أبحاث

وحدة العهدين في إنجيل متى

وحدة العهدين في إنجيل متى

وحدة العهدين في إنجيل متى
وحدة العهدين في إنجيل متى

يستطيع من يطالع إنجيل متَّى أن يلاحظَ جملةً من أمورٍ تُعتَبَر ركيزيةً جداً في بشارة مَتَّى:

  • تشير افتتاحية الإنجيل إلى الاندماج العميق بين العهدين القديم والجديد.
  • نهاية الإنجيل مذهلة، حيث أن مَتَّى يقفل بشارتَه بكونية البشري وشمولية فداء المسيح: “اذهبوا وتلمذوا كل الأمم معمدين إياهم على اسم الآب والابن والروح القدس …” (متَّى 18: 19)

تطل افتتاحية إنجيل متَّى، لمن يطالع الكتاب المقدس بدقة، على نحوٍ يكاد أن يكون صاعقاً لليهودي، ومثيراً للجدل عن سواه. ترى من هو هذا الذي يتحرك كل التاريخ ليصلَ إليه ويلتصقَ به؟ من هو الذي كان حلم الأقدمين الذين كانوا ينتظرونه عبر المئات، بل الآلاف من السنين؟ “قالت له المرأة: أنا أعلم أن مسيا الذي يُقالُ له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك، يخبرنا بكل شيء.

قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو.” (يوحنا 4: 25-26). إذاً كان الناسُ يحيون في انتظار المَسِيَّا. كان الزمانُ يتحرك نحو الملء للقاء مسيا: “لما حانَ ملء الزمان أرسلَ الله ابنَهُ مولوداً …” (غلاطية 4: 4-5). بيد أن هذا المُنْتَظَر والمشوق إليه كان قبل الزمان أيضاً (يوحنا 1:1).

يبدو التاريخ عند مَتَّى محتضناً سرَّ المسيح، فالبشارة تُلَخَّصُ بكتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داوود، ابن إبراهيم … (مَتَّى 1: 1-17). وهذا ليسَ غريباً البتة، لأن يسوع هو الخالق، وبه كان كل شيء (عب 2: 10)، لا بل إن كل شيء هو من أجلِهِ ولَهُ (2: 10)، رومية 11: 34-36).

عندما ندرس الإنجيل، أو العهد الجديد، بتدقيق، نجد أن الذين دَوَّنوا، لا سيَّما متَّى ولوقا، أكدا أن يسوع هو ابن داوود، أي أن المخلص هو ابن داوود. وصلة يسوع بداوود هي أمرٌ مهم، ليس بالنسبة للعهد القديم فقط، بل بالنسبة للعهد الجديد أيضاً. ففي يسوع تتحقق الوعود الروحية التي كان شعب الله ينتظرها من القديم. والكتاب يؤكد هذا، فيقول: “فبُهِتَ كل الجموع وقالوا ألعَلَّ هذا هو ابن داوود” (متَّى 21: 9)، (مرقس 12: 35)، (يوحنا 7: 42)، (رومية 1: 3)، (2 تيمو 2: 8).

إلّا أن في العهد الجديد سلسلتين (متَّى 1: 2-16)، (لوقا 3: 23-38) للنَسَب، وهاتان السلسلتان تؤكدان نسَبَ يوسف وليس نَسَبَ مريم. ولكي يُبين متَّى أن المسيح هو من نسل داوود، يقدم لنا سلسلةً ضخمةً من الأسماء، وأغلبها غريب على مسمع الإنسان المعاصر، لينتهي بالقول: “ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي منها وُلِدَ المسيح.” (متَّى 1: 6). أمَّا لوقا، فلكي يصل إلى القول أن يسوع هو ابن داوود يقول: “ولما ابتدأ يسوع، كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يُظَنُّ ابن يوسف ابن هالي … ابن داوود … ابن آدم، ابن الله” (لو 3: 23-38).

وعليه، فإن لم يكُنْ يوسف الأب الشرعي ليسوع، يستحيل أن يكون يسوع ابن داوود، لا سِيَّما وأن سلسلتي النسب عند مَتَّى ولوقا غايتهما أن يُثْبِتا بنوة يسوع لداوود. وهكذا فإن الكلام عن عجائبية ميلاد يسوع، أن التأكيد على غياب أية علاقة جسدية بين يوسف ومريم، من شأنِهِ أن يُفْقِدَ يسوعَ نسبَتَهُ إلى داوود، دون أن يتكلم عن نسبة مريم لداوود. وهنا يُطْرَحُ علينا سؤالٌ يتعلق بعجائبية الميلاد بالنسبة إلى علاقة يسوع بداوود.

ما مِن شكٍّ أن نسبة يوسف لداوود لا وجودَ لها في العهد الجديد خارج إنجيلَيْ مَتَّى ولوقا. ولكن هذا لا يُقَلِّلُ في أي من الأحوال من قيمة الولادة من أُمٍّ بتول، كما ولا يشير إلى غياب اتصال بين يسوع وداوود.

ونتساءل تِباعاً: هل من الضرورة بمكان أن كل حادثة مهما كانت أهميتها في حياة يسوع يتوجب تكرارُها وتردادُها لدى جميع الرسل والمبشرين في العهد الجديد؟ بكلامٍ آخر، إذا أغفَلَ إنجيل يوحنا حادثة ولادة يسوع، هل يعني هذا أنه يُقَلِّلُ من قيمة هذه الولادة؟ قطعاً لا. العهد الجديد لم ينفِ ما ورد عند متَّى ولوقا. ولكن، مع ذلك، تَبقَى هناك مشكلةٌ تقوم على أمرٍ مفادُهُ باختصارٍ أن الميلاد العجائبي يأتي ليؤكدَ عدم نِسبَة يسوع ليوسف. من هنا، فإن الاعتراضاتِ على نسبة يسوع ليوسف تبقى قائمةً وتحتاجُ إلى جوابٍ.

إذا لم يكُنْ يسوع ابنَ يوسف، عندها فإن قائمة الأسماء عند متَّى ولوقا لا يعود لها من معنىً ولا تأتي إلى غايتِها. ولكن أيُعْقَلُ أن يرتكب مَتَّى ولوقا مثل هذا الخطأ؟

إذا كان مَتَّى لا يعطي قائمة بأسماء أجدادِ مريم، فذلك لأنه كان يُعالج أمراً معروفاً وبديهياً في زمانه، أعني أن يوسف هو من نسلِ داوود، ومريم أيضاً هي من نسلِ داوود. أما لوقا فكان بصدد الكلام عن كونية الخلاص الذي تم بيسوع، من هنا إرجاعُهُ شجرة النسب إلى آدم الجد الأول لكل البشرية. وإذا قلنا أن مريم ويوسف هما من نفس العائلة، عندها تُحَلُّ المشكلة، لأن يسوع سوف يكون من أبناء داوود من جهة أمِّهِ أيضاً، وبذلك تتحقق فيه المواعيد (مَتَّى 12: 23)، (مَتَّى 21: 9)، (مرقس 10: 47)، (يوحنا 7: 42)، (رومية 1: 2-3)، و(تيمو 2: 8).

ولكن هل كانت مريم فعلاً من عائلة يوسف؟ كيف السبيل إلى إثباتِ ذلك؟ وإذا كانت مريم من نفس عائلة يوسف، لماذا لم يذكر الإنجيليان ذلك؟

لقد كُتِبَ إنجيل متَّى ولوقا بين (70 و85 م.) وبالتالي فإنهما يكتبان لأناسٍ يعرفون الأمورَ على حقيقتِها. أي أن كثيرين من الذين عاصروا الأحداث كانوا على قيد الحياة في ذلك الحين. وإذا كانت الحقيقة مخالفة لهذه المعطيات، عندها نسأل: كيف يُشَدِّدُ متَّى ولوقا على عجائبية ميلاد الرب، الأمر الذي يدعونا حتماً إلى القول أن النسابة ([1]) عند مَتَّى ولوقا لا تُشكك أساساً في نسبة يسوع إلى داوود، إنما تأتي لتؤكدها؟

وبنتيجة هذه الخُلاصة يكون يوسف أباً ليسوع بالتَبَنِّي. وهكذا فالتساؤلات التي نطرحها نحنُ، أو المشكلات التي نثيرها، لم تكُنْ قائمة في عقل كُتَّابِ العهد الجديد. نحن نستطيع أن نستشف مسألة تبني يوسف ليسوع من قول الملاك: “قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى أرض مصر” (متى 2: 13). أي أن الملاك يأمر يوسف بأن يأخذ رعاية يسوع ومريم على عاتِقِهِ.

متَّى ولوقا يسجلان لنا نسابة يوسف إلى داوود دون أن يتكلما عن نسابة مريم لداوود. كيف نفهم هذا الإغفال؟

كان الأمرُ طبيعياً إذ ذاك، فالعهد القديم لا يقدم النسابة إلا من خلال الذكور. أما النسوة اللواتي ذُكِرْنَ في متَّى ولوقا فقد وردن بسبب ما جرى معهنَّ من أحداث، لا بالنظر لأهميتهن في النسابة. هكذا فإن كون يوسف ومريم محسوبين على نسل داوود لا يُفقِدُ البتة من قيمة عجائبية ميلاد الرب، ولا ننسى، وكيف ننسى، أن الكنيسة التي كتبَ إلها متَّى ولوقا كانت متأثرةً إلى حدٍّ كبير بالفكر اليهودي.

نأتي الآن إلى أمرٍ آخر يبدو على شيءٍ من الغرابة: هذه السلسلة من الأسماء عند متى ولوقا تحمل باقةً من الأسماء الغريبة التي مجرد التلفظ بها يبعث على الضحك: “شألتئيل”، مثلاً. ولكن رغم الغرابة والاستهجان، وهذا شأننا نحنُ المعاصرين، فإن للأسماء عند متَّى دلالةً لاهوتيةً كبيرةً بالنظر إلى مكانتها في علم النسابة.

متَّى الإنجيلي لا يلعب في روايتِهِ دورَ مؤرخٍ حاذق، فهذا ليسَ شأنَهُ، رغمَ قدرتِه على الاضطلاع به، إنما نراهُ يحتكم إلى تُراثِ الأجداد ليؤكدَ حقيقةَ تاريخِ الخلاص المُعْلَنِ في يسوع. من هنا يبدو متى لاهوتياً فَذَّاً ينبري ببراعة لتأكيد أقوال الأنبياء التي تَمَّتْ في يسوع. ولكن طالما أننا نتكلم عن شجرة النسب عند متى ولوقا، فما هو علم النسابة هذا؟

النسابة فنٌ أدبيٌ قديم من شأنه أن يُعَرِّفَ بالشخصيات البارزة في العصور الغابرة. وقد استعان متَّى بهذا العلم للدفاع عن أطروحتِه اللاهوتية، أي بشارته بيسوع المخَلِّص في نطاق بيئةٍ يهودية. لقد عمدَ متَّى إلى النسابة (genealogy) للتعريف بالأجداد، لا سيَّما وأن المسيحيين كانوا يدركون تمام الإدراك أن المسيح يتحدَّرُ من أصل داوود (متَّى 9: 27)، (متَّى 15: 22)، (متَّى 21: 9).

البون الزمني الهائل بين إبراهيم ويوسف رجل مريم هو أمرٌ بالغ الأهمية بالنسبة لمَتَّى. لذا، ومن خلال الأزمان المتلاحقة وهذه الأجيال المتعاقبة، يرسم مَتَّى بيراعٍ أخَّاذ خطاً بيانياً طويلاً ومتعرجاً جداً، وذلك لكي يغرس في السامعين شوقاً مقروناً بتأكيد على أن أقوال الأنبياء قد تمَّتْ في يسوع الذي وُلِدَ في بيت لحم اليهودية. لكن ما هو لُبُّ النسابة عند مَتَّى؟

يسوع هو جوهر هذه الشجرة الضخمة التي ذكر مَتَّى أسماءها. وهذا بداهةٌ عند مَتَّى لأن يسوعَ هو وريثُ عرش داوود، وهو نفسهُ المعنى الأخير لذرية إبراهيم (تك 12: 2)، والمَسِيَّا المُنتَظَر (يوحنا 9: 37)، (تثنية 18: 18-22)، ورأس الذُرِّية المختارة.

من الواضح عند مَتَّى أن لاهوت المسيح مغروسٌ في أعماق العهد القديم، فالكلام عن “كتاب ميلاد يسوع ….” (متَّى 1: 1)، هو أشبه بــ : “هذه مبادئ السموات ….” (تك 2: 4). “وأما ميلاد يسوع ….” (متَّى 1: 18)، فتقابل: “هذا كتاب مواليد ….” (تك 5: 1). وهذا يقودُنا تالياً إلى التجانس الكبير بين بِنْيَةِ رواية متَّى وبِنْيَةِ رواية التكوين، الأمر الذي نجده أيضاً عندما نقابل بين التكوين وإنجيل يوحنا.

وهذا التقابل بين مَتَّى والتكوين يجعلنا نتبين متَّى لاهوتياً كبيراً. ففي التكوين كان خلقُ آدم، بينما عند مَتَّى كان يسوع آدم جديد أو موسى الجديد كما هي عبارة بولس الرسول وهكذا فالتقابل بين العهدين عند مَتَّى لا يعود مجرد تقابُل بين العهدين القديم والجديد، إنما يُصبح انصهاراً، وذلك عندما يقول الرَّبُّ: “لا تظنوا أنِّي جئتُ لأنقضَ الناموس …” (متَّى 5: 17).

في معرِضِ الكلام عنن النسابة عند مَتَّى، قد يستغرب القارئ وجودَ ذِكرٍ لأسماء نساء، الأمرُ المُسْتَهْجَنُ في العقلية اليهودية إلا نادراً. تُرَى لماذا أتى متَّى على ذِكرِ “تامار الزانية، وراحاب، وراعوث، وبتشبع”؟ أولئكَ النسوةُ كُنَّ خاطئات، وقد ارتبطَ تاريخهن وسيرتهن بالضعف والمآثم. فراحاب زانية، وراعوث موآبية، وبتشبع غريبة الجنس. عند بولس الإلهي نجدُ تفسيراً لهذه الباقاتِ من الأسماء المختلفة: لا يوناني ولا يهودي، لا عبد ولا حُرّ، لا ذكر ولا أنثى … الكل واحد في المسيح (غلا 3: 28). في الرب يسوع يستطيع كل إنسان أن يكون رعيل القديسين.

ومع ذلك ليس كل المذكورين والمذكورات في نسابة متَّى من رعيل القديسين. أي أن البشرية كلها أسهمت في التحضير لمجيء المسيح. هذه هي رسالة متَّى لكل الأجيال، بدءاً من اليهود. جميعنا أعوزنا الخلاص، وجميعنا شُفِينا بالرافع خطايا العالم.

ثم أن مّتَّى قَسَّمَ الأجيال إلى ثلاثة، جاعلاً كلاً منها في أربعة عشر جيلاً، بحيث أنه حَوَى أجيال اليهود في (42) جيلاً: من إبراهيم إلى داوود، ومن داوود إلى جلاء بابل، ومن جلاء بابل إلى المسيح.

وإذا أردنا أن نفهمَ نَسَب يسوع عند مَتَّى، لابدَّ من مطالعة الأنساب في العهد القديم. فمتى اقتبسَ من راعوث (4: 18-22). ومن سِفر الأخبار الأول (1: 34)، (2: 15). لماذا هناك نسابتان؟

إن اختلاف نظريَّتَي النسابة عند متَّى ولوقا لا يشير إلى تناقض في المعلومات، بل إلى اختلاف في الزاوية التي منها ينظرُ كلٌّ منهما إلى النِسَابة. لوقا لا يخالف متَّى الذي ينادي بيسوعَ ابناً لداوود. يسوع يتَحَدَّرُ من سلالة الأجداد. لوقا يُقِرُّ بالنسابة حسب مَتَّى، ومَتَّى بدورِهِ، إذا شئتم، لا يرفض النِسابة عند لوقا. إن ما يدعو إلى فهم نسابة الاثنين هو الشريحة البشرية التي نُقِلَتْ إليها البشارة.

فبينما تَوَجَّهَ متَّى ببشارتِهِ إلى مسيحيين من أصلٍ يهودي، نجد أن لوقا توجه إلى جماعةٍ ليتورجية متجَذِّرةٍ في العبادة، الأمرُ الذي نتَلَمَّسُهُ في افتتاح إنجيل لوقا بالهيكل ونهايته داخل الهيكل أيضاً. إن وجودَ نسابة ذات شكلين، أو قُلْ نسابتين، ليس مدعاةً للتناقض، لأننا نقف في العهد القديم على سلسلتين من النسابة للشخص ذاتِهِ، مثلاً: نسب يهوذا، ونسب بنيامين.

لقد أراد متَّى ولوقا من هذين النسبين أن يُظْهِرا أن يسوع المسيح هو الوريث الشرعي للوعود الإلهية، لا سِيَّما وأن الاثنين ينتهيان في سلسلتيهما من النسابة عند يوسف خطيب مريم. فيسوع كان لابد أن يكونَ ابناً شرعياً من جهة الشريعة اليهودية. وكما أسلَفْنا، فإن معرفة وجهة بشارة متَّى ولوقا من شأنِها أن تعيننا على فهمِ الاختلاف بين شجرة الأنساب الواردة عند متَّى ولوقا معاً.

وليست هذه السلسلة من الأسماء – سواء حسب ترتيب متَّى أو لوقا – غير مهمة لاهوتياً. ليست هي شجرة عائلة كباقي الشجرات المعروفة في المجتمعات البشرية. فهي، في محتواها، لا تقوم على زَهْوٍ ومفاخرة. إنما الغاية منها الإثبات أن يسوع المسيح هو ابن داوود وابن إبراهيم. ففي يسوع يتحقق وعد الله لإبراهيم: “فيكَ تتباركُ جميعُ قبائلِ الأرضِ …” (تك 15: 3)، (تك 22: 18).

مَتَّى الإنجيلي كان يعي ذلك جيداً، ولا يعودُ من قيمةٍ في أن يُرجَعَ يسوعُ بالسلالة إلى إبراهيم. كذلك فإن الوعد بيسوع الذي سيأتي من نسل داوود، قديمٌ هو (2 صمو 7: 12)، (مزمور 89: 3)، (مزمور 132: 11). وهكذا، فإذا وُفِّقَ متَّى إلى خلق الدليل من أن يسوع هو ابن داوود وابن إبراهيم، فإن هذا سيجعل اليهود يتلهفونَ أكثر لسماع وقبول بُشرى الخلاص بالمسيح، مَسِيَّا المُنْتَظَر (يو 4: 25-26).

إلا أن متَّى يدركُ جيداً أن هذه الشجرة وهذه النسابة التي أتى على تحديدِها وذِكْرِها لا تحوي أغصاناً يهودية وحَسْب، بل فيها أغصان غريبة وغير يهودية. إنها أغصان من الأمم أيضاً. فيها من الفقراء ومن الأغنياء، من الملوك ومن عامةِ الناس، فيها زُناةٌ وفيها أطهار. لماذا؟ لماذا هذا التنويع في افتتاحية الإنجيل؟ كيف سيفهمه اليهودي؟ هل هو صدمة لليهود الذين يستمعون للبشارةِ ظانين أن الشجرة العائلية لهم؟ كيف سيتقبلون هذا التنويع؟ كيف تنسجم هذه الحقيقة مع معطياتهم وحياتهم؟

لماذا هذا التنوع كما يفهمه مَتَّى؟

الغرض من ذِكرِ التنويع هو على غايةٍ من الأهمية، فهو يعني أن النعمة الإلهية لا تجري في دماء العظماء من الناسِ فَحَسْب، وأن الخلاصَ الذي من اليهود ليس حِكْراً عليهم. إنه لجميع الذين يتوبون إلى الله، لأنه لا يهودي ولا يوناني … بل “الكل واحد في المسيح” (غلا 3: 28). ماذا نعرفُ عن التنويع الوارد في افتتاحية متى؟

نلاحظ، إذا دَقَّقْنا، أن بين أجداد الرب أُناساً كان لهم أُخْوَة. ونلاحظ أن يسوع لم ينحدر إلا من الأخ الأصغر فقط كإبراهيم ويعقوب ويهوذا وداوود وناثان ويسَّى … ما معنى هذا؟ هذا يُعْني أن الربَّ لم يأتِ من بَرَكةِ الباكورية، بل من إرادة الله. فالله يعطي الناقصين كرامةً حسب قول الرسول (1 كور 12: 24).

ويتضح بما لا يقبل الشك أن إنجيل متَّى كُتِبَ إلى جماعة يهودية، فالافتتاحية الدقيقة يستحيلُ أن تكونَ لغير اليهود، وإلا فلماذا التدقيق في الأسماء؟ الجماعة التي يخاطبها متَّى تأثر نمطُها بالعُرْفِ اليهودي. إلا أن هذه الجماعة هي في جوهرِها مسيحية وأعضاؤها أحياء في الكنيسة التي بناها يسوع المسيح ابن الله الحي (متَّى 16: 16). هذه الجماعة تتلمذت على البشارة الخلاصية التي تَمَّتْ في يسوع (متَّى 11: 29)، (متَّى 23: 8). إنها جماعةٌ تدرك عمقَ اتصالِها بالوصايا والناموس، لكنها تعرف، في الوقتِ نفسِه، أن يسوع كَمَّلَ الناموس (متَّى 5: 17-18).

جماعة إنجيل متَّى هي جماعة صوفية وعلى درجة عالية من الفهم الروحي. وتستطيع عندما تسمع أن تُصغي إلى عمق رسالة التطويبات (متَّى 5: 1-12). جماعة متَّى هم يهودٌ حكماً، لكنهم استطاعوا بقوة الروح القدس أن يَخْرجوا من قمقم التقوقع إلى رحاب الحياة في المسيح. لكن مع ذلك، فهم ما يزالون في العبادة يراعون السبت (متَّى 12: 1-8). وهذا ليس بغريبٍ حتى الساعة. إذ ليس من السهل على الإنسان أن ينفطم عن ماضيه بكل دقائقِه وتفاصيلِه دفعةً واحدة.

الانفطام المرجو لا يتحقق إلا بقوة المسيح وتدريجياً، لأننا بشر. جماعة متَّى يهودٌ، لكنهم ليسوا متقوقعين، لأنهم فتحوا قلوبَهم لسماع كلام الحياة والكمال (متَّى 5: 48). إنهم أناسٌ انجذبوا لعذوبةِ غفران الخطايا (متَّى 18: 22). لقد نجحوا كشعبٍ في تَخَطِّي ذواتهم، الأمر الذي جعلهم بحق الباب إلى عالم الوثنيين (متَّى 28: 19)، ويمكن أن يُعَوَّلَ عليهم في نقل البشارة إلى كل مكان من العالم. لقد أدركَتْ هذه الجماعة فرادة المسيح، فشرعَ أفرادُها ومن يحذو حذوَهم في دعوة الوثنيين لدخول الكنيسة.

ثم أن الوثبة إلى خارج الإطار اليهودي، في متَّى، تتجلى بوضوحٍ في الكنعانية (متَّى 15: 21-28) التي سكَبَ الربُّ عليها نعمته، فمنحها الشفاء. وهكذا يتبين من “متَّى” أن المسيح ليس حِكراً على أحد، وأنه يعطي كلَّهُ لأحبائه التائبين، حتى ولو أنه، كما نرى، يرفض أن يُعْطِي خيراتِ أهل البيت للكلاب (متَّى 15: 21-28). إلا أن ما يدعو إلى التناقض في “متَّى” هو ما نطالعه في الخاتمة: “اذهبوا إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل” (متَّى 10: 5-6). كيف نفهم التناقض، وكيف نرفعه؟

يسوع جاء إلى اليهود أولاً دون أن ينحصرَ فيهم. ليس من مشكلةٍ في أن يكون مجيئه لليهود أولاً، فهو سيكون لسواهم أيضاً، إذ لا يهودي ولا يوناني … بل الكل واحدٌ في المسيح. وهكذا فقوله: “اذهبوا إلى الخراف الضالة من آل إسرائيل” (متَّى 10: 5-6)، لابد أن تأتي في السياق، قبل “اذهبوا إلى كل الأمم …” (متَّى 28: 19-20). لماذا؟ لأن الربَّ “إلى خاصَّتِهِ جاء، لكن خاصَّتُهُ لم تقبله”. أما الذين قبلوه، وهم التائبون، فقد أعطاهم أن ينعموا بالحياةِ الأبدية التي عنده.

إلا أن هذه الوثبة من اليهودية إلى الأممية، من الجزء إلى الكل، تحتاج في الحقيقة إلى ما هو فوق قدرة الناس كي تتحقق. الانفتاح الحقيقي على الشعوب، والخروج إليهم بالحب، هو مِنْ عطايا الله. والبشرية، حتى إشعارٍ آخر، ما تزال رازحةً وراسخةً في الفئوية والتقوقع. وهكذا فالروح القدس هو الذي وحده يقدر أن يقنع اليونانيين (أعمال 6: 1-7)، (أعمال 10)، (أعمال 11). كذلك فإن المَدَّ البشاري من الإطار اليهودي إلى الإطار العالمي كان بحاجةٍ أيضاً إلى أطرٍ أرضيةٍ أخرى كديناميكية كنيسة أنطاكية مثلاً، وذلك لتبشير غير اليهود (أعمال 11)، (أعمال 19).

إلا أن شمولية الرسالة المسيحية لن تتضحَ إلا بعد مجمع أورشليم سنة 50 م. (أعمال 15).

بعد هذا، من البديهي أن يلاحظَ القارئ فرادةً إنجيل متَّى وغزارةَ اقتباساتِه من العهد القديم، وعمق الوحدة القائمة بين إنجيل متَّى والعهد القديم، الأمر الذي سنتبينُه تِباعاً.

من أشعيا (7: 14) نصل إلى (متَّى: 1: 22). (متَّى 2: 5) تُقابلُ (ميخا 5: 2). (متَّى 2: 11) تقابل (أشعيا 49: 23)، (أشعيا 60: 22). (متَّى 2: 12) تقابل (مزامير 72: 10-15). (متَّى 2: 15) تقابل (هوشع 11: 1) “من مِصرَ دعوتُ ابني”. (مَتَّى 2: 17) تقابل (أرميا 31: 15). (متَّى 2: 21) تقابل (خروج 4: 19).

(متَّى 3: 3) تقابل (أشعيا 40: 3). (متَّى 3: 4) تقابل (4 ملوك 1: 8). (متَّى 3: 12) تقابل (أشعيا 41: 16). (متَّى 3: 16) تقابل (أشعيا 42: 1). (متَّى 4: 1-2) تقابل (خروج 24: 18) و (خروج 34: 18). (متَّى 4: 14) تقابل (أشعيا 8: 23). (متَّى 5: 1-8) تقابل (مزمور 36: 11) و(تكوين 13: 15) و(أشعيا 61: 2-3) و(سيراخ 23: 21) و(أشعيا 51: 1). (متَّى 5: 31) تقابل (تثنية 24: 1). (متَّى 6: 29) تقابل (3 ملوك 10: 1-29).

(متَّى 6: 33) تقابل (أشعيا 51: 1). (متَّى 8: 17-18) تقابل (أشعيا 53: 3). (متَّى 10: 37-38) تقابل (تثنية 33: 9). (متَّى 11: 2-3) تقابل (تثنية 18: 15). (متَّى 10: 11) تقابل (ملاخي 3: 1). (متَّى 15: 8) تقابل (أشعيا 29: 13). (متَّى 13: 14) تقابل (أشعيا 6: 9-10). (متَّى 15: 8) تقابل (أشعيا 29: 13). (متَّى 16: 19) تقابل (أشعيا 22: 22). (متَّى 17: 5-7) تقابل (خروج 13: 22). (متَّى 18: 12-14) تقابل (حزقيال 34: 1).

(متَّى 21: 5) تقابل (أشعيا 62: 11) و(زكريا 9: 9) و(تكوين 49: 19) و(3 ملوك 1: 33) و(4 ملوك 9: 13). (متّى 21: 13) تقابل (أشعيا 56: 6) و(أرميا 7: 11). (متَّى 21: 33-46) تقابل (أشعيا 5: 1-7). (متَّى 22: 44) تقابل (مزمور 109: 1)، “قال الربُّ لرَبِّي …”. (متّى 24: 29-30) تقابل (أشعيا 13: 9-10).

(متَّى 24: 36) تقابل (أشعيا 15: 6). (متَّى 25: 33-34) تقابل (أشعيا 58: 6-8). (متَّى 26: 14-16) تقابل (زكريا 11: 12). (متّى 25: 32) تقابل (زكريا 13: 7). (متَّى 26: 67-68) تقابل (أشعيا 52: 14) و(أشعيا 50: 6). (متَّى 27: 14-15) تقابل (أشعيا 53: 7). (متَّى 27: 38) تقابل (أشعيا 53: 12).

أخيراً، أخي القارئ، إن الاقتباسات التي طالعتَها، وأرجو أن لا تكونَ قد ملَلْتَها، ليستْ إلا غيضاً من فيض، وليستْ إلا صورة صغيرة عن وحدة العهدين.

في الختام، نتبين من مطالعة إنجيل متّى أن يسوع وارث العالم القديم أيضاً، لهذا فقد جرينا في عبادتِنا على عادة التعييد للأجداد وللآباء. يسوع اجتذبَ الكلَّ إليه، فتَطَلَّعوا إليه، وهو نفسه يؤكد في يوحنا أن هناك كثيرين من خارج الحظيرة ينبغي أن يأتي بهم أيضاً. مع نهاية رواية متَّى، ندركُ أن الانطلاقةَ كونيةٌ لبُشْرَى الخلاص، لأن الفداء كان من مقاصد الله للجميع. وهكذا فالمسيح غير مُقَيَّدٍ بالخط الخلاصي الذي بدأ بإبراهيم، لأنه وهبَ نفسَه للأممِ أيضاً، وهذا ما ندركُه ونحن نطالع أعمال الرسل.

في إنجيل متَّى نرى علاماتٍ على كونية الحب الإلهي في صورةِ المجوس وفي صورةِ الكنعانية. يسوع ليس إله الإطار اليهودي، ولم يكُنْ يوماً إلهاً قَبَلِيَّاً أو زعيماً على شعبٍ دون سائر الشعوب.

في متَّى ندركُ كونيةَ الكنيسةِ أيضاً، والتي هي دعوة الجميع كي يكونوا شعب الله. في متَّى ندركُ أن ليس ذكرٌ ولا أُنْثى، لا يوناني ولا يهودي، الكلُّ واحدٌ في المسيح الذي بهِ ولهُ ومن أجلِهِ كان كل شيء (عب 2: 10).

([1]) genealogy

وحدة العهدين في إنجيل متى

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان

هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!

مختصر تاريخ ظهور النور المقدس

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

 

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)