أبحاث

موثوقية نص العهد الجديد والإختلافات النصية في مخطوطاته

موثوقية نص العهد الجديد والإختلافات النصية في مخطوطاته

موثوقية نص العهد الجديد والإختلافات النصية في مخطوطاته
موثوقية نص العهد الجديد والإختلافات النصية في مخطوطاته

تتبعنا التعليم الشفهي وراء الأناجيل حتى وصل إلى النصوص المكتوبة، ورأينا أن الأناجيل موثوق بها بصفة عامة، على الأقل كشهادة لشخص وعمل يسوع المسيح. ولكن ماذا لو أن نسخ هذه الأناجيل قد حُرّفت؟

وماذا لو أن أسفار العهد الجديد قد نسخت على نحو رديء بحيث أننا لا يمكن أن نستعيد النص الأصلي؟

أفلم يطبع الكتاب المقدس وينسخ ويترجم مرات كثيرة بحيث أن الكلمات الأصلية لابد وأن تكون قد فقدت منذ زمن طويل؟ باختصار، هل ما لدينا الآن هو ما كتبوه في الاصل؟

في هذا الجزء سوف نلقي نظرة عامة على الموضوعات المختصة بنقل وتدوين العهد الجديد عبر القرون.

إن هناك كم هائل من الكتابات الخاصة بهذا الموضوع، ولكن هدفنا هنا هو أن نعرّف القارئ بالنظام العام المعروف باسم النقد النصي. ورغم أن الأساطير والمفاهيم الغريبة عادة ما تكثر عندما يتعلق الأمر بهذا الموضوع، إلا أننا بنهاية هذا الجزء يجب أن نكون قد فهمنا الحقائق الأساسية عن نصوص العهد الجديد.

هدف النقد النصي للعهد الجديد

النقد النصي عامة هو دراسة نسخ أية وثائق مكتوبة لا يكون أصلها معروفاً أو يكون غير موجود لكي يتم تحديد التعبير اللفظي أو الصياغة اللغوية المحددة تماماً للأصل. مثل هذه المهمة تكون ضرورية إذا ما كانت كمية المادة الأدبية كبيرة، خاصة تلك التي تكون قد كتبت قبل اختراع آلة الطباعة المتنقّلة في منتصف القرن الخامس عشر. ولا يستثني العهد الجديد من هذا القانون،١ فإننا نحتاج للنقد النصي للعهد الجديد لسببين:

(١) إن الوثائق الأصلية (والمعروفة باسم المخطوطات) لم تعد موجودة، و(٢) لا توجد نسختان تتفقان بالكامل، ففي الحقيقة أنه بين أكثر النسخ المتشابهة من الألفية الميلادية الأولي يوجد ما يقرب من عشرة اختلافات في كل أصحاح. فلو أن الأصول مازالت موجودة معنا، بالطبع لما كان هناك حاجة لمثل هذا النظام. وحيث أن النسخ الباقية (أو الموجودة) تختلف عن بعضها البعض، فلابد من وجود بعض المعايير لتحديد كيف كانت تتم صياغة المخطوطات.

كمية وكيفية الاختلافات النصية

إن العهد الجديد باليونانية، كما نعرفه اليوم، به ما يقرب من مائة وثمانية وثلاثين ألف كلمة، وهكذا فإنه يوجد آلاف من الاختلافات النصية. والاختلاف النصي هو عبارة عن أي مكان في مخطوطات العهد الجديد لا تتماثل فيها الصياغة أو التعبيرات اللفظية. وعلى أفضل تقدير، هناك ما بين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف اختلاف نصي بين المخطوطات. وهذا يعني أنه، في المتوسط، لكل كلمة في العهد الجديد باليونانية يوجد على الأقل اختلافان. لكن لو كانت هذه فقط هي المعلومات التي لدينا، لأحبط أي إنسان عند محاولة استرداد التعبيرات والصياغة الأصلية.

 إحدى طرق قياس أثر هذه الاختلافات هي مقارنة نص العهد الجديد باليونانية الذي استخدمه مترجمو نسخة كينج جيمس الإنجليزية (١٦١١) بنص العهد الجديد المكتوب باليونانية الذي يستخدمه معظم العلماء اليوم.

فالنص اليوناني الذي استخدم في ترجمة كينج جيمس الإنجليزية كان مبنياً أساساً على ما يقرب من نصف دستة من المخطوطات، التي لا يرجع عمر أي منها إلى ما قبل القرن العاشر الميلادي. أما نص العهد الجديد اليوناني المستخدم اليوم فهو عبارة عن آلاف المخطوطات، التي يرجع تاريخ بعضها إلى القرن الثاني الميلادي. وسوف نناقش هذه النقطة فيما بعد، ولكن ما يجب الإشارة إليه هنا هو أن معظم العلماء المحدثين يرون المخطوطات اليونانية التي استخدمت في ترجمة كينج جيمس على أنها أقل في الأهمية، جزئياً، لأن الناسخين قد أضافوا كلمات للكتب المقدسة، ولكن كمية ما أضافوه يمكن المبالغة فيها.

فعلي مدي فترة تقدّر بعدة قرون، أضيف ما يقرب من ألفين وخمسمائة كلمة للنص الأصلي. وهكذا زاد حجم العهد الجديد من النسخ الأولي إلى النسخ الأخيرة – بعد ألف وأربعمائة عام – بنسبة حوالي ٢% وتعتبر هذه عملية نقل ثابتة بدرجة ملحوظة.

ومع ذلك، فرغم أن العهد الجديد قد زاد حجمه على مدار الزمن، إلا زاد بنسبة ضئيلة للغاية. وحيث أن النصوص الأولي التي لدينا تتفق بصورة أساسية مع النصوص المتأخرة، فلو استطعنا أن نعود بنظرنا إلى الوراء، إلى الأصل، لوجدنا أن الاختلافات بين النص الأصلي والنسخ الأولي ستكون قليلة جداً. لذلك يمكننا أن نلتمس العذر لمن يعتقدون أن هذا النقل الثابت بصورة ملحوظة يدل على عناية الله في حفظه للكتب المقدسة. ٢

  ومع ذلك، فحتي الألفين والخمسمائة كلمة لا تعتبر كمية قليلة. وأكثر من ذلك، فإن هذه تمثل فقط الإضافات، إذ يوجد أيضاً مئات من الإستبدالات التي لا تضيف إلى طول العهد الجديد ولكنها تعتبر اختلافات بين النصوص الأولي وتلك المتأخرة. وماذا حدث يا ترى لكل هذه المئات والآلاف من الاختلافات؟ ربما لا تظهر في ترجمة كينج جيمس، ولكن يجب أن يحسب لها حساب.

  لكننا لا يمكن أن نفكر في كمية الاختلافات دون النظر أيضاً إلى كيفيتها. كم منها يؤثر في معنى النص؟ وكم منها قابل “للتطبيق” ­-بمعني آخر، إنها موجودة في مخطوطات بنسبة كافية من الأصالة بحيث أنه يحتمل أن تعكس الصياغة الأصلية؟ وهكذا يمكن أن تقسم الاختلافات وتصنف كما يلي:

  1. اختلافات في الهجاء والأخطاء التي ليس لها معنى.
  2. اختلافات ثانوية لا تؤثر في الترجمة أو التي تتضمن مرادفات.
  3. اختلافات تؤثر في معنى النص ولكنها غير قابلة للتطبيق.
  4. اختلافات تؤثر في معنى النص كما أنها قابلة للتطبيق.

اختلافات في الهجاء والأخطاء التي ليس لها معنى

معظم المئات والآلاف من الاختلافات النصية هي عبارة عن اختلافات في الهجاء وليس لها تأثير على” معنى النص. فمثلاً، يتم هجاء اسم يوحنا بطريقتين مختلفتين في اليونانية، فهو يكتب أحياناً Iōannēs  وأحيان أخري يكتب Iōanēs ولكن الطريقتين في الهجاء تعبران عن نفس الشخص؛ فالاختلاف الوحيد هو ما إذا كان الاسم به حرف n واحد أو اثنان. كما أن واحدة من أكثر الاختلافات النصية شيوعاً تتضمن ما يطلق علية nu متحركة.

فالحرف اليوناني(n)nu يمكن أن يوجد في نهاية كلمات معينة عندما تقع قبل كلمة تبدأ بحرف متحرك، وهذا يشبه أداتي تعريف النكرة في اللغة الانجليزية (a) و(an). ولكن سواء ظهر حرف (nu) في هذه الكلمات أم لا، فلا يوجد مطلقاً أي اختلاف في المعني. فهو أمر لا أهمية له على الإطلاق حتى إن معظم نقاد النصوص يتجاهلون ببساطة الاختلافات التي تتضمن حرف (nu) عندما يقومون بنسخ كلمات إحدى المخطوطات، ٣ فهي لا تؤثر على أي شيء.

  كما أن بعض الاختلافات الهجائية هي اختلافات ليس لها” معنى في النصوص، وهي تحدث عندما يكون الكاتب متعباً، أو غير يقظ، أو ربما لا يعرف اليونانية معرفة تامة. والآن ربما تفكر أن الكتّاب الذين قاموا بمثل هذه الأخطاء كان يمكن أن يحدثوا تأثيرات خطيرة على نسخ النص. لكن في الواقع إن النصوص ذات الأخطاء البسيطة هذه غالباً ما لا تتكرر بواسطة الكاتب التالي.

وأكثر من ذلك، إن تلك الأخطاء التي لا” معنى لها تخبر العلماء بقدر كبير عن كيفية قيام الكاتب بعمله. فمثلاً، إحدى المخطوطات المبكرة لإنجيلي لوقا ويوحنا، والمعروفة باسم مخطوطات البردي ٧٥، أو P75، بها بعض الأخطاء التي تثير الاهتمام ولا يكون لها” معنى في النص. فكل نص يحوي واحداً أو اثنين من الحروف، مما يفترض أن الكاتب كان ينسخ النص حرفاً حرفاً أو حرفين في المرة الواحدة.4 وبالطبع كان هذا الكاتب شديد الحذر، فقد كان ٥ شخصاً مدققاً!

  هناك مخطوطة أخرى مبكرة، وهي مخطوطة واشنطنيانوس، أو مخطوطة (W) (وقد أطلق عليها كذلك لأنها موجودة في معهد سميثسونيان في واشنطن دي سي)، تحوي الأربعة الأناجيل كاملين، وفيها، في أحد الأماكن، كتب الكاتب كلمة and عندما كان عليه أن يكتب كلمة Lord.

ففي اليونانية تتشابه كتابة الكلمتين كثيراً. (Kurios وKai) وهي بذلك تتيح الفرصة للاختلاط في الذهن. ولكن استخدام كلمة and لا يكون له” معنى في ذلك النص، وهناك دليل على أن الخطأ جاء في نهاية فترة عمل الكاتب، عندما تملّكه التعب.٦ في مثل هذه الأحوال، يكون من السهل إعادة كتابة الكلمة الصحيحة التي أخطأ فيها الكاتب.

الاختلافات التي لا تؤثر في الترجمة أو التي تتضمن مترادفات

أما أكبر ثاني قسم فيحوي اختلافات في النصوص لا تؤثر في الترجمة أو تتضمن مترادفات. وهذه تعتبر اختلافات غير الأخطاء الهجائية والأخطاء البسيطة التي لا” معنى لها، ولكنها مع ذلك لا تغير في طريقة ترجمة النص – أو على الأقل في فهمه.

  وسوف نبدأ بتلك الاختلافات التي لا تؤثر في الترجمة فمثلاً، تستخدم اليونانية في بعض الأحيان أداة التعريف مع أسماء الأعلام، بينما لا تستخدم أداة التعريف في الانجليزية بهذه الطريقة. فنجد العهد الجديد باليونانية يتحدث عن Mary أوthe Mary، أو عن Jesus وthe Jesus.

وهكذا “Paul” أو”the Paul”. وهنا يناقش العلماء أهمية استخدام أداة التعريف مع أسماء الأعلام، ولكن لم يتم التوصل إلى مبادئ محددة بهذا الشأن. ٧ وأحد الأسباب التي لأجلها لا يري العلماء أهمية كبيرة في ذلك هو ببساطة أن المخطوطات تختلف في كتابتها للأداة. ولكن في اللغة الانجليزية لا تحدث اختلافات في الترجمة بسبب ذلك. ولذلك، ففي لوقا ٢: ١٦ نقرأ مثلاً: “فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود”، بينما نقرؤها في اليونانية بوضع أداة التعريف أمام اسم مريم واسم يوسف.

 يوجد أيضاً اختلاف متكرر آخر من هذا النوع الذي يعرف باسم “تغيير موضع الكلمة”. فبخلاف الإنجليزية، يعتمد” معنى الجملة في اليونانية على تصريف الكلمة أكثر مما على ترتيب أو موقع الكلمة في الجملة، وهذا لأن اليونانية لغة تعتمد على التصريف بدرجة عالية – فهي لغة بها ما لا يحصي في النهايات في الأسماء والأفعال، وأيضاً بادئات وواسطات الأفعال. وهكذا تتغير صيغ الكلمات لكي تلائم بنية وتركيب الجملة. فالجملة التي تتكون في الانجليزية من ثلاث كلمات مثل Paul. Loves.God مثلاً، يمكن أن تعني معنيين مختلفين تماماً بحسب ترتيب الكلمات في الجملة.

لكن في اليونانية، حيث أن هناك صيغة واحدة لكلمة God عندما تكون هي فاعل الفعل وصيغة أخري لها عندما تكون المفعول به المباشر، فإن ترتيب الجملة يكون أكثر مرونة. وحيث أن تركيب العبارة يمكن في الصوغ أكثر منه في الترتيب، فيمكن في اليونانية استخدام تركيبة تعني الانجليزية “God Loves Paul”، بأي من الطرق التالية حتى باستخدام الترتيب “Paul Loves God”، إذا كانت نهايات الكلمات تعني أن “الله يحب بولس”، “God Loves Paul”، كالآتي:

God Loves Paul

Paul Loves God

Loves God Paul

Loves Paul God

God Paul Loves

Paul God Loves

 فطالما أن لفظ ” الله” هو في حالة الرفع، “وبولس” هو في حالة النصب، تكون كل الجمل السابقة بمعني “الله يحب بولس” وهكذا فإن اختلاف ترتيب الكلمات يدل على التركيز وليس على المعني الأساسي.

لكن كيف يرتبط هذا بالنقد النصي؟ كثيراً ما يحدث اختلاف في ترتيب الكلمات في المخطوطات، ولكن هذه الاختلافات لا تؤثر في البنية الأساسية للجملة ولا في معنى ما يقال. ٨ ثم هناك أيضاً الاختلافات التي تحوي المترادفات. يمكن للترجمة أن تتأثر بواسطة هذه الاختلافات، ولكن المعني لا يتأثر. ويمكننا أن نفهم كيف نشأت هذه الاختلافات إذا فكرنا في كيفية “تنامي” العهد الجديد عبر الزمن. واحد من الأسباب الرئيسية لتنامي العهد الجديد عبر القرون يرجع إلى استخدامه الطقسي. فالمخطوطات التي تعرف باسم “كتاب الفصول” التي تستخدم للتلاوة في القداس هي التي يعزي إليها على وجه الخصوص تمديد واتساع العهد الجديد.

 فكتاب الفصول عبارة عن مخطوطات قامت بتحديد نصوص من الكتاب المقدس لمختلف أيام الأسبوع. والنص المحدد ليوم معين لا يصلح أن يبدأ بقول مثل “وبينما كان يعلّم على الشاطئ…” فإلى من يرجع الضمير الغائب “هو”؟ وهكذا كان يضاف إلى هذه النصوص توضيح للضمير، بالتحديد لأن كتاب الفصول كان يأخذ مقاطع من سياقها الأوسع – وهي مقاطع كانت كثيراً ما تستخدم الضمائر فقط لتحديد الشخصيات الأساسية.

وقد كان الكتّاب يعرفون الكتب المقدسة جيداّ، خاصة بسبب استخدامها بصورة مستمرة وحفظها أثناء تلاوتها في القداس في كتاب الفصول. فكانوا كثيراً ما يقومون بتوريد الكلمات التي أضافوها في كتاب الفصول إلى النص الكتابي. فمثلاً، في قلب إنجيل مرقس، وعلى مدى حوالي تسع وثمانين آية (مرقس 6: 31 – 8: 26)، لم يتم تعريف يسوع على الإطلاق باسمه أو بلقبه، فلم يذكر اسم “يسوع” أو “الرب”، أو “المعلم”، أو “ربي”، فالضمائر ٩ هي المشير الوحيد لمن يتحدث عنه النص. وبسبب التأثر باستخدام كتاب الفصول، قامت معظم المخطوطات بإضافة الأسماء هنا وهناك للتعريف بالشخص الذي يعنيه النص.

ففي هذه الآيات التسع والثمانين في إنجيل مرقس مثلاً، تضيف معظم المخطوطات اللاحقة كلمة “يسوع” في ٦:٣٤؛ ٧:٢٧؛ ١:٨ و١٧. هذه الاختلافات تؤثر بالتأكيد على الترجمة، ولكن يظل من تشير إليه هو (يسوع) في الحالتين

اختلافات لها معنى ولكنها غير قابلة للتطبيق

 أما ثالث أكبر قطاع فيتكون من الاختلافات التي تؤثر في معنى النص ولكنها غير قابلة للتطبيق. فهي عبارة عن اختلافات موجودة في مخطوطة واحدة أو مجموعة من المخطوطات التي، في حد ذاتها، يكون احتمال أن صياغتها قد أخذت من النص الأصلي احتمالاً ضئيلاً. فمثلاً، في ١ (تسالونيكي ٢:9)، بدلاً من القراءة “إنجيل الله” (الموجودة في جميع المخطوطات تقريباً)، فإنها تكتب في إحدى المخطوطات اللاحقة من العصور الوسطي “إنجيل المسيح.”

وهذا اختلاف له معني، ولكنه غير قابل للتطبيق، إذ إن هناك فرصة ضئيلة أن تحتوي إحدى المخطوطات المتأخرة الصياغة الأصلية، بينما التعليم النصي يقف إلى جانب نص آخر ويتفق معه.

 إن الاتفاقات الكثيرة في نصوص الإنجيل تقدم أمثلة للاختلافات ذات المعني الغير القابلة للتطبيق. فقد كان لدي الكتّاب اتجاه لتنسيق المقاطع المتشابهة في أناجيل مرقس ومتي ولوقا. وهناك مجموعتان من المخطوطات، المعروفة باسم النص الغربي والنص البيزنطي، قامتا على وجه خاص بهذا الأمر. لكن الحقيقة هي أن واحدة من الطرق التي يمكن بها للعلماء أن يعرفوا ما إذا كان اختلاف معين أصلياً أم لا هي أن يروا ما إذا كان يتسق مع غيره.

وحيث أنها ممارسة معروفة لدي الكتّاب أن ينسقوا الصياغة بين الإنجيلين، ١٠ فإن النص الذي لا يتفق يعتبر بالفعل هو النص الأصلي، خاصة عندما يكون عدم الاتساق هذا موجوداً في مخطوطات أقدم. فالدليل على أنه لا يوجد اتساق هو دليل مقنع على أن هذه النصوص أصيلة. هذا وتوجد أمثلة للاتساق في مخطوطات الأناجيل في أية صفحة من صفحات الأناجيل، وواحد منها فقط يمكن أن يكفي لتوضيح غرضنا.

 ففي إنجيل متي٩، كان يسوع يأكل مع بعض الناس المتدنين أخلاقياً. (هذه القصة موجودة أيضاً في إنجيل مرقس ٢ وإنجيل لوقا ٥) وقد أهان هذا الأمر الفريسيين، لذلك فإنهم في عدد ١١ يسألون تلاميذ يسوع: “لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟” وهنا نجد حفنة من المخطوطات اليونانية وبعض النسخ المبكرة تضيف ” ويشرب” بعد كلمة “يأكل” لكي تتفق مع الصياغة الموجودة في (لو ٥:30).

وفيما بعد في (مرقس ٢:16)، تتشابه الصياغة مع نص متي، ولكن هنا نجد أن معظم المخطوطات اللاحقة تضيف كلمة “ويشرب”. فبالنسبة إلى (لوقا ٥:30)، توجد مخطوطة واحدة فقط معروفة هي التي تحذف “وتشربون”، وهكذا فإنها تتفق مع الصياغة في متي ومرقس.

 توضح هذه المشكلة النصية أمرين. الأول، أن الكتّاب كانوا معرضين لأن يوفّقوا روايات الإنجيل، حتى عندما لم يكن هناك تعارض حقيقي واضح بينها. ثانياً، عندما يتعلًق الأمر بالاتساق والتوافق، كان الكتّاب يميلون إلى إضافة كلمة إلى أحد الأناجيل بدلاً من حذف كلمة أو كلمات من إنجيل آخر.

اختلافات التي لها” معنى كما أنها قابلة للتطبيق

  أما بالنسبة لآخر وأصغر قسم، فهو يتكون من الاختلافات التي تؤثر في المعني كما أنها تكون قابلة للتطبيق. ولا يقع ضمن هذا القسم إلا حوالي ١% من جميع الاختلافات النصية. ولكن حتى في هذا القسم، يمكن أن تكون هناك مبالغات. ونعني بتعبير “لها معني” هنا أن الاختلاف يغير في” معنى النص بدرجة ما. وقد لا يكون هذا التغيير كبير الأهمية، ولكن إذا أثّر الاختلاف في فهمنا للمقطع، يكون له” معنى ومغزي.

لكن أن نجادل بنسبة كبيرة من الشك لأننا لا يمكن أن نفهم بدقة جزءً ضئيل جداً من النص يعتبر مبالغة طائشة غير مدروسة، ولكن هذا فقط هو الانطباع الذي يعطيه فانك، وهوفر وجماعة “مدرسة يسوع”. ١١ فقد رأينا أن الجزء الأعظم من الاختلافات النصية غير مهم. فمن دون ريب، ما إذا كان اسم يوحنا يكتب باليونانية بحرف nu واحد أو اثنين، قد يظل هذا الأمر سراً ولغزاً، ولكن المهم هنا هو أن اسم يوحنا لا يكتب على أنه مريم. فالقضايا التي يواجها نقاد النص، صراحة، لهي ذات أهمية ضئيلة بالنسبة لمعظم علماء العهد الجديد حتى أن العلماء كثيراً ما يفترضون أنه لا يتبقى شيء يمكن القيام به في هذا النظام.

فالحقيقة هي أنه، رغم أن معظم نصوص العهد الجديد غير متضاربة، إلا أن بعض المقاطع متضاربة بالفعل. وسوف نناقش في فصل لاحق موضوع المخاطرة، ولكن بالنسبة للوقت الحالي، نرغب ببساطة في شرح هذا القسم الأخير من الاستخدام، أي الاختلافات التي لها” معنى وقابلة للتطبيق. ١٢

 توجد مشكلة نصية تشكك في النص الموجود في رومية ١:5، وهي، هل يقول بولس: “لنا سلام” (echomen)، أم: “ليكن لنا سلام” (echōmen)؟ فالفارق بين الصيغة الدلالية بوصفها حقيقة موضوعية، وبين الصيغة الطلبية هو عبارة عن حرف واحد. فالأصوات المتشابهة للحرفية(o) و(w) كانت تنطق في الأغلب بنفس الطريقة في اليونانية القديمة (كما هما في اليونانية اللاحقة)، مما يجعل قرار تحديد أي منهما المقصودة أكثر صعوبة.

وفي الحقيقة انقسم العلماء حول هذه المشكلة النصية. ١٣ ولكن الهدف هنا هو الآتي: هل أي من الاختلافين يعتبر مناقضاً لتعاليم الكتاب المقدس؟ يندر أن يحدث ذلك. فإن كان بولس يقول إن المسيحين لديهم سلام (الصيغة الدلالية)، فإنه يتكلم بذلك عن مقامهم ووضعهم مع الله الآب؛ أما إذا كان بولس يحث المسيحين أن يكون لهم سلام مع الله (صيغة الطلب)، فإنه بذلك يحثهم على التمسّك “بحقائق الإيمان الموضوعية” – أو الحقائق الأساسية التي ترتكز عليها الحياة المسيحية – وأن يعيشوا بمقتضاها في حياتهم اليومية.

وفي (رسالة تسالونيكي الأولي ٧:2)، يصف بولس نفسه وزملاءه إما بأنهم ” مترفقون” أو بأنهم “أطفال صغار”. والفارق أيضاً بين الاختلافين في اليونانية هو حرف واحد فقط –ēpioi في مقابلة nēpioi. فإن كان ” أطفال صغار” هو النص الصحيح، يكون بولس قد خلط استعاراته (رغم أنه يكون قد يقوم بهذا الأمر من وقت لآخر ١٤)، لأنه يتبع ذلك بإعلان أنه قد أحب المسيحين في تسالونيكي “مثلا الأم المرضعة.” ١٥

وواحد من أكثر الاختلافات شيوعاً يتضمن استخدام ضمير المتكلمين وضمير المخاطبين. وهناك حرف واحد فقط هو الذي يصنع الفارق بين الكلمتين في اليونانية. وأحد الأماكن المهمة التي تحدث فيها مثل هذه المشكلة النصية نجدها في (١ يوحنا ١: ٤). فإما أن الآية تقول: ” ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحنا كاملاً” أو “ونكتب إليكم لكي يكون فرحكم كاملا”. فالمعني هنا يتأثر، وكلا النصين له مصداقية وشهادة قديمة، لكن في نفس الوقت، ليس بالضرورة أن يلغي أحد من الاختلافين الآخر.

فسواء كان الكاتب يتحدث عن فرحه هو أو عن فرح قرّائه، فإن الهدف الواضح من هذه الآية هو أن كتابة هذه الرسالة تبعث على الفرح. ١٦ ولن يكون تمديداً زائداً للمعني أن نري أحد الطرفين وقد أصبح سبباً لفرح الطرف الآخر.

ينظر العلماء إلى عدد من العوامل المجتمعة في تعيين صياغة النص الأصلي والفصل فيها. وإحدى هذه العوامل بالطبع هي المخطوطات والنسخ القديمة – التي تعرف معاً باسم البراهين الخارجية. لكن يوجد عامل آخر، مساو في الأهمية، هو البرهان الداخلي. وسوف نناقش كلاً من هذين الموضوعين في الفصل السابع. لكن يكفي القول هنا أن ما كان يحتمل أن يقوم به الكتّاب (مثل توفيق المقاطع)، وما كان يحتمل أن يقوم الكاتب الأصلي بعمله، وهو الذي يشكّل البرهان الداخلي.

والبرهان الخارجي والبرهان الداخلي هما عادة في نفس الجانب – أي أنهما عادة ما يشيران معاً إلى نفس النص على أنه أصلي، وهكذا فهما عبارة عن رابطة من شقين وهي رابطة ليس من السهل كسرها في أحيان نادرة، يكون البرهان الخارجي مختلفاً عن البرهان الداخلي، فمثلاً، يقول: (فيلبي 1: 14) “وأكثر الإخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف.” ومن الطبيعي أن يطرح السؤال، أية كلمة؟ لا يقول بولس بوضوح، ولكن الكتّاب يضيفون بتوقع “الله”، أي “كلمة الله” لتوضيح الكلمة المقصودة.

لكن ما يثير الدهشة أن المخطوطات المبكرة والأفضل هي التي تضيف “الله”، بينما لم تضف شيئاً معظم المخطوطات اللاحقة. ويعتبر هذا نموذجاً تقليدياً للبرهان الداخلي والبرهان الخارجي اللذين يختلفان عن بعضهما البعض. في مثل هذه الحالات، يكون على العلماء أن يختاروا النص الذي يبدو أنه يكون مسبباً للنص الآخر، وفي حالتنا هذه، تم تعيين النص الأقصر بواسطة الأغلبية على أنه النص الأصلي. ومع ذلك، فليس هناك مخاطرة بمبدأ ما أو جدل تاريخي عظيم يحدث بتعيين أي من الاختلافين.

وكمثال أخير للاختلافات ذات المعني والقابلة للتطبيق، سوف ندرس معاً أكبر اختلاف نصي في العهد الجديد، وهو يتضمن أكثر من عشر آيات. ١٧ ففي الأصحاح الأخير من إنجيل مرقس (أصحاح ١٦)، تنهي أقدم وأفضل المخطوطات هذا السفر بالعدد ٨: “فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات.” وتعتبر هذه نهاية مفاجئة بصورة مروّعة لإنجيل مرقس، فالنساء اللاتي كن خائفات، قال لهن الملاك إن يسوع المسيح قد قام من الأموات وأن عليهن أن يعلمن التلاميذ بهذا. إن الأغلبية العظمي من المخطوطات بها اثنا عشر عدداً تالياً لذلك، ولكن أقدم وأفضل المخطوطات تتوقف عند الآية٨.

ويجادل العلماء فيما إذا كان مرقس قد قصد أن ينهي إنجيله عند هذه النقطة، أو كان قد كتب أكثر من ذلك، ولكن نهايته الحقيقية قد فقدت، أم أن الأعداد الاثني عشر الموجودة في معظم المخطوطات هي النهاية الأصلية أم لا، فإنه لا يوجد حق أساسي يمنح أو يفقد بها. فبالتأكيد إن تعيين النص سوف يؤثر على كيفية رؤية المرء لإنجيل مرقس ككل، ولكنه لن يؤثر على أي مبدأ أساسي. على أننا سنعود مرة أخري لقضية التعاليم التي تأثرت بالاختلافات النصية القابلة للتطبيق في الفصل الثامن. أما الآن، فإننا نحتاج فقط أن نشير إلى أن هذا الاختلاف النصي لا يؤثر في أي مبدأ أساسي.

 لكن على الرغم من أن كمية الاختلافات النصية في مخطوطات العهد الجديد تعد بمئات الآلاف، إلا أن نوعية هذه الاختلافات التي تمثل تغييرات في المعني تعتبر ضعيفة وقليلة نسبياً. فحوالي ١% فقط من الاختلافات تكون ذات” معنى وقابلة للتطبيق. وكما سنري في فصلنا الأخير في هذا الجزء، فهذه الاختلافات لا تؤثر في معتقدات أساسية. ويمكننا هنا أن نمثل نواع الاختلافات التي لدينا في العهد الجديد تمثيلاً بيانياً دائرياً. لاحظ مرة أخري كيف أن كماً قليلاً للغاية هو الذي يعتبر مهماً فعلياً.

نوعية الاختلافات بين مخطوطات العهد الجديد:

  1. أخطاء هجاء
  2. اختلافات لا تؤثر في الترجمة
  3. اختلافات لها” معنى ولكنها غير قابلة للتطبيق
  4. اختلافات لها” معنى وقابلة للتطبيق

موثوقية نص العهد الجديد والإختلافات النصية في مخطوطاته

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)