أبحاث

وحدة العهدين من خلال الرسالة إلى العبرانيين

وحدة العهدين من خلال الرسالة إلى العبرانيين

وحدة العهدين من خلال الرسالة إلى العبرانيين
وحدة العهدين من خلال الرسالة إلى العبرانيين

أدهشني بينما كنت أطالع الرسالة إلى العبرانيين، هذا التواصل العميق بين العهدين القديم والجديد، وهذه الطقسانية المتنامية والمتصاعدة نحو يسوع المسيح الكاهن الوحيد الذي لا نهاية لكهنوته. صحيح إن هذه الطقسانية كانت تكبر وتنمو جنباً إلى جنب مع الكهنوت اللاوي، إلا أنها كانت في حركة امتداد نحو الآتي في ملء الزمان. يستحيل ان تكون الطقسانية في العهد الجديد مكتفية بذاتها، لأنها لابد أن تكون عندئذ في حدود الممارسات التي لا معنى لها. الطقسانية لغة وتعبير. انها إطار للحضور الإلهي.

وتتفرّد الرسالة إلى العبرانيين بين كل اعمال العهد الجديد في تسمية يسوع الحبر الأعظم وباني البيت (عب 3: 1– 3)، (عب 4: 13– 14)، لا بل تسميه ” الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق” (عب 7: 1– 3). وكل هذا يأتي بعد تدرج في الطقوس وممارسة للعبادة تستمر حتى بلوغ الذروة في يسوع. الطقوس في العهد القديم تمهّد لمجئ المسيح. ولا معنى لها غير ذلك.

وتبدو هذه الرسالة متميزة على صعيد الكهنوت ايضاً، بحيث انها ترسم لنا في العمق وحدة العهدين القديم والجديد من خلال الكهنوت والطقوس بآن معاً. فالكهنوت ينتهي بالكاهن الأعظم يسوع؛ أما الطقوس فتصبح إطار الحضرة الإلهية، وفرصة لاستنزال الرضوان الإلهي، االأمر الذي نأتي إليه من خلال تعارفنا على التكريس. وكأن هناك في الطقوس اليهودية غسل طقسي للتطهر من كل ما هو غير مقدس، ومسحة تسم الإنسان بالقداسة، وثياب خاصة تعبر إذا عبّرت، عن إنتماء الإنسان إلى عالم القدسيات، مع ذبائح وقرابين، وغيرها….

ولا يمكن لمن يطالع الرسالة هذه الا ان يتوصّل إلى امر مفاده ان الكتب المقدسة كلها تمت في يسوع. فموت يسوع على الصليب يؤلف في حد ذاته غاية العمل النبوي. من جهة (موسى في التجلي كان يسأل الرب عن الآلام التي كان سيتكبدها في اورشليم). كذلك فإن ذبيحة الصليب عي من جهة ثانية تجاوز كامل للعبادة القديمة، وكأن في ذلك اشارة إلى قطيعة بين العهدين مرتقبة، وهي ليست في الحقيقة قطيعة بل تجاوز وسمو للجديد على القديم.

ويشعر المرء من خلال الرسالة إلى العبرانيين ان تدبير الله واحد ومتواصل في العهدين. كل هذا يأتي بنا إلى السؤال عن هوية الجماعة التي توجهت إليها الرسالة إلى العبرانيين. لمن كانت هذه الرسالة؟

قد لا نوفق في النهاية إلى تحديد هوية هذه الجماعة، إلا انها بكل تأكيد، ومن خلال هذه الرسالة نفسها، تبدو شديدة التعلق بالطقوس، لا بل على درجة كبيرة من العمق. لقد توصل هؤلاء إلى فهم سرّ المسيح من خلال الطقوس اليهودية. المؤسسات الدينية اليهودية قابلة للإنفتاح على المسيح ويمكنها أن تقود الناس إليه. يبدو من الرسالة هذه ان الطقوس اليهودية والشعائر الدينية العامة مهدت لمجيء المسيح واعدت الناس لإستقباله. في النهاية كان يسوع معنى هذه الطقوس وغايتها.

بعد هذا لا يبدو غريباً ان توجه الرسالة إلى جماعة سميت بالعبرانيين، لاسيّما انها تتجذر وتتعمق في الكلام عن الطقوس الدينية اليهودية. ولكن من الأكيد ان هذه الجماعة لم تنكمش على ذاتها ولم تنغلق كسائر الإسرائيليين الذين قال فيهم الرب: “إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله”. انما على العكس، فالجماعة المؤمنة في هذه الرسالة، وصلت إلى المسيح عبر الطقوس اليهودية، وعبر كهنوت لاوي، لا بل ايقنت من هو ملكيصادق الحقيقي.

وتبدو الرسالة إلى العبرانيين فريدة في الكلام عن يسوع الكاهن، فتسميه عظيم الكهنة (عب 3: 1)، وتقارب بينه وبين موسى، فتجعل موسى الأمين على البيت، بينما يسوع هو باني البيت وصاحبه (عب 3: 1– 6). ترى كيف تنظر الرسالة هذه إلى الكهنوت؟

انها تبدو مسيرة طويلة تجتاز فيها الطقوس اليهودية والذبائح درباً طويلة. ولو حاولنا ان نفكّر في سبب نشأة هذه المؤسسة الكهنوتية، لوجدنا انها ترمي إلى بنيان الأفراد في بودقة الجماعة. غاية الكهنوت هو جمع شمل الجماعة، وشد ازرهم من اجل ارتقائهم إلى الله. كل كهنوت يجب ان يضطلع بهذا الشأن، من هنا يجوز القول ان الكاهن وسيط بين الله والناس.

في الحقيقة، يؤمن شعب اسرائيل اسوة بسائر الشعوب القديمة، بوجوب الإلتصاق بالمطلق. لقد أدرك جميع الشعوب ان اللقاء بالعلي مستحيل بدون تحول جذري يطال اعماق الكيان. وهكذا جاءت الطقوس ترتيباً يندرج ويربىّ في خط السير نحو الله.

وفي إسرائيل أمر فريد، فقد فصل أحد الأسباط: سبط لاوي. هذا السبط فرز لخدمة الهيكل: خدمة الله. وفي هذا السبط فصلت عائلة وكرست تكريساً خاصاً لهذا الغرض. ومن هذه العائلة اخذ الكاهن. اي ان الكاهن كان في الممارسة اليهودية يفرز من الدنيا ليتكرس للحضرة الإلهية. ولكن لماذا كان يتوجب على الكاهن ان يقرب الذبائح؟ السبب بسيط: انه يعجز عن العبور إلى عالم الله.

لهذا فقد فرضت عليه الطقوس ان يقدم الذبائح. من هنا كانت العبادة القديمة بالواسطة. امامنا سؤال كبير حول علاقة العبادة القديمة بذبيحة المسيح؟ لاسيّما وان العهد الجديد لم يورد لنا ان يسوع كاهن، او انه ادعى الكهنوت. انما على العكس نلاحظ ان نشاط يسوع جاء مكملاً للخط النبوي الذي كان ينبئ باقتراب دخول الله في صميم تاريخ الإنسان.

لقد ظنّ القدماء ان المؤسسة الكهنوتية يمكنها ان تكون مكتفية بنفسها. اقتنع الكثيرون من القدماء ان الشعائر كانت تكفي في ذاتها. إلاان يسوع كما يبدو لنا في العهد الجديد، سار في منحى مغاير للمفاهيم الطقسية اليهودية حيث انه لم يكمّلها فقط، بل تصرف بخلافها (متى 9: 10)، فرفض ان يولي السبت كل الإهتمام جاعلاً الإنسان فوق السبت (متى 12: 1)، (يوحنا 5: 16). لقد قاوم يسوع خصومه مؤكداً كلام هوشع: “أنى اريد رحمة لا ذبيحة” (هوشع 6: 6).

من هنا لا يمكن ان يكون يسوع كاهناً وحسب، والا كان امتداداً طبيعياً للكهنوت القديم، وذلك لأن كهنوت يسوع مغاير تماماً لكهنوت لاوي، رغم كل ما للكهنوت من قيمة في شد الجماعة إلى المسيح وتحضيرهم لتقبله.

وهنا نسأل عن معنى ذبيحة المسيح: لم تكن هذه الذبيحة الطاهرة ذبيحة بمفهوم العهد القديم. فيسوع لم يذبح في الهيكل، بل في مكان بعيد عن الهيكل. لم يكن موته في إطار طقسي، بل عومل كمجرم. كان موت المسيح أقرب إلى العقاب منه إلى الذبيحة.

لقد ادخلت الرسالة إلى العبرانيين كهنوت المسيح لتحدث تغييراً ملحوظاً، وتمايزا واجباً، بين العهدين، رغم إيماننا ان الطقوسية اليهودية مهدت لمجيء المسيح. بهذا المعنى تبدو المسيحية، لغير المسيحي، وكأنها دين بدون كهنوت. ولكن كيف نقبل هذا الكلام، وكيف نفهم سرّ المسيح خالٍ من البعد الكهنوتي؟ بكلام آخر هل في المسيحية كهنوت؟

في الحقيقة نستطيع ان نتلمس من العهد القديم معالم الجواب. ارميا مثلاً ذهب بشجاعة إلى حد القول بخراب الهيكل (ارميا 7: 12- 14). لكنه تنبأ في الوقت نفسه ان اللاويين سيكون لهم من يخلفهم لتقريب الذبائح (ارميا 33: 82). ثم جاء ابن سيراخ واكد ان لكهنوت هرون امتداد عهد ابدي (45: 7 و15 و24- 25). وكان يتكلم عن تجدد الكهنوت مع مجيء المسيح (ملا 3: 3). هناك كتابات تؤكد ان الأوائل كانوا ينتظرون كاهناً من نوع انقضائي. ولنا في اكتشافات قمران دليل على ذلك من خلال “رجل البر”. ما معنى هذا الكلام؟

انه يعني ان القدماء بحسب الرسالة إلى العبرانيين، وبحسب إيمان الكنيسة رأوا في يسوع الآتي وجهاً كهنوتياً. ولكن هنا يبرز التناقض: إذا كان يسوع امتداداً للكهنوت اللاوي فما جدواه؟ و إذا لم يكن كاهناً فكيف جاء بكهنوت لاوي إلى الملء؟ كيف نفهم القفزة من كهنوت لاوي إلى كهنوت المسيح؟

لا يمكن القول ان الرسالة إلى العبرانيين بدأت من العدم، فهي بكل تأكيد رسالة اخذت بأجزاء مختلفة من العهد الجديد. يستحيل ان يكون كاتب العبرانيين غريباً عن العشاء السري (متى 26: 28). لا بل هناك ربط دقيق بين موت يسوع والذبيحة الطقسية التي قربها موسى (خروج 24: 6- 8). نحن مثلاً لا نفهم لماذا يربط بولس بين الافخارستيا المسيحية والاشتراك في ذبائح الأوثان (1 كور 10: 14-22). لكن بولس يسارع إلى تعليمنا قائلاً: لقد ذبح حمل فصحنا” (1 كور 5: 7).

اجل في المسيحية كاهن، وفيها كهنوت. إلا انه كهنوت فريد. فيسوع هو الذابح والمذبوح كما تقول الرسالة إلى العبرانيين. يسوع هو القربان الحي المذبوح لله (اف 5: 2). يسوع كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق كما يقول كاتب العبرانيين. وسفر التكوين يقول ان ملكيصادق كاهن دون أن يذكر له اب او ام أو نسب. وهذا غريب، فالنسب كان مهماً جداً في العهد القديم. كهنوت يسوع لم يعط له بالوراثة بل بفضل عملية التحويل المجيدة التي في القيامة. “ونعلم ان المسيح بعدما اقيم من بين الأموات، لن يموت ثانية” (روم 6: 9).

يسوع هو الكاهن، لأنه الكاهن الأوحد، فهو وحده فتح للبشر الطريق إلى الله. في يسوع فقط تحول وجودنا من هشاشة إلى نور.

يسوع يأتي في ملء الزمان (غلا 4:4)، (عب 1: 1)

يستحيل الفصل بين العهدين، القديم والجديد، دون الإساءة لكليهما. فالفصل هذا، من شأنه ان يزّيف مضمون الاثنين معاً وذلك من خلال تمزيق اللحمة التي بينهما. وهذا التمزيق او الفصل، من شأنه، في الوقت ذاته، ان يلغي رسالتهما، ويعطل معناها ودورها، لماذا؟ لأن الفصل المزعوم، يجعل كلا من العهدين غامضاً ومبهماً.

العهدان متكاملان، فتاريخ الإنسان مع الله، بدأ في العهد القديم لا في العهد الجديد. كذلك فإن خلاص الإنسان تحقق في يسوع الرب في العهد الجديد لا في العهد القديم.

ونسمع في العهد الجديد، في رسالة القديس بولس إلى اهل غلاطية، ما يلي: “لما حان ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس، لننال التبني…” (غلا 4: 4). هذا النصّ يتناغم في العمق مع مثل الكرامين القتلة (متى 21: 33- 42). الكرامون الصالحون يعملون لحساب الكرام، ويؤدون له الثمر في اوانه. ترى كيف تقوم المقابلة بين النصين (غلا 4: 4) و(متى 21: 33- 42)؟

الجواب نجده في قول الرب نفسه: “أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رذله البناؤون هو الذي صار رأس الزاوية” (متى 21: 44).

ملء الزمان يأتي مع يسوع. اي ان هناك زمناً متدّرجاً ومتصاعداً كان يتحرك إلى هذا الملء، وقبل مجيء الملء. وفي هذا الزمن المتصاعد كان الله يكلمنا بالأنبياء، إلى ان كلمنا في آخر الأيام (عب 1: 1) بابنه الحبيب نفسه. في آخر الأيام جاء الابن، فقتلوه، كما قتلوا الذين جاؤوا قبله واعدّوا له. إذاً التناغم بين (غلا 4:4)، و(متى 21: 33- 42) قائم وكبير. للمزيد راجع (اعمال 1: 7) (مرقس 1: 15)، (1كور 10: 11)، (افسس 1: 10)، (عب 1: 2، عب 9: 26)، (1بطرس 1: 20).

نتبيّن من هذه الإقتباسات الكتابية المذكورة ان هناك عملية ارتقاء وتدرّج طويلة وعميقة ومعقدة، الأمر الذي يشير إلى استحالة الفصل بين العهدين، او اكتفاء كل منهما بنفسه. يستحيل ان ينغلق العهد القديم على نفسه، او العهد الجديد على نفسه. تاريخ الخلاص لا بد أن يكون على إتصال بتاريخ السقوط، وإلا خطأنا الله، وأعلناه كاذباً، فهو نفسه سبق ان وعد آدم بالخلاص.

ان اقوال الأنبياء لجديرة بالتقدير، فهي تأتي لتتوَّج بمجيء الابن. لقد اعدّنا الله بالأنبياء، كي يكلمنا بالابن (عب 1: 1) وعليه، فالعهد القديم يحمل في اعماقه طابع الإمتداد. انه كتاب اتجاهي directional. واتجاهيته(1)[i] في حركة نحو الملء في يسوع المسيح الذي من اجله كل شيء، وبه كل شيء (عب 2: 10)، (عب 1: 3).

إنن عزل القديم عن الجديد، لا بل قل فصله والغاءه، يدفعنا بالضرورة إلى الكلام عن إلهين، لا عن إله واحد: وهذا ما يستعدعي وجود إله للعهد القديم وهو ما يعرف باسم ((ديميورغوس: الخالق))، واله آخر في العهد الجديد وقد عرفناه في يسوع المسيح. فإذا كان إله العهد القديم غير إله العهد الجديد، عندها من الواجب ان نسأل: ومن هو الذي تكلم عنه الإنبياء منذ القديم؟ ألا يعني الفصل انهم تكلموا عن إله لا وجود له؟

والفصل بين العهدين من شأنه أيضاً ان يجعل يسوع الله بالنسبة للمسيحيين، عديم الصلة بالعهد القديم. اي لا تعود ألوهيته على كل الزمان ماضيه وحاضره ومستقبله (وهذا ما ينتقص من قدرته كإله).

يسوع جاء في ملء الزمان. لماذا نقول الملء؟ ما معنى الملء (pleroma

الملء هو الذروة. انه غاية الصعود والإرتقاء. العبارة تشير إلى مجيء اوان الخلاص بعد ان انتظره الناس زماناً طويلاً (اعمال 1: 7)، (عب 1: 2)، (1 بطرس 1: 20).

(1) See «The face of Christ in the Old Testament», by G. Barrios, SVS, P: 35.

وحدة العهدين من خلال الرسالة إلى العبرانيين

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان

مختصر تاريخ ظهور النور المقدس

هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)