أبحاث

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 12 – الحكمة آنذاك والآن

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 12 – الحكمة آنذاك والآن

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 12 – الحكمة آنذاك والآن

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 12 – الحكمة آنذاك والآن
خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 12 – الحكمة آنذاك والآن

·     طبيعة الحكمة.

·     الحكمة في سفر الأمثال.

·     استخدامات سفر الأمثال السليمة والخاطئة

·     بعض الإرشادات الحياتية

 

الحكمة: هي تطبيق الحق في حياة الإنسان في ضوء التجربة

تُعد الحكمة العبرية من أنواع النصوص التي لم يعتدها معظم المؤمنين المعاصرين. ومع أن جزءاً لا يُستهان به من الكتاب المقدس قد خُصص لتدوين أقوال الحكمة، إلا أننا نرى بعض المؤمنين وفي مرات كثيرة يُسيئون فهم هذه الأقوال أو يسيئون تطبيقها، وبذلك تفوتهم الفائدة التي أرادها الله لهم. ولكن، إذا ما أحسنت كدارس فهم الأمثال والحِكم وأحسنت استخدامها، فستكون لك مصدر عون على السلوك المسيحي. أما فيما لو أسأت استخدامها، فستؤدي بك إلى الأنانية والسلوك المادي قصير النظر، وهذا بالضبط عكس ما قصده الله منها.

هناك أسفار في الكتاب المقدس تُعرف بأسفار الحكمة مثل سفر الجامعة وسفر الأمثال وسفر أيوب. علاوة على ذلك وكما أشرنا في الفصل السابق، فهناك عدد من المزامير يندرج تحت باب الحكمة أيضاً.

طبيعة الحكمة

ماهي الحكمة بالضبط؟ إليك هذا التعريف الموجز عنها: الحكمة هي تطبيق الحق في حياة الإنسان في ضوء التجربة. هذا التعريف يحمل من المنطق ما يكفي لعدم إيقاع المؤمنين في الحيرة، لكن المشكلة هي أن أقوال الحكمة الموجودة في العهد القديم قد تبدو في كثير من الأحوال وكأنها تنتهي بنا إلى إساءة فهم. وهدف هذا الفصل هنا هو مساعدتك على تنقية مفهومك للحكمة وتطبيقك لها.

إساءة استخدام أدب الحكمة

للأسف الشديد لقد تمت وبشكل عام إساءة استخدام أسفار الحكمة عبر ثلاث طرق:

أولاً: اعتاد الكثير من الناس على قراءة تلك الأسفار قراءة جزئية؛ لذلك نراهم قد أخفقوا في رؤية الرسالة الشاملة التي قصدها الكاتب عندما أوحي إليه بالكتابة. صحيح أن مقتطفات وشذرات كثيرة من الحكمة تبدو عميقة وعملية وذلك عند أخذها بدون سياقها، لكن من السهل أيضاً إساءة تطبيقها.

خذ على سبيل المثال التعليم الوارد في سفر الجامعة بخصوص أنه “للولادة وقت وللموت وقت” (3: 2)، لقد كان القصد منه في قرينته تقديم إيضاح ساخر عن عبث الحياة كلها؛ إذ مهما بلغت درجة سعادة حياتك أو بؤسها، فستموت حتماً عندما يحين الوقت. وللأسف يطيب للكثير من الناس أن يفسروا هذا الجزء بمفهوم قدرية كل الأشياء في حياتنا إلا أن القرينة لا تشير أبداً إلى مثل هذا القصد.

ثانياً: كثيراً ما قد يسيء الناس فهم اصطلاحات الحكمة وأنواعها وأساليبها وقوالبها الأدبية. فنراهم وقد أعطوا الاصطلاحات المستخدمة في الكتاب المقدس في سياق أدب الحكمة تعريفات خاطئة. فعلى سبيل المثال تأمل في أمثال 14: 7 “اذهب من قدام رجل جاهل إذ لا تشعر بشفتي معرفة”.

فهل يعني هذا عدم وجوب اختلاط المؤمنين بالمتخلفين والأميين؟ كلا على الإطلاق، فكلمة جاهل في سفر الأمثال عنت في الأساس الإنسان غير العارف الرب، إذ هي تشير إلى غير المؤمن الذي يعيش بأنانيته وبحسب نزواته والذي لا يعترف بوجود أي سلطة فوقه إلا نفسه. أما جملة “اذهب من قدام…” فقد ارتبطت ارتباطاً كلياً بالسبب الذي من أجله علينا أن نذهب من قدام هذا الإنسان غير العارف الرب والسبب هو “إذ لا تشعر بشفتي معرفة”. وبكلمات أخرى يُعلّمنا هذا المثل أنه إن كنا نسعى إلى المعرفة فعلينا ألا نطلبها من الجاهل.

 

كان الحكيم آنذاك يتصف بالعملية بدرجة كبيرة إذ لم يكن هدفه مجرد اقتناء معرفة نظرية.

ثالثاً: كثيراً ما يُفق الناس في اتباع خط سير النقاش في أحاديث الحكمة؛ لذلك نراهم يحاولون الحياة وفق طريقة ما والقصد منها إظهار ما هو خطأ. تأمل في أيوب 15: 20 “الشرير هو يتلوى كل أيامه، وكل عدد السنين المعدودة للعاتي”. هل يمكنك أن تفهم من هذا الكلام أن الوحي يعُلّم بأن الشرير لا يمكن أن يكون سعيداً حقاً؟ من المؤكد طبعاً أن أيوب لم يكن يقصد ذلك أبداً بل لقد كان يلغي هذه الفكرة وبإصرار.

فالعدد السابق جاء على لسان أحد الذين عينوا أنفسهم مدين لأيوب وهو أليفاز الذي كان يحاول إقناعه بأن شقاءه ناجم عن كونه شريراً. وفي موقع لاحق من سفر أيوب يثبت الله صحة كلام أيوب ويدين أقوال أليفاز، إلا أنه ما لم تتابع الجدل بجملته فلن تعرف ذلك.

وهنا وفي هذا الفصل سنناقش الفرق بين أدب الحكمة وغيره من أنواع النصوص، ومن ثم سنذكر بعض الملاحظات المفيدة حول هذا الموضوع.

مَن الحكيم؟

سبق أن قلنا إن الحكمة هي تطبيق الحق في حياة الإنسان في ضوء التجربة والاختبار، ولكن هناك جانباً شخصياً للحكمة إذ ليست الحكمة أمراً نظرياً، أو أمراً تجريدياً، لكنها عادة ما تأتي إلى حيز الوجود فقط عندما يقوم الإنسان بالتفكير والعمل بحسب الحق الذي سبق وتعلمه بالتجربة؛ لذلك فنحن نرى العهد القديم وقد أكد على وجود بعض الناس الذين اتصفوا بالحكمة أكثر من غيرهم، وآخرين كانوا قد كرسوا أنفسهم لاقتناء الحكمة بحيث يكننا تسميتهم حكماء.

كان الحكيم آنذاك يتصف بالعملية بدرجة كبيرة إذ لم يكن هدفه مجرد اقتناء معرفة نظرية. فقد كان يهتم بالقدرة على إعداد الخطط التي ستساعده على تحقيق النتائج المرجوة في الحياة. فالهدف كان الوصول إلى حياة مسئولية وناجحة. كانت الحكمة تستخدم وتطبق أحياناً في النواحي الفنية مثل البناء (بصلئيل مهندس خيمة الاجتماع الذي سمي حكيماً في خروج 31: 3) أو الملاحة (حز 27: 8-9).

كانت الحكمة أيضاً هدف الذين طلب إليهم اتخاذ قرارات تتعلق بالصالح العام للآخرين. لقد تم وصف القادة السياسيين مثل يشوع (تث 34: 9)، وداود (2صم 14: 20) وسليمان (1مل 3: 9 إلى آخره) كي يكون حكمهم فاعلاً وناجحاً. وما يذكرنا بالجانب الشخصي للحكمة هو الحديث عن القلب الإنساني كنقطة ارتكاز الحكمة (انظر 1مل 3: 9، 12). إن القلب في العهد القديم يشير إلى القدرات الأدبية والإدارية وكذلك الذهنية.

إذاً لقد ركز أدب الحكمة على الناس ومسلكهم، وعلى مدى نجاحهم في تطبيق الحق، وعما إذا كانوا قادرين على التعلم من تجاربهم. وهنا نقول ليست القضية قضية سعينا لنتعلم كيف نكون حكماء، بقدر ما هي سعينا لأن نزداد حكمة. فكل مَن يسعى لتطبيق الحق الإلهي يومياً والتعلّم من تجاربه، يمكنه في نهاية الأمر أن يصير حكيماً أيضاً.

هناك خطر كبير قد نجده في الإنسان الذي يسعى إلى كسب الحكمة من أجل تحقيق مصلحته الشخصية، أو يسعى لكسبها بطريقة لا تُكرم الله قبل أي اعتبار أخر. والكتاب المقدس يقول: “ويل للحكماء في أعين أنفسهم” (إش 5: 21). علاوة على ذلك فإن حكمة الله دائماً تفوق حكمة البشر (إش 29: 13-14).

معلمو الحكمة:

كرّس بعض بني إسرائيل في القديم أنفسهم ليس فقط لاقتناء الحكمة، بل أيضاً لتعليم الآخرين كيفية اقتنائها. وقد سُمي هؤلاء المعلمون “حكماء” مع أنهم تبوأوا في نهاية الأمر مناصب في جماعة إسرائيل شبيهة بتلك التي للكاهن أو للنبي (إر 18: 18).

هذه الطبقة من الحكماء – من الرجال والنساء – ظهرت في بداية حقبة النظام الملكي في إسرائيل على أقل تقدير (حوالي عام 1000 ق.م انظر 1صم 14: 2)، وقد عمل هؤلاء الحكماء كمُعلّمين ومرشدين لأولئك الذين جاءوا إليهم في طلب حكمتهم. وقد أوحى الله إلى بعض أولئك بكتابة أجزاء من العهد القديم. ونلاحظ أن أولئك الحكماء قد قاموا بعملهم وكانوا بمثابة أولياء أمور أي في محل الوالد بالنسبة لكل إنسان ابتغى نيل الحكمة منهم.

لاحظ أن الله قد جعل يوسف (أباً) لفرعون حتى قبل الخروج (تك 45: 8)، وبعد ذلك سميت دبورة النبية (أماً) في إسرائيل (قض 5: 7). لذلك كثيراً ما كان يخاطب الحكيم في سفر الأمثال تلميذه بقوله يا ابني. لقد أرسل الآباء أولادهم ليتعلموا من أولئك المُعلّمين أساليب الحياة الحكيمة وتطبيقاتها، كما اعتاد المعلمون آنذاك على تعليم تلاميذهم كأولادهم.

الحكمة في البيت:

كانت الحكمة عادة ما تُعلّم في البيت أكثر من أي مكان آخر. ويقوم الأهل اليوم. من دون أن يدركوا ذلك، بتعليم أولادهم كل أنواع الحكمة.

فكلما خاطب أحد الأبوين ابنه أو ابنته بالقول: لا تلعب في الشارع، أو اختر اصدقاءك جيداً، أو احرص على ارتداء ثياب كافية للبرد وما إلى ذلك، فإن الأب أو الأم هنا يقومان في واقع الأمر بتعليم الحكمة للأولاد. لأن كل أب يريد ويهدف لولده أو لابنته بأن يكونا سعيدين، ومعتمدين على أنفسهما ونافعين للآخرين. وكل أب أو أم يصرفان الوقت الثمين في صقل مسلك الأبناء وتوجيههم والتحدث إليهم دائماً عن الكيفية التي يجب أن يتصرفوا بها.

يمكننا أن نرى هذا النوع من النصائح العملية وفي سفر الأمثال وبشكل خاص. إلا أنه يخضع نصائحه كلها لحكمة الله تماماً كما كان يتوجب على الآباء المؤمنين أن يفعلوا ذلك. نعم قد تكون النصيحة عملية جداً وخاصة بالأمور الاجتماعية، لكن لا ينبغي أبداً لهذه النصيحة أن تخفق في الإقرار بأن أفضل أمر يمكن للإنسان تحقيقه هو عمل مشيئة الله.

الحكمة بين الزملاء:

إن واحدة من الطرق التي يمكن أن يستخدمها الإنسان لصقل معرفته وبالتالي مسلكه هي النقاش والجدل. وأحياناً يستطيع التوصل إلى هذا النوع من الحكمة عن طريق حديث طويل سواء أكاناً خطاباً موجهاً للآخرين ليقرأه وليُعلقوا عليه (كسفر الجامعة) أم حواراً بين عدة أشخاص يودون معرفة آراء بعضهم البعض حول الحقيقة والحياة (كسفر أيوب).

وهنا نشير إلى أن نوع الحكمة، الذي يسيطر على سفر الأمثال يسمى عادة بالحكمة المثلية بينما يُطلق على الحكمة الواردة في كل من سفر الجامعة وسفر أيوب الحكمة التأملية التي هي في الواقع عملية وتجريبية أكثر منها مجرد حكمة نظرية.

الحكمة في قالب الشعر:

لقد قام كل من التلاميذ والمعلمين على حد سواء في أزمنة العهد القديم باستخدام أساليب أدبية متنوعة لتساعدهم على تذكر حكمتهم. وقد أوحى الله أيضاً بأجزاء الحكمة في الكتاب المقدس بحسب تلك الأساليب وذلك لجعلها سهلة التعلّم والحفظ. وكما أشرنا في الفصلين السابقين فإن الشعر يمتاز بدقة الكلمات وتنسيق الإيقاع، والصفات البلاغية اللازمة لجعله أكثر قرباً للذاكرة من النثر، وهكذا صار الشعر أيضاً وسيلة العهد القديم في إبراز الحكمة.

لذلك نرى أن أسفار الأمثال والجامعة وأيوب، وبعض مزامير الحكمة وغير ذلك من أجزاء أخرى من الحكمة في العهد القديم – في معظمها مؤلفة شعراً. ومن بين الأساليب الأدبية المستخدمة على وجه الخصوص، هناك التوازي سواء أكان ترادفياً (انظر أم 7: 4) أو تضادياً (أم 10: 1) أو صورياً (أم 21: 16) أو تطريزياً (أم 31: 10-31) أو جناساً (جا 3: 1-8) أو كان تعاقباً عددياً (أم 30: 15-31). إضافة إلى مقارنات أخرى لا حصر لها كالتشبيه والمجاز (انظر أي 32: 19) كما أننا قد نجد في كتابات الحكمة الأمثال والرموز والأحاجي الصورية وأساليب شعرية أخرى.

محدودية الحكمة:

من المهم أن نتذكر أن حكمة العالم القديم لم تكن كلها صالحة أو مستقيمة، فقد كان يوجد في جميع أرجاء الشرق الأدنى القديم طبقة من المعلمين والكتبة الحكماء الذين حظوا بتأييد من ملوكهم غالباً في سبيل القيام بجمع وتأليف وترتيب أمثال وأحاديث الحكمة. وقد شابه الكثير منها إلى حد كبير كتابات الحكمة في العهد القديم، إلا أنها افتقرت إلى التركيز على الرب كالمصدر الأول للحكمة (أم 2: 5، 6) وعلى الغرض من هذه الحكمة، ألا هو إرضاء الرب (أم 3: 7). علاوة على ذلك فإن حكمتهم لم تكن تغطي في مادتها جميع جوانب الحياة.

ولأن الحكمة عملية جداً فهي لا تميل إلى التركيز على الأمور اللاهوتية أو التاريخية الهامة جداً والموجودة في أماكن أخرى في الكتاب المقدس. والمهارة في الحكمة لا تضمن استخدامها بشكل سليم. فنصيحة يوناداب الحكيمة لأمنون كانت في الواقع ذات دوافع شريرة (2صم 13: 3) وحكمة سليمان العظيمة (1مل 3: 12؛ 4: 29-34) ساعدته في كسب الثروة والقوة لكنها لم تساعده في البقاء أميناً للرب في آخر سنيه (1مل 11: 4). فما لم نُخضع حكمتنا لطاعة الله فهي لن تحقق الغايات السليمة التي قصدها العهد القديم.

 

الحكمة في سفر الأمثال

يعتبر سفر الأمثال المكان الرئيسي السليم لاستقاء الحكمة التدبيرية أي الحكمة المختصة بالقواعد والأنظمة التي يمكن للناس استخدامها لإدارة حياتهم بنجاح ومسؤولية. وبالتباين مع سفر الجامعة الذي يستخدم الأسلوب التأملي الساخر كنقيض لإبراز الحكمة، وبالتباين مع سفر أيوب الذي يستخدم الحكمة التأملية حول عدم إنصاف الحياة في هذا العالم، ركزت حكمة سفر الأمثال في معظمها على المواقف العملية.

وهنا من باب التعميم، يفيدنا أن نلاحظ بأن سفر الأمثال يعلم عادة ما يمكن أن نسميه القيم الأساسية أو المحافظة. فليس هناك والدان يودان رؤية أولاهما تعساء أو فاشلين أو وحيدين أو مرفوضين اجتماعياً أو مخالفين للقوانين المرعية أو فاسدين أخلاقياً أو حمقى أو مفلسين. وليس من باب الأنانية أو عدم الواقعية أن يتمنى الأب لابنه أن ينعم بقسط معقول من النجاح والقبول الاجتماعي وسد الاحتياجات، والاستقامة الأخلاقية.

وسفر الأمثال مليء بمجموعة من النصائح البليغة لهذه الغاية بالتحديد. طبعاً ليس هناك مَنْ أو ما يضمن لشاب بأن حياته تسير دائماً على ما يرام. وما يفيدنا به سفر الأمثال فيما لو غضضنا النظر عن العوامل الخارجية، هو احتواؤه على مواقف وأنماط سلوكية أساسية تساعد الإنسان على النمو إلى مرحلة النضح المسؤول.

وقد عمل سفر الأمثال باستمرار على تقديم مفارقة شديدة بين حياة الحكمة وحياة الحماقة وإظهار ما الذي يميز حياة الأحمق؟ فحياة الأحمق تميزت بأمور مثل العنف والجريمة (أم 1: 10-19؛ 4: 14-19) والقيام بالتعهدات الطائشة (6: 1-5) والكسل (6: 6-11) واللؤم والغش (6: 12-15) والفساد والفجور الممقوت لدى الرب والضار بالحياة المستقيمة (2: 16-19؛ 5: 3-20؛ 6: 23-35؛ 7: 4-27؛ 9: 13-18؛ 23: 26-28).

علاوة على ذلك حث سفر الأمثال على أمور أخرى كالاهتمام بالفقراء (22: 22، 27) واحترام الحكام (23: 1-3؛ 24: 21-22) وأهمية تأديب البنين (23: 13، 14) واحترام الأبوين (23: 22-25).

أما اللغة الدينية الخصوصية فقلما نجدها مستخدمة في سفر الأمثال، وعلى الرغم من وجودها فيه (انظر 1: 7؛ 3: 5-12، 15: 3، 8-9، 11؛ 16: 1-9، 22: 9، 23؛ 24: 18، 21 …. إلخ) إلا أنها لا تضفي على السفر. ومعنى هذا أنه ليس من المفروض عمل كل شيء في حياتنا بصفة روحية كي تكون مقبولة وصحيحة على مثال أن يقوم الأب بتوجيه نصيحة لابنه بخصوص ارتداء ملابس ثقيلة في الشتاء.

استخدامات سفر الأمثال السليمة والخاطئة

يحسن بنا أن نتذكر بأن الأمثال التي تدعى بالعبرانية مشاليم تعني استعارات أو أمثال أو أقوال مستنبطة خصيصاً. فالمثل هو تعبير مختصر ومحدد عن الحق. ولكما كان القول مختصراً ضعف احتمال كونه كامل الدقة وشامل النطاق. وكلنا يعلم بأن البيانات المفصّلة والمسهبة والطويلة، والمعقدة الأوصاف ليست فقط عسيرة الفهم بل هي أيضاً عملياُ مستحيلة الحفظ على الناس. لذلك فقد تمت صياغة الأمثال بأسلوب أخّاذ كي يتم حفظها بسهولة.

في الحقيقة إن الكثير من الأمثال في اللغة العبرية تتميز بالإيقاع أو القافية أو غير ذلك من الصفات الأدبية التي جعلتها سهلة الحفظ. تأمل في هذين المثلين “اسأل عن الجار قبل الدار” أو “الرفيق قبل الطريق”. إن تشابه الكلمات وانتهاءها بالقافية الواحدة، واستخدام التناسق اللفظي باختلاف المعنى عناصر ساعدت في جعل مثل هذه الأمثال سهلة الحفظ والفهم.

فهي لن تُنسى بالسهولة التي يمكن أن ننسى بها الجمل التالية: “قبل أن تضع نفسك في وضع ما ادرس الإمكانيات والاختيارات المترتبة عليه”، أو “هناك أهمية كبيرة لانتقاء الصحبة السليمة لأنها تلعب دوراً كبيراً في بلوغ الهدف”.

نعم هذه الجمل تميزت بدقة أكبر، لكن ينقصها الواقع والفاعلية التي للأمثال المشهورة، ناهيك عن كونها صعبة من حيث التذكر. إن مَثَل “اسأل عن الجار قبل الدار” هو قول بليغ غير دقيق ومن السهل إساءة فهم محتواه، ومن الجائز أن يظن السامع بأنه ينطبق فقط على الباحثين عن دار للإيجار. وهو لا يخبرنا عن ماذا نسأل أو كيف نسأل أو مَنْ نسأل، ولم يقصد به حتى مجرد استخدامه في مسألة الإيجار والاستئجار.

هكذا كان الأمر مع الأمثال العبرية. إذ وجب فهمها باعتدال والأخذ بها بحسب القصد المراد منها. فهي لا تصرح بكل ما يتعلق بالحق لكنها تشير إليه، وهي إذا ما أُخذت حرفياً غالباً ما ستكون غير دقيقة في نواحيها الفنية، إلا أنها كإشارات سهلة الحفظ، لا يضاهيها شيء من حيث توجيه السلوك المعين. تأمل في أمثل 6: 27-29:

“أَيَأْخُذُ إِنْسَانٌ نَارًا فِي حِضْنِهِ وَلاَ تَحْتَرِقُ ثِيَابُهُ؟ أَوَ يَمْشِي إِنْسَانٌ عَلَى الْجَمْرِ وَلاَ تَكْتَوِي رِجْلاَهُ؟ هكَذَا مَنْ يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَةِ صَاحِبِهِ. كُلُّ مَنْ يَمَسُّهَا لاَ يَكُونُ بَرِيئًا”.

قد يعترض أحدهم بأن السطر الأخير ليس واضحاً ويتساءل: ما الذي سيحدث فيما لو أن موظف بنك لمس عن غير قصد يد امرأة رجل آخر أثناء تسليمه النقود لها؟ هل سيعاقب؟ ألا يوجد مَنْ ارتكب الزنى وهرب بلا عقاب؟ كل هذه التساؤلات صحيحة لكنها تحيد عن الهدف. فسفر الأمثال يميل إلى استخدام اللغة الرمزية والتعبير عن الأشياء بالإيحاء بدلاً من التفصيل.

والعبرة التي يتوجب علينا استخلاصها من هذا المثل هي أن مَنْ يرتكب الزنى يكون كمن يلعب بالنار. وأن الله، عاجلاً أم آجلاً، في الحياة الحاضرة أو العتيدة، سيحرص أن ينال الزاني عاقبة آثامه. أما كلمة “يمس” الواردة في السطر الأخير فيمكننا فهمها وكأنها ترد على سبيك لطف التعبير (انظر اكو 7: 1 راجع أيضاً الفصل الثاني من هذا الكتاب)، هذا إن أردنا لرسالة الروح القدس أن تبقى واضحة. وهكذا لا ينبغي أن نأخذ سفر الأمثال بأسلوب حرفي مبالغ فيه أو بشكل كلي إذا ما أردنا لرسالته أن تفيدنا. فعلى سبيل المثال تأمل أمثال 9: 13-18.

هذا المثل أيضاً بليغ، لأنه يتضمن قصة رمزية كاملة في أعداد قليلة. إن حياة الحمق هنا، هي بعكس حياة الحكمة ويُشار إليها بزانية تحاول إغواء عابري الطريق للدخول إلى بيتها. والجاهل شُبه بذلك المعجب الذي أغوته الملذات المحظورة (عدد 17)، أما النتيجة النهائية للحماقة فهي ليست بحياة طولية أو ناجحة أو سعيدة بل هي الموت.

إن رسالة هذه القصة الرمزية الموجزة هي: ابتعد عن الحماقة، لا يغويك أحد، أعرض عن الإغراءات التي تبدو جذابة للجُهال ثم ذكرها بعدة طرق في أمثال أخرى. والإنسان الحكيم التقي ذو الأخلاق الحميدة هو الإنسان الذي يسعى ليعيش حياة خالية من الأنانية والحماقة. إن أمثالاً كهذه قريبة من أمثال العهد الجديد، في كونها تعبر عن الحق بطريقة رمزية. إليك مثالاً آخر يساعد على تركيز بحثنا في سفر الأمثال.

“كُلُّ طُرُقِ الإِنْسَانِ نَقِيَّةٌ فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ،

وَالرَّبُّ وَازِنُ الأَرْوَاحِ.”(أم 16: 2)

لعل هذا النوع من الأمثال هو أكثر الأنواع التي يُساء فهمها. فإن لم تعرف بأن سفر الأمثال يميل عادة لأن يقدم أقوالاً تشير إلى الحق بأساليب رمزية، فسيفترض بأن أمثال 16: 3 هو وعد مباشر وقاطع من الله يمكن دائماً تطبيقه. ومفاده أنه إن ألقى الإنسان خططه على الله، فلا بد لهذه الخطط أن تنجح. وطبعاً هذا التفسير سيُخيب أمل الذين يفكرون بهذا الأسلوب؛ لأنه من الممكن لهؤلاء أن يقدموا لله خططاً أنانية حمقاء وفي حال نجاحها، ولو لفترة قصيرة قد يفترضون بأن الله باركها فعلاً.

فمثلاً يمكن أن نسلم لله زواجاً متهوراً أو قراراً طائشاً يتعلق بالعمل أو حتى قراراً مهنياً غير مدروس – ثم ينتهي بنا المطاف إلى الفشل. وقد يقوم إنسان ما بائتمان من الله على خطة معينة سرعان ما تبوء بالفشل فيعتقد أن الله قد تخلى عن وعده وتراجع عن كلمته الموحى بها.

وفي حالات كهذه للأسف نجد الناس وقد أخفقوا في إدراك أن سفر الأمثال ليس باتاً أو مطلقاً، ولا هو قابل للتطبيق في كل وقت، ولا هو وعد صارم بل هو بمثابة حق عام إذ هو يعلن بأن الذين يسلمون حياتهم لله ويحيون بحسب مشيئته سينجحون إنما بحسب مفهوم الله للنجاح. أما بحسب مفهوم العالم للنجاح فقد تأتي النتيجة عكسية. ولعل قصة أيوب خير مثل على ذلك.

 فعندما نأخذ هذه الأمثال بحسب مقاصدها على أنها بند خاص يتعلق بالتنويه للحق، عندئذ فقط تصبح هذه الأمثال هامة ونافعة للحياة.

بعض الإرشادات الحياتية

نقدم الآن وفي غاية الإيجاز بعض الإرشادات لفهم حكمة الأمثال:

أولاً: لا يجب فهم الأمثال فهماً حرفياً

فالأمثال تقدم طريقاً حكيماً لبلوغ الأهداف العملية المرجوة، ولكنها تفعل ذلك بطرق لا يمكن اعتمادها كسند أكيد للنجاح. وعلى الأرجح فإن الإنسان سينال ما حُدد من بركات أو مكافأة أو فرص مذكورة في سفر الأمثال إذا ما اتبع السبل الحكيمة للتصرف والموجودة في اللغة الرمزية والشعرية للسفر. لكن سفر الأمثال لا يعلّم أبداً عن النجاح الآلي.

تذكر بأن من ضمن أهداف الله في وضعه لكل من سفري الجامعة وأيوب في الكتاب المقدس هو تذكرينا بأنه هناك القليل جداً من الآلية فيما يتعلق بأحداث حياتنا سواء الجيدة منها أو السيئة. تأمل في الأمثال التالية: أمثال 22: 26-27؛ 29: 12؛ 15: 25).

وهنا وإذا ما تطرفت في اعتبار المثلين الأولين (22: 26-27) وصية مطلقة مانعة من الله فقد تنتهي إلى عدم شراء بيت في حياتك، وذلك لتجنب الرهن لحين دفع ديونك. أو قد تفترض بأن الله سيجازيك بفقدان كل ممتلكاتك بما فيا فراشك إن لم تف بدينك.

إن قيامك بالتفسير الحرفي والمتطرف سيفقدك الهدف من المثل الذي يبين من خلال الشعر والرمز حقيقة وجوب التعامل مع الديون بحذر؛ لأن الحرمان من العقار المرهون أمر مؤسف جداً. والمثل يضع هذه الحقيقة في إطار تعابير ضيقة ومحددة: صفق الكف، فقدان الفراش…إلخ.

والمقصود منها ليس التعبير عن شيء حرفي عملي بل الإشارة إلى مبدأ أعم من ذلك. ففي أزمنة الكتاب المقدس كان الأتقياء يدينون ويستدينون دونما انتهاك لهذا المثل وذلك لأنهم سبق وأن فهموا المراد منه. فقد كانوا معتادين على الأمثال وبالتالي علموا بأن مثل هذا المثل يوضح كيفية إجراء الدين وليس تجنب كل أشكال الديون تجنباً تاماً.

أما المثل الثاني أعلاه (29: 12) فيجب أيضاً عدم الأخذ بحرفيته. فهو لا يضمن على سبيل المثال بأنك إن كنت موظفاً حكومياً فسوف تعتبر حتماً شريراً بحجة أن رئيسك يصغي لأكاذيب بعض المحيطين به.

إن هذا المثل يهدف إلى رسالة أخرى وهي: إن الحاكم المولع بسماع الأكاذيب بدلاً من الحق، سيقوم بالتدريج بإحاطة نفسه بزمرة من الناس تنقل له ما يريد سماعه، وعليه فستكون المحصلة النهائية فساداً إدارياً. أما الحاكم الذي يُصر على سماع الحقيقة بالرغم من إيلامها فسيساعده هذا على إبقاء حكومته طاهرة. وهذا المبدأ هو المقصود بكلمات المثل التي تستخدم طريقة مجازية لا حرفية دقيقة.

أما المثل الثالث (15: 25) فلعله أكثر الأمثال بُعداً عن الحرفية. فنحن نعلم من تجربتنا الخاصة كما من شهادة الكتاب المقدس أن هناك بيوتاً لأشخاص متكبرين ما زالت قائمة، وأن هناك الكثير من الأرامل ممن تم استغلالهن من قبل الدائنين الجشعين أو بالاحتيال (انظر مر 12: 40؛ أي 24: 2-3… إلخ).

إذن ما الذي يعنيه هذا المثل إن لم يكن يقصد نقل الانطباع بأن الله في الحقيقة هو مدمر للبيوت أو حارس للتخوم؟ إن هذا المثل يعني أن الله يقاوم المتكبرين ويقف إلى جانب المساكين (الأرامل والأيتام والغرباء: كل هذه التعابير تمثل شريحة الناس الذين لا نصير لهم، انظر تث 14: 29؛ 1.6: 11؛ 26: 12، 13… إلخ).

ولدى مقارنة هذا المثل بأمثال 23: 10-11 ولوقا 1: 52-53 يصبح معناه أوضح. إنه مثل مُصغر عن أمثال العهد الجديد، وهو يشير ليس إلى مجرد البيت والأرملة لكن إلى المبدأ العام القائل بأن الله في النهاية سيصحح المعوجات في العالم بإنزال المتكبرين عن كراسيهم وتعويض كل الأبرياء المتألمين (انظر مت 5: 3، 4).

ثانياً: يجب أن تقرأ الأمثال كمجموعة

ويجب فهم كل مثل من أمثال الوحي بالتوازن مع الأمثال الأخرى وبالمقارنة مع باقي الكتاب المقدس. وكما يوضح لنا المثال الثالث أعلاه (15: 25)، أنه كلما قرأ الفرد المثل بمعزل عن الأمثال الأخرى كلما كان تفسير ذلك المثل أقل وضوحاً. فإدا ما قمت بقراءة مثل ما على حدة، وأسأت فهمه، فقد يؤدي بك ذلك إلى مواقف أو تصرفات خاطئة مما لو قمت بقراءة سفر الأمثال ككل. علاوة على ذلك عليك الحذر من ألا تؤدي بك اهتمامات الأمثال العملية إلى التفكير بالأمور المادية والروح العالمية.

احذر أيضاً من أن تربط نفسك بنوع الحكمة التي اعتنقها رفقاء أيوب فجعلوا النجاح في الحياة العالمية أمراً معادلاً للتقوى في عيني الله. فمثل هذه الحكمة تعد بمثابة فهم غير متوازن لأمثال منتقاة. كذلك لا تحاول أن تجد لك في سفر الأمثال مبررات لتحيا حياة أنانية أو لتقوم بأعمال لا تتناسب وتعاليم الكتاب المقدس الأخرى.

وتذكر بأن الأمثال كثيراً ما قد تم جمعها معاً بطرق مختلفة مما قد يجعل القارئ يقفز من موضوع لآخر أثناء قراءتها، مع ضرورة أخذ الحذر والحيطة تجنباً لإساءة التفسير.

تأمل أيضاً في المثلين التاليين:

“اَلْحَكِيمُ يَتَسَوَّرُ مَدِينَةَ الْجَبَابِرَةِ، وَيُسْقِطُ قُوَّةَ مُعْتَمَدِهَا”

(أم 21: 22)

“فَمُ الأَجْنَبِيَّاتِ هُوَّةٌ عَمِيقَةٌ. مَمْقُوتُ الرَّبِّ يَسْقُطُ فِيهَا”

(أم 22: 14)

فإن كنت حكيماً فهل كنت ستخرج لقتال مدينة قوية التحصين وهكذا تقدم عملاً صالحاً لله؟ وإن كنت قد أحزنت الله فهل هناك خطر من أن تسقط داخل فم امرأة أجنبية؟

معظم الناس سيجيبون بالنفي على هذين السؤالين وسيضيفون قائلين بأنه مهما كان معنى هذا الكلام فلا يمكن له أن يعني المعنى السابق. لكن الكثير من الناس للأسف يصرون على أخذ أمثال 22: 26 بمعنى حرفي وذلك لمنع المؤمنين من الاستدانة. وكثيراً أيضاً ما يقول البعض بأن أمثال 6: 20 يعني وجوب طاعة المؤمن لأبويه مهما بلغ عمره وبصرف النظر عن الخطأ الماثل في تلك النصيحة.

وهنا نقول إذا ما أخفق الناس في خلق توازن بين الأمثال من جهة وبقية الكتاب المقدس من جهة أخرى ناهيك عن الفطرة السليمة فإنهم للأسف سيظلمون أنفسهم والآخرين.

في المثل الأول أعلاه (21: 22) يمكننا أن نستخلص أن الحكمة قادرة على أن تكون أقوى من القوة العسكرية. ربما جاء هذا التصريح بصيغة المبالغة؛ لكم من حيث الأسلوب فهو لا يختلف عن أن نقول في عصرنا بأن القلم أقوى من حد السيف.

إذ هذا المثل ليس بأمر بل هو تصوير رمزي مجازي لقوة الحكمة، وفقط عندما يربط الدارس هذا المثل بالأمثال الكثيرة التي تتغنى بفوائد الحكمة وفاعليتها. (انظر 1: 1-6؛ 2-3؛ 8؛ 22: 17-29 وغيرها)، عندها يتمكن من فهم رسالتها. وفي هذه الحالة تكون القرينة الكاملة أمراً جوهرياً للقيام بالتفسير.

أما المثل الثاني (22: 14) فهو يحتاج لأن يقارن أيضاً مع القرينة بكاملها؛ إذ أن هناك عدداً كبيراً من الأمثال يشدد على أهمية توخي الحرص في التفكير والكلام (انظر 15: 1؛ 16: 10، 21، 23-24؛ 18: 4 وغيرها) وبمعنى آخر إن الذي يورط الإنسان هو كلامه وذلك أكثر بكثير من إصغائه (انظر مت 15: 11، 15-20). إلا أنه بإمكانه دائماً السيطرة على ما يخرج من فمه.

هنا يمكننا إعادة صياغة هذا المثل على الشكل التالي: إن أنواع الأعمال والأقوال التي تقوم بها الأجنبية (العاهرة) تحمل عليك من الخطر ما يوازي سقوطك في حفرة عميقة. فإن أردت تجنب غضب الله، عليك أن تتجنب مثل هذه الأمور. إن استيعابك للقرينة العامة لكل الأمثال سيساعدك في عدم الوقوع في الخطأ عند تفسيرها.

ثالثاً: التركيب اللغوي للأمثال قصد به أن تكون سهلة الحفظ

كلما كان التعبير عن مبدأ ما مختصراً في كلماته كلما جاء بصيغة مبالغة، وكلما احتاج إلى مزيد من الفطرة السليمة والحكم الصائب كي يفسر بشكل سليم – وكان فاعلاً وسهلاً للحفظ، في الوقت ذاته لاستعادة المعرفة التي تحول الأمثال نقلها والتي يمكن تذكرها وليس الفلسفة القادرة على استقطاب إعجاب الناقد.

وهكذا تستخدم الأمثال كثيراً من العناصر الشعرية والتصوير المفعم بالحيوية. ولقد صممت أمثال كثيرة إما لطبع صورة ما في ذهنك (والعقل عادة ما يسترجع الصور بشكل أفضل من تذكر المعلومات النظرية) أو لتتضمن أصواتاً تُسر الآذان (التكرار، السجع، ترتيب الحروف الأولى لأبيات القصيدة…إلخ). تأمل في أمثال 15: 19 كمثال على استخدام اللغة المجازية:

“طَرِيقُ الْكَسْلاَنِ كَسِيَاجٍ مِنْ شَوْكٍ،

وَطَرِيقُ الْمُسْتَقِيمِينَ مَنْهَجٌ”

إن نوع الزرع الموجود في الطرق المحببة للكسالى ليس هو المقصود من هذه اللغة، بل الإشارة إلى أمور أبعد من ذلك، وهي مبدأ أن الكد والاجتهاد أفضل من الكسل.

إن تصور المرأة الفاضلة في أمثال 31: 10-31 هو نتيجة لترتيب الحروف الأولى لأبيات القصيدة. فكل عدد يبدأ بحرف موفق للترتيب الأبجدي لحروف اللغة العبرية، وهذا أمر سهل الحفظ وتستسيغه أذن الشخص العبري، لكنه يظهر للناقد الثاقب أو للذي يقرأ حرفياً بأن مجموعة هذه الأوصاف مستحيلة على أية امرأة من جنس البشر.

إلا أنه إن استطاع القارئ إدراك أن وصفاً كالوارد في 31: 22 مصمم عن عمد للتشديد، من خلال صيغة المبالغة، على البهجة التي تدخلها المرأة الفاضلة إلى قلوب أفراد عائلتها، عندها تكون حكمة هذه الأمثال قد حققت غرضها بكفاءة. وهكذا تعلق الكلمات (والصور) في ذهن قارئ النص، وتقدم له إرشادات نافعة عند الحاجة. هذا هو ما قصد الله عمله بواسطة الأمثال.

رابعاً: حاجة بعض الأمثال إلى “ترجمة” تعكس بيئتنا وثقافتنا

هناك عدد لا بأس به من الأمثال التي تُعبّر عن الحق بناء على ممارسة ومبادئ لم تعد معروفة، مع أنها كانت سائدة عند بني إسرائيل في العهد القديم. وإن لم نقم بالتفكير بهذه الأمثال في ضوء ما يناظرها في عصرنا الحديث (بمعنى أن نقوم بترجمتها بكل حرص لما يناظرها من ممارسات ومبادئ في يومنا هذا)، فقد يبدو معناها غير واضح لنا أو غير مختص بنا (انظر الفصل الرابع). تأمل في هذين المثلين (أم 22: 11؛ 25: 24)

“مَنْ أَحَبَّ طَهَارَةَ الْقَلْبِ، فَلِنِعْمَةِ شَفَتَيْهِ يَكُونُ الْمَلِكُ صَدِيقَهُ” (أم 22: 11)

“اَلسُّكْنَى فِي زَاوِيَةِ السَّطْحِ، خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مُخَاصِمَةٍ فِي بَيْتٍ مُشْتَرِكٍ” (أم 25: 24)

وذلك لأن معظمنا يعيش في مجتمعات لا يحكمها ملوك. وأيضاً لم يعد السكن على سطح البيوت مألوفاً في زمننا كما كان في أزمنة الكتاب المقدس، (انظر يش 2: 6). فهل نقول إذاً إن قراءة هذه الأمثال مضيعة للوقت؟ لا طبعاً وعلى الإطلاق خاصة إن استطاع الدارس رؤية الأمور عبر المجتمعات وباللغة الحضارية الخاصة بكل منها.

إن الرسالة الجوهرية للمثل الأول (22: 11) سهلة الاستيعاب شريطة إدراك أن ما يناظر قول المثل “كون الملك صديقه” في أيامنا هذه يصبح شبيهاً بهذا القول “سيكون له تأثير إيجابي على الناس الذين يشغلون مراكز القيادة”.

وهذا المعنى الذي كان المثل يقصده. فكلمة “ملك” هنا مجاز مرسل يُعبر عن كل القادة. إن لغة هذا المثل الرمزية قد استخدمت خصيصاً للإشارة إلى أن القادرة والمسؤولين عادة يتأثرون بالصدق وبالحرص في الكلام.

أما معنى المثل الثاني المذكور أعلاه (25: 24) فهو صعب على الفهم وخاصة إذا قمنا بعمل الترجمة اللازمة له من ثقافة أو مجتمع ذلك العصر إلى ثقافتنا ومجتمعنا نحن.

إذاً يمكننا إعادة صياغته بالشكل التالي: “السكنى في حجرة ضيقة خير من العيش في بيت واسع مع زوجة ما كان ينبغي الزواج بها أبداً”.

تذكر بأن معظم النصائح في سفر الأمثال قد أعطيت لشبان في مقتبل حياتهم، وكانت بمثابة حكمة بالنسبة لهم. ولا يقصد المثل بالحرف أن يقترح عليك ما ينبغي أن تفعله، كرجل متزوج، إذا كانت امرأتك من النوع المخاصم. لكن ما يقصده هو أن تتوخى الحذر عند انتقاء شريك أو شريكة الحياة.

فالاختيار السليم هو ما يدعونا له هذا المثل عبر الحضارات المتوالية، وعندما يتم فهمه جيداً، نرى نصيحة جيدة وصالحة (انظر مت 19: 3-11؛ 1كو 7: 1-14، 25-40). على الجميع أن يدركوا أن الزواج المتسرع، المبني على الجاذبية المظهرية، قد يؤول إلى زواج غير سعيد.

إليك أدناه، لفائدتك، قائمة موجزة ببعض القواعد التي من شأنها أن تساعدك على الاستخدام السليم لسفر الأمثال وعلى بلوغ النية والغرض اللذين أوحى بهما الله في هذا السفر.

1-كثيراً ما تكون الأمثال رمزية أو مجازية بحيث تشير إلى أبعد من معناها الظاهري.

2-الأمثال مادة عملية إلى درجة كبيرة وليست عبارة عن نظريات لاهوتية.

3-لقد تمت صياغة الأمثال لتكون سهلة الحفظ.

4-لم يقصد منها أن تدعم السلوك الأناني بل العكس تماماً.

5-قد تحتاج الأمثال التي تعكس عادة حضارة قديمة إلى ترجمة تقود على ما يناظرها في ضوء ثقافتنا كي لا تفقد معناها.

6-ليست الأمثال صكوك ضمان، بل هي إرشادات شعرية للسلوك الحسن.

7-قد تستخدم الأمثال لإيصالها رسالتها، لغة خاصة للغاية، أو صيغ مبالغة، أو أي نوع آخر من الأساليب البلاغية.

8-عادة ما تقدم الأمثال النصيحة الجيدة لكيفية التعامل بحكمة مع جوانب معينة بحياتنا، لكنها ليست شمولية في نطاقها.

9-قد تؤدي سوء استخدام الأمثال إلى تأييد نوع من الحياة المادية المتطرفة. أما عند حسن استخدامها، فهي عادة ما تقدم نصائح عملية للحياة اليومية.

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 12 – الحكمة آنذاك والآن

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !