أبحاث

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية7

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية7

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية7

 

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية7
خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية7

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية7 – الأناجيل – رواية واحدة، أبعاد كثيرة

  • طبيعة الأناجيل.
  • القرينة التاريخية.
  • القرينة الأدبية.
  • بعض الملاحظات التفسيرية.

وكما هو الحال مع (الرسائل) وسفر الأعمال، قد تبدوالأناجيل للوهلة الأولى سهلة التفسير بمقدار كاف. وحيث أنه يمكننا تقسيم مادة الأناجيل تقريباً إلى قسمين، أقوال وقصص، أي إلى تعاليم الرب يسوع وإلى قصص عنه، إذاً يترتب على الدارس أن يكون قادراً من الناحية النظرية على تتبع المبادئ المتعلقة بتفسير الرسائل من جهة، والمبادئ المتعلقة بدراسة القصص التاريخية من جهة أخرى.

طبعاً هذا النمط من الدراسة صحيح إلى حد ما، لكنه ليس على تلك السهولة البادية؛ لأن الأناجيل الأربعة تُشكَّل نموذجاً أدبياً فريداً من نوعه يكاد لا يوجد له من النماذج المشابهة إلا القليل. وهذه الفرادة التي يتمتع بها هذا النموذج علينا فحصها بإيجاز، لأنها هي التي تبرز للعيان معظم مشاكلنا ومعظم المعضلات التي تصادفنا أثناء عمل التفسير الاستنتاجي. إضافة إلى الصعوبات التي تواجهنا في التفسير الحياتي، والذي يرتبط بعضها بالأقوال الصعبة المتعددة في الأناجيل.

إلا أن الصعوبة الحقيقية في التفسير الحياتي تكمن في مدى قدرتنا على استيعاب مفهوم ملكوت الله، وهو تعبير في غاية الأهمية يصف مجمل خدمة الرب يسوع، وفي الوقت نفسه قد تم تقديمه بلغة يهودية تناسب القرن الأول وتناسب مفاهيمه والمشكلة هنا هي في إمكانية ترجمة تلك الأفكار لتتناسب مع المحيط أو البيئة المعاصرة.

طبيعة الأناجيل

إن معظم الصعوبات التي عادة ما يواجهها الدارس أثناء تفسيره للأناجيل تنبع من حقيقتين واضحتين:

  • لم يقم الرب يسوع بكتابة أي إنجيل بنفسه، فالأناجيل كتبت من قِبَل آخرين.
  • هناك أربعة أناجيل.

إن حقيقة أن الأناجيل لم تُكتب بيد الرب يسوع المسيح هي حقيقة ذات أهمية كبيرة. فلو أنه هو مَنْ قام بكتابة الإنجيل، لكانت كتابته هذه ستبدو أقل شبهاً بالأناجيل وأكثر مماثلة لكتب العهد القديم النبوية، كسفر عاموس مثلاً، الذي يحتوي على مجموعة من التعاليم والأقوال الإلهية إضافة إلى قصص شخصية مختصرة (مثل عا 7: 10-17).

نعم هذه الأناجيل تحتوي وبلا شك على مجموعات من الأقوال، إلا أنها أقوال منسوجة كجزء متكامل في القصة التاريخية لحياة يسوع وخدمته. وهي ليست بكتب كتبها السيد المسيح لكنها كتب مكتوبة عنه، وهي تحتوي في الوقت ذاته على قدر كبير من تعاليمه.

وهنا علينا أن لا نبالغ في تصوير هذا الأمر وكأنه بالأمر الصعب، إلا أنه لابد لنا من الإقرار بوجود صعوبة فيه والسعي للتعامل معها. وطبيعة هذه الصعوبة قد تظهر على أحسن وجه فيما لو قورنت بما قد كُتب عن بولس الرسول في رسائله أو في سفر الأعمال.

فحتى إن لم يتوفر لدينا شيء عن حياة بولس الرسول في سفر الأعمال، على سبيل المثال، إلا أننا استطعنا جمع بعض عناصر من حياته من خلال رسائله، ولكن سجلاً من هذا النوع كان سيكون ناقصاً، لو لم تكن قد توافرت لدينا رسائل بولس الرسول، ولكان فهمنا لفكره اللاهوتي المبني فقط على عظاته في سفر الأعمال فهماً ناقصاً وغير متوازن إلى حد كبير؛ لذلك، ولأجل الحصول على النقاط الهامة في حياة بولس الرسول، نحن احتجنا إلى قراءة سفر الأعمال وإلى إضافة تلك المعلومات التي يعطيها لنا عنه في رسائله.

فمن أجل الحصول على فكر وتعليم بولس الرسول لا يمكن أن نذهب أولاً إلى سفر الأعمال بل إلى الرسائل مع الاحتفاظ بسفر الأعمال كمصدر إضافي.

أما الأناجيل فهي ليست كسفر الأعمال، لأن بها قصة حياة الرب يسوع ومقاطع من أقواله (تعاليمه) باعتبارها جزاءً لا يتجزأ من تلك الحياة. لكن أقوال الرب يسوع لم تُكتب بيده، كما فعل بولس الرسول في رسائله.

لقد كانت لغة الرب يسوع الأساسية هي الآرامية إلا أن تعاليمه لم تأتينا إلا مترجمة إلى اللغة اليونانية. زيادة على ذلك فإن القول ذاته –قول الرب يسوع– كثيراً ما تكرر في اثنين أو ثلاثة من الأناجيل، وحتى عندما كان هذا القول يأتي في سياق الترتيب الزمني ذاته والبيئة التاريخية نفسها، فإنه قلما كان يرد بنص الكلمات ذاتها في كل إنجيل.

نعم قد يكون هذا الواقع مصدر قلق للبعض، لكن لا يوجد ما يبرر هذا القلق. صحيح أن بعض أنواع الدراسات كانت قد شوهت حقيقة مصداقية الإنجيل وحاولت القول بأنه لا يوجد في الأناجيل ما يمكن أن يوثق به. وصحيح بأنه لا مبرر لاستخلاص مثل هذا الاستنتاج. فقد قام علماء متخصصون في دراسة الكتاب المقدس بإثبات جدارة ما جاء في الأناجيل من الناحية التاريخية.

إن قصدنا هنا من كل هذا بسيط. لقد قام الله بإعطائنا معرفة عما يمكن أن نسميه خدمة الرب يسوع الأرضية من خلال هذه الطريقة، وفي الحقيقة لا يوجد طريقة أفضل يمكن أن تتناسب مع عقلية البعض الآلية التي كانت ستفضل قصة مروية على شريط كاسيت. وعلى أية حال، فإن حقيقة أن الرب يسوع لم يكتب الأناجيل بنفسه بل كُتبت الأناجيل بالحري عنه هي جزء من عبقرية تلك الأناجيل في اعتقادنا وليست بنقطة ضعف فيها.

إن حقيقة وجود أربعة أناجيل، في اعتقادنا هي جزء من عبقرية فرادة تلك الأناجيل.

وفضلاً عن ذلك، هناك أربعة أناجيل! كيف حدث هذا؟ ولماذا؟ على كل حال، ليست لدينا أربعة أسفار لأعمال الرسل. وعلاوة على ذلك، فالمواد المدونة في الأناجيل الثلاثة الأولى لهي من التماثل لدرجة أنها سميت بالأناجيل المتشابهة أو الإزائية.

طبعاً من حق الدارس أن يتساءل عن سبب الاحتفاظ بإنجيل مرقس، طالما أن مقدار المادة التي ينفرد هذا الإنجيل بتدوينها بالكاد تكفي لملء صفحتين اثنتين لا أكثر. لكننا نكرر القول، إن حقيقة وجود أربعة أناجيل، باعتقادنا هي جزء من عبقرية فرادة الأناجيل.

إذن، ما هي طبيعة الأناجيل، ولماذا تعد طبيعتها الفريدة جزءاً من عبقريتها؟ قد تكون أفضل إجابة عن هذا السؤال هو البدء بالإجابة أولاً على السؤال القائل لماذا أربعة هنا؟ لا يمكننا إعطاء جواب شاف والسؤال المؤكد، ولكننا سنقدم سبباً واحداً على الأقل وهو سبب بسيط ولكنه عملي.

كانت كل جماعة من الجماعات المسيحية المختلفة (اليهود- اليونان) بحاجة إلى كتاب عن المسيح. ولأسباب عديدة ومتنوعة، لم يكن الإنجيل المخصص إلى جماعة من تلك الجماعات المسيحية يُشبع بالضرورة حاجة الجماعات الأخرى. وما نؤمن به كل الإيمان أن كل ما كتب قد تمت كتابته بقيادة الروح القدس.

بالنسبة إلى الكنيسة المعاصرة، لا يمكن أن يحل أحد الأناجيل محل أخر، لأنها تقف جنباً إلى جنب من حيث السلطة والقيمة. وكيف ذلك؟ لأن الاهتمام في كل إنجيل من هذه الأناجيل ينصب على الرب يسوع على مستويين:

المستوى الأول: كان هناك الاهتمام التاريخي المجرد والهادف لإظهار هوية الرب يسوع وما قاله وما عمله، وأن يسوع المسيح هذا هو ذاك الذي صُلب وقام من الأموات وهو نفسه الذي نعبده الآن كالرب المقام والممجد.

المستوى الثاني: كان هناك ذلك الاهتمام المتجدد لإعادة رواية تلك القصة، قصة يسوع، من أجل إشباع حاجات الأجيال التي تلت والتي لم تكن تتكلم الآرامية بل اليونانية، والتي لم تكن تحيا في ظل بيئة ريفية، زراعية، يهودية في أساسها، لكن كانت تعيش في روما مثلاً، أو أفسس، أو أنطاكية، حيث كان الإنجيل يواجه بيئة وثنية ومتمدينة.

بالرغم من أن هذه الأناجيل هي التي تخبرنا فعلياً بكل ما نعرفه عن الرب يسوع، إلا أنها بمثابة سير حياة بالرغم من كونها تروي جزئياً سيرة حياة. هي ليست كالكتب التي تُكتب عن حياة الرجال العظام المعاصرين – مع أنها فعلياً تسجل حياة أعظم رجل. نعم هي وكما سماها أحد آباء الكنيسة في القرن الثاني، وهو (يوستين الشهيد): (مذكرات الرسل).

لا يمكن أن نجد سير حياة أربعة تستطيع أن تعزز بعضها البعض جنباً إلى جنب بذات القيمة، إلا أن الأناجيل فعلت هذا لأنها في نفس الزمن الواحد دونت الحقائق عن السيد المسيح واسترجعت تعاليمه، وكل إنجيل منها كان يشهد عنه. نعم هذه هي طبيعتها، وهذا هو نبوغها، وهذان الأمران كلاهما هامان من حيث النواحي الاستنتاجية والحياتية.

التفسير الاستنتاجي للأناجيل إذاً، يتطلب منا أن نفكر على مستويين، أحدهما يستند إلى خلفية الرب يسوع التاريخية، وثانيهما يستند إلى الخلفية التاريخية لكُتاب الأناجيل.

القرينة التاريخية

إن القرينة التاريخية الأولى تتعلق بالرب يسوع نفسه. ومن أجل بنائها، علينا معرفة ثقافة وديانة القرن الأول، واليهودية الفلسطينية التي عاش وعلم في وسطها، كما يتضمن بناؤها محاولة فهمنا للقرينة المحددة لقول ما أو لمثل ما. لكن القرينة التاريخية الثانية ترتبط بالكُتاب كأفراد (البشيرين) وبأسباب قيامهم بالكتابة.

القرينة التاريخية للرب يسوع –بشكل عام

يتحتم من أجل فهم يسوع المسيح أن تنغمس في يهودية القرن الأول التي كان الرب يسوع جزءاً منها، هذا يعني أن تزيد معرفتك عن مجرد العلم بأن الصدوقيين لم يؤمنوا بالقيامة. تحتاج كدارس هنا إلى أن تعرف سبب عدم إيمانهم وسبب عدم تعامل يسوع المسيح معهم إلا بالقليل والنادر. وللحصول على هذا النوع من المعلومات، لا مفر لك من اللجوء إلى بعض القراءات الخارجية.

إن كل دارس يعلم ان الرب يسوع المسيح كثيراً ما قام باستخدام الأمثال في التعليم.

إن أحد المعالم الهامة لهذا البعد المختص بالقرينة التاريخية كثيراً ما تم إغفاله وهو يتصل بالشكل الذي اتخذته تعاليم الرب يسوع. إن كل دارس يعلم بأن الرب يسوع المسيح كثيراً ما قام باستخدام الأمثال في التعليم. ولكن ما لا يعرفه كل الناس وبنفس المقدار هو أن الرب يسوع المسيح استخدم جميع أنواع و أشكال التعليم. فعلى سبيل المثال، كان الرب يسوع يستخدم صيغ المبالغة ببراعة وتعمُّد.

كما يقول الرب يسوع لتلاميذه أن يقلعوا عيناً من عيونهم إن كانت فخاً لهم أو يقطعوا إحدى يديهم إن أعثرتهم. (مت 5: 29- 30 وما يقابله في مر 9: 43- 48)، وبالطبع، كلنا يعلم بأن الرب يسوع لم يكن يعني ذلك حقاً. لكن ما كان يقصده هو أن ينزع الإنسان من حياته كل ما من شأنه أن يوقعه في الخطية.

ولكن كيف  عرفنا أن يسوع المسيح هنا لم يعن حقاً ما قاله؟ لأننا جميعاً وبكل بساطة ندرك تماماً بأن صيغة المبالغة إن استخدمت كوسيلة تعليمية لهي في غاية الفاعلية علينا، ففيها يكون التركيز فيها على المعنى الذي يريده المعلّم وليس على الكلمات التي ينتقيها!

لقد قام الرب يسوع أيضاً باستخدام الأمثال بفاعلية (مت 6: 21؛ مر 3: 24)، وكذلك التشابيه البلاغية والاستعارات المجازية (مت 10: 16؛ 5: 13) والشعر (مت 7: 7-8؛ لو 6: 27- 28)، والأسلوب التهكمي (مت 16: 2-3)، والأسئلة (مت 17: 25).

القرينة التاريخية للرب يسوع –بشكل خاص

محاولة معرفة القرينة التاريخية للرب يسوع تُعد الأكثر صعوبة، وصعوبتها تكمن في آلية تصورها أو إرجاعها خاصة فيما يتعلق بكثير من تعاليمه، والتي يكثر ذكر الأناجيل لها بدون قرائن كثيرة. والسبب في ذلك هو أنه قد تم تداول كلمات و أفعال الرب يسوع شفوياً خلال مدة من الزمن تناهز الثلاثين عاماً أو أكثر، ولم يتم تناقل كافة الأناجيل خلال تلك المدة. فما كان قد تم تناقله في قالب القصص الفردية أو المقتطفات هو محتوى الأناجيل، إذ تم تناقل الكثير من تلك الأقوال إلى جانب قرائنها الأصلية.

ولقد تعارف واعتاد علماء الكتاب المقدس على تسمية هذه المقتطفات (بالقصص التعليمية)، وسبب هذه التسمية هو أن هدف القصة عادة يكمن في أهمية التعليم الذي يختمها. ولعل مرقس 12: 13-17 هو نموذج للقصة التعليمية، فقصة القرينة كلها تتلخص في مسألة دفع الضرائب إلى الرومانيين. وهي تنتهي بقول المسيح الشهير: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. وهنا السؤال: هل يمكنك صديقي الدارس تخيل  ما كنا سنفعله عند استرجاع القرينة الأصلية لذلك القول لو لم يصلنا ضمن قرينته الأصلية؟

إن الصعوبة الحقيقية، بطبيعة الحال، تنتج عن حقيقة أن الكثير من أقوال المسيح وتعاليمه قد تم نقلها بدون قرائنها. وبولس الرسول نفسه شهد لهذه الحقيقة، فقد اقتبس أقوالاً ليسوع المسيح ثلاث مرات (1كو 7: 10؛ 9: 14؛ أع 20: 35) دون أن يُلمِّح إلى قرائنها التاريخية الأصلية. اثنان من تلك الأقوال في كورنثوس الأولى اُقتبسا من الأناجيل. فمثلاً الأقوال المتعلقة بالطلاق موجودة في قرينتين مختلفتين (إحداهما في متى 5: 31-32 في تعليم الرب يسوع لتلاميذه، وثانيمها هو ذلك النقاش الذي دار في متى 19: 1-10 ومرقس 10: 1-12).

أما القول الخاص (بالعطاء) فنراه موجوداً في متى 10: 10 وما يوازيه نجده في لوقا 10: 7 ضمن قرينة إرسال الاثنى عشر (متى) والسبعين (لوقا). غير أن القول المشارإليه في سفر الأعمال لا نراه موجوداً على الإطلاق في الأناجيل، وهو بالتالي ظلًّ بالنسبة لنا بدون قرينة أصلية.

لذا، علينا أن لا نستغرب أبداً خاصة إن عرفنا أن كثيراً من تلك الأقوال التي كانت ترد دون قرينتها كانت متوفرة عند البشيرين، وأن البشيرين أنفسهم، بقيادة الروح القدس، هم الذين أعطوا لتلك الأقوال قرائنها الحالية. ولعل هذا هو أحد الأسباب التي جعلتنا نجد القول نفسه أو التعليم ذاته وارداً في قرائن مختلفة في الأناجيل. وهذا أيضاً أحد الأسباب التي جعلتنا نرى الأقوال ذات الأفكار الرئيسية المتشابهة أو ذات الموضوع نفسه، مصنفة في الأناجيل بحسب المواضيع.

فعلى سبيل المثال، نجد في إنجيل متى خمس مجموعات موضوعية كبيرة –(أي أنها مصنفة بحسب الموضوعات وينتهي كل منها بعبارة هكذه “فلما أكمل يسوع هذه الأقوال…. –من هذه الموضوعات: الحياة في الملكوت (أو ما يسمى بالموعظة على الجبل، الإصحاحات 5-7)، تعليمات إلى خدام الملكوت (10: 5-42)، أمثلة عن الملكوت العامل في العالم (13: 1-52)، تعاليم عن العلاقات والتلمذة في الملكوت (18: 1-35)، الأمور الأخروية، أو اكتمال الملكوت (الإصحاحات 23-25).

أيضاً يمكننا إيضاح هذه المجموعات الموجودة في متى بطريقتين وذلك باستخدام المجموعة الواردة في الأصحاح العاشر كمثل:

إن القرينة هنا هي تلك الإرسالية التاريخية للاثنى عشر وتوجيهات الرب يسوع لهم عند إرسالهم (الأعداد 5-12). أما الأعداد 16-20 فهي عبارة عن توجيهات جاءت لتخدم زمناً لاحقاً لذلك بكثير، ففي العددين 5،6 الرب يوصيهم بالذهاب إلى خراف بيت إسرائيل الضالة فقط، أما في العدد 18 فهو يتحدث عن مثولهم أمام (الحكام) و(الملوك) و(الأمم) بينما إرسالية الاثنى عشر لم تشمل أيَّا من الذين سلف ذكرهم.

نجد هذه الأقوال الجميلة الترتيب مبعثرة في كافة أقسام إنجيل لوقا، بهذا الترتيب (9: 2-5؛ 10: 3؛ 21: 12-17؛ 12: 11-12؛ 6: 40؛ 12: 2-9؛ 12: 51-53؛ 14: 25-27؛ 17: 33؛ 10: 16) وهذا يفيدنا بأنه كان للوقا المقدرة على تلقي تلك الأقوال ولكن كمجموعات أو كوحدات مستقلة، ثم قام هو بالتالي بتصنيفها في قرائن مختلفة وذلك بإرشاد واضح من الروح القدس.

وهنا نقول إنه أثناء قراءتك للأناجيل، قد تحتاج لأن تطرح سؤالاً ربما لن يأتيك جواب شاف عليه، وهو إلى مَنْ كان المسيح يوجه حديثه عادة عادة عند قيامه بتعليم ما، هل كان يوجه حديثه لتلاميذه المقربين إليه، أم للجموع المحتشدة من حوله، أو ربما لمعارضيه؟ إن معرفة المستمع الرئيسي للرب يسوع، أو اكتشاف القرينة التاريخية ليسوع المسيح، لا يعني بالضرورة أن يؤثر. هذا على المعنى الأساسي لهذا التعليم، لكنه من المؤكد سيُسهم فيتوسيع أفاق نظرتك للأمور، وكثيراً ما سيساعدك في فهم النقطة الجوهرية الموجودة في كلام الرب يسوع.

القرينة التاريخية للبشير (كاتب الإنجيل)

لسنا هنا بصدد الحديث عن القرينة الأدبية التي استخدمها البشير في موضوع مادته عن الرب يسوع، بل نحن نتحدث عن القرينة التاريخية التي دفعت البشير أصلاً إلى كتابة إنجيله.

فإنجيل مرقس مثلاً، اهتم ولدرجة كبيرة بشرح طبيعة ميسانية يسوع (أي كونه المسيا). مع أن مرقس كان يعرف جيداً بأن المسيا هو بالحق ابن الله (1: 1) الذي يجول في الجليل بقوة وبرأفة (1- 8: 26)، وهو أيضاً على معرفة تامة بأن يسوع المسيح أبقى مسيانيته طي الكتمان مرات ومرات (انظر مثلاً 1: 34؛ 1: 43؛ 3: 12؛ 4: 11؛ 5: 43؛ 7: 24؛ 7: 36؛ 8: 26؛ 8: 30).

والسبب في ذلك يعود إلى أن يسوع المسيح وحده كان يفهم الطبيعة الفعلية لمصيره المسياني –مصير العبد المتألم الذي سينتصر بالموت– وعلى الرغم من تكرار المسيح شرح هذا الأمر لتلاميذه ثلاث مرات، إلا أنهم أخفقوا في فهمه (8: 27-33؛ 9: 30-32؛ 10: 32-45). مثلهم في ذلك مثل الأعمى الذي شفاه الرب يسوع على مرحلتين (8: 22-26)، لقد كانوا في حاجة إلى لمسة ثانية هي لمسة القيامة لكي يفهموا بوضوح ما كان يجب أن يفهموه.

كان اهتمام البشير مرقس الأساسي هو بطبيعته الخادم المتألم، الطبيعة التي تميزت بها مسيانية يسوع. ويتضح هذا الاهتمام بشكل أكبر بسبب حقيقة أن مرقس البشير لم يُشر إلى أي تعليم من تعاليم يسوع المسيح حول التلمذة إلا بعد إعطائه التفسير الأول لآلام الرب يسوع في 8: 31-33 والإشارة الضمنية هنا كانت في ذات الوضوح الذي كان للإشارة التصريحية.

إن الصليب والحياة الخادمة اللتين عاشهما الرب يسوع المسيح صارا أيضاً الدليلين على التلمذة الصادقة. وإن كان هذا هو الطريق الذي ساره السيد فما الذي ينتظره إذاً العبد؟

كل هذا يمكن إدراكه من خلال القراءة المتأنية لإنجيل مرقس. فهذه هي قرينته التاريخية. أما أن نضع هذه القرينة في موضعها بالتمام فسيكون الأمر ميالاً إلى الحدس أكثر منه إلى اليقين. إلا أننا لا نجد سبباً يمنعنا من اتباع التقليد القديم الذي يقول: بأن إنجيل مرقس يعكس (مذكرات) بطرس التي ظهرت في روما بعد فترة قصيرة من استشهاد بطرس الرسول في وقت كان فيه الاضطهاد المرير ضد المسيحيين في روما على أشده. على أية حال، فمثل هذه القراءة ومثل هذه الدراسة للقرينة تعد هامة للإنجيل كما هي للرسائل.

القرينة الأدبية

نركز اهتمامنا في هذا المقام على أمرين:

  • مساعدتك عزيزي الدارس على عمل التفسير الاستنتاجي أي على قراءة القول أو القصة ضمن قرينتها الحالية في الأناجيل.
  • مساعدتك على فهم طبيعة تركيب الأناجيل بوجه عام، وبالتالي على تفسير أي من تلك الأناجيل، وليس فقط مجرد تفسير حقائق منفصلة عن المسيح.

تفسير الأقوال التي ترد منفردة

في سياق بحثنا في كيفية تفسير الرسائل، ذكرنا ضرورة تعلّمك أن تفكر بحسب الفقرات. لكن هذا لا يعد مهماً جداً لتفسير الأناجيل، مع أنه يصح استخدامه من وقت لآخر، وبخاصة عند التعامل مع المقاطع التعليمية الكبيرة. وكما ذكرنا في البداية، سيكون لتعاملنا مع هذه المقاطع التعليمية بعض الجوانب التي تشبه الطريقة التي تعاملنا بها مع الرسائل. لكن، وبسبب الطبيعة الفريدة للأناجيل، علينا كدارسين لها أن نفعل أمرين: أولاً أن نفكر أفقياً، وثانياً أن نفكر عمودياً.

إضافة إلى ذلك يمكننا أن نقول: إنه عند شرح أو قراءة واحد من الأناجيل، يحتاج الدارس إلى مراعاة الحقيقتين التاليتين والمتعلقتين بالأناجيل: أولاً: هناك أربعة منها، ثانياً هي وثائق ذات مستويين.

التفكير الأفقي

على الدارس عند دراسة قول ما في أحد الأناجيل، أن يراعي ما يوازيه في الأناجيل الأخرى.

إن التفكير الأفقي معناه أنه على الدارس عند دراسة قول ما في أحد الأناجيل، أن يراعي ما يوازيه في الأناجيل الأخرى، فقط لمجرد التوضيح. ونقر بعدم ضرورة الإفراط في هذا الأمر، حيث أنه لم يقصد أي واحد من البشيرين أن يقوم قراؤه بقراءة إنجيله مقارنة مع الأناجيل الأخرى. مع الحفاظ على حقيقة أن الله قد أوحى بأناجيل أربعة في العهد الجديد ومعنى هذا عدم إمكان قراءة تلك الأناجيل قراءة صحيحة بمعزل كامل عن بعضها البعض.

ولعل خير ما نبدأ به كلامنا الآن هو التحذير التالي: ليس الغرض من الدراسة المتوازية للأناجيل إكمال قصة في إنجيل ما بتفاصيل من أناجيل آخرى. نعم عادة ما تميل مثل هذه القراءة إلى التوفيق بين جميع التفاصيل حتى تلقي ضوءاً على الجوانب الخاصة التي يتميز بها كل إنجيل والموحى بها أصلاً من الروح القدس. إن مثل هذا التكميل للتفاصيل قد يثير اهتمامنا بما يتعلق بتاريخ يسوع المسيح لكن ليس من المفترض أن يكون هذا الأسلوب هو اهتمامنا الأول.

هناك سببان رئيسيان للتفكير بشكل أفقي:

أولاً: إن دراستنا للأجزاء المتوازية في الأناجيل عادة ما ترفع من تقديرنا لما يتميز به كل واحد منها. وعلى كل حال، فإن هذا التميُّز هو السبب في وجود أربعة أناجيل بين أيدينا.

ثانياً: إن دراستنا للأجزاء المتوازية تساعدنا على فهم أنواع القرائن (البيئات والجماعات) المختلفة التي كتب إليها كل بشير إنجيله. سنقوم فيما بعد بإيضاح كل من هذين السببين. ولكن، إليك أولاً صديقي الدارس أمراً هاماً يتعلق بالافتراضات المسبقة.

إنه من المستحيل عليك قراءة الأناجيل دون أن يكون هناك أي نوع من الافتراض المسبق حول علاقة كل منها بالآخر –حتى وإن لم يكن قد سبق لك التفكير في مثل هذا الأمر. فالافتراض المسبق والأكثر شيوعاً– مع أنه قد يكون الأضعف احتمالاً– هو أن كل إنجيل قد كُتب بمعزل عن الأناجيل الأخرى.

فعلى سبيل المثال، خذ حقيقة وجود درجة كبيرة من التشابه اللفظي بين قصص البشيرين لوق ومتى ومرقس، وكذلك خذ ذلك التشابه في تسجيلهم لأقوال الرب يسوع. ليس من الضروري أن يفاجئنا التشابه اللفظي الواضح، خاصة عندما يتعلق بأقوال المسيح الذي تكلم بما “لم يتكلم به إنسان قط”. لكن أن نرى مقياس الشبه نفسه منطبقاً على القصص، فهذا أمر آخر خاصة إذا عرفنا بأن:

  • تلك القصص قد رويت في اللغة الآرامية أصلاً، في الوقت الذي كُتبت به بكلمات يونانية.
  • ترتيب الكلمات داخل الجمل في اللغة اليونانية عادة ما يأخذ أكثر من شكل، ومع ذلك فإن التشابه الذي نقابله في الأناجيل يمتد ليغطي الترتيب الدقيق للكلمات.
  • من غير المحتمل حقاً أن يقوم ثلاثة أشخاص من ثلاث أنحاء مختلفة في الإمبراطورية الرومانية برواية القصة نفسها بالكلمات نفسها –حتى في تلك النقاط الثانوية المتعلقة بالأسلوب الفردي مثل حروف الجر والعطف. وبالرغم من ذلك فهذا ما نراه فعلاُ وقد تكرر في الأناجيل الثلاثة الأولى.

من الممكن أن نلقي المزيد من الضوء حول هذا الأمر باستخدام قصة إشباع الخمسة آلاف والتي تعد إحدى القصص القليلة المدونة في الأناجيل الأربعة. ادرس الإحصاءات التالية (مع ملاحظة أن هذه الأرقام تقريبية إذ تختلف من لغة لأخرى):

  • عدد الكلمات المستخدمة في سرد قصة إشباع الجموع في:

إنجيل متى            157

إنجيل مرقس         194

إنجيل لوقا            153

إنجيل يوحنا          199

  • عدد الكلمات المشتركة في جميع الأناجيل الثلاثة الأولى 53 كلمة.
  • عدد الكلمات في الأصل اليوناني لإنجيل يوحنا المشتركة مع الأناجيل الثلاثة الأخرى هو 8.
  • النسبة المئوية للاتفاق:

متى مع مرقس      59%

متى مع لوقا          44%

لوقا مع مرقس        40%

يوحنا مع متى        8.5%

يوحنا مع مرقس     8.5%

يوحنا مع لوقا        6.5%

وهنا لابد من تقديم الاستنتاجات التالية: أولاً: يقدم يوحنا البشير رواية واضحة الاستقلال عن بقية الأناجيل؛ إذ أنه لا يستخدم إلا الكلمات الضرورية جداً لسرد القصة فهو استخدم على سبيل المثال كلمة يونانية مختلفة للتعبير عن السمك! أما باقي البشيرين فمن الواضح أنهم قد اعتمدوا على بعضهم البعض بشكل أو بآخر.

هذا ما يمكن أن يثبته لنا أولئك الضليعون باللغة اليونانية إذ أنهم يعلمون مدى صعوبة احتمال قيام شخصين كل على حدة ومستقلين عن بعضهما البعض برواية القصة ذاتها وبأسلوب قصصي يتفق إلى درجة 60% في استخدامها للكلمات، ليس هذا فقط بل وفي عمل ترتيب دقيق لها في مرات كثيرة.

لمزيد من الإيضاح خذ مثلاً هذه الجملة “ليفهم القارئ” الواردة في مرقس 13: 14 وما يوازيها في متى 24: 15. من الصعب طبعاً قبول فكرة أن هذه الكلمات كانت جزءاً من التقليد الشفهي، لأنها تقول (القارئ) وليس السامع، ومن غير المحتمل أيضاً أن تكون قولاُ ليسوع المسيح يشير فيه إلى سفر دانيال مثلاً.

إذاً، لقد كتبت هذه الكلمات بواسطة أحد البشيرين، وذلك من أجل أن يوضح أمراً ما لقرائه. وبالطبع من غير الممكن أن تكون هاتان الكلمتان “ليفهم القارئ” قد كُتبتا أصلاً في النص في الموضع عينه بواسطة كاتبين كتب كل منهما بالاستقلال عن الآخر.

ولعل أفضل تفسير لكل هذا هو الرأي القائل بأن مرقس البشير قام أولاً بكتابة إنجيله، وربما كان قد اعتمد جزئياً على وعظ وتعاليم بطرس الرسول. أما متى ولوقا البشيران فكانت لديهما فرصة الاطلاع على إنجيل مرقس أولاً، ومن ثم قام كل منهما مستقلاً عن الآخر، باستخدام ها الإنجيل كمصدر أساسي لإنجيله. إلا أنهما فيما بعد اعتمدا على عدة مصادر تتحدث عن الرب يسوع، من بينها مصادر اشتركت بينهما. إلا أنها قلما ظهرت بالترتيب نفسه في الإنجيلين، مما يدل على عدم إمكانية أن يكون أحد الكاتبين قد استعان بإنجيل الكاتب الآخر.

أخيراً، كتب يوحنا إنجيله مستقلاً عن الثلاثة الآخرين، وبالتالي تضمن إنجيله القليل من الأمور المشتركة مع الأناجيل الأخرى. هذه هي الطريقة التي نؤمن بأن الروح القدس قد أوحى بالكتابة بواسطتها للبشيرين.

النموذج التالي قد يوضح لك كيف ستساعدك هذه الاستنتاجات في تفسير الأناجيل. لاحظ مثلاً كيفية سرد ما قاله الرب يسوع عن “رجسة الخراب” عند قراءتك للأجزاء المتوازية التالية:

متى 24: 15-16 مرقس 13: 14 لوقا 21: 20-21
“فمتى نظرتم (رجسة الخراب) التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس –ليفهم القارئ– فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال”. “فمتى نظرتم (رجسة الخراب) التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان حيث لا ينبغي –ليفهم القارئ– فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال”. “ومتى رأيتم أورشليم مُحاطة بجيوش، فحينئذ اعلموا أنه قد اقترب خرابها. حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال، والذين في وسطها فليفروا خارجاً، والذين في الكور فلا يدخلوها”.

لكن وقبل كل شيء لاحظ بأن هذا القول قد جاء ضمن حديث كان على جبل الزيتون، وبنفس التسلسل في الأناجيل الثلاثة. لكن عندما سجل مرقس البشير تلك الكلمات، كان يهدف إلى دعوة قرائه للتمعن العميق فيما قصده الرب يسوع من قوله “رجسة الخراب قائمة حيث لا ينبغي”. أما البشير متى فبوحي من الروح القدس، ساعد قراءه بقدر أكبر إذ جعل هذا القول أكثر وضوحاً.

فهو يذكرهم بأن “رجسة الخراب” تلك هي التي قد سبق للنبي دانيال الحديث عنها، وأن ما قصده الرب يسوع بالقول “حيث لا ينبغي” كان “المكان المقدس” أي الهيكل الذي في أورشليم. أما لوقا البشير وبوحي مساو من الروح القدس فقد فسر هذا القول ببساطة أكبر حتى يتمكن قراؤه الأمميون من فهمه. وقد نجح لوقا فعلاً في جعلهم يفهمون ما قصده الرب يسوع فالذي قصده من كل مل تحدث به كان ما يلي: “عندما تحاط أورشليم بالجيوش، اعرفوا إذاً بأن خرابها قريب”.

وهكذا، يمكنك صديقي كدارس للكتاب المقدس أن ترى كيف يمكن للتفكير الأفقي من جهة، ولمعرفة أن متى ولوقا البشيرين قد استفادا من مرقس من جهة أخرى، تساعدك في تفسيرك لأي واحد من الأناجيل أثناء قراءتك له. وكذلك، فإن إدراكنا لوجود أجزاء متوازية بالأناجيل يساعدنا على رؤية إمكانية استخدام المعلومات نفسها ضمن قرائن جديدة عبر أجيال الكنيسة المتعاقبة.

وفي ذلك نضرب المثال التالي: خذ رثاء الرب يسوع لأورشليم، تلك الحادثة التي اشترك البشيران متى ولوقا في سردها بينما لم يفعل مرقس البشير ذلك. في تلك الحادثة تظهر أقوال الرب يسوع في كلا هذين الإنجيلين متطابقة كلمة كلمة تقريباً.

في لوقا 13: 34-35 جاءت هذه الحادثة منتمية إلى مجموعة طويلة من أقوال وتعاليم الرب يسوع وهو في طريقه إلى أورشليم (9: 51- 19: 10). لقد وردت مباشرة بعد التحذير الذي أطلقه عن هيرودس والذي ختم به حديثه بقوله “لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم” (لو 13: 33). والفكرة المطروحة هنا هي أن رفض المُرسَل من قبل الله الآب يؤدي إلى دينونة إسرائيل.

أما في متى 23: 37-39 فقد جاء رثاء يسوع المسيح لأورشليم كخاتمة للويلات على الفريسيين، والتي تعكس اخرها قضية قتل الأنبياء في أورشليم. وهنا أيضاً كان القصد من هذا القول كقصد البشير الذي سبقه، إذاً القول واحد في كلا الإنجيلين على الرغم من ذكره في إطار خلفيات مختلفة.

هذا الأمر انطبق أيضاً على أقوال أخرى كثيرة. فالصلاة الربانية مثلاً مدونة في كلا الإنجيلين (مت 6: 7-13؛ لو 11: 2-4) ضمن قرائن تعلقت بتعليم الصلاة مع أن الدافع الرئيسي لكل من المقطعين كان مختلفاً عن الآخر وبشكل ملحوظ: لاحظ مثلاً الصلاة في إنجيل متى لقد جاءت كنموذج للصلاة: “فصلوا أنتم هكذا”، بينما نرى بأن لوقا قد سمح ببعض التكرار. ففي إنجيل لوقا: نجد الآية وقد وردت هكذا “متى صليتم، فقولوا…”.

كذلك في التطويبات (مت 5: 3- 11؛ لو 6: 20- 23) التي نجدها في إنجيل متى، وقد ذكرت هكذا المساكين هم المساكين بالروح، بينما في إنجيل لوقا فالآية ترد على الشكل التالي: “طوباكم أيها المساكين” بالتباين مع “أيها الأغنياء” (6: 24). وهنا نقول: نعم يميل الناس في أمور إلى التركيز على جانب واحد دون الجانب الآخر. فالبعض يميل إلى قراءة “المساكين بالروح” فقط، أما البعض الآخر فيميل إلى قراءة “أيها المساكين” فقط. ونحن هنا نصر على قانونية القولين معاً.

إذ نستند إلى المعنى العميق الذي يشير إلى المساكين الحقيقيين وهم أولئك الذين يرون أنفسهم فقراء أمام الله. إلا أن إله الكتاب المقدس، الذي تجسد في يسوع الناصري، إله يدافع ويحامي عن المظلومين والمهضومي الحقوق. وبالكاد يستحيل على الدارس أن يقرأ إنجيل لوقا دون أن يلاحظ هذا الوجه من الإعلان الإلهي (انظر 14: 12- 14؛ 12: 33- 34 بالمقارنة مع مت 6: 19- 21).

 

 

التفكير العمودي

معنى التفكير العمودي هو أنه عليك عند قراءتك أو دراستك عزيزي القارئ لقصة ما في الأناجيل، مراعاة كلا القرينتين قرينة يسوع المسيح، وقرينة البشير نفسه (أي الخلفية البيئية منهما).

وللمرة الثانية نقول: أول ما سنفعله الآن هو إعطاء كلمة تحذير. وهي أن الغرض الأول من التفكير العمودي ليس دراسة حياة يسوع المسيح التاريخية، مع أنه من الواجب أن يثير هذا الأمر اهتمامنا دائماً.

لكن الأناجيل في وضعها الراهن هي كلمة الله لنا نحن، أما عملية استرجاعنا لحياة يسوع وتصويرها فهي ليست كذلك؛ إذ أنها مجرد دعوة إلى إدراك أنه يوجد الكثير مما قد جاء في الأناجيل يدين أصلاً في قرينته الكتابية إلى البشيرين أنفسهم، والتفسير السليم لما قد استند إلى قرينة البشيرين يحتاج منا إلى فهمه أولاً ضمن قرينته التاريخية الأصلية وذلك كمقدمة مناسبة لفهمه فيما بعد ضمن قرينته الكتابية.

يمكننا أن نوضح ذلك من خلال استخدام متى 20: 1- 16، كمثال، حيث نجد هنا ذلك المثل الذي قاله الرب يسوع عن الفعلة في الكرم. واهتمامنا وسؤالنا الذي يجب أن نطرحه هو: ما الذي كان يعنيه ذلك المثل ضمن قرينته الأصلية في إنجيل متى؟ إن قمنا بالتفكير الأفقي أولاً، سنلاحظ أنه ومن كلا جانبي هذا المثل، يوجد مقاطع طويلة تحيط به وتتضمن موضوعات يسير فيها البشير متى على أثر خطوات البشير مرقس وعن قرب (مت 19: 1- 30؛ 20: 17- 34 بالتوازي مع مر 10: 1- 52).

في 10: 31 يقول البشير مرقس “ولكن كثيرون أولون يكونون آخرين والآخرون أولين” وقد رواها البشير متى بحرفيتها في أصحاح 19: 30. لكن متى وفي تلك اللحظة عينها، أورد هذا المثل، وختمه بتكرار ذلك القول في أصحاح 20: 16، ولكن بترتيب معكوس. وهكذا، نرى أن القرينة المباشرة في إنجيل متى حول مَثل الفعلة في الكرم هي قول الرب يسوع في متى 19: 30.

وأنت صديقي الدارس عندما ستدرس محتوى المثل نفسه (20: 1- 15)، ستلاحظ بأنه ينتهي بتبرير صاحب الكرم لسخائه. الذي معناه أن الأجرة في ملكوت السماوات بناء على ما أعلنه الرب يسوع، لا تقاس بما هو عدل أو إنصاف، بل بنعمة الله.

ففي قرينته الأصلية، ربما كان هذا المثل نوعاً من التبرير لعملية قبول المسيح للخطاة في ضوء اعتراضات الفريسيين عليه. فالفرسيون كانوا يعتبرون أنفسهم كمَنْ ينهض بأعباء جيله (نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر) وبالتالي فهم مستحقون لأجرة أعظم. لكن الله سخي ومُنعم، وهو يقبل الخطاة تماماً كما يقبل الأبرار.

وهنا نسأل: إذا اعتبرنا بأن هذه الخلفية هي الخلفية الأصلية الأرجح احتمالاً، فما هو دور هذا المثل في إنجيل متى؟  في الحقيقة تبقى نقطة المَثَل الجوهرية والخاصة بسخاء الله المنعم على غير المستحقين كما هي لا تتغير. إلا أن هذا الأمر هنا لم يعد وجوده ضرورياً لتبرير أعمال الرب يسوع بذاتها.

لأن إنجيل متى يفعل هذا عادة بطرق أخرى وفي مواضع أخرى. إن المثل هنا يعمل في إطار موضوع التلمذة، حيث يكون أولئك الذين تركوا كل شيء وتبعوا المسيح هم الآخرون الذين صاروا أولين (ولعل البشير متى يشدد على هذه النقطة مرة تلو الأخرى، لعمل مقارنة مع القادة اليهود).

تفسير كل إنجيل من الأناجيل ككل

قام البشيرون، بصفتهم كُتاباً موحى لهم من قِبل الله، بانتقاء القصص والتعاليم التي ناسبت أهدافهم.

لعل واحداً من أهم أجزاء دراسة القرينة الأدبية هو تعلُّم تمييز أنواع الاهتمامات التي تغلغلت إلى بنية كل إنجيل، فجعلت كل واحد منها فريداً ومتميزاً.

لقد أشرنا في كل أقسام هذا الفصل وفيما يتعلق بقراءة ودراسة الأناجيل، أنه ينبغي على الدارس أن يأخذ في عين الاعتبار وبجدية ليس فقط اهتمام البشيرين بالمسيح في حد ذاته أو بما قاله وفعله، بل أيضاً الاهتمام بالأسباب التي دعتهم إلى إعادة سرد كل قصة لقرائهم. نعم لقد درسنا بأن البشيرين كانوا كُتاباً وليس فقط مجرد جامعي قصص أو سير ذاتية. إلا أن كونهم كُتاباً لا يعني بالضرورة أنهم كانوا مبدعين للمادة التي كتبوها بل في الحقيقة العكس هو الصحيح.

فهناك عوامل عديدة كانت تمنعهم وتتعارض مع عملية الإبداع الواسع، وهذا باعتقادنا يتضمن إلى حد ما تلك الطبيعة الثابتة للمادة المقدمة و سلطان الروح القدس في الإشراف على عملية نقل الرسالة صحيحة تماماً. لقد كانوا كُتاباً بمعنى أنهم قاموا بمعونة الروح القدس بتركيب وإعادة كتابة المادة الموحى بها وبشكل خلاق من أجل سد حاجات قرائهم. وما يهمنا هنا هو مساعدتك صديقي الدارس على إدراك البناء الأدبي لكل بشارة أثناء دراستك أو قراءتك لها.

في عملية بناء الأناجيل اُعتمد مبدأن هامان: أولاً الانتقائية، ثانياً التكيُّف. فمن جهة، قام البشيرون، بصفتهم كُتاباً موحى لهم من قبل الله، بانتقاء القصص والتعاليم التي ناسبت أهدافهم. وصحيح، بالطبع، كان اهتمامهم الأول حفظ ما قد وصل إليهم. ومع ذلك فإن يوحنا البشير ، ومع قلة عدد قصص إنجيله وأحاديثه التي اتصفت في الوقت ذاته بالإسهاب الملحوظ، إلا أنه أخبرنا علانية بأنه كان انتقائياً جداً (20: 30- 31؛ 21: 25).

ولعل الشاهد الأخير (21: 25)، يُعبِّر عن موقف الأناجيل الأخرى أيضاً. فلوقا البشير على سبيل المثال، اختار ألا يورد في إنجيله قسماً كبيراً من إنجيل مرقس (مر 6: 45- 8: 26).

إن في مبدأ التكييف عادة ما يساعد في الرد على معظم الاداعاءات التي تقول بوجود تناقض بين الأناجيل. وهو أيضاً يشح ويفسر سبب وجودها.

في الوقت نفسه، كان للبشيرين وكنائسهم اهتمامات خاصة جعلتهم يقومون بتكييف ما انتقوه. فيوحنا البشير، مثلاً، صرح لنا علانية أن هدفه كان هدفاً لاهوتياً واضحاً ألا وهو: “لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله…” (20: 31). وربما كان هذا الاهتمام بيسوع –كالمسيا اليهودي– هو السبب الرئيسي الذي جعل أكثر ما كتبه يوحنا البشير يتعلق بخدمة الرب يسوع في اليهودية وأورشليم، في مقابل خدمته في الجليل والتي أوردتها الأناجيل الثلاثة المتشابهة.

فبالنسبة لليهود، كان الوطن الحقيقي للمسيا هو أورشليم. وبالتالي، كان يوحنا البشير يُعلَّم بما قاله الرب يسوع عن أنه “لا كرامة لنبي في وطنه”. نعم فقد قال الرب يسوع هذا القول أصلاً عندما رفضه أهل الناصرة (مت 13: 57؛ مر 6: 4؛ لو 4: 24). لكن في إنجيل يوحنا فقد تمت الإشارة إليه كتوضيح لرفض المسيا في أورشليم (4: 44) – وهذا يكشف عمقاً لاهوتياً جديداً في معنى خدمة الرب يسوع.

إن مبدأ التكييف عادة ما يساعد في الرد على معظم الاداعاءات التي تقول بوجود تناقض بين الأناجيل. وهو أيضاً يشرح ويفسر وجودها. فعلى سبيل المثال، من أبرز تلك الادعاءات قصة لعن شجرة التين (مر 11: 12- 14، 20- 25؛ مت 21: 18- 22) لقد روى الرسول مرقس هذه القصة لإبراز أهميتها اللاهوتية الرمزية، فقد لاحظ أن الرب يسوع قد نطق بالدينونة على الديانة اليهودية عندما طهر الهيكل وذلك في ذات الفترة التي لعن فيها شجرة التين فيبست.

غير أن لقصة شجرة التين معنى عظيماً للكنيسة الأولى أيضاً وذلك بسبب الدرس الذي ختمت به تلك القصة عن الإيمان. ففي إنجيل متى، كان الهدف الوحيد من تلك القصة هو إعطاء درس عن الإيمان، لذلك نراه يجمع ما بين لعن الشجرة وهلاكها ليُركِّز على هذه النقطة. تذكر صديقي الدارس أن سرد هذه القصة في جميع الحالات هو عمل الروح القدس الذي أوحى لكلا البشيرين بما كتباه.

ولكي نوضح بشكل أكيد عملية البناء هذه، دعونا نلقي نظرة على الأصحاحات الافتتاحية لإنجيل مرقس (1: 14- 3: 6) تُعد هذه الأصحاحات تحفة فنية، فهي مبنية بناء جيداً يتمكن القراء من خلالها فهم قصد مرقس الرسول.

إذ نجد فيها ثلاثة  خطوط رئيسية لخدمة الرب يسوع المعلنة والتي تُشكل أهمية خاصة عند مرقس الرسول: أولاً: شعبيته وسط الجموع، ثانياً: تلمذته لعدد قليل، ثالثاً: معارضته من قبل السلطات. ارجع إلى إنجيل مرقس و اقرأه ولاحظ مهارة مرقس البشير في إبراز هذه المواقف لنا من خلال انتقائه وترتيبه للقصص. فبعد الإعلان عن خدمة الرب يسوع العلنية (1: 14- 15)، سجلت لنا القصة الأولى فيه دعوة يسوع المسيح للتلاميذ الأوائل.

بالإضافة إلى مزيد من التفاصيل عن هذا الهدف والتي جاءت لاحقاً في المقاطع التالية (3: 13- 19؛ 4: 10- 12؛ 4: 34- 41… إلخ). إن اهتمام البشير مرقس الأكبر في هذين الأصحاحين الأولين كان بالموضوعين الأخرين. فبداية من 1: 21 إلى 1: 45، نجد أربع لقطات أوردها مرقس البشير: يوم في كفر ناحوم (1: 21- 28 و29- 34) جولة وعظ قصيرة في اليوم التالي (1: 35- 39)، وقصة شفاء الأبرص (1: 40- 45).

كان الهدف المشترك في كل هذا هو إعلان سرعة انتشار شهرة الرب يسوع وشعبيته (انظر الأعداد 27- 28، 32- 33، 37، 45)، هذه السرعة التي وصلت أوجها حتى عجز الرب يسوع معها عن “أن يدخل مدينة ظاهراً، بل كان خارجاً في مواضع خالية، وكانوا يأتون إليه من كل ناحية”. كل هذا كان يبدو وكأنه يقطع الأنفاس إلا أن مرقس البشير تمكن فعلاً من رسم هذه اللوحة بأربع قصص فقط، إضافة إلى استخدامه لتعبيره المتكرر “وللوقت” (1: 21، 23، 28، 29، 30، 42)، وقيامه ببدء كل جملة تقريباً بحرف العطف (واو).

بعد أن وضع مرقس البشير هذه الصورة أمامنا، قام باختيار خمسة أنواع من القصص، ترسم في مجموعها، لوحة المعارضة وتبدي أسبابها. لاحظ القاسم المشترك العام للقصص الأربع الأولى إنه السؤال: لماذا؟ (الأعداد 7، 16، 18، 24). فالمعارضة تنشأ بسبب غفران الرب يسوع للخطايا، وبسبب أكله مع الخطاة، وسبب عدم مراعاته للتقليد المتعلق بالصيام، وكسره السبت. ولعل مرقس قد اعتبر هذه المخالفة الأخيرة هي الإهانة الكبرى عند اليهود مما جعله يضيف قصة ثانية من هذا النوع (3: 1- 6).

وهنا لا نقصد القول أن جميع المقاطع في كل الأناجيل ستساعد الدارس بسهولة في اكتشاف الاهتمامات التي تحكمت بما كتبه البشيرون. لكننا نقترح بأن مثل تلك النظرة إلى الأناجيل هي النظرة المطلوبة.

بعض الملاحظات التفسيرية

إن المبادئ التفسيرية للأناجيل عادة ما تكون بمثابة مزيج لكل ما سبق وقيل في الفصول السابقة عن (الرسائل) والقصص التاريخية.

  • التعاليم والوصايا (الواردة بصيغة الأمر)

لو افترضنا عزيزي القارئ بأنك قد قمت فعلاً بمهمة عمل التفسير الاستنتاجي بعناية، إذاً عليك الآن إدخال تعاليم ووصايا الرب يسوع التي تم ذكرها في الأناجيل إلى هذا القرن الحالي تماماً بذات الطريقة التي تعاملنا بها مسبقاً مع رسائل بولس الرسول أو بطرس أو يعقوب.

حتى قضايا النسبية البيئية والتي تحتاج إلى أن تثار بالطريقة ذاتها، كالطلاق مثلاً، والذي يكاد ألا يكون خياراً مطروحاً أمام زوجين مؤمنين بالرب يسوع المسيح، وهذه القضية التي كررها الرسول بولس في كورنثوس الأولى (7: 10- 11).

لكن للأسف ما وجدناه في بعض المجتمعات الغريبة المعاصرة أن بعض المسيحيين قد اختبروا فعلاً الطلاق، وهنا ينبغي عليك صديقي الدارس أن تتفحص بإمعان افتراضات البعض السريعة لمعنى كلمات الرب يسوع التي نطق بها في خلفية حضارية كانت مختلفة في زمنها تماماً عن زمننا الحالي. وبالمثل سيندر طبعاً أن تتاح لنا فرصة لإيجاد جندي روماني يُسخَّرنا ميلاً واحداً (مت 5: 41). ولكن في حالة كهذه، تبقى النقطة الجوهرية والتي قصدها الرب يسوع والمتعلقة بقصة الميل الثاني سارية المفعول على أي أمر أو حالة مشابهة.

وهنا يجدر بنا قول كلمة هامة وهي: بسبب ورود الكثير من وصايا المسيح في نطاق تفسير شريعة العهد القديم، ولأنها كانت تعني للكثيرين بأنها مثالية ومستحيلة التطبيق، فقد تم تقديم الكثير من الحيل التفسيرية بغية الالتفاف حول كون تلك الوصايا هي السلطة المعيارية للكنيسة. وهنا لا يمكننا وللأسف في هذا المقام أن نخصص حيزاً لدراسة ونقد تلك المحاولات المتنوعة.

  • القصص:
قصص المعجزات كانت ذات دور توضيحي حيوي لقوة الملكوت التي تفجرت من خلال خدمة الرب يسوع.

كان للقصص في الأناجيل أكثر من دور وهدف وطريقة. فقصص المعجزات، على سبيل المثال، لم تُدون من أجل غايات أدبية ولا من أجل تسجيل سابقة معينة؛ لكنها بالأحرى كانت ذات دور توضيحي حيوي لقوة الملكوت التي تفجرت من خلال خدمة الرب يسوع. فهي فعلاً قدمت شرحاً بطريقة غير مباشرة لماهية الإيمان، أو الخوف، أو الفشل. غير أن الأمور التعليمية لم تكن عمل القصص الرئيسي.

ومع ذلك فقصة مثل قصة الشاب الغني (مر 10: 17- 22 وما يوازيها) أو قصة طلب الجلوس عن يمين الرب يسوع (مر 10: 35- 45 وما يوازيها) قد وُضعتا في قالب تعليمي، حيث جاءتا كإيضاح لما يتم تعليمه. وهنا نرى أن استخدام مثل هذه القصص وبتلك الطريقة نفسها كان أمراً مناسباً وسلمياً من ناحية التفسير الحياتي.

وهكذا، فإن القصد من قصة الشاب الغني لم يكن قيام جميع تلاميذ الرب يسوع ببيع كل ممتلكاتهم كي يتبعوه؛ لأن هناك الكثير من الأمثلة في الأناجيل والتي تدل على استبعاد مثل هذا القصد (لو 5: 27- 30؛ 8: 3؛ مر 14: 3- 9).

في الحقيقة جاءت هذه القصة لتوضح مدى صعوبة دخول الأغنياء إلى ملكوت الله، وذلك لأنهم التزموا مسبقاً بمحبة المال في محاولة منهم لتأمين ولضمان مستقبل حياتهم. غير أن المسيح أراد أن يقول محبة الله المنعمة تستطيع أن تُجري المعجزات في الأغنياء أيضاً، ولعل قصة زكا العشار تصلح لأن تكون مثلاً على ذلك (لو 19: 1- 10).

صديقنا الدارس نكرر ما قلناه مسبقاً بأنك تستطيع أن تكشف أهمية التفسير الاستنتاجي السليم، وخاصة عندما نصل في تفسيرنا الاستنتاجي هذا إلى القصد الأساسي الذي هو ما عنته الأناجيل نفسها.

كلمة أخيرة غاية في الأهمية

هذه الكلمة الأخيرة يمكن أن تنطبق أيضاً على القرينة التاريخية ليسوع المسيح، ونحن إذ نوردها هنا فلأهميتها البالغة للمسألة التفسيرية الحياتية. خلاصة هذه الكلمة هي: لا يمكن لأحد أن يتجاسر على الظن بأنه يستطيع تفسير الأناجيل تفسيراً سليماً ما لم ينل فهماً واضحاً لمعنى ولمفهوم ملكوت الله الذي ورد وطرح في خدمة السيد المسيح. وفيما يلي سنورد موجزاً بسيطاً يحمل النقاط الرئيسية لهذا المفهوم وتأثيره على عملية التفسير.

أولاً عليك صديقي أن تدرك بأن الإطار اللاهوتي الأساسي للعهد الجديد بأسره هو إطار إسخاتولوجي. ما معنى إسخاتولوجي؟ معناه دراسة الأمور المتعلقة بوقت نهاية هذا الدهر. لقد كان لمعظم اليهود في زمن الرب يسوع تفكير إسخاتولوجي شامل، بمعنى أنهم كانوا يعتقدون بأنهم كانوا يعيشون في أواخر الأيام وعلى مقربة تامة من وقت دخول الله التاريخ فجلب نهاية هذا الدهر وتأسيس “الدهر الآتي”.

“إسخاتون” هي كلمة يونانية معناها (النهاية) التي كانوا ينتظرونها. وبالنسبة لهم، فإن الإنسان الذي يحمل في تفكيره فكراً إسخاتولوجياً هو ذلك الذي يتطلع إلى وقت النهاية.

الرجاء الإسخاتولوجي لليهود

الإسخاتون (النهاية)

هذا الدهر                                    الدهر الآتي

(عصر الشيطان)                          (عصر حُكم الله)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملامح “هذا الدهر”                      ملامح “الدهر الآتي”

الخطية                                     حضور الروح

المرض                                      البر

سكنى الأرواح الشريرة                 الصحة

انتصار الأشرار                             السلام

لقد ورث المسيحيون الأوائل هذه الطريقة الإسخاتولوجية في النظر إلى الحياة والتفكير فيها. فبالنسبة لهم، كانت أحداث مجيء الرب يسوع وموته وحياته وإعطائه الروح القدس لهم كلها أمور تتعلق بتوقعاتهم عن مجيء النهاية. وهنا يمكننا شرح هذا الأمر على النحو التالي:

كان مجيء النهاية معناه حلول بداية جديدة في نفس الوقت –والتي هي بداية عصر الله الجديد أو عصر المسيا– لقد أشير أيضاً إلى هذا العصر الجديد “بملكوت الله” أي عصر حكم الله. لقد كان من المفترض أن يكون هذا العصر الجديد زمناً للبر (مثلاً إش 11: 4- 5)، وأن يحيا الناس في سلام (مثلاً إش 2: 2- 4). كما أنه سيكون زمناً لكمال انسكاب الروح (يو 2: 28- 30)، وفيه سيتحقق العهد الجديد الذي تحدثعنه إرميا (إر 31: 31- 34؛ 32: 38- 40)، ولن يكون فيه موضع للخطية أو المرض (مثلاً زك 1: 13؛ إش 53: 5).

وأيضاً الخليقة غير العاقلة ستبتهج وستفرح وسيسودها السلام في هذا العهد الجديد (مثلاً إش 11: 6- 9).

وهنا نجد أنه عندما أعلن يوحنا المعمدان اقتراب مجيء النهاية ثم معموديته للمسيح، اضطرمت الحمية الإسخاتولوجية، لأنه قد جاء المسيا الذي كان منتظراً أن يجلب عصر الروح الجديد (لو 3: 7- 17).

نعم لقد جاء يسوع المسيح وأعلن من خلال خدمته عن اقتراب الملكوت الآتي (مثلاً مر 1: 14- 15؛ لو 17: 20- 21). ولقد أخرج الأرواح الشريرة وصنع المعجزات وقبل الخطاة والمنبوذين قبولاً بلا قيود. وكل هذه كانت بوادر بداية النهاية (مثلاً لو 11: 20؛ مت 11: 2- 6؛ لو 14: 21؛ 15: 1- 2). فلقد كان الجميع يراقبونه ليروا ما إذا كان هو فعلاً “الآتي” وما إذا كان سيجلب حقاً عصر المسيا بكل روعته وبهائه. وفجأة صُلب الرب يسوع– وانطفأت الأنوار!

لكن، لم تكن هذه هي نهاية القصة! لأنه كان قد ترتب أمر مجيد على موته إذ قام من الأموات في اليوم الثالث وظهر لكثيرين من أتباعه. فأيقن الناس وصدقوا عندئذ أنه “سيُرد المُلك لإسرائيل” (أع 1: 6). لكنه وبدلاً من ذلك عاد إلى الآب وسكب روح الموعد انسكاباً كاملاً.

وهنا وبكل صراحة وبالتحديد بدأت إساءة الفهم من جانب الكنيسة الآولى ومن جانبنا أيضاً. فلقد تحدَّث الرب يسوع فعلاً عن الملكوت الآتي باعتباره قد حل تماماً بمجيئه. وكان مجيء الروح القدس بالقوة والكمال وما صاحبه من آيات ومعجزات ومجيء العهد الجديد دليلاً على حلول الدهر الجديد.

لكن لم ينتهِ هذا الدهر الحالي على ما يبدو. فكيف إذاً بإمكان الكنيسة الآن أن توفق بين الأمرين؟

منذ وقت باكر جداً، وبالتحديد بداية من عظة بطرس الواردة في أعمال 3، أدركت الكنيسة أن الرب يسوع لم يأت ليجلب نهاية النهاية بل بدايتها. وعرف المؤمنون أنه بموت الرب يسوع وقيامته وبمجيء الروح، قد جاءتهم بالفعل البركات والفوائد المستقبلية. لذلك، فمن وجهة نظر معينة يمكن أن نقول بأن النهاية قد أتت بالفعل. إلا أنه من وجهة نظر أخرى، يمكننا أن نرى أن النهاية بكمالها لم تأتِ وتمامها حتى الآن. بمعنى أنها قد جاءت بالفعل، لكنها لم تكتمل بعد.

لأجل هذا السبب، نظر المؤمنون الأوائل إلى ذواتهم كأناس إسخاتولوجيين حقاً؛ لأنهم عاشوا في فترة انتقالية بين زمني ابتداء النهاية واكتمالها. وحول مائدة الرب، احتفلوا بوجودهم الإسخاتولوجي بإعلانهم موت الرب، إلى أن يعود(1كو 11: 26). لقد اختبروا بالفعل غفران الله المجاني والكامل، لكنهم لم يصبحوا كاملين بعد (في 3: 7- 14). وقد أصبح الموت ملكهم بالفعل (1كو 3: 22)، ولكنهم لم يصبحوا غير قابلين للموت بعد (في 3: 20- 22).

كانوا يعيشون بالروح بالفعل، لكنهم لم يسلموا بعد من هجمات الشيطان (مثلاً غل 5: 16- 26) إذ كانوا لا يزالوا يعيشون في العالم. وكانوا قد تبرروا بالفعل إذ لا تنتظرهم أية دينونة (رو 8: 1)، لكن وقوفهم أمام عرش المسيح لنوال استحقاق أعمالهم لم يكن قد حدث بعد (2كو 5: 10)، لقد كانوا شعب الله المستقبلي وكان مستقبلهم قد تحدد بالفعل. وقد أدركوا فوائده وعاشوا في ضوء قيمه، إلا أنهم توجب عليهم الحياة في العالم الحاضر وفقاً لمزايا مستقبلهم وقيمه. لقد بدا الإطار اللاهوتي الأساسي لفهم العهد الجديد كما يلي:

الرجاء الإسخاتولوجي

الإسخاتون (النهاية)

ابتداؤها                                 اكتمالها

هذا الدهر                              الدهر الآتي

ينقضي                                 لا نهاية له

الصليب والقيامة                     المجيء الثاني

تم بالفعل                             ليس بعد

بر                                       بر تام

سلام                                  سلام كامل

صحة                                   لا مرض ولا موت

روح                                    في كمال تام

يتمثل المدخل المؤدي إلى تفسير معظم العهد الجديد، وبخاصة خدمة الرب يسوع وتعليمه، في هذا النوع من التوتر. (بين ما تحقق بالفعل وما لم يتحقق بعد) فبالتحديد لأن الملكوت، أي زمن مُلك الله، قد ابتدأ فعلاً بمجيء الرب يسوع نفسه، فنحن إذاً مدعوون لأن نحيا في الملكوت، أي أن نحيا تحت ربوبية الرب يسوع، الذي قبلنا وغفر لنا مجاناً، على أن نلتزم بأخلاقيات الدهر الجديد، وأن نعمل على إظهارها في حياتنا وفي العالم في هذا الدهر الحاضر.

وهكذا، فنحن عندما نصلي قائلين: “ليأت ملكوتك” نصلي أولاً كي يتم الاكتمال. ولكن بما أن الملكوت الذي نتوق أن نحيا فيه قد ابتدأ فعلاً، فهذه الصلاة نفسها مليئة بالمعاني الضمنية التي تخص الوقت الحاضر.

خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية7

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !