أبحاث

يسوع خارج العهد الجديد – لمحة عن البحث

يسوع خارج العهد الجديد - لمحة عن البحث

يسوع خارج العهد الجديد – لمحة عن البحث

يسوع خارج العهد الجديد - لمحة عن البحث
يسوع خارج العهد الجديد – لمحة عن البحث

 

لقد أدى الاهتمام الدائم بيسوع، سواء كان ذلك الاهتمام مدفوعاً بالعواطف أو المنطقية، إلى بحث مطول ومكّثف في المصادر القديمة التي تناولته. ولطالما شكل العهد الجديد المصدّر الأساسيّ، وغالباً الوحيد، لفهمنا حياة يسوع وتعاليمه. وحتى نحو مئة عام خلت لم يخرج الباحثون عن مفاهيم العهد الجديد في أبحاثهم حول يسوع، وإن حدث ذلك فقد كان قليلاً جداُ.  تجتمع ثلاثة عوامل في تفسير هذا النقص في البحث:

الأول: أن العهد الجديد حظي بموقع كنسيً قانونيّ حصريّ في الكنيسة والمجتمع الأكاديميّ، وكان أي شيء يُقال عن يسوع في الأدب القديم يُعطى قيمةً ثانويّة. وحتى لو تمتعت المواد الخارجة عن نطاق العهد الجديد بمصداقيّة، فلم يكن لها إلاّ أن تؤكّد صحة ما ترويه الأناجيل الكنسيّة القانونية.

ثانياً: غالباً ما قوّضت الأبحاث من قيمة الشواهد الصغيرة عن يسوع، والتي وجدت خارج العهد الجديد، إن في الكتابات الرومانيّة الكلاسيكيّة أو الكتابات اليهوديّة والمسيحيّة. وغالباً ما كان يُنظر إلى الأدب المسيحيّ الخارج عن نطاق الكنيسة على أنه أقلّ درجةً من العهد الجديد. ويُعتمد عليه بشكلٍ أدبيّ وغير مهمّ من أجل فهم يسوع.

ثالثاً: حتى النصف الثاني من القرن العشرين كان هنالك كتابات حول يسوع في العهد الجديد أكثر مما وجد خارجه. ولم يوجد إلا مجموعة صغيرة من الكتابات المسيحيّة الغنوصية[1]، والأناجيل المنتحلة[2]. كما أن معظم معرفتنا بالغنوصيّة جاءت من آباء الكنيسة[3] المناهضين لها في القرن الثاني، وقد تغيّرت هذه الحالة بشكلٍ كاملٍ في عصرنا الحاضر.

وفيما لا يزال العهد الجديد قانونياً بالنسبة للكنيسة، إلا أنه لم يعد يتمتع بتلك المكانة الخاصة في معظم الأبحاث، حيث أن معظم الباحثين في العهد الجديد، وآخرون من المؤرّخين للعصور القديمة، يتطلعون إلى الكتابات المسيحيّة الخارجة عن نطاق الكنيسة باهتمام كبير، ويولي بعض الباحثين قيمةً أعلى لهذه الكتابات على الكتابات الكنسيّة القانونية. إنّ تحسّن العلاقات بين اليهود والمسيحيين، بالإضافة لتقدم الأبحاث حول الرابط بين اليهودية والمسيحيّة الباكرة، أدّى إلى دراسة أكثر جدوى وموضوعيّة للنصوص اليهوديّة التي تتناول يسوع.

إن اثنين من الاكتشافات الأدبيّة في منتصف القرن العشرين قد أدّت إلى إيلاء اهتمام أكبر بالأدب الخارج عن نطاق الكنيسة، فمخطوطات البحر الميّت ألقت بضوء جديد على الوضع الديني اليهودي في زمن يسوع. كما أن مخطوطات نجع حمادي المكتشفة في رمال مصر قد أعطتنا مدخلاً مباشراً للرؤى المسيحيّة الغنوصيّة خلال العهود المسيحيّة الأولى. ومع اكتشاف مخطوطات نجع حمادي أصبح لدينا الآن مواد إنجيليّة خارج نطاق الكنيسة أكثر من المواد الكنسيّة القانونية. في الوقت ذاته، زاد البحث عن مصادر أدبيّة للأناجيل الكنيسيّة القانونية.

ويُعرف المصدر الافتراضيّ لأقوال يسوع الموجودة في كلّ من إنجيليّ متى ولوقا بوثيقة “Q”[4]، والتي تُعتبر الآن من قبل العديدين وثيقةَ أوليّة مستقلّةً، تعطي تصوّراً أكثر دقة للمسيح من الأناجيل الكنسيّة القانونية، كما يرى البعض. ويعمل الكثير من الباحثين بجدٍ كبير لإعادة تشكيل الكلمات المحتملة لوثيقة “Q” بُغية تأمين قاعدة أكثر دقّة لفهم خلفيتها التاريخيّة ومعناها الدينيّ.

إن تاريخ البحث في حياة وتعاليم يسوع عادةً ما يُقتفى عبر ثلاثة أبحاث عن “يسوع التاريخيّ”: في البحث الأول الذي جرى في القرن التاسع عشر، تمّ كتابة عدّة “شخصيات ليسوع” مختلفة عن بعضها، وذلك باستخدام أدوات تاريخيّة من عصر التنوير. وقد هاجم الباحثون الإنجيليون التقليديون وسلطات الكنيسة هذه الشخصيّات بحدّة. إلاّ أنّ أكثر النقد تأثيراً ونفاذاً لم يكن من أحد التقليدييّن بل من أكثر الباحثين ليبراليّة وهو “ألبيرت شويتزر”.

وقد بيّن “شويتزز” أن الشخصيّات الأولى ليسوع أعادت تشكيل يسوع يشابه مؤلفيّ هذه الشخصيات أكثر من يسوع نفسه، والذي كان شخصيّة غيبيّة[5]. وأدّى كتاب “شويتزر” إلى وضع نهاية للبحث الأول. ومع أنّ البحث في مصادر خارج العهد الجديد بدأت في نهاية القرن التاسع عشر إلاّ أنّ العديد ممن شاركوا في البحث الأول لم يولوا انتباهاً كبيراً لهذه المصادر، وبشكل عامّ فقد استخدموا الأناجيل الكنسيّة القانونية فقط لإعادة تشكيل حياة يسوع والكشف عن خفاياها.

أما البحث الثاني والذين جرى في القرن العشرين، من حوالي سنة 1930 إلى 1960، فقد دُعي بدايةً بـ “البحث الجديد”، وركّز أيضاً على الأناجيل الكنسيّة القانونية، وخاصّة الأناجيل السينوبتية[6]، مع الالتفات قليلاً إلى المصادر الأدبيّة الخارجة عن نطاق الكنيسة. ويتناول “غنثر بورنكام” الدلائل الرومانية واليهوديّة عن يسوع في صفحتين من كتابه الذي يبيّن النتائج التي خلُص إليها البحث الثاني الذي عالج الموضوع معالجةً كاملة، فظهرت مفاهيم جديدة عن يسوع.

وقد اتفق العديد من الباحثين على أن الجدل الحالي حول يسوع والذي ابتدأ حوالي سنة 1970 يشكّل البحث الثالث، وأنّ إجماعاً بدأ يتشكّل حول هذا الموضوع. ويربط البعض البحث الثالث بـ “ندوة عيسى” ومعارضيها، إلاّ أنه قد بدأ قبل ظهور “ندوة عيسى” ومن المحتمل أن يدوم أكثر منها. ويدرس البحث الثالث مصادر الأناجيل – وخاصّة وثيقة “Q”، و”إنجيل الآيات”[7] الذي هو مصدر إنجيل يوحنا – بكونها وثائق متميّزة.

فالمحتويات الفريدة لإنجيل متى: “م” وإنجيل لوقا: “ل”، تتمتع بمكانة هنا أيضاً، حيث يرى فيها بعض المؤولين وثائق سابقة للسلطة الكنسيّة.

ويبدي المشاركون في البحث الثالث اهتماماً ملحوظاً بالأدب المسيحيّ الخارج عن نطاق الكنيسة أكثر مما فعل كتّاب البحث الأول والثاني. ويلعب إنجيل توما وأدب نجع حمادي دوراً بارزاً في الدراسة الحالية ليسوع، وكذلك لم تكن أناجيل منتحلة أخرى مثل إنجيل بطرس بعيدةً عنت هذا الأمر، كما تكتسب المصادر اليهودية عن حياة يسوع اهتماماً أكبر.

وتبقى المصادر الكلاسيكيّة التي تتناول يسوع مُستثناة من هذا التوجه، حيث أن البحث الثالث لم يتناولها بشكل معمّق، والقليل فقط من الدراسات الكبيرة قد تتناول الدلائل الموجودة في المصادر الكلاسيكيّة[8].

خلاصة الأمر، شهدت العشرون سنة الأخيرة اهتماماً أكبر وجدلاً أوسع حول يسوع التاريخيّ خارج العهد الجديد أكثر من أي فترة أخرى في القرنين الماضيين. فعلى الرغم من أن دراسة العهد الجديد تحمل أهميّة مباشرة لفهم دراسة يسوع، إلاّ أنه يوجد خارج نطاق العهد الجديد وخارج “الأبحاث عن يسوع التاريخي” دراسة أكثر أهميّة ترتبط بموضوعنا هذا، فغالباً ما ينقّب مؤرخو الحضارات الرومانية واليونانية القديمة في المسيحية الأولى ويبحثون حول مؤسسها في بعض الأحيان.

فالإشارات إلى المسيحيّة الأولى من قبل كتّاب كلاسيكيين هي أكثر النصوص التي تُدرس، وتثير الجدل، في الأدب الكلاسيكيّ. ونتيجةً لذلك وجِدَ أدب ثانوي غنيّ في البحث الكلاسيكي يناسب دراسة موضوعنا. بدأت الدراسات اليهوديّة حول المسيحيّة الأولى بالظهور في العصر الحديث وهي اليوم في مكتمل نموّها مشكّلة مصدراً ثانويّ الأهمية للبحث في موضوعنا[9]. ويعد المؤرّخ اليهودي “غيزا فيرمز” أحد أهم الباحثين في دراسة يسوع التاريخي، وهو صاحب الكتاب المهمّ في تشكيل إجماع حول فهم يسوع بصفته يهودياً في بيئة يهودية.

أخيراً، يدرس مؤرخو الكنيسة تقاليد يسوع في فترة ما بعد العهد الجديد بكونها طريقة لفهم المسيحيّة القديمة.

ونعتقد بأننا محظوظون لوجود هذه التوجهات البحثيّة المختلفة حول تقاليد يسوع القديمة، فهي تُغني موضوعنا، وبالتأكيد فإن أيّاً من هذه التوجهات لا تخلو من الذاتيّة المحتومة والتي تؤثّر على المعرفة البشريّة. وبالرغم من ذلك، فخلال هذا العمل سيتأكد لنا قيمة الأخذ بتوجهات باحثين آخرين تكون بعيدة عن المناقشات الملتهبة في أبحاث العهد الجديد حول شخصية يسوع وما قام به.

[1] الغنوصية: اشتقت من كلمة يونانية تعني المعرفة، وهي معتقدات دينية فلسفية ظهرت في القرن الأول الميلادي. ويبدو أنه كان لها جذور وثنية قديمة. تطورت الغنوصية في القرن الرابع الميلادي وصار لها عدة مذاهب، وقد أضفى الغنوصيون على الفكر اللاهوتي طابعاً علمياً باستخدام المنطق. ومع أنها لم تعارض الديانة المسيحية لكن الكنيسة حربتها بشدة.

[2] الأناجيل المنتحلة: الي لم يتم اعتمادها في المجامع الكنسية، حيث اعتمدت أناجيل محددة وجمعتها في كتاب واحد دعي الكتاب المقدس.

[3] آباء الكنيسة: عدد من رجال الدين المسيحي الذين أثروا في بناء العقيدة المسيحية.

[4] الوثيقة “Q”: يقصد بها مصدر أناجيل: مرقص ومتى ولوقا، فهذه الأناجيل نقلت عن بعضها وعما يُعرف باسم “الإنجيل الأصل” الذي يشار إليه بكلمة ألمانية هي: “Quelle” بمعنى الأصل، وتختصر إلى أول حروفها Q.

[5] غيبيّة: تقوم على الماورائيات والغيبيات، وما يتعلق بالحياة الآخرة وما بعد الموت، والحساب والجنّة والنار.

[6] الأناجيل السينوبتية: تعني كلمة سينوبتي في اليونانية ذا رؤية مشتركة، وبسبب الاشتراكات الكثيرة بين أناجيل متى ومرقص ولوقا، سميت هذه الأناجيل “السينوبتية”. ويقابلها إنجيل يوحنا المستقل.

[7] إنجيل الآيات: وهو نص مفترض كان متداولاً في العصر المسيحي الأول، واتخذه يوحنا مصدراً لإنجيله، وقد وضع فرضية هذا الإنجيل “رودلف بولتمان” عام 1941، واقترح أن يوحنا اعتمد على رواياته التي تصف معجزات المسيح، وهي مستقلة عن الأناجيل السينوبتية. واستنتج “بولتمان” أن يوحنا فسر تقاليد هيلينية عن عيسى كصانع معجزات، أي أنه ساحر حسب نظرة العالم الهيليني ولذلك رفعت دعوى تجديف ضد بولتمان.

[8] الأكثر تميّزاً كان “جون ميير” في كتابه: “إعادة التفكير بيسوع التاريخي” مجلدين، نيويورك: 1991. وأيضاً “جيرد ثيزن” وأنيت ميرز، في كتابه: “يسوع التاريخي: الدليل الشامل”، مينابوليس: 1998.

[9] يقول الباحث في العهد الجديد “سامويل ساندميل”: أعتقد أنه ليس من المبالغة القول أنه منذ عام 1800 تمت كتابة العديد من المقالات اليهودية، التاريخية واللاهوتية، عن يسوع أكثر مما كتب عن موسى (علم المسيحية، بيركي وإدواردز، نيويورك: 1982). وللاطلاع على مناهج البحث اليهودي حول يسوع، انظر: دونالد هاغنز، التصحيح اليهودي ليسوع، غراند رابيدز: 1984، وانظر أيضاً: روي فولر، “الرؤى اليهودية المعاصرة ليسوع”، أطروحة، معهد اللاهوت المعمداني الجنوبي، 1992.

يسوع خارج العهد الجديد – لمحة عن البحث

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !