أبحاث

المرأة من هي؟ وهل يخدعنا الله؟ سفر القضاة الأصحاح التاسع عشر – الحادي والعشرون

المرأة من هي؟ وهل يخدعنا الله؟ سفر القضاة الأصحاح التاسع عشر – الحادي والعشرون

المرأة من هي؟ وهل يخدعنا الله؟ سفر القضاة الأصحاح التاسع عشر - الحادي والعشرون
المرأة من هي؟ وهل يخدعنا الله؟ سفر القضاة الأصحاح التاسع عشر – الحادي والعشرون

المرأة من هي؟ وهل يخدعنا الله؟ سفر القضاة الأصحاح التاسع عشر – الحادي والعشرون

إذا لم تكن أحداث الفصول 19 إلى 21 من كتاب القضاة، مألوفة لديك فأرجو أن تقوم بقراءتها. أمران أساسيان ملفتان للنظر ومقلقان للفكر في هذه الفصول.

أولاً، التقليل لا بل الاحتقار لقيمة المرأة وكرامتها.

ثانيًا، موقف الله المُحيِّر، فهو “يوافق” على أمر ولكنه يمنح الفشل.

والآن سأبحث هذين الأمرين ببعض التفصيل.

المرأة من هي؟

في الفصول المشار إليها أعلاه نقرأ عن رجل لاوي اتخذ لنفسه سُرِيَّةً أو جارية. تبدو هذه المرأة المسكينة أنها ملكٌ فهو يتحكم بها ويوجهها كما يشاء. ولكن في أحد الأيام حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد قررت الجارية الهروب. لماذا؟ في الترجمة العربيَّة المعروفة بترجمة فاندايك – البستاني – سميث نقرأ: “فزنت عليه سريته وذهبت من عنده إلى بيت أبيها…” أما في كتاب الحياة (الترجمة التفسيريَّة للكتاب المقدس) فنقرأ: “ولكنها غضبت منه فلجأت إلى بيت أبيها…” (2:19).

الترجمة الأولى مبنيَّة على أساس النص العبري (المازوري) والنص السرياني (البشيتة/البسيطة) للعهد القديم، أما الترجمة الثانيَّة فتتبع الترجمة اليونانيَّة (السبعينيَّة) والترجمة اللاتينيَّة القديمة للعهد القديم. إنني أرجح الترجمة الثانية لسببين: أولاً، إن إرتباط الفعل العبري “زنا” بحرف الجرف “على” أمر مستهجن في النص العبري للعهد القديم.

ثانيًا، حيث أننا نقرأ في القصَّة بأن الرجل هو الذي بادر بالسعي وراءها للمصالحة، فإن ذلك يدل على أنه هو المسؤول عن تركها للبيت. ولكن إذا تساءلنا عن سبب الاختلاف بين القراءتين أعلاه للآية 2، فمن المحتمل أن كاتب النص العبري أشار إلى الزنى لأنه في مجتمع لا يعطي الحق للمرأة بالطلاق فإن ترك المرأة لبيتها يعتبر بمثابة ارتكاب للزنى. ولذلك فإن هذه هي الطريقة “المفضلة” لإلصاق تعمة الزنى بالمرأة!

بعد أن غادرت المرأة البيت والتجأت إلى بيت أبيها، حاول الرجل استرجاعها، فقصد بيت أبيها “ليطيّب قلبها” (3:19)، ولكنه هل حقًا طيَّب قلبها؟ إذ نقرأ النص بتدقيق، ونستمع إلى الحوار الذي جرى في بيت والد الفتاة، لا نجد كلامًا يُوجَّه إلى الفتاة فإذ بها تبقى مُهملة ومُهمَّشة! ذهب الرجل ومعه حمارين (3:19)، وإذ يصف كاتب الفصل عودة الرجل وغلامه والحمارين يضيف قائلاً: “… وسريته معه” (10:19)! وعلى الطريق يدور الحوار بين الرجل وغلامه، ويتناول الحوار موضوع مكان الإقامة بحلول الظلام، فيقترح الغلام يبوس (أورشليم) والرجل يفضِّل جبعة أو الرامة (19: 11-13). ولكن هل تُسأل الفتاة عن رأيها؟

وهناك في جبعة تتم استضافتهم من قبل رجل عجوز (20:19)، ولكن الضيافة الشرقيَّة الطيبة لم تستطع أن تمنح الحماية اللازمة. تحيط بالمنزل زمرة شاذة جنسيًّا من الشباب مطالبة بممارسة الجنس مع الضيف (22:19). أمام هذا الضغط الخارجي نرى مرة أخرى المفهوم المتدني الذي كان في فكر الرجال عن النساء في ذلك الزَّمان. فلحل المشكلة ولحماية الضيف يقترح المُضيف تقديم ابنته العذراء وسرية ضيفه ليفعل الأشرار بهما ما يشاؤون (19: 23-24).

ولكن أليست البنت ابنته من لحمه ومن عظامه؟ أو ليست السرية ضيفته أيضًا كما أن الرجل ضيفه؟ ولكن لحماية الضيف الرجل كل شيء مباح! تذكرنا هذه الحادثة بحادثة مماثلة في كتاب التكوين (19: 1-29) حيث لوط يقدم حلاً مشابهًا للحلّ الذي يقترحه المضيف في قصتنا: “هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلاً. أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم. وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئًا…” (8:19).

وفي الحادثتين تبقى المرأة هي الضحيَّة – ليست ضحيَّة لنجاة الضيف فحسب، بل أيضًا لإشباع شهوات الرجال!

وبينما الرجال في الخارج يتفاوضون مع المضيف يقوم الضيف – الذي قرأنا عنه سابقًا بأنه ذهب ليطيِّب قلب سريته – بتسليم سريته إلى الرجال (25:19)، وكانت السرية هي الضحيَّة. نام الضيف والمضيف بسلام في المنزل، بينما عانت السرية كل إهانة وذل في الخارج طوال الليل… وأخيرًا زحفت تحت وطأة الألم لتسقط على عتبة البيت.

وفي الصباح يقوم السيد ليتابع رحلته ولكنه لا يطمئن على سريته ولا يخفف عنها مرّ العذاب بل يأمرها قائلاً: “قومي نذهب” (28:19)، وكأنه لم يكن يتوقع ما حدث معها في الليل! لم تجب السرية. هل ماتت؟ الترجمة السبعينيَّة تفيد أن السرية قد ماتت، وهذا ما نراه في الترجمة التفسيريَّة مشارًا إليه بين قوسين (لأنها قد فارقت الحياة)، ولكن في النص العبري لا إشارة إلى موتها. فمن المحتمل أنها كانت منهكة القوى أو غائبة عن الوعي فلم تستطع الرد على سيدها.

لقد غادر الرجل أفرايم ليحضر سريته، وها هو الآن يعود إلى أفرايم وسريته الضحيَّة معه! وما إن دخل بيته حتى أخذ السكين وقطَّع السرية إلى اثنتي عشرة قطعة (29:19). وكأن كل ما فعله معها ليس كافيًا، فحتى في موتها يستطيع أن يستغل جثتها لتحقيق الانتقام! ما هو هدف التقطيع؟ تم اكتشاف ما يشبه هذه الممارسة في اكتشافات مملكة ماري في سوريا، حيث يقترح “بهديلم” على “زمريلم” أن يتم قطع رأس أحد السجناء وإرساله إلى المقاطعات المختلفة لتحفيز الناس على التطوع في الجيش.

وفي كتاب صموئيل الأول11: 4-7 نجد شاول يقوم بتقطيع فدان بقر ليحفز على اشتراك القبائل في الحرب ضد العمونيين. وفي قصتنا الهدف من التقطيع هو إشاعة روح الحماسة والانتقام ضد البنياميين، سكان جبعة.

هل يخدعنا الله؟

وتظهر الروح القبليَّة المتوافقة مع المثل العربي: “في الجزيرة تشترك العشيرة.” لقد فعل عمل الرجل اللاوي فعله، وقد أدّى تقطيع جثة السرية إلى حشد جيوش بني إسرائيل لمحاربة البنياميين (20: 1-2). عن بقايا حرب ربطها علماء العهد القديم بالحرب ضد البنياميين، ولكن لا تكشف هذه الآثار سبب الحرب وهويَّة المشاركين بها.[1]  لا تهتم قصو الحرب بكثرة سفك الدماء، بل ككل قصة تهدف إلى تحقيق التأثير على قرائها وسامعيها، فإن قصتنا هنا تتضمن مبالغة من نحو أعداد المشاركين في الحرب وضحايا الحرب.[2]

في الجولتين الأولى والثانية من المعركة ينهزم الإسرائيليون (21:20، 25)، بالرغم من أنهم استشاروا الرب، وأن الرب نفسه أمرهم بالقيام بالحرب. ألا نحتار لموقف الرب هذا؟ هل يخدعهم الله؟

يبدو أن سبب انهزامهم مردَّه إلى أن الرب أراد أن يلقنهم درسًا مبتدئًا بعشيرة يهوذا التي تنتمي إليها السرية، يتلخص هذا الدرس في أنهم قرروا الحرب وأعدوا للقتال ومن ثمَّ قرروا استشارة الرب! فقبيل الجولتين الأولى والثانية أُتخذ قرار المحاربة بعد حشد الجيوش والتهيئة للقتال، وليس بعد استشارة الرب. أما في الجولة الأخيرة فيبدو أنهم تلقنوا الدرس، فكان الصوم وتقديم الذبائح والصلاة أولاً (20: 26-28). فمنحهم الله الانتصار!

أجل، لقد كان انتصارًا. ولكن للأسف فإن بني إسرائيل فعلوا ما أرادوا الانتقام لفعله! أرادوا أخذ الثأر للسرية لأنها اغتُصبت في جبعة، لكنهم ساعدوا على إجبار 400 عذراء من يابيش جلعاد (21: 10-15) و200 عذراء من شيلوه (21: 19-23) على الزواج من رجال البنياميين. ألا نتصرف في كثير من الأحيان كما تصرف بنو إسرائيل؟

نريد الدفاع عن الشرف، فنضرب بشرف الآخرين عرض الحائط، نريد الدفاع عن حقوقنا فنهدر حريات الآخرين وحقوقهم! ألا نستطيع أن نلحظ أن هذا “الإجبار” للعذارى معادل لمفهوم “الاغتصاب”؟ أو ليست تعاني الكثير من الفتيات حتى في القرن الحادي والعشرين ما عانت منه تلك العذراوات في أيام القضاة؟ ألا نرى المرأة من جديد في أيامنا “تُخطف” بطريقة “شريفة” أو “غير شريفة” أو “شبه شريفة” وتُجبر على الزواج وكأنها متاع من الأمتعة!

ختامًا، أود الإشارة إلى ثلاث أمور هامة متعلقة بالمشكلتين الأخلاقيتين المشار إليهما أعلاه.

أولاً، من الضروري معرفة السياق التاريخي المرتبط بزمن وهدف كتابة هذه الأحداث المدونة في كتاب القضاة، الفصول 19-21، لنتمكن من فهم هذه الفصول فهمًا صحيحًا. لقد أخذت هذه الفصول شكلها النهائي قبيل أو خلال عهد الملكيَّة، في زمن رأى فيه الكاتب أهميَّة وجود ملك في إسرائيل. لقد أراد كاتب أو محرر كتاب القضاة أن يؤكد لقرائه أهميَّة النظام الملكي في إسرائيل. لقد أراد كاتب أو محرر كتاب القضاة أن يؤكد لقرائه أهميَّة النظام الملكي في إسرائيل وضرورته من أجل حياة آمنة للشعب.

وقد استطاع أن يفعل ذلك في وصفه للواقع المزري التي وصلت إليه البلاد خلال حكم القضاة. وكأني به يقول: أرأيتم الفوضى والخراب خلال فترة حكم القضاة في إسرائيل، إن نظام الملكيَّة يستطيع أن ينجينا من هذه الأمور، ولذلك أدعوكم لتأييد هذا النظام ودعمه. يظهر هذا الفكر بصورة جليَّة بواسطة التعابير التي اختارها كاتب أو محرر كتاب القضاة فيكتب في افتتاحيته: “وفي تلك الأيام التي لم يكن فيها ملك لبني إسرائيل…” (قضاة1:19)

وينهي كتابه بهذه الكلمات: “في تلك الأيام لم يكن ملك على إسرائيل، فكان كل واحد يعمل ما حسن في عينيه” (25:21). وبذلك فإن الكاتب أو المحرّر يصوِّر لقرّائه وضعًا مزريًّا وشاذًا لعدم توفر ضوابط أخلاقيَّة، أما سبب غياب هذه الضوابط الأخلاقيَّة فمرده إلى عدم وجود نظام الملكيَّة في إسرائيل.[3]

ثانيًا، بالطبع ما من عاقل يريد خلق الأعذار لما فعله الرجل اللاوي بسريته، ولا لتصرف المضيف، ولا لخيانة الرجل لسريته في جبعة، ولا تقطيعه لأوصالها… وما من عاقل يوافق على ما فعله بنو إسرائيل لبنات يابيش جلعاد وشيلوه. إننا نحملهم المسؤوليَّة الكاملة على الأعمال المشينة والمخزية التي قاموا بها. لقد قللوا من شأن المرأة وكرامتها، حتى وإن ظنَّ البعض أن ما فعلوه قد يتوافق مع الواقع الاجتماعي الذي عاشوه في ذلك الزمن. إن الله الذي من البدء خلق الإنسان ذكرًا وأنثى على صورته الأدبيَّة والأخلاقيَّة (تكوين27:1، قارب مع رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطيَّة28:3)، لا يُعقل بأي حال من الأحوال أن يوافق على هذه التصرفات التي تعامل المرأة بهذا الشكل المتدني واللاأخلاقي.

إن ما تم القيام به هو أمرٌ لا يقبله الله، ولا ينبغي أن نقبله نحن. إن ما حدث في جبعة قد ينساه بنو إسرائيل، ولكن الله لن ينساه. لقد أدان الله على فم النبي هوشع ما حدث في جبعة: “جاءت أيام العقاب. جاءت أيام الجزاء… قد توغلوا فسدوا كأيام جبعة. سيذكر إثمهم. سيعاقب خطيتهم” (هوشع9: 7-9) وأيضًا: “من أيام جبعة أخطأت يا إسرائيل…” (هوشع9:10).

إن هكذا معاملة متدنيَّة للمرأة صادرة عن شر الإنسان (أو بالأحرى الرجل) وقسوته. ولكن السؤال الذي أطرحه اليوم هو: ألا نزال نعامل المرأة كأحد الأشياء في مجتمعاتنا، وبيوتنا، وكنائسنا؟ ألا تظهر أقوالنا وتصرفاتنا أننا لا نزال نحتفظ بعقلية الناس أيام القضاة (حوالي 1000 سنة قبل المسيح)؟ أما زلنا كرجال نغتصب حقوق المرأة بألف حجة وحجة منها أن الله حسب تعاليم الكتاب المقدس يمنح الرجل امتيازات وحقوقًا لا يمنحها للمرأة؟ ألا نزال بحجة، “أن لكل دوره في المجتمع والحياة والخدمة المسيحيَّة” نُقصي المرأة عن دورها الفعلي في المجتمع والكنيسة؟

من الجدير بالذكر أن الكلمة المترجمة “فيه” في ترجمة فاندايك – البستاني – سميث في العبارة “تبصروا فيه وتشاوروا وتكلموا” (30:19) [لا تظهر الكلمة “فيه” في الترجمة التفسيريَّة]، هي في صيغة التأنيث في النص العبري، ومن المحتمل جدًا أن الضمير المؤنث يشير إلى الفتاة السرية. وكأني في ذلك دعوة لنا لكي نتبصر في شأن المرأة ونتشاور بأمرها ونتكلم لصالحها وندافع عن حقوقها.

ثالثًا، من الملفت للنظر أن كتاب القضاة في التقاليد اليهوديَّة لترتيب العهد القديم يتبعه كتاب صموئيل الأول. أما في ترتيب الترجمة اليونانيَّة (السبعينيَّة)، وهو الترتيب المعمول به في الترجمات العربيَّة للعهد القديم، فيتبعه كتاب راعوث. يتحدث كتاب راعوث عن امرأة عظيمة مضحيَّة ومحبَّة، التي بسبب أمانتها وإيمانها اختارها الله لتصبح جدَّة لداود الملك، ومن نسلها جاء المسيح حسب الجسد. وفي مطلع كتاب صموئيل الأول نقرأ قصية التقيَّة حنَّة ومحبتها للرب وتكريسها له.

هل عندما تم ترتيب أسفار العهد القديم، سواء في التقاليد اليهوديَّة العبريَّة أم في التقاليد اليهوديَّة اليونانيَّة، تمَّ بسابق تصميم بقصد موازنة الصورة المظلمة للمرأة التي نقرأ عنها في كتابي صموئيل الأول وراعوث؟ بالطبع قد لا نستطيع أن نقدِّم ردًّا إيجابيًا على هذا السؤال، ولكننا نستطيع أن نقدِّم ردًّا إيجابيًّا على السؤال التالي: هل نريد أن نرى ونتعامل مع المرأة باعتبارها راعوث وحنة، أو باعتبارها امرأة بلا اسم ولا هويَّة ولا كرامة كسريَّة الرجل في كتاب القضاة؟

[1] L.A. Sinclair. “An Archaeological Study of Gibeah (tell el-Fûl),” AASOR 34/35 (1954-56), pp. 1-52.

[2]  إن مدوِّن القصَّة لم يكن مسؤولاً عن وحدات التعبئة، ولذلك لم يهتم كثيرًا بتدوين الأعداد بدقَّة، بل كان هدفه إظهار الخسارة الكبيرة فمثلاً، عدد الرجال المحاربين البنياميين في الآية 25

[3]  من غرائب الأمور أن شاول الملك الأول في إسرائيل كان من عشيرة بنيامين وقد اتخذ من جبعة مركزًا له (انظر: 1صموئيل9: 1-2، 26:10، 34:15، 6:22، 19:23).

المرأة من هي؟ وهل يخدعنا الله؟ سفر القضاة الأصحاح التاسع عشر – الحادي والعشرون

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)