أبحاث

مسألة التأويل في الكنيسة قديما

مسألة التأويل في الكنيسة قديما

مسألة التأويل في الكنيسة قديما

مسألة التأويل في الكنيسة قديما
مسألة التأويل في الكنيسة قديما

لقد أحاط الإنجيليّون (أي: الذين كتبوا في العهد الجديد) بشكل لا مفرّ منه بالقوى المحركة للتأويل، لكنّهم نادراً ما أثاروا مشكلة هذا العلم بشكل واعٍ، وتالياً فقد أثاروها بشكل غير مباشر عند تعاطيهم مع الاختلافات فقط. على سبيل المثال، تمييز الرسول بولس بين الحرف والروح (2كورنثوس 3: 6)، في قراءة العهد القديم هو تأمّل تفسيريّ بدائي. مع أنّه يرث هذا التمييز من خلفيّته اليهوديّة، إلا أنّه يطبّقه على طريقته. لكنّه لا يُدخل أي اعتبار نظريّ حول الأسس اللاهوتيّة والطرائق التفسيريّة.

أنه يعلن ببساطة أن غشاءً حاجباً للنظر يعيق اليهود غير المؤمنين عن الفهم الصحيح للتوراة، عائق ممكن إزاحته فقط بالإيمان بيسوع وبقوة الروح القدس (2كورنثوس 3: 14-18).  في الدعوة إلى إنهاء الناموس الموسويّ وبأنه لم يعد هناك لا يهوديّ ولا يونانيّ (غلاطية 3: 23-28)، يعرف بولس أيضاً أنّ عدداً من اليهود والمسيحيّين المعاصرين هم على اختلاف شديد (غلاطية 2: 4-5، 11-14، وأعمال 15: 1-2). يسعى بولس إلى إظهار ما يدعو إليه عبر التحليل والتفسير الكتابيّ (غلاطية 3: 6-29).

ولكن مفتاح تفسيره العشوائيّ يقوم إلى حدّ بعيد على خبرته الإيمانيّة مع المسيح (غلاطية 1: 11-17) كما أنّ أرضيّة تفسير دعوته تقوم على حقيقة جماعات الأمميّة. المعنى الرئيس في التفسير للحقيقة الكنسيّة أكثر ما يظهر بوضوح في مجمع الرسل (أعمال 15: 1-29). للحفاظ على الوحدة بين المسيحيّين من اليهود والأمم، أخذ الاجتماع في أورشليم ما يمكن مساواته بموقف تفسيريّ آنيّ من الناموس الموسويّ، مزيلاً حمل الالتزام عن المسيحيّين الذين من الأمم، وبّرر قراره بالقول “لقد ظهر حسناً للروح القدس ولنا” (أعمال 15: 28)[1].

تدريجيّاً، اكتسبت مسألة التأويل مستوى التأمّل الواعي في التقليد الآبائيّ. بسبب المجادلات العقائدية المستمرّة، التي تضمّن أغلبها تفسيراً كتابيّاً، طوّر آباء الكنيسة تمييزات معقدة في التأويل تتعلق بطبيعة الكتاب ودوره وتفسيره في الكنيسة، كما طوّروا طرائق ومبادئ تفسيريّة مناسبة[2].

في المجادلات مع اليهود والماركيونيّين حول العهد القديم كشاهد للمسيح، صاغ القدّيس يوستينوس الشهيد أوّل تقويم منهجيّ لوحدة الكتاب المقدّس، أي تصنيفه الثلاثيّ للعهد القديم كنبوءة وكناموس أخلاقيّ وكنظام تاريخي مؤقت لليهود[3]. يمثّل الأخير من هذه العناصر الثلاثة أوّل نسبة معلنة لسلطة الكتاب الموروثة من اليهود[4].

القديس إيريناوس، بعد قرن من يوستينوس، الذي يحمل شهادة واضحة لكنيسة مسيحيّة عالميّة وإنجيل مسيحيّ مؤلّف من العهدين القديم والجديد، وضع مبادئ لاهوتيّة مهمّة حول وحدة الكتاب المقدّس وتفسيره[5]. بالنسبة إلى إيريناوس، المسيح هو مبدأ التأويل المركزيّ في كلّ الكتاب. هذا المبدأ يثّبت وحدة الكتاب كما قابليّة الحياة لتفسير العهد القديم رمزيّاً. على المستوى عينه من الأهميّة، هو اللجوء إلى قانون الإيمان كمنظار تفسيريّ.

وهو أساساً لجوء إلى معنى الكنيسة العقائدي كأساس في التأويل جوهريّ جداً في التاريخ المسيحيّ. إنّ إنجازه الثابت هو الربط الواقعي بين الكتاب والكنيسة التي تشكل الإطار الموافق لتفسير الكتاب ككتاب مقدّس.

بلغ التفكير في التأويل إحدى ذراه في القرن الثالث مع أوريجنس العظيم الذي كان عالم لغة ومفسّراً وواعظاً ولاهوتياّ وفيلسوفاً[6]. كرجل كتاب وكنيسة، تأثر أوريجنس كثيراً بغنى المسيحيّة الكتابيّ ونجاحها التبشيريّ. وقد أنشأ رؤية منهجيّة للتربية المسيحيّة المتمحورة حول المسيح في استعماله أدوات زمانه الفكريّة وتوجهه إلى كلّ المفكرين. وقد رأى أوريجنس في المسيح مركز الكتاب المقدّس ومفتاح تفسيره.

ومع أنّه قد غالى في المجازيّة وبعض التأملات الوهميّة مما سمح لمفسّرين، قدامى وجدد، بالحطّ من قدره، وغالباً بطرائق غير عادلة وتنطوي على مفارقات تاريخيّة، إلا أن الكلّ مدينون له بشيء ما. لم ينجز أحد ما يوازي ما أنجزه في الدراسات النصيّة وتحقيق الشهادة الكتابيّة التفسيريّة.

قيمته في التأويل لا تكمن في مجرّد صياغته نظريّة مميّزة قائمة على الجسد والنفس والروح، كما يعتقد الكثير من المفكرّين، وهو لم يتبع هذه النظرية بشكل ثابت، إنّما بالتحديد في تجانس رؤيته التفسيريّة واللاهوتيّة التي دمجت طرائق الدراسة في ذلك العصر بسلطة الكتاب والكنيسة وتحدّيات زمانه. في إطار هذه الرؤية، أثبتت رؤية الأساس التاريخيّ للإعلان أنّه أداة فعّالة في تقديم الشهادة الكتابيّة بين المؤمنين والوثنيّين.

يرى يوحنّا باناغوبولوس أن أوريجنس هو مفكّر مخلص ولامع في تعاطيه مع تيارات التأويل المتفاعلة في اليهوديّة والمسيحيّة والهلينيّة. وهو يكتب هذه الكلمات المميّزة عن هذا الإسكندري العظيم: “كان أوريجنس ويبقى مؤسس التأويل الكتابيّ ورائده، النبع الذي لا ينضب للتفسير الكتابيّ الصحيح[7].

بعد أوريجنس، استمرّ تعقيد التأويل، شرقاً وغرباً، بالتطور وقد أربك آباء الكنيسة والهراطقة معاً حول صحّة التفسير الكتابيّ المناسب لفحواه. الآباء والمفسّرون أمثال ذيوذوروس الطرسوسيّ وثيوذودوس المبسويستيّ في التقليد الشرقيّ، وأوغسطين وإيرونيموس في التقليد الغربيّ، انشغلوا في شؤون محدّدة من المنهجية التفسيريّة والعبارات التقنيّة والترجمة وقوانين التفسير[8]. إحدى ثمار التأويل كانت صياغة معنى الكتاب الرباعيّ: الأدبيّ والمجازيّ والأخلاقيّ والأخرويّ، التي ظهرت أولاً عند يوحنا كاسيانوس [9]الذي كان شرقياً وغربياً.

نجد عند الآباء الكبادوكيّين سعياً فلسفياً واعياً في التأويل للحفاظ على توازن نقديّ بين الإيمان والعقل، وبين البعدين الاختباريّ والمنطقيّ للاهوت، بما فيها “الجهد للتسوية بين المعلومات اللاهوتيّة والفكر العلميّ في عصرهم[10]. من سمات التراث الآبائي التنوع الغنيّ في المنهجية والتفسير، لكنه تنوّع في إطار الوحدة الواسعة للعقيدة والحياة في الكنيسة.

من ناحية التأويل، الموضوع كان، ولم يزل، لا المنهجيّة أو تعدد التفاسير، إنّما العلاقة بين سلطة الكتاب وسلطة الكنيسة أي حسّ الكنيسة العقائدي فيما يتعلق بأمور التفسير المثيرة للانقسامات. كما أشرنا سابقاً، في الفترة المسيحيّة الكلاسيكيّة، كان الكتاب المقدّس والتقليد متوقفين أحدهما على الآخر ومؤيّدين أحدهما الآخر[11]. بحسب R. Geer، كان للكتاب المقدس المسيحي السلطة فقط حين قُرئ على ضوء قانون أيمان الكنيسة[12].

لكن النظرة إلى قانون الإيمان ورسالة الكتاب المركزيّة كانت على أنهما مترابطان صميمياً ومتماهيان. في العصور المسيحيّة الأولى، لم تكن هناك خطوط عريضة محدّدة للكتاب أو لقانون الإيمان. يلوح التقليد الرسوليّ، الشفويّ والمكتوب، حقلاً واسعاً. وكما يشير Geer، بمعنى ما كان لقانون الإيمان السلطة لأنه كان متجانساً مع رسالة الكتاب المركزيّة، وبمعنى آخر، قانون الإيمان الذي كان في مرحلة التطور هو من حدّد بشكل أساس مقبوليّة الكتابات المقدّسة، وهكذا خلق الإنجيل المسيحيّ.

ينبغي أن نشير بشكل أكثر وضوحاً من Geer على أن، عملياً، العامل الأساس في التأويل، في كلا الحالتين، كان تقليد الكنيسة الكبرى الحيّ والمستمر والقابل للامتداد وتمييزها العقائدي. هذا التقليد كان حتميّة تاريخيّة ولاهوتيّة بقدر ما كان تقليداً رسولياً، مع منحه أهميّته الأساسية، لم يكن ممكناً للتقليد من ذاته أن يُنقل ويحدّد بمعزل عن هويّة الجماعة المؤمنة الذاتية وقراراتها التفسيرية. على هذا الضوء، يمكننا أن نوافق مع نقطتي Geer العامتين والثابتتين في مناقشة التأويل الناشئة من تراث الآباء التفسيريّ. بكلمات Geer:

أولاً، لم تفتكر الكنيسة لغاية القرن الخامس بسلطة الكتاب المقدّس بمعزل عن علاقته بالتقليد اللاهوتي المعبّر عنه في دستور الإيمان أو بمعزل عن استعماله في العبادة المسيحيّة. لقد كان سلطة الكتاب المقدس مرتبطة بحياة الكنيسة. لم يكن التعامل مع الكتاب المقدّس والتقليد والعبادة يتم وكأنها اختياريّة للانطلاق إلى صياغة معنى الإيمان، ولا كان يُنظر إليها كسلطات اختيارية ممكن وضعها الواحدة إزاء الأخرى. ثانياً، معنى هذه المقاييس المتعلٌّقة بالسلطة في الإيمان والممارسة، كان يُنوى منه تثبيت وحدة الكنيسة وحدة لا تماثل فيها[13].

 

[1] According to the sketchy account in Acts, which no doubt omits a full exchange of views for and against the obligation of Law observance by Gentile Christians. The hermeneutical question is indirectly raised again and again in the Fourth Gospel Where the correct understanding of Christ and his ministry is frequently at the forefront, (e.g., Jn 6: 44-45; 7: 16-17; 12: 37-40; 16: 12-15).

Interestingly, the declarative mod of divine revelation in the Fourth Gospel is accompanied by references to the role of the Holy Spirit as hermeneutical stance of the Johannine community.

[2] انظر الفصل الرابع لنظرة الآباء للكتاب ومنهجيتهم التفسيرية والمراجع

[3] Dial, 44.2.

[4] Justin’s concern was to maintain the authority of the Old Testament as a Christian book, while allowing for partial relativization of its authority through acknowledgment that the ritual Law was temporary and no longer binding on Christians. What was implicit in St. Paul’s thought (Gal 3) becomes explicit in Justin’s.

See further Hans von Campenhausen, The Formation of the Christian Bible, Crans, bu J. A. Baker (Philadelphia. Fortress, 1972). Pp. 88-102, and Theodore Stylianopoulos, Justion Martyr and the Mosaic Law, (Missoula: Society of Biblical Literature, 1975), pp. 51-68 and 153-163.

[5] See J. L. Kugel and R. A. Greer, Early Biblical Interpretation, pp. 109-113; F. Sadowski, The Church Fathers on the Bible, pp. 27-44, and B. de Margerie, The Greek Fathers, pp. 51-77.

[6] A Recent Brief evaluation of this great but controversial figure is provided bu B.de Margerie, The Greek Fathers, pp. 95-116. For Origen’s texts in English translation see K. Frochlich, Biblical Interpretation in the Early Church, pp. 48-78; J. W. Trigg, Biblical Interpretation, pp. 71-115; and F. Sadowdki, The Church Fathers on the Bible, pp. 89-125.

[7] John Panagopoulos, ‘H ‘## Vol. 1, p. 280.

[8] K. Frochlich, Biblical Interpretation in the Early Church, pp. 82-132; J. W. Trigg, Biblical Interpretation. Pp. 163-295; and F. Sadowski, The Church Fathers on the Bible, 143-243.

[9] K. Froehlich, Biblical Interpretation in the Early Church, p. 28. The standard example was Jerusalem which literally is the Jewish city, allegorically die Church tropologically die soul, and anagogically the heavenly Jerusalem of die Kingdom, according to Cassian’s Conferences 14.8. SE&John Gwian: Confirmees, trans. Colm Luihheid (Mahwah: Paulics, 1985), p. 160.

[10] The Quoted statement is by J. Danielou, cited by B. de Margerie, The Greek Fathers, p.219. See further the extensive discussion by J. Pelikan, Christianity and Classical Culture, pp. 215-230. Entitled “Faith as the Fulfillment of Reason, “and more Recently J. A. McGuckin, “Perceiving Light from Light in Light” (Oration 31: 3): The Trinitarian Theology of Saint Gregory the Theologian,” (7077? 39 (1-2, 1994), pp. 32.

Philip Rousseau Basil of Caesarea, pp. 106-111 and 322-323, undersores Basil’s sensitivity toward clever dialectics against which the Cappadocian guarded by relying on a literal interpretation of authoritative Scripture and then accommodating all other Knowledge.

[11] See the discussion under “Scripture and Tradition” in Chapter two.

[12] Rowan A. Greer, “Biblical Authority in the Early Church,” ABD, Vol. 5.p. 1027.

[13] Ibid., pp. 1026-1027. Historical scholarship has gradually compelled many Protestants conservatives as well as liberals, to acknowledge the role of tradition in the canonization of Scripture, a rather significant issue in hermeneutics and ecclesiology.

For example. Gordon D. Fee, Gospel and Spirit, p. 17, writes: “What most evangelicals tend conveniently to ignore is that it was tradition in this sense that was responsible, under the guidance of the Spirit, for the canonization of the [scriptural] tradition”.

مسألة التأويل في الكنيسة قديما

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !