أبحاث

الكتاب الذي لم يكتب – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

الكتاب الذي لم يكتب - فرانك موريسون - من دحرج الحجر؟

الكتاب الذي لم يكتب – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

الكتاب الذي لم يكتب - فرانك موريسون - من دحرج الحجر؟
الكتاب الذي لم يكتب – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

الكتاب الذي لم يكتب – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

لا أخال كثرة الكتّاب إلاّ مقرّين إنهم أخفوا يوماً في خبايا مكاتبهم الخاصة المسودة الغشيمة الأولى لكتابٍ لم يُقدّر له أن يرى النور لسبب من الأسباب.

والزمن في أغلب الأحوال هو المعتدي الأثيم الغشوم الذي ألصق طابع الرفض على هذا الكتاب والذي يحدث عادة أن تُكتب هذه المسودة في ساعة من الحماس ووحي الخاطر السريع، ثم تُلقى جانباُ إلى أن يأتيها “الغد” وهيهات أن يجيء. فإن الكاهل يُبهَظ بمهمات عاجلة ومسؤوليات جسام، وتتسحب على هذه المسودّة عوامل النسيان والإهمال. وتمر السنون سراعاً، إلى أن يستيقظ الكاتب يوماً ليرى نفسه غير قادر على إخراج الكتاب المزعوم.

أما في الحالة التي أنا بسبيلها فالأمر على نقيض ذلك!

لم يكن في حالتي هذه أن الإلهام عجز عن أن يسعفني، أو أن الفراغ لم يتوفر لي. ولكن الإلهام حين جاء ساقني إلى اتخاذ خطة غير منتظرة، وانتهاج طريق غير التي كنت أنوي السير فيها. وكأنني أشبه إنساناً اعتزم أن يعبر غابة من طريق مألوف مطروق. فوجد نفسه فجأة في اتجاه لم يخطر له على بال. كان مدخله إلى الطريق عادياً، ولكن مخرجه أدّى به إلى غير ما أراد!

وليسمح لي القارئ أن أشرح في إيجاز ماذا أقصد من وراء هذا القول:

لما كنت شاباً يافعاً، شرعت في دراسة حياة المسيح درساً جدّياً. وقد فعلت ذلك وأنا شاعر شعوراً صريحاً أن تاريخه لم يقم على أسس ثابتة.

وإذا أنت رجعت بمخيلتك إلى الوراء، إلى مئة وخمسـين سـنة مضـت، ألفيتَ في الاتجاه الفكري السـائد تلك الفترة، ما يشـرح لك هذا الذي أقول. نعم، إن الرأي السـخيف السـقيم الذي أنكر حتى تاريخية يسوع كان قد قُضي عليه وأمسى لا يُقام له وزن. ولكن النقاد المدققين – خصوصاً الألمان منهم – كانوا قد أفلحوا في نشر آراء بين طوائف الطلبة تقول إن قصة حياته وموته التي تلقيناها لم تؤخذ من مصادر وثيقة. وإن إحدى البشائر الأربع لم تكن إلا رسالة جدلية رائعة كتبت بعد عصره بسنين طوال، وربما بعد انقضاء أجيال كثيرة من العصر الأول.

وقد أغرقت، شأن كثيرين من الشـبان أمثالي، في أشياء كثيرة، فلم تتهيأ لي الوسـائل لتمحيص هذه الآراء وتكوين حكم مستقل. وقد ساد عالم الفكر في ذلك العصر جو غريب تعرّضت فيه كل كلمة في بشائر الإنجيل إلى النقد الصريح، وتباينت الآراء وتطاحنت، فلم يكن ثمة سبيل للهرب من تأثير هذا الجّو.

على أن مظهراً آخر أثّر في نفسي تأثيراً عميقاً، ذلك أني كنت قد بدأت في دراسة العلوم الطبيعية. ولم يكن عسيراً على المرء في ذلك العصر أن يرى ما بين الفكر العلمي والعناصر المعجزية في الإنجيل من تباين وتناقض. وحتى الأشياء القليلة التي تركها النقاد دون أن يمسـوها. جاء العلم وحطّ من شأنها وخفض من قدرها.

وأنا شخصياً لم أقم وزناً لآراء الناقدين قدر ما أقمت رأي العلم في تقويض العناصر المعجزية. وخُيل إليَّ أن نقد الوثائق التاريخية قد يكون خاطئاً. ولكني اسـتبعدت جداً أن تخطئ نواميس الكون فتحطّم نفسها بنفسها على هذا النحو. ألم يقل العلاّمة “هكسلي” في عبارة صريحة إن “المعجزات لا تحدث”، بينما أنفق “ماثيو أرنولد” شطراً كبيراً من وقته محاولاً ابتكار مسيحية لا معجزة فيها، في إنجيله الشهير “التعقل العذب” Sweet Reasonableness.

وكنت أحمل في نفسي توقيراً عظيماً لشـخص يسوع المسيح نفسه، وتمثّلته أمامي شـكلاً خيالياً ومثلاً أعلى للطهر والرجولة النبيلة. وكنت أتألم شديد الألم إذا وجّه أحدهم إليه كلمة نابية أو عبارة جافة، أو أخذ اسمه أخذاً تهكمياً. ولسـت أدري إلى أي حدّ أحسـب في موقفي هذا خارجاً على المسيحية المحافظة على العقائد. على أن في قولي هذا تصريحاً صادقاً يعبر على الأقل عن إحساس شاب في تلك الأيام التي أخفت فيها الحذلقة السطحية الجوفاء الحقائق العميقة الثابتة الجاثمة وراءها.

حوالي هذا الزمن، رأيتني مسوقاً على أن أكتب–لا رغبة في النشر بل ابتغاء تهدئة عقلي الحائر – رسالة موجزة فيما حسبته أهم مظهر وأدق ناحية في حياة المسيح-وأعني بها السبعة أيام الأخيرة. وإن كنت قد تبينت فيما بعد أن الأيام التالية للصلب لها خطورتها وأهميتها. وكان العنوان الذي اخترته لرسالتي: “يسوع في المظهر الأخير”. واقتفيت في هذا أهر بحث تاريخي شهير عن نابليون بقلم اللورد روزبري.

وقد اخترت السبعة أيام الأخيرة من حياة يسوع لأسباب ثلاثة:

1 – خلت هذه الفترة من العناصر المعجزية التي كانت عندي موضع ريبة، لأسباب علمية.

2 – أفسح كُتّاب بشائر الإنجيل لهذه الفترة من حياته فراغاً كبيراً، وجاءت أقوالهم متفقة اتفاقاً يسترعي النظر.

3 – كانت محاكمة يسوع وموته حادثة تاريخية داوية تؤيدها بطريق غير مباشر كثير من الوقائع السياسية وسيل زاخر من المؤلفات التي دارت حولها.

وخيل إليّ أنه لو اســتطعت أن أتبين السـبب الذي مات من أجله هذا الإنسـان ميتة قاسـية على أيدي السلطات الرومانية، وكيف نظر هو إلى هذا الأمر الشنيع، وخاصة كيف سلك في تلك المحنة القاسية – ولو استطعت هذا، أكون شارفت على حلّ هذه المشكلة العاصية.

كان هذا غرضي من الكتاب الذي فكرت في إخراجه. أردت أن أعالج فيه المظهر الأخير من حياة يسوع، بما تخلله من مآسٍ سريعة التطور عميقة التأثير، وما حفلت به من وقائع التاريخ القديم الملابس لها، وما حفّها من لذة سيكولوجية بشرية قوية. أردت أن أجرد القصة مما أحاط بها من عقائد مبدئية ومزاعم تقليدية، لعلّي أتكشّف حقيقة ذلك الإنسان كما كان فعلاً.

ولست بحاجة أن أشرح في هذا المقام كيف أُتيحت لي الفرصة بعد هذا التاريخ بعشر سنوات لأدرس حياة المسـيح درسـاً وافيـاً كما كنـت أريـد، وكيف تـوفّرت على مصـادر روايـات الإنجيل وتمحيص الأدلة القوية، وكيف كونـتُ حكمي في المشـكلة التي قامت أمامي. وحسـبي أن أقول هنا أن هذا البحث قد أحـدث ثورة هائـلة في تفـكيري، انبثقت من هذا القصة العالمية القديمة أشياء كنت أظنها مستحيلة.

وتمكنَتْ من نفسـي، رويداً رويداً ولكن في جـزم ويقـين عقيدة راسخة أوحت أليّ أن مأساة تلك الأسابيع المأثورة في التاريخ البشري أغرب وأعمق مما نظن. والذي ملك عليّ عقلي ولبّي في أول ما رأيت من غرابة في كثير من حوادث هذه القصة المثيرة الأخاذة، ولم أفطن إلى المنطق القوي القاهر في معناها إلا بعد فترة من الزمن.

وسأحاول في الفصول التالية أن أشرح العوامل التي حالت بيني وبين تنفيذ المغامرة الأولى التي نويتُ، والصخور الخفيّة التي تحطمَت عليها هذه المغامرة. وكيف نزلت إلى شاطئ غير الذي كنت أعتزم النزول فيه.

(على من يريد تتبّع هذه الأدلة أن يرجع إلى الروايات المدونة في أسفار الإنجيل الكريم).

فصول كتاب من دحرج الحجر

الكتاب الذي لم يكتب – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !