينية السرية المعينة يختلف من مكان إلى آخر. ومن قرن إلى قرن.

فإن كانت هذه هي الحال في داخل الديانة السرية الواحدة، فكم يكون الأمر في حالة الديانات السرية؟ لنأخذ مثلاً واحداً من بين العديد من الأمثلة. ففي دراسته المتأنية للتشابهات المزعومة مع المعمودية المسيحية، يستنتج فاجنر أن: “الديانة السرية المتفوقة لم توجد على الإطلاق، وبالتأكيد أنها لم تكن موجودة في القرن الميلادي الأول”. أو لنفكر مثلاً في العقيدة المسيحية بالميلاد الجديد، فبعد فحص الدلائل، يعلن رونالد ناش قائلاً:

لقد وجدنا أنه لا توجد عقيدة سابقة للمسيحية تسمى “الميلاد الجديد”، لكي يستعيرها المسيحيون… لذلك فإن الزعم بأن الديانات السرية السابقة للمسيحية كانت تعتبر ممارسة طقوسها كنوع من الميلاد الجديد، هو زعم ليس له أساس من الصحة ولا تساند أية دلائل معاصرة مثل هذه الممارسات المزعومة. بل على العكس، فإن هناك نظرة موجودة في نصوص لاحقة بعد ذلك بكثير، يتم بها تفسير الطقوس السابقة بطريقة تخمينية على أنها تصويرات دراماتيكية لطقوس “الميلاد الجديد”.

وهكذا فإن الاعتقاد بأن الديانات السرية السابقة للمسيحية كانت تستخدم “الميلاد الجديد” كمصطلح تقني، هو اعتقاد لا يسانده ولا حتى نص واحد. لذلك، عندما يفترض فريك وغاندي أن آلهة العبادات السرية كانت تقدم لأتباعها “الفرصة لكي يولدوا مرة أخرى من خلال شعائر المعمودية”، فإنهما بذلك يقترفان مغالطة مركّبة بتفسير مثل هذه الأفكار على أنها تدخل ضمن الديانات السرية ككل.

إن دراسة التشابهات الثلاثة عشر المزعومة تجعل المرء يشك بالحق في أن هذين المؤلفين كانا غير منظمين للغاية في تنسيقهما للعناصر المسيحية مع بيانات الديانة السرية.

المغالطة الإصطلاحية

يؤكد فريك وغاندي: “إن كل ديانة سرية كانت تعلّم نموذجها الخاص من أسطورة موت وقيامة الإله، الذي كان يعرف بأسماء مختلفة في أماكن مختلفة.” على أن فحص الافتراضات الثلاثة عشر المزعومة للتشابه بين يسوع المسيح والآلهة الوثنية، يوضّح نموذجاً واعياً لحياة المسيح التي تم سردها بمصطلحات مسيحية واضحة. وهذا في حد ذاته يجب أن يرفع الأعلام التحذيرية الحمراء بأن المفردات المسيحية قد تم استغلالها استغلالاً سيئاً.

فهذا التعريف غير السليم للمصطلحات لإثبات نقطة ما هو مغالطة اصطلاحية. على سبيل القياس، لنفترض أنك ذهبت إلى مباراة لكرة القدم الأمريكية في إحدى الكليات، وفيها عانى أحد الفريقين بشدة في الشوط الأول، وتم تسجيل إحدى وعشرين نقطة في مرماه، لكن في الشوط الثاني، قام اللاعبون ببعض التعديلات وجاءوا بقوة أكبر. وأخيراً، في نهاية الشوط الثاني، قاموا بالتعادل. وقبل دقيقة من نهاية المباراة، قاموا بتسجيل هدف الفوز.

في اليوم التالي، سنجد تعليقات الصحف على المباراة كالتالي. فسنجد المحرر يضيف نوعاً من الإثارة لوصفه للمباراة، فيقول إن الفريق الفائز كان “يموت” في الشوط الأول، ولكنه “قام” من الأموات في الشوط الثاني، وتقدّم “للمجد” الذي قاد إلى “الخلاص” بالنسبة لمشجعيه. ربما لم يخطر ببالك أبداً أن تفكر بمثل هذه المصطلحات المسيحية قبل أن تقرأ تلك المقالة. وعند قراءتك لها، ربما تفكر في أن صياغة المقالة رديئة نوعاً ما. وهكذا فعند استخدام تعبيرات ومصطلحات مسيحية محددة لوصف الديانات السرية. فإن الأمر يصدمنا بنفس الطريقة.

يدلي ناش بملاحظة ثاقبة بأنه “كثيراً ما يلتقي المرء بعلماء يقومون في البداية باستخدام مصطلحات لوصف المعتقدات والممارسات الوثنية، ثم يتعجبون بعد ذلك بشأن التشابه الرهيب الذي يعتقدون أنهم قد اكتشفوه”. بوس ميتزجر، وهو عالم بارز من علماء العهد الجديد، وأستاذ يحمل الدرجة الفخرية من كلية لاهوت برينسيتون، يلخّص التشابهات كما يلي: “من نافلة القول أن التشابهات المزعومة التي تكتشف باتّباع مثل هذا المنهج، تتبخّر عندما تواجه بالنصوص الأصلية.

والخلاصة، أن المرء يجب أن يحذر مما يطلق عليه أن: “التشابهات تصبح معقولة عن طريق الوصف الانتقائي”. فبالإشارة إلى استخدام اللغة، يقدم ناش مثالاً من أسطورة إيزيس وأوزوريس. ومن الجدير الإشارة إلى تصريحه الكامل بشأنها:

إن الأسطورة الأساسية لعبادة إيزيس خاصة بأوزوريس زوجها خلال عصر قدماء المصريين والمرحلة غير السرية من الديانة. وبحسب أكثر الصور شعبية من الأسطورة، تم قتل أوزوريس بواسطة أخيه الإله ست والذي قام بعد ذلك بإغراق التابوت المحتوي على جثة أوزوريس في نهر النيل. اكتشفت إيزيس الجثة وأعادتها إلى مصر، ولكن أخا زوجها استطاع الوصول إلى الجثة مرة أخرى، وفي هذه المرة قام بتقطيعها إلى أربعة عشرة جزءاً وقام بتوزيعها في أماكن متباعدة.

بعد بحث طويل، قامت إيزيس باسترداد كل جزء من أجزاء الجثة، وعند هذه النقطة، فإن اللغة المستخدمة لوصف ما تبع ذلك، هي شيء جوهري، في بعض الأحيان يكون من يروون القصة راضين بالقول أن أوزوريس عاد للحياة مرة أخرى، رغم أن مثل هذا التعبير يدّعي أكثر مما تسمح به الأسطورة.

بل أن بعض الكتّاب يذهبون إلى أبعد من ذلك ويشيرون إلى “القيامة” المزعومة لأوزوريس. فيشرح أحد العلماء الليبراليين مدى انحياز بعذ الكتّاب في وصفهم للأسطورة الوثنية بتعبيرات مسيحية، إذ يقولون: “إن الجسد الميت لأوزوريس قد طفا على سطح النيل، وعاد للحياة مرة أخرى، وتم تحقيق ذلك بالمعمودية بماء النيل.”

إن هذا الاستخدام المتحيّز والرديء للتعبيرات يفترض ثلاثة تشابهات قياسية مضللة بين أوزوريس والمسيح:

  1. أن إلهاً مخلّصاً يموت
  2. ثم يختبر قيامة من الأموات يصحبها
  3. معمودية بالماء

ولكن التشابهات المزعومة، مثلها مثل التعبيرات المستخدمة لوصفها، يتضح أنها اختلافات مصطنعة لهذا العالم المحدث، وأنها ليست جزءاً من الأسطورة الأصلية. فالمقارنات التشبيهية بين قيامة يسوع وقيامة أوزوريس بها مبالغة هائلة. فليست كل صورة من صور الأسطورة تقول أن أوزوريس قد عاد للحياة مرة أخرى؛ بل في بعض الصور يقال أنه أصبح ببساطة ملكاً للعالم السفلي. وبنفس تلك المفارقة البعيدة كانت هناك المحاولات لإيجاد تماثل للمعمودية المسيحية في أسطورة أوزوريس.

فمصير تابوت أوزوريس في النيل يرتبط بالمعمودية مثل ارتباطه بغرق قارة أطلنطس المزعومة. وهكذا عندما يتعلق الأمر بالتشابه بين يسوع المسيح وبين الآلهة الوثنية. نرى في الكثير من الأحيان أن المصطلحات التي يستخدمها الكتّاب المحدثون تأتي من مفردات مسيحية بالتحديد. رغم أن هذه المصطلحات لا يكون لها أية علاقة بالديانات الوثنية. إن مثل تلك التعبيرات تكشف عن النوايا السيئة للكتّاب المحدثين أكثر مما تكشف عن جوهر التشابهات القديمة.

مغالطة التبعية

تحدث مغالطة التبعية عندما يعتقد المفسرون أن المسيحية قد استعارت ليس فقط شكل بل أيضاً جوهر الديانات السرية وحولتها إلى ديانة جديدة. لكن كيف يمكن للمرء أن يعرّف التبعية، فهذا أمر جوهري للغاية. وليس ذلك فقط، بل أنه حتى وجود التشابه لا يشير بالضرورة إلى أي نوع من أنواع الاستعارة. فكما أشرنا من قبل، لقد أثارت مدرسة تاريخ الأديان فكرة أن المسيحية قد استعارت بقوة من الديانات الوثنية.

إن الافتراض الأساسي لهذه المدرسة هو أن المسيحية هي تابعة ومعتمدة في محتواها (من قصص وعقائد مهمة) على الديانات السرية الهيلينية. ومع ذلك، فحتى عندما كانت حركة تاريخ الأديان في أعظم تأثيراتها، لم يعتنق جميع العلماء الليبراليين هذا الرأي. فمثلاً، أدولف فون هارناك، المؤرخ الليبرالي الألماني البارز للمسيحية الأولى خلال الحقب الثلاثة الأولى من القرن العشرين، كتب قائلاً:

لابد لنا أن نرفض منهج المقارنة الذي يجد ارتباطاً عشوائياً غير منظم بين كل شيء وكل شيء آخر… فبهذه الوسائل يمكن للمرء أن يحوّل المسيح إلى إله الشمس في لمحة من البصر، أو أن يأتي بالأساطير التي تصحب كل ميلاد لآلهة يمكن تخيلها، كما يمكن للمرء أن يلتقط كل أنواع الحمام الأسطوري كي يشبهها بحمامة المعمودية…. إن الرغبة في “مقارنة الأديان” تقضي بصورة حاسمة على كل سمة عفوية في أية ديانة.

الأمر الأول هو أن التبعية يمكن أن تستخدم بطريقتين. فهل كان أصل المسيحية تابعاً للأفكار اليونانية الفلسفية والدينية الموجودة؟ إن هذا السؤال يتوقف عليه كيفية استخدام المرء لكلمة “تابع”.

يجادل ناش بأن التبعية يمكنها أن تكون ضعيفة أو قوية، وهذا الفارق هو فارق حيوي، فالتبعية القوية تعني أن فكرة يسوع كإله مخلّص مات وقام لم تكن لتخطر على بال المؤمنين لو لم يكونوا على وعي بها أولاً في الفكر الوثني، إن كان الأمر كذلك، يكون من المعترف به أن بولس والمسيحيين الجدد الآخرين، قد آمنوا بأن المسيح هو إله – إنسان قام من الأموات وأنه قام بعمل كفاري لأجل خطايا العالم، لأن مثل هذه الأفكار كانت بالفعل جزءاً من الأفكار الوثنية.

لكن إثبات تبعية المسيحية القوية للفكر اليوناني كان ليمثل ضرراً بالغاً لأولئك الذين يتمسكون بالتاريخية العامة للأناجيل. أما التبعية الضعيفة فقد تعني أن أتباع يسوع قد استخدموا المصطلحات الدينية الشائعة لكي يرووا قصتهم بطريقة مفهومة للثقافات العبرية واليونانية في زمانهم، أو أنهم ببساطة ربما قاموا باستخدام التعبيرات التي تصادف أنها تشبه تعبيرات الديانات الأخرى، لأسباب سنناقشها فيما يلي. كما يذكر ناش: “إن مجرد وجود تشابهات في الفكر والتعبيرات لا يثبت أية تبعية بالمعنى القوي”.

كما يؤكد مؤرخ جامعة أكسفورد، روبين لين فوكس، أن جميع التشابهات المفترضة تقريباً بين الممارسات الوثنية وبين المسيحية هي زائفة. ويتحدى فوكس أطروحة أن المسيحية “لم تكن غريبة تماماً عن العالم الوثني”. وقد قاده البحث للاستنتاج أنه يوجد، بحسب تعبير ليون ماكينزي: “مجرد تشابه هامشي ضعيف فقط بين الوثنية والمسيحية”.

ثانياً، إن أولئك الذين يشددون على التشابه والتبعية غالباً ما يتجاهلون التشابه العام للتجارب البشرية الذي يكمن تحت الأشكال الثقافية المحددة. ففي مقاله البحثي المدروس بعناية، “منهج دراسة الديانات السرية والمسيحية الأولى”، لاحظ ميتزجر أن “التشابه ووحدة الطبيعة الإنسانية ينتج في بعض الأحيان نتائج متماثلة لافتة للنظر، في المواقف المتماثلة، حيث لا يمكن أن يكون هناك شك في أي جسر تاريخي يمكن به للتقليد أن يتوسط من ثقافة إلى أخرى”.

فمثلاً، “حقيقتا أن جميع البشر يأكلون، وأن معظمهم يسعون للرفقة مع بعضهم البعض ومع إلههم، تعلل النسبة الكبيرة من التشابهات بين النماذج المختلفة للديانات في جميع أنحاء العالم”. ثم يقوم ميتزجر بالاقتباس من إس جي إف براندون بخصوص التشابهات بين عبادة أوزوريس المصرية وبين يسوع المسيح: “إن أية نظرية يخصوص استعارة المسيحية من الإيمان الأقدم لا يمكن تبنيها، ليس فقط لأنه لا يمكن إثباتها بالدليل الموجود، ولكن لأنها جوهرياً غير واردة”.

يمكننا أن نضيف أيضاً أن جميع الديانات، إن كان لها أن تفوز بأي أتباع، لابد أن تسدد الاحتياجات والرغبات الإنسانية العامة. فهل علينا أن نندهش إذاً عندما تكتشف التشابهات بين المسيحية وبين أية ديانة أخرى بخصوص عرضها بالحياة بعد الموت، والهوية الإلهية، وطقوس الانضمام لها، أو أسلوب السلوك؟ كلا، ولكننا في مثل هذه الحالات، لا يمكن أن نعتبر أن التشابهات تشير إلى التبعية.

كما يجادل والتر كونيث في كتابه “لاهوت القيامة” بالقول: إن حقيقة أن موضوع موت وعودة الإله هي موضوع عام في تاريخ الديانات، وأن انتقال هذا الموضوع هو أمر ممكن، يجب ألا تكون فرصة للحديث فوراً عن التبعية، أو عن التأثر، أو عن ماهية المحتوى. بل على العكس، فإن المهمة العلمية هي ألا يتم تجاهل الاختلافات الجوهرية في الشكل والمحتوى والاتجاه النهائي، حتى في حالات التشابه الشكلي الواضح، لأجل العمل على الاختلاف الحاسم في المحتوى.

ثالثاً، يجب أن نضع في الاعتبار عملية تكييف اللغة لدى المسيحيين الأوائل. ويبدو هذا أنه يأخذ على الأقل شكلين، وهما اللغة التي ترتبط “بدافع التبشير”، واللغة التي كان الدافع لها الرغبة في أن تحوز القبول الثقافي ككل. يتفق الرسول بولس مع نوع الأسلوب الأول؛ أما الأسلوب الثاني فقد اتبعه يوستينوس الشهيد، وهو كاتب من القرن الثاني. فقد قال بولس لأهل كورنثوس: “صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا” (ا كو 9: 22).

كان بولس يعلم كيف يتحدث اللغة التي تتواصل مع مستمعيه الذين يعرفهم بأفضل ما يمكن، وقد فعل هذا عندما خاطب الفلاسفة في أثينا (أع 17)، والمسيحيين المتجددين حديثاً في تسالونيكي. السؤال الحقيقي هو: “هل حقيقة معرفة واحد من الذين كتبوا العهد الجديد بالمعتقدات أو المصطلحات الوثنية، تثبت أن ما كان يعرفه كان له تأثير تشكيلي أو أصلي على معتقداته هو الخاصة؟”. إن اللغة التي استخدمها بولس كان المقصود بها أن تكون نقطة انطلاق -لكي توضّح أن المسيحية ليست مثل أية ديانة وثنية في أي من عقائدها الأساسية.

لقد كان يوستينوس الشهيد (100- 165) تحركه دوافع وجدت في أفكار سابقة للفيلسوف فيلو السكندري (20 ق.م – 50 م)، وهو المفكر اليهودي الذي عبّر عن اليهودية بمصطلحات فلسفية يونانية. فهل هذا يعني أن اليهودية كانت مدينة للفلسفة اليونانية؟ على الإطلاق، ولكنه يوضّح الأبعاد التي كان يمكن للكاتب القديم أن يصل إليها لكي يجعل ديانته جذّابة ومفهومة ومستساغة للغرباء عنها. بالمثل، جاء يوستينوس الشهيد من بيت وثني وقد تربى وتتلمذ على الفلسفة اليونانية.

“لقد اضطر يوستينوس عند اهتدائه إلى المسيحية إلى أن يبحث عن رابطة أو علاقة بين ماضيه الوثني والفلسفي، وحاضره المسيحي اللاهوتي. وقد قام بالتعبير عن هذا الاجتهاد الذاتي عندما سعى للتوسط بن عالمي الفكر اليوناني والمسيحي”. فعلى سبيل المثال، قام يوستينوس بالدفاع عن الميلاد العذراوي كالآتي: “حتى لو أكّدنا أنه (المسيح) ولد من عذراء. فاقبل هذا بجانب ما تقبله عن فرساوس”.

من الواضح أن هناك معنى فيما يريد يوستينوس أن يجده من أمور مشتركة مع الديانات الأخرى -من ناحية، لكي يخفف من الهجوم على المسيحية (حيث أنها كانت ديانة غير شرعية في ذلك الوقت)، ومن ناحية أخرى، لكي يقدم الإنجيل بطريقة جذابة، ويوضح أنه ليس من غير المعقول اعتناقه.

من الحقيقي أن يوستينوس ادّعى أن الشيطان هو الذي أوحى بالديانات الوثنية لكي يقّلد بعض نواحي المسيحية، ولكن حتى هذا بعد كل البعد عن الادّعاء بأنه رأى الدعوة المسيحية الأساسية تتكرر في أية ديانة أخرى. كما يبرهن جي جريشام ماكين: “يجب ألا ننسى أبداّ أن استشهاد يوستينوس الشهيد وأوريجانوس بالروايات الوثنية عن الولادة الإلهية هو أمر جدلي، فهما يقولان بهذا الشأن لمقاوميهم الوثنيين، إنه إذا كان الميلاد العذراوي للمسيح لا يمكن تصديقه؛ فهل هو لا يمكن تصديقه أكثر من الروايات التي تؤمنون أنتم أنفسكم بها؟”.

سواء كان هذا النوع من التكييف للغة هو أفضل منهج لنشر الإنجيل أم لا، فهذا أمر قابل للنقاش. ترتليانوس (160-225)، وهو من المدافعين المبكرين عن الإيمان من شمال أفريقيا، كان يشعر أنه منهج غير مناسب. “إن نظرة يوستينوس للفلسفة على أنها متواصلة مع المسيحية هي بالتأكيد ليست نظرة يشاركه فيها ترتليانوس الذي “كان يعتبر الفلسفة حماقة ومصدر للهرطقة”.

في أخذنا لعينات من عوامل التشابه والفروق الدقيقة الخاصة بموضوع التبعية، أشرنا إلى أن العهد الجديد قد استعار فقط مفاهيم، وفي بعض الأحيان تعبيرات من الديانات الوثنية لأسباب متعددة. وهكذا لم تكن هناك تبعية قوية -أي أنه لا يوجد دليل على أن من كتبوا العهد الجديد كانوا مدينين للديانات السرية برسالتهم الأساسية. كما لاحظنا أيضاً أن التشابهات لا تعني التبعية، وأن هناك أسباباً متعددة يمكن أن تنتج بعض التشابهات المماثلة (ليس أقلها الوضع الإنساني، وحقيقة أن جميع الديانات تخاطب الكثير من الاحتياجات والرغبات البشرية المماثلة).

كما ناقشنا تكييف اللغة كدافع لجعل الإنجيل مستساغاً ومفهوماً. ففي العهد الجديد، يوضّح الرسول بولس أنه قد كيّف رسالته لكي تصير مفهومة للقراء الأمميين من غير اليهود. ولكن الإنجيل لم يحدث به تغيير مطلقاً نتيجة لمثل هذه التكييفات في اللغة. وفي القرن الثاني ذهب يوستينوس الشهيد إلى أبعد الحدود بأن قدّم بعض التشابهات المعينة بين المسيحية والديانات الوثنية -في الأغلب كوسيلة لعبور الفجوة بين قرائه الوثنيين وبين الإيمان المسيحي.

وقد فعل هذا، من ناحية، بسبب خلفيته في الفلسفة اليونانية، ومن ناحية أخرى لكي يعطي المسيحية صفة القانونية كديانة، ومن حيث أنها لا تختلف كثيراً عن الديانات الأخرى وبالتالي يمكن اعتناقها. وفي نفس الوقت، فإن القراءة المتأنية لأفكار يوستينوس تبيّن أنه في كل مناسبة كان يرى الإنجيل متفرداً للغاية، وبالتالي متفوقاً عن الديانات الوثنية. وبينما كان يوستيوس يعمل على كسب أتباع للمسيحية عن طريق تكييف اللغة، فقد سعى ترتليانوس للقيام بذلك عن طريق إظهار النقاط الحقيقية المميزة المختلفة في الإيمان المسيحي.

وهذه القضية الجدلية بشأن أيهما أكثر فاعلية، البحث عن “التشابهات أم الاختلافات” هي محل الكثير من التوترات بين شد وجذب ولا يزال المرسلون والكارزون يتجادلون بشأنها إلى اليوم.

مغالطة التسلسل الزمني

إن ما يتم تجاهله في كثير من الأحيان عندما نفكر في التشابهات وفي التبعية، هو ما إذا كان اليهود الفلسطينيون في القرن الأول الميلادي قد استعاروا معتقدات أساسية معينة من العبادات الوثنية. علينا أن نتذكّر أن الكنيسة كانت في البداية تتكون معظمها في الأغلب من اليهود، لذلك فهناك عاملان نحتاج أن نضعهما ف الاعتبار. الأول، أنه حتى الآن لا توجد براهين أثرية عن الديانات السرية في فلسطين في الجزء الأول من القرن الأول. إذ يؤكد نورمان أدرسون: “لو كانت هناك عملية استعارة لإحدى الديانات من ديانة أخرى، فإنه سيتضح كيف تم هذا الأمر.

ولكن لا توجد أدلة أياً كانت، أعلم بها، على أن الديانات السرية كان لها أي تأثير في فلسطين في الحقب الأولى من القرن الأول”. ثانياً، هناك العقلية اليهودية في القرن الأول، والتي كانت تحتقر سياسة التوفيق. فبعكس الأمم في هذه الحقبة، كان اليهود يرفضون أن يمزجوا ديانتهم بالديانات الأخرى. لم تكن الديانات الأممية حصرية. بمعنى أن الفرد فيها كان يمكنه أن يتبع العديد من الآلهة المختلفة في نفس الوقت. ولكن اليهودية كانت ديانة توحيد صارمة، تماماً مثلما كانت المسيحية.

وهكذا فبانتشار الإنجيل فيما وراء حدود اليهودية، لم يجد الرسل أنفسهم فقط يقدمون للناس الفكرة الغريبة عن إنسان قام من الأموات، بل أنهم التقوا وجهاً لوجه كذلك مع ثقافة تعدد الآلهة. ولكنهم لم يقوموا بأي تكييف على هذه الجبهة. بل على العكس، لقد علّم يوحنا قرائه قائلاً: “أَيُّهَا الأَوْلاَدُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الأَصْنَامِ”. (1يو 5: 21)، وأشاد بولس بكنيسة تسالونيكي بالقول: ” وَكَيْفَ رَجَعْتُمْ إِلَى اللهِ مِنَ الأَوْثَانِ، لِتَعْبُدُوا اللهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ” (1تس 1: 9). كانت هذه هي العقلية اليهودية والمسيحية. وقد امتد الفكر الحصري إلى يسوع المسيح.

كان الرسل يبشرون بجرأة بالخلاص بالمسيح وحده: “وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ” (أع 4: 12). حتى بولس عندما واجه الفلاسفة اليونانيين في أثينا، فإنه لم يكيّف رسالته لكي تتلاءم مع تعدد الآلهة. “وَبَيْنَمَا بُولُسُ يَنْتَظِرُهُمَا فِي أَثِينَا احْتَدَّتْ رُوحُهُ فِيهِ، إِذْ رَأَى الْمَدِينَةَ مَمْلُؤَةً أَصْنَامًا” (أع 17: 16). وفي تبشيره كان يعرّف الله على أنه هو الإله الواحد، وحثّ اليونانيين على أن يتوبوا عن عبادتهم لأوثان متعددة (الأعداد من 23 -31).

وبرغم اعترافه بأنهم كانوا متدينين للغاية، فإنه لم يُكيّف نفسه ولا مرة واحدة على فكرة أنه يوجد في الحقيقة العديد من الآلهة. كما يفترض ناش: “إن سياسة التوحيد وعدم التوفيق بين الأديان والفكر الحصري الذي كانت الكنيسة الأولى تبشر به وتمارسه، جعل إمكانية دخول أية وثنية… غير واردة، بل غير ممكنة” وهذا موضوع منهجي مهم لا يمكن تجاهله، وهكذا عندما نجادل أن المسيحية الأولى قد استعارت بكثرة من الديانات الوثنية، فهذا الأمر يبدو أكثر فأكثر مجرد تخيلات يتمناها البعض بغير أن تكون مدّعمة بالبراهين.

فإن كان هناك تشابهات حقيقية بين يسوع المسيح والآلهة الوثنية، فمتى وكيف جاءت؟ يرى العديد من العلماء المعاصرين أن هناك بالفعل أدلة على علاقة التبعية بين الديانات السرية وبين المسيحية، لكنها في أغلبها تبعية معكوسة. توجد أساساً ثلاثة فترات للمقارنة بين المسيحية والديانات السرية: من عام 1-200م؛ ومن عام 201-300؛ ومن عام 301-500.

ففي الفترة الأولى، كانت الديانات السرية محدودة ومحلية، فكان لها تأثير ضئيل على التيار الرئيسي للديانات. فإن كان هناك أي تأثير بين المسيحية والديانات السرية، فلابد أنه كان من اتجاه واحد، أي أن المسيحية هي التي أثرت في العبادات الوثنية. وهناك دليل على ذلك من حقيقة أن المسيحية هي أساساً ديانة مضادة للسرية. وهكذا، فإن رسالتها ستكون معروفة، ووثائقها ستكون علنية، وأساسها في التاريخ سيكون موطّداً بقوة.

وأكثر من ذلك، حيث أنه لا يوجد دليل على وجود السياسة التوفيقية في المسيحية الرسولية، بينما كانت الديانات السرية منذ بداياتها الأولى تظهر اتجاهات توفيقية، فإن الحكم يجب أن يكون بأن المسيحية قد أثّرت على الديانات السرية، التي بدأت في القرن الأول، وليس العكس. وفي القرن الثاني، بعد أن كان الإيمان المسيحي قد انتشر في كل مناطق العالم الروماني، أصبحت الديانات السرية أكثر انتقائية، فخففت من العناصر القاسية فيها، وكانت تقدم، عن وعي، بديلاً للمسيحية.

فمثلاً: ” في تنافسها مع المسيحية، التي وعدت أتباعها بالحياة الأبدية، فإن عبادة سيبيل، بصورة رسمية أو غير رسمية، رفعت من فعالية حمّام الدم من عشرين عاماً إلى الأبدية”.

أما المرحلة الثانية، فبدأت في القرن الثالث. ففي هذا الوقت جاءت البيانات إلى تركيز أوضح، فأخذت العبادات السرية أشكالاً محددة إذ كانت تتفاعل مع المسيحية وتتنافس معها. ولكن الدليل على أن نفس هذه العبادات كان لديها كل هذه السمات قبل نشأة الإيمان المسيحي غير موجود، فيلاحظ ناش: هناك أعداد لا حصر لها من الكتّاب عن هذا الموضوع يستخدمون المصادر المتاحة لكي يعيدوا تشكيل هياكل دينية معقولة من التجربة السرية في القرن الثالث، ثم يجادلون مرة أخرى بصورة غير نقدية فيما يعتقدون أنه كان هو الطبيعة الأولى لعباداتهم.

إن لدينا الكثير من المعلومات عن الديانات السرية في القرن الثالث. ولكن هناك اختلافات مهمة بين هذه الديانات وبين التعبيرات الأولى عن التجربة السرية (التي لا توجد عنها معلومات كافية). إن المصادر التي يستشهد بها المتشككون في المعتاد كدليل على أن الديانات الوثنية أثّرت على معتقدات المسيحيين الأوائل تؤخر تاريخ كتابة أسفار العهد الجديد. وهكذا فإن التسلسل الزمني خاطئ تماماً. أتيس وميثرا والآخرون يظهرون دليلاً على تبعية الديانات للمسيحية.

لكن بداية من القرن الرابع، بدأ الوضع يعكس نفسه: بدأت المسيحية تتبنى مصطلحات وأساليب العبادات السرية. من المهم أن نضع هذا الأمر في الاعتبار، حيث أن التشابهات التي يستخدمها بعض المتشككين هي من الأشكال اللاحقة من المسيحية. لذلك يتحدث فريك وغاندي عن 25 ديسمبر كتاريخ أخذه المسيحيون من الديانات السرية في الاحتفال بميلاد يسوع. وهذا بالطبع أمر محتمل. ولكنه أيضاً لا صلة له بالقضية الأساسية. فنحن لا نقرأ في أي مكان في العهد الجديد أن ميلاد يسوع كان في الخامس والعشرين من ديسمبر.

فمن الواضح أنه تم استخدام هذا التاريخ واختياره لاستيعاب العبادات الأخرى داخل الديانة الجديدة، المسيحية، التي أصبحت سائدة في ذلك الوقت في الإمبراطورية الرومانية. ولكن هذا الأمر لم يتم بصورة رسمية حتى القرن الرابع. وهكذا فإننا يمكن أن نعترف بسهولة أن المسيحية قد استعارت من الديانات السرية، لكن عندما قامت المسيحية بهذا الأمر فقد كان ذلك بعد نشأتها بمئات السنين. ولكن هذه الاستعارة ليست لها أية علاقة بجوهر البشارة المسيحية.

المرحلة الثالثة من التداخل المحتمل حدوثه بين المسيحية والعبادات السرية كانت في القرنين الرابع والخامس. فرغم أن الديانات السرية كانت تذوي وتتهاوى، فقد كانت قادرة في ذلك الوقت على التأثير في بعض أشكال وأساليب عبادة ومصطلحات الكنيسة المسيحية. يختلف الكاثوليك والبروتستانت على ملائمة وصحة مثل هذا التوفيق.

ولكن “السؤال الجوهري ليس عن التأثير المحتمل للديانات السرية الذاوية على المسيحية بعد عام 400 م، ولكن عما إذا كان هناك تأثير لهذه العبادات الوثنية على العهد الجديد في القرن الأول”. بعد نشأة المسيحية فقط بدأت الديانات السرية تبدو موضع شك مثل الإيمان المسيحي. فبمجرد أن أصبحت المسيحية معروفة، تبنت العديد من الطوائف السرية، عن وعي، الأفكار المسيحية لكي يتم فهم آلهتهم على أنها على قدم المساواة مع يسوع.

فشكل الديانات السرية قبل نشأة المسيحية كان غامضاً وغير واضح ومحلياً. وبالتالي، يمكن القول إنه فقط عن طريق الخيال الواسع، والتلاعب بالبيانات التاريخية، يمكن للمرء أن يرى هذه الديانات على أن لها تشابهات أصيلة في المفاهيم مع الإيمان المسيحي في القرن الأول.

المغالطة المتعمدة

وأخيراً، عندما يفحص المرء هدف وطبيعة الديانات السرية بالمقابل مع هدف وطبيعة المسيحية، ستظهر فروق هائلة وضخمة بينهما. سوف نقوم بمناقشة هذه الموضوعات بقدر من التفصيل عندما نتطرق إلى الميلاد العذراوي وموت وقيامة المسيح. لكن يكفي هنا أن نقول أن المسيحية لديها نظرة مستقيمة للتاريخ -فالتاريخ له غاية نهائية يتجه إلى مكان ما.

لكن كل الديانات السرية تقريباً لديها نظرة للتاريخ مرتبطة بدورة الزرع والحصاد. قدمت البشارة المسيحية هدفاً حقيقياً للحياة، بينما الديانات السرية نظرة للحياة على أنها “حركة دائرية لا تقود إلى أي مكان”.

الأمور المشتركة بين الديانات السرية

كان للديانات في العالم القديم أسماء غريبة، فبعض الناس كانوا يعبدون إلهاً يدعى “ميثرا”، وآخرون كانوا يعبدون أوزوريس وأيزيس، بينما كان هناك من يعبدون ديونيسس. لكن ما يجعل الأمور أكثر إثارة هو أن هذه الديانات قد استعارت بقوة من بعضها البعض. بل أن نفس الإله قد ينتهي به الأمر بأن يكون له عدد كبير من الأسماء. لذلك فمن الصعب أن نتحدث عن سمات عامة لهذه الديانات المختلفة لأنه كان هناك كم كبير من الاختلافات بينها. ومع ذلك فإن الكثير من المتشككين في المسيحية يدّعون أن هناك عناصر مشتركة بين الديانات السرية وبين المسيحية.

لكن الأدلة الواضحة تؤكد أن هذه ليست هي الحقيقة. بل على العكس، أن هذه الديانات السرية تشترك في الكثير من السمات بين بعضها البعض أكثر مما تشترك مع المسيحية. ففي العصر الهيليني. كان الخيط المشترك بين هذه الديانات هو أنه كانت لديها جميعها احتفالات وطقوس سرية، أو أسرار بالنسبة لكل من هم خارجها. وكانت هذه الأسرار هي التي تأتي “بالخلاص” للمشتركين فيها. كانت أكثر الديانات السرية رئيسية تشمل العبادة اليونانية لديونيسس وديميتر والعبادات السرية اللاحقة لإليوسينيان وأورفيك.

في فريجيا (وسط تركيا الحديثة) قامت عبادة سيبيل وأتيس. كما أسهمت مصر بعبادة أيزيس وأوزوريس. ومن فلسطين وسوريا جاءت العبادة السرية لأدونيس وأخيراً ميثريزم، الذي يوجد خلاف على أصله. أسماء غريبة، وأماكن غريبة، وآلهة أغرب! فهل لهم أية علاقة مع المسيحية؟

هذه الديانات السرية (فيما عدا ميثريزم)، كانت لها خمسة سمات مشتركة فيما بينها:

  1. في قلب كل ديانة سرية منهم كانت الدورة السنوية للزرع والحصاد “تتجدد فيها الحياة في كل ربيع وتموت في كل خريف. وقد وجد أتباع هذه العبادات السرية أهمية رمزية عميقة في العمليات الطبيعية للنمو والموت والانحلال والميلاد من جديد”.

  2. قامت كل عبادة “بالاستفادة من الاحتفالات السرية، في أغلب الأحيان في ارتباطها بطقس الانضمام لها… كما أن كل ديانة سرية كانت “تنتقل “سراً”، أو “معرفة” بحياة الإله ووسائل الاتحاد به” وهذه “المعرفة” كانت دائماً تعليم باطني أو سري، لا يمكن لأي شخص خارج دائرة الطائفة أن يعرفه.

  3. كان محور تركيز أسطورة كل ديانة سرية هو نصرة الإله على شيء ما. يمكن لهذا الأمر أن يكون هو العودة للحياة مرة أخرى أو حرباً ونصرة على أعدائه. “كانت الأسطورة تتضمن موضوع التحرر من كل شيء أرضي أو دنيوي. وكان المعنى السري لكل عبادة، وأسطورتها المصاحبة لها، يتم التعبير عنهما في “دراما الأسرار” التي كانت تستأسر بصورة كبيرة على مشاعر المنضمين إليها. وكانت دورة الزرع والحصاد في الأغلب هي التي تملي عليهم هذا الشعور “بالميلاد الجديد” والحياة الجديدة.

  4. كانت العقيدة والإيمان الصحيح له أهمية ضئيلة. فقد كانت العبادات تهتم أساساً بالمشاعر. فكانت “المواكب والأصوام والألعاب هي أفعال تطهيرية، وأضواء مشتعلة، وطقوس باطنية سرية” تثير الانفعال العاطفي الذي يأتي بالشخص إلى الاتحاد مع الإله.

  5. “كان الهدف المباشر للمنضمين هو الحصول على اختبار تصوفي سري يقودهم للشعور أنهم قد حققوا اتحاداً مع إلههم… وفيما وراء هذا المطلب للاتحاد السري، كان هناك هدفان آخران نهائيان: الحصول على نوع من التحرر أو الخلاص، والحياة الخالدة”.

هناك أوجه تشابه في هذه العناصر مع المسيحية، لكن الاختلافات أعظم. فكل منهما يعترف بنصرة إلهه كعنصر مهم في الديانة، وكل منهما يركز على الخلاص. لكن هذه السمات هي سمات عامة بالنسبة لمعظم الأديان. لكن ما ميّز المسيحية كان الآتي:

  1. إصرارها على المصداقية التاريخية، الأمر الذي لا تدّعيه أو تتظاهر بوجوده حتى الديانات السرية، في مقابل نظرة “الذهاب إلى لا مكان” بحسب دورة الزرع والحصاد.
  2. البشارة المسيحية بالإنجيل متاحة ويمكن لجميع الناس الحصول عليها.
  3. إصرار المسيحية على المعتقد السليم بدلاً من المشاعر الفائرة الهائجة.
  4. محورية موت وقامة يسوع الميح والقيامة الآتية للمؤمنين.

كما أشار لاوبين لين فوكس، أنه بينما تقدم الديانات السرية “أسطورة عن آلهتها، يقدم اليهود والمسيحيون تاريخاً؛ الديانات الوثنية تكشف عن اختبار سري، بينما اليهود والمسيحيون يقدمون “إعلاناً مبني على نصوص” يمكننا أن نذكر الكثير من الاختلافات الأخرى، مثل أن الإيمان المسيحي حصري، أي أن المسيحيين يبشرون أنه يوجد طريق واحد شرعي فقط لله وللخلاص، هو يسوع المسيح. لكن الديانات السرية ليست حصرية، فلا يوجد ما يمنع أي مؤمن بعبادة ما من اتباع عبادة سرية أخرى.

إن لدى العبادات السرية أوجه شبه كثيرة بما لا يقاس مع بعضها البعض، أكثر مما لديها مع المسيحية. لكن العبادات السرية لاحظت الحركة المسيحية وبدأت في محاكاتها. ولم يحدث إلا بعد عام 100 م أن بدأت الديانات السرية تبدو أنها تشبه المسيحية كثيراً، وذلك بالتحديد لأن وجودها كان مهدداً بواسطة هذه الديانة الجديدة، فكان عليها أن تنافس لكي تنجو وتستمر.

الخلاصة: المسيحية مضادة للأسرار

إن التشابهات المزعومة بين الآلهة الوثنية ويسوع المسيح لا تناقش أن البشارة المسيحية كانت مبنية على الخيال. وهكذا فإن ما يستمر بعض المؤلفين المحدثين في افتراضه، بأن الإنجيل مبني على أسطورة هو افتراض، في أفضل الحالات، غير مسئول، وهو مضلل عن عمد، في أسوئها. عندما قام ناش بتأليف كتابه: “الإنجيل واليونانيون” (الذي صدر أولاً عام 1992، وصدرت منه طبعة ثانية عام 2003)، كان عليه أن يبرر المراهنة على حصان جُرِحَ بالفعل جرحاً مميتاً.

ولكنه حاجج بأنه “رغم أن المتخصصين في الدراسات الخاصة بالكتاب المقدس والدراسات الكلاسيكية يعرفون مدى ضعف القضية القديمة الخاصة بالتبعية المسيحية، إلا أن هذه المجادلات القديمة تستمر في الانتشار في مطبوعات العلماء في مجالات أخرى مثل التاريخ والفلسفة. لكن ما يدعو للاهتمام أن التصريحات القديمة عن الديانات السرية تم فحصها بطريقة منهجية بواسطة كريستيان أوجست لوبيك في عام 1829.

إن بروس ميتزجر لا تعوزه الكلمات في تقدير إنجاز لوبيك بالكشف عن الطبيعة الحقيقية للديانات السرية، بالقول: “إن قدراً هائلاً من الهراء والمخلّفات والمعرفة الزائفة تم إزاحته بعيداً، وأصبح في الإمكان مناقشة الطقوس والتعاليم والأسرار الخاصة بالديانات السرية بطريقة عقلانية”. ربما آن الأوان لأن نخرج أخيراً من مخزن النفايات.

الصلات المفترضة بين المسيحية والديانات الوثنية هل هي حقيقيَّة؟

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !