أبحاث

حوادث قبل منتصف الليل يوم خميس العهد – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

حوادث قبل منتصف الليل يوم خميس العهد - فرانك موريسون - من دحرج الحجر؟

حوادث قبل منتصف الليل يوم خميس العهد – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

حوادث قبل منتصف الليل يوم خميس العهد - فرانك موريسون - من دحرج الحجر؟
حوادث قبل منتصف الليل يوم خميس العهد – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

حوادث قبل منتصف الليل يوم خميس العهد – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

 

قلت من قبل إن اعتبارات الزمن لعبت دوراً خاصاً حاسماً في تقرير الحوادث التي سبقت موت المسيح. فإذا أردنا الوصول إلى كنه المسألة وتتبع هذه الأدوار، تعين علينا أن ندرسها وعيوننا دائماً ترقب عقرب الساعة، لا سيما حينما نقترب من عنصرين هامين في القضية وهما المفاوضات التي قام بها زعماء اليهود مع يهوذا، ثم مباحثاتهم مع بيلاطس البنطي.

ويبدو لنا لأول وهلة أن كلا الرجلين قد لعب دوراً غريباً من المتعذر تأويله في حوادث الاثنتي عشرة ساعة التي اختتمت بها حياة يسوع على الأرض. فلنبدأ أولاً بقضية يهوذا:

وأول شيء يتحدى الفكر في أمر يهوذا هو اضطرار قيافا وصحابته إلى استخدامه والاستعانة به. ترى لماذا يظهر يهوذا في القصة فجأة؟ وما الذي كان في وسعه أن يقدم لرؤساء الكهنة مما كان عسـيراً عليهم أن يفعلوه بحـكم وظائفهم؟ بل ما الداعي إلى إنـفاق هذا المبلغ الضـئيل ثمناً للدم في سبيل الحصول على خدمته؟

هذه أسـئلة جوهرية، يتأثر بها فهـمنا لهذه القضية إلى حـدّ كبير. ومن السـخف أن نحسـب يهوذا مجرد مخبر عام تطوع لإرشاد السلطات إلى المخبأ الذي آوى إليه من كان له صديقاً من قبل. فإن يسوع لم يكن مختبئاً. ومنذ اللحظة التي وصل فيها إلى بيت عنيا عصر يوم الجمعة لم يفعل شيئاً لإخفاء حركاته فحضر حفلة عشـاء أُقيـمت تكريماً له في بيت سـمعان الأبرص إما مساء السبت أو مساء الثلاثاء. وانطلق إلى أورشـليم على مرأى القوم في ثـلاثة أيـام متوالية (الأحد والاثنين والثلاثاء) وكان يعود منها إلى بيت عنيا في مساء كل ليبيت هناك.

ومن السخرية أن نفترض أن زعماء اليهود جهلوا حركاته وانتقالاته بينما عرفت ذلك جماهير الشعب الذين أحاطوا به وزحموه في طرقات أورشليم في صباح يوم الأحد. وما من شك في أنهم عرفوا مقره جيداً، وكان هيناً عليهم أن يبعثوا رسلهم سراً وبسرعة إلى بيت عنيا لإلقاء القبض عليه في أي مساء من تلك الأمسـيات الأربعة العصـيبة. فلماذا لم يفعلوا هذا؟ وما الذي حملهم على انتظار معونة يهوذا؟

وقد جرت عادة الشرّاح أن يجيبوا عن هذه الأسئلة بما دونه الإنجيل بقولهم إن الخوف من الشعب هو الذي حملهم على هذا الموقف المحاذر. والظاهر أنه لي يفطن أحد إلى أن هذا التعليل هو نصف الحق، وأن النصف الآخر قد أخفي فلم يُذكر.

ولا يغرب عن البال أن البشائر كتبت من مواد جمعت في الأصل من الصحابة الذين كانوا على صلة وثيقة بيسوع، وأن يهوذا قد مات قبل أن يفشي السر الذي انطوت عليه جوانحه، وما كان من المحتمل أن يفشيه زعماء اليهود.

فإن قلنا أن مهمة يهوذا انحصرت في أخذه حرس مجلس السنهدريم إلى بقعة معزولة موحشـة حيث يتمكنون من القبض على يسـوع سـراً، بينما كان في وسـعهم أن يفعلوا ذلك قبل أن يسـتيقظ القـرويون من نـومهم، أو في أية بقعة أخرى تلائمهم في طريق جبل الزيتون في أي مساء عدا يوم الأربعاء، أو خلال هذا اليوم نفسه وهو معتكف في تلك الغابة الصغيرة الهادئة – أقول لو أننا أخذنا بهذا الرأي، لأضعنا كلية تلك العوامل النفسية الغامضة الدقيقة التي لعبت أدوارها في ذلك الموقف.

وأرجوا ألا يساء الظن بما أقول هنا، فإني آخر من ينكر أن الخوف من الشعب كان له أثر كبير في نفوس زعماء اليهود. وما درى أحد كيف كانت تتطور القضية وأي العواقب السياسية كانت تنشأ، لو أن الزعماء ألقوا القبض عنفاً وعلانية على شخص حسبه فريق كبير من الشعب المسيا الذي أعلنت عنه النبوات. كان الموقف كله شاذاً ليس له مثيل، دقيقاً حساساً. وقد فعل الزعماء فعلتهم وهم يصوبون أبصارهم إلى الرأي العام الذي حسبوا له كل حساب.

على أن الخوف من الشعب لا يعلل لنا بعض الأشياء الغريبة التي أحاطت بهذه القضية، فإن شيئاً ما قاله يهوذا لرؤساء الكهنة حملهم على تعجل الحوادث في اللحظة الأخيرة. والاسراع في تنفيذ نيتهم في وقت تعوزه كل المسوغات القانونية والرسمية. إن شيئاً قد حملهم على أن يبعثوا إلى إنسان أعزل في بستان موحش معزول بقوة مدججة بالسلاح تعززها الاحتياطات المحكمة، مما يدعو إلى التفكير والتساؤل:

ترى ما معنى كل هذا؟ إني لعلى يقين أن وراء الخوف الظاهري المعترف به من الشعب، خوفاً آخر أشد وأعمق – خوفاً يعلل كل ترددهم وتذبذبهم، حتى بلغت أسماعهم المذهولة رسالة رحّبوا بها أيما ترحاب – وأعني بذلك الخوف من المسيح نفسه.

وخشية أن تقع هذه الفكرة على الآذان موقع الدهشة والغرابة، لنلق نظرة على الحقائق. ولا يسعنا أن نضع شيوخ اليهود بمعزل عن القيود العقلية والخرافات التي شاعت في عصرهم. كما أننا لا ننـكر أن شــهرة يســوع كانت قد ذاعـت بين الناس، وعـلا اسـمه بين القـوم وسـمت شخصيته، وتناقلت الألسن قصص معجزاته في إعادة البصر للعميان وإبراء المشلولين. وانثالت هذه الأنباء على أورشليم من كل أجزاء البلاد، وسلّم بها الناس حتى في الأوساط العليا. ويخيل إلينا أن مُعاصريه لم يرتابوا في أن لديه بعض القوى الخارقة التي لم يألفوها في جيلهم.

ولا يسع كل قارئ منصف لبشائر الإنجيل – لا سيما الفصول الختامية – إلا أن يرى هالة من الغمـوض الشـديد قد انعقدت حول شخص يسـوع، وكـان لها أثـرها في التدابير التي حـاول الزعماء حبكها للإيقاع به. وأيقنوا طيلة الوقت أنهم أمام قوة غامضة غير معروفة لا بد لهم أن يحسبوا حسابها في تنفيذ مآربهم. وأنت تراهم في خلال الأيام الأربعة العصيبة التي سبقت القبض عليه – حينما كان في وُسع يسوع، لو أراد، أن يثير عجاج الفوضى والاضطراب في المدينة – يتصـرفون كأنـهم فرائس لخـوف خفي يخشون حـدثاً خطيراً. وإنك لا ترى منهم ذلك العـمل العاجل الحاسـم، وهو ما كنا ننتظره من قوم يملكون زمام السلطة في موقف خطير.

بل على نقيض ذلك ترى تردداً وتذبذباً في تصرفاتهم وأعمالهم. وحتى بعد ذلك التصريح الرهيب القاصم لظـهورهم الذي ألقاه يسوع في الهيـكل يـوم الثلاثاء. نـراهم يتـركونه ليكـون هو البـادئ في تحديهم. ومن الحقائق البارزة في هذه القصة أن المسيح ظل مسيطراً على الموقف كله إلى النهاية.

وإني أخشى شخصياً أن أولئك الناس كانوا في تصرفهم مع يسوع يخشون شيئاً لم يعرفوا ما هو. وأخالهم قد خشوا أن تتدخل قوة غريبة فتأخذه من بين أيديهم، فيعجزوا في آخر الأمر عن إلقاء القبض عليه. ومما يقّوي أثر هذا الاعتقاد في نفسي ذلك المسلك الغريب الذي بدا منهم في أمر يهوذا.

ويتضح جلياً أن عائقاً ما قد حال بينهم وبين القبض عليه في خلال ذلك الأسبوع، وراحوا يؤجلون ويسّوفون نظراً للصعوبات التي أحاطت بهم، إلى أن حانت الساعة الحادية عشرة من ليلة يوم الجمعة. والظاهر أن لقاءهم بيهوذا قد هّون عليهم الأمر.

وقد قيل في هذا:

“وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُـوا، وَوَعَـدُوهُ أَنْ يُعْـطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْـلُبُ كَيْـفَ يُسَـلـِّمُهُ فِي فُرْصَـةٍ مُـوافِقَةٍ.” (مرقص 14: 11).

ولو تتبعنا سير الحوادث كما دُونت في البشائر، لرأينا ان هذه المقابلة تمّت على أقرب تقدير يوم الثلاثاء بعد حفلة العشـاء في بيت ســمعان الأبرص. ومع ذلك لم يتمـكنوا من القيـام بأية حركة، ولم يتبدل ترددهم عزماً إلا في يوم الخميس ليلاً، لما أسرع يهوذا من العلية إلى نقل الأنباء إليهم. عند ذلك قاموا بعملهم العاجل الحاسم.

وهنا يلعب الزمن دوره الخطير. فلو كان القبض على يسوع قد تمّ بعد وصوله إلى بستان جثسيماني بزمن قليل، لجاز لنا القول إن مهمة يهوذا اقتصرت على نقل الأنباء إلى السلطات وإخبارهم عن المكان الذي سيكون فيه يوم الخميس ليلاً، ثم مصاحبة المأمورين بالقبض عليه ليدلّهم على شخصيته. ولو افترضنا شيئاً من هذا، لجاز لنا القول أيضاً إن زعماء اليهود دبروا مكيدتهم للقبض على يسوع في مساء اليوم الأخير قبل عيد الفصح ليضيعوا على الشعب كل فرصة في الهياج أو الاضطراب.

ولو أن هذا التعليل يبدو لأول وهلة سائغاً مقبولاً، فإنه لا يقوى على الثبات طويلاً أمام مجهر الفحص والاستقرار، فإن الحقائق كلها تشير إلى ان الأمر اتخذ اتجاهاً غير هذا. ولنفترض أن التفاهم بين يهوذا ورؤساء الكهنة قد تمّ على هذا النحو:

“نحن قد اعتزمنا القبض عليه يوم الخميس ليلاً، فابق معه حتى تـثق تماماً من كل حـركاته، ثم تعال سريعاً وأخبرنا، وعلينا بقية الأمر.

أقول لو أن اتفاقاً مثل هذا تمّ بين يهوذا ورؤساء الكهنة، لترتّب عليه أن يكون أولئك على أتم

 

استعداد للقبض على يسوع في غير إبطاء، وأن يكون حرس الهيكل على أتم أُهبة لتعبئة القوة والتقدم عاجلاً بعد تلقي الرسالة بدقائق معدودات.

فهل سارت الأمور هذا المسرى؟ يقيناً لم يـكن الأمر كذلك. فإن بضع سـاعات مضت بين الزمن الذي انسحب فيه يهوذا من العلية التي تناولوا فيها العشاء وبين وصول العسكر المدجج بالسلاح إلى بستان جثسيماني. فما التعليل التاريخي لهذا الإبطاء؟ تأمل الموقف ملياً وانظر إلى غرابته، لأنه حافل بالأشياء الغريبة حقاً التي لا يمكن تعليلها بغير ذلك.

فأول كل شيء، وقبـل كـل شيء، أمامنا إبطـاء في الزمن يقرب من الثـلاث سـاعات بين خروج يهوذا من وسط العشاء في العلية وبين وصول الحرس إلى بسـتان جثسيماني. ولا يمكن أن يكون الزمن الفاصل بين الحادثتين أقل مما قدّرنا. بدليل الحوادث التاريخية التي تخللته. ولقد ألمحت من قبل في الفصل الثاني إلى طول الزمن الذي قضاه المسيح في البستان مستدلاً بإيقاظه التلاميذ ثلاث مرات متوالية.

ومغالبة النعاس لذلك النفر من صحابته هو في حدّ ذاته دليل على أن الساعة كانت متأخرة، وهم لا بد أن يكونوا قد صارعوا النوم طويلاً قبل أن يدركهم التعب رغبة منهم في اليقظة ومشاطرة سيدهم ما قد يدهمه من الأخطار في تلك الليلة. ولسنا ندري كم من الزمن غالبوا تجربة النعاس.

على أنه لا يمكن أن يكون بين اليقظة والأخرى أقل من نصف ساعة. ولو أضفنا هذا الزمن إلى ما استغرقته مسافة الطريق من العلية إلى البستان، وهو على الأقل نصف ساعة، لتوافرت لـدينا من الزمن سـاعتان. وإلى هذا نضـيف أيضاً الزمن الذي استغرقه الحديث بعد خروج يهوذا من العلية، ثم الزمن الذي استغرقته الصلوات الليلية قبل أن تبدأ الجماعة سيرها في الطريق المؤدي إلى باب المدينة.

وإذا جلس المرء في بقعة هادئة، في ساعة الغسق، وانصرف إلى قراءة هذه القصة، وتأملها ملـياً فإنه لا شـك يُدهش حـين يشـع عليـه نور صـدقها. بل إنه يجـد عـدا ذلك أن الـزمن الذي نحدده أقل مما يجب أن يكون، وهو مضطر أن يذهب في التقدير إلى أبعد مما ذهبنا، فإننا لا نتصور مثلاً أن يُغرق التلاميذ على التّو في النعاس بمجرد وصولهم إلى البستان، وهم يعلمون أن أحداثاً خطيرة يخبئها المستقبل.

ولم نعهد الطبائع البشرية على هذا النحو من الجمود والاستكانة. ولا ريب أن فتـرة طويلة تقضّـت في التهامس والتخمـينات والرجم بالغيب وتبادل الظنون والأقاويل. ولا ريب أن فترة أخرى تقضت في الترقب الحائر والاندهاش الذاهل، حتى ثقلت جفونهم واحداً بعد واحد من فرط الإعياء الذهني والنفسي، واستسلموا للنوم.

ولا بد لنا من تعليل لهذه الفترة الطويلـة التي بلغ مـداها ثلاث ساعات، في مأساة خطيرة متشابكة الحوادث كهذه. ولــزام علينا أن نعرف ما الـذي كان يفعله يهوذا طيلة هذه المدة، ولا سيما لماذا عرف يهوذا الموضع الذي كان فيه يسوع حينما تقرر أخيراً قيام الجند للقبض عليه. وعندنا أن هذا الأمر من الوقائع الهامة في المـوقف الذي نحن بصـدده. ومتى عرفنا تعليله، استطعنا أن نقبض بأيدينا على مفتاح أغرب قصة في التاريخ.

والذي نلاحظه مبدئياً في فحص تفاصيل الرواية المدونة في الإنجيل، أن الرسالة التي حملها يهوذا لم تجد زعماء اليهود على أُهبة العمل الحازم. وأنا شخصياً لا أقدر أن أتملص من هذا الاعتقاد الذي يزداد في نفسي تعمقاً كلما أوغلـت في دراسة القصة. ولو أن اليهـود كـانوا قد وضعوا خطة مدبرة لتأجيل القبض على يسوع إلى ساعة متأخرة من يوم الخميس، ثم تنفيذ هذه الخطة بغض النظر عما يترتب عليها من العواقب. لكان هناك شيء من التأهب وحسن التنظيم لتنفيذ الخطة في ساعتها المعينة. فأولئك القوم ما كانوا يعرفون أين يقبضون على المتهم ولعلهم فكـروا أنه لا بد لهم مـن الذهـاب إلى بيـت عنيا.

وما من شـك في ان هـذه الاحتـمالات كلـها نشطت في أذهانهم، فمن ذا الذي كان يتنبأ أن هذا “المجرم الهارب” في نظرهم ينتظر لهم في بستان على مقربة من معسكرهم العام؟ ولم كانت هناك خطة مدبرة لوقعت النقمة سراعاً على رأس يسوع بمجرد أن تلقت السلطات اليهودية النبأ السري، وذلك بعد بضع دقائق من خروج يهوذا عن مائدة العشاء بقصد إخبار السلطات.

ولكن بدلاً من هذا التنفيذ العاجل لخطة حازمة مدبرة، نرى تراخياً يمتد إلى ساعات، وهو تباطؤ كان من المحتمل أن يصـيب خطتهم بفشل ذريـع. ولم كان المتهم الذي يتعـقبونه متهـماً عادياً أو مجرماً على طراز سائر المجرمين لولّى هارباً وفشلت خطتهم.

وكلما دققنا في دراسة الحقـائق التي تتـألف منها هذه القصة، ازددنا اعتقاداً بأن زيـارة يهوذا

لرؤساء اليهود في تلك الليلة، فضلاً عن أنها لم تكن متوقعة، قد وضعت المشكلة أمامهم وضعاً جديداً على نور جديد. وكان لا بد لهم من بعض الوقت للتشاور واتخاذ قرارات خطيرة ووضع الخطط الحازمة. ولما انطلقت الحملة إلى جثسيماني، فعلت ذلك سراعاً بعد انقضاء الزمن الذي كان لازماً لهذا التشاور والقـرارات العـاجلة. وأعتقد اعتـقاداً جازماً أن هذا هو التـأويل الذي تحتمله قصة الإنجيل.

وهناك عاملان تاريخيان في هذا الموقف يعللان لنا هذا التباطؤ. وهما عـاملان يتداخل أحدهما في الآخر: الأول أن النبأ الذي حمله يهوذا من العلية قد تضمن بعض المعلومات الجديدة الغريبة التي أزالت شكوك الرؤساء وترددهم. والثاني أن المسيح نفسه كان يتحداهم بهذا التصرف لإلقاء القبض عليه.

ومهما تكن ألفاظ الحديث ونصوصه الذي دار بين يهوذا ورؤساء اليهود، فلا شك أنه كان في شيء من هذا المعنى:

“وهو يفكر في الموت ويتحدث عنه. وهو الآن ذاهب إلى البسـتان عند سفح جبل الزيتون ويبقى هناك حتى أوافيه. فهيئوا أمركم على عجل وأنا سآخذكم إليه”.

ولا مهرب لنا من الأخذ بهذا الاستنتاج، الذي تـؤيده كل التأييد الشـهادة الصامـتة التي نراها في مسلك الممثلين الرئيسيين في هذه المأسـاة التاريخية. وتفاصـيل القصـة تمكّـن البـاحث من تعقب خُـطى الطـرفين فـيها: فنـحن نـعلم أن يهـوذا قـاد الحـملة المـأمــورة بالقبـض إلى بسـتان جثيسماني دون أن يخطئ الطريق على الرغم من الظلمة في هذه السـاعة المتأخرة من الليل. ونعلم أيضاً أن يسوع انتظر في ذلك البستان على الرغم من ملال صحابته. والظاهر أنه كان متأهباً لأن ينتظر هناك حتى مطلع الفجر.

ولسنا نقدر على تـأويل موقف كهذا، دون أن نسـتـنتج شيئاً ما، أدعوه “تفـاهماً” من قبـيل التجاوز في التعبير، لأن اللغة لا تسعفني بكلمة خاصة أدلُّ بها على هذا الموقف. ولا يذهبنّ أحد إلى الظن أني أردت القول إنه كان ميثاق بين يسوع وبين مسلّمه. كلا. لا أذهب إلى شيء من هذا. فقد كان يسوع أستاذاً في علم النفس، فنفـّذ عزمه على تسـليم نفسـه إلى المـدعين عليه في تلك الليلة بأساليب دقيقة خفية بلغت منتهى الدقة والخفاء.

ولـما خرج يهوذا من العلـية للقيـام برسالة بريئة في ظاهرها، عرف عن يقين أمرين: عرف أن يسوع ذاهب إلى بستان جثسيماني وعرف أيضاً أن روحه آخذه في الجنوح نحو الصليب. وكان في تينك الحقيقتين الخطرتين، مجتمعتين معاً، فرصته الكبرة، وكان فيهما أيضاً تجربته الكبرى. وقد عرف يهوذا بدهائه ومكره أن هذا أفضل نبأ يمكن أن يحمله إلى سادته اليهود. فالعائق قـد أمحى، ويسـوع لم يكـن متـأهباً تلك الليلة على الأقل لإبداء أية مقاومة لأن مزاجه وقتئذٍ كان أميل إلى الاستسلام والخضوع، فلم يبقَ إلى الحزم والسرعة في تنفيذ مآربهم.

وقراءة يوحنا 13: 13 و28 و29 تزيد في رجحان الصدق في هذه القصة، فالاتفاق على اللقاء في جثسيماني ربما دبرته طبائع الأشياء وسياق الحوادث. والظاهر أن يهوذا كان مكلفاً بأداء بعض المهام لصحابة المسيح. فاضطر إلى التغيب عنهم بعض الوقت. وكان من الطبيعي أن يتم الاتفاق على اللقاء في مكان معين قبل رجوعهم كعادتهم في ذلك الأسبوع إلى بيت عنيا.

وكان بستان جثسيماني مكاناً لائقاً لموعد اللقاء، لأنه يقع في المثلث القائم بين الطريقين الرئيسيين على أكتاف جبل الزيتون إلى تلك الضاحية الصغيرة. ويؤدي ذانك الطريقان الجبليان، علاوة على الطريق الرئيسي المتاخم للبستان، إلى بيت عنيا.

والأرجح أن يهوذا أسرع إلى دار رئيس الكهنة وعقله متشبع بهذه الفكرة الجديدة. أما المهمة الخاصة التي انتدبته الجماعة لإدائها فكانت تحتمل التأجيل. ورأي الفرصة سانحة لتنفيذ الخطة في غير إبطاء.

تُرى ماذا كان تأثير هذا النبأ في قيافا وفي الصدوقيين القلائل الذين كان همهم الأكبر القضاء على يسوع؟ من حُسن الحظ أنه من الميسور الإجابة على هذا السؤال في شيء من الدقة، لأن أمرين جوهريين في الموقف تغلبّا على كل اعتبار آخر في سياسة القوم:

الأول: أنه كـان من أفـدح النكـبات لسمعتهم ومصـلحتهم أن يبـدأوا محـاولة فـاشـلة للقبـض على يسوع في ذلك المكان. فإنه لو فشلت محاولتهم لعوامل خارقة للطبيعة، لكان الخطب فادحاً لا يمكن مداواته.

والثاني: أنه كان من الخطر عليهم أن يقبضوا على يسوع ثم يضطرون إلى تأجيل محاكمته مدة السبعة الأيام التي قررها عيد الفصح. ولم يكن في وسعهم الاعتداء على هذا التقليد بأي حال من الأحوال. وكانـت أورشليم في أيام الفصـح بسـبب ازدحـامها بـالغـرباء والـزائرين، تتهـيج لأقل الأشياء وتعمد إلى الثورة والاضطراب لأتفه الأسباب. وربما كان لهم أن يركنوا إلى الذهول المؤقت الذي يطرأ على الرأي العام على أثر حادثة خطيرة كالقبض على يسوع، ولكن لا يلبث أن يعقب ذلك ردّ الفعل بعد بضع ساعات.

إلى قوم يجابهون هاتين المشكلتين، جاء يهوذا الإسخريوطي في سـاعة متـأخرة من ليلة الخميس بنبأ خطير أصلح موقفهم إزاء هذه المشكلة، وزاج صعوباتها عشرة أضعاف. قد أصلح موقفهم لأنه أكّد لهم إمكان القبض عليه، ولكنه زاد صعوباتهم لأنه حمل النبأ في ساعة متأخرة، وكان عليهم أن يواجهوا أمر القبض بما انطـوى عليه من أخطار قد يكون فيها القضاء على سمعتهم وكرامتهم وكيانهم في الشعب.

ولعلّ السؤال العملي الذي طُرح أمامهم للبحث هو هذا: “أفي وسعنا أن نقوم بكل أدوار الإجراءات والتنفيذ التـي يتطلبها الموقـف، بحـيث نضـمن تـنفيذ حكـم الإعـدام فيه قبل مغيب شمس الغد؟”. وكان الجـواب على هذا السـؤال معـقداً له خطـورته وخطـره، ولـيس من الهين البتّ فيه.

ولسـت أعتـقد أن سـؤالاً كهذا يمـكن الإجابة عليه فوراً حتى من رئيس الكهنة نفسه، وهو متذرع بالحكمة العالمية والاختبار الطويل اللذين ورثهما عن حميه حنان. وكان لزاماً عليه أن يتشاور على الأقل مع زعماء الأحزاب المختلفة التي تألف منها مجلس السنهدريم. وكان الموقف فريداً من نوعه لم يسبق له مثيل. والفشل في تنقيذ الإجراءات كلها حتى نهايتها منطوٍ على أوخم العواقب وأخطرها.

فإلى جانب الإجراءات نرى أن بعضاً من هذه الثلاث الساعات قد انقض في المشـاورات العاجلة والتنقلات السريعة جيئة وذهاباً بين الجلسة التنفيذية في دار رئيس الكهنة وبين زعماء الفكر اليهودي الذين لم يكن بد من استشارتهم لضمان تعضيدهم والاستناد إليهم في مجلس السنهدريم. هذا كله مكـتوب بإيضـاح بين ثـنايا سطور القصـة. فهل كان هناك شيء آخر غير هذا؟ أنا شخصياً أقول نعم!

فمهما حاولنا من تعليل للحوادث التـي أدت للقبـض على يسوع. لا بـد أن مخـابرة قد جرت بين زعماء اليهود وبين بيلاطس البنطي الوالي الروماني، قبل إصدار الأمر بالقبض فعلاً. وأنه ليصعب علينا جداً، بما نعهده في أخلاق بيلاطس وفي طبيعة الاحتلال الروماني، أن يسلم بأن قضية خطيرة كهذه تُـعرض فجأة على بيـلاطس في صـباح الجـمعة، بدون سابق علمه، وقبل التأكد من استعداده للنظر فيها.

وليس من العسير أن نعلل صمت كُتاب الأناجيل الأربعة في هذا المقام وعدم تعرّضهم لذكر شيء من هذا، لأنهم كانوا يكتبون من وجهة نظرهم هم، أي من وجهة نظر الأفراد القلائل الذين صحبوا يسوع. فكل اتفاق بين بيلاطس وبين زعماء اليهود لا يصل إلى علمهم. أما حين نضع أنفسنا في موقف رؤساء الكهنة فإنا نراه جوهرياً جداً لهم أن يضمنوا، ولو في ساعة متأخرة من الليل، رضاء الوالي الروماني وتعاونه معهم.

وإذا أحسّ أحد أن قصة الإنجيل الكريم لا تحمل بين تضاعيفها شيئاً من هذا المعنى، فإنـي أشير عليه أن يتأمل ملياً في حالة صغيرة الشأن، ولكنها كبيرة القـدر: من الأحـاديث المسـندة القوية في المؤلفات المسيحية الأولى (ويؤيدها طبعاً بيان البشير يوحنا المفصل عن المحاكمة الرومانية) أن بيلاطس عدل عن العادة المألوفة في مثل هذا الأحوال، وتقدم هو نفسه إلى اليهود وذلك إرضاء لتقاليدهم الطقسـية التـي قضـت عليـهم بعـدم دخـول فنـاء الغـريب في ذلك اليوم. وكانت علّة تمنّعهم عن هذا الدخول أن الوقت لم يعد يسمح بالتطهير الواجـب قبـيل الفصـح.

ومعنى هذا البيان التاريخي أنه لولا أن قضية يسوع عاجلة وخطيرة، لما عقد بيلاطس مجلس الحكم في ذلك اليوم، فإنه من السخف في سير الحـوادث العـادية، أن يُعـقد مجلـس الأحـكام القضائية في يوم تقضي طبيعة الأشياء أن يتغيّب فيه كبار الموظفين والشهود. وكون بيلاطس لم يجلس على منصته في ذلك اليوم، ويتقدم بلا تردد ظاهر لسماع القضية في الفناء خارج دار الولاية – يدلُّ على أن بينه وبين الزعماء تفاهماً من نوع ما.

ومن ثمّ نرى أنفسنا مسوقين إلى الزعم – حين نحاول تفهّم أفكار رؤساء الكهنة، ودراسة المشكلة المعقدة التي كان عليهم أن يحلّوها في قصير من الزمن – أنه لم يكن بدّ من تفاهم بينهم وبين بيلاطس الوالي الروماني. وها هم قد تلقّوا فجأة الفرصة سانحة للقبض على يسوع في ظروف موآتية. وكان الوقت ليلاً، والشعب منهمكاً في إعداد معدات الفصح. ثم أن المتهم نفسه على شيء من الاستعداد، يهّون عليهم بعوامل غامضة خفية تنفـيذ تـدابيرهم. فـمن الوجـهة السياسية المحضة كان السبيل صافياً أمامهم، والباب الذي توقعوا أن يفتـحوه عنـوة وقسـراً قد انفتح على مصراعيه في غير عناء.

ومن الجهة الأخرى كانت الصعوبات القانونية هائلة – فدعوة المحكمة إلى الانعقاد في هزيع الليل، واستجماع الشهود لإقامة الدعوى، وانعقاد السنهدريم في جلسة كاملة في صبـاح الغـد – كل هذه استدعت تفكيراً جباراً وتنظيماً عاجلاً. نعم كان عليهم أن يتركوا كثيراً من الحوادث لأحكام الصدف، على رجاء أن تسير الأحوال وفق البرنامج على قدر المستطاع.

ولم يكن بدّ مع هذا أن توضع تفاصيل هذا البرنامج قبل إطلاق السهم الذي كان يتوقف عليه مصيرهم – وحتى بعد إعداد الإجراءات الأولية – كتدبير أمر القبض عليه، وانعقاد جلسة منتصف الليل لاستجماع أدلة الإتهام وعناصر إثباتها، وجلسة السنهدريم في الصباح الباكر للتصديق على هذه الإجراءات- حتى بعد كل هذا بقي أمر خطير لا مناص من مجابهته. أفي وسعهم إقناع الوالي الروماني للتمكن من تنفيذ حكم الإعدام قبل حلول العيد؟ أيرضى بيلاطس أن ينظر في القضية بالظروف والملابسات التي يفرضونها على هذا النحو؟ أتراه يلحّ على إجراء محاكمة كاملة، أم يكتفي بالتصديق على قرار أصدرته محاكمتهم الخاصة؟

كل هذه مسائل يجب تسويتها بالطرق الرسـمية كإجـراءات إداريـة عادية. وقضى القانون بإعداد جدول خاص لمحاكمة المتهمين اليهود الذين تدعو الحال إلى نظر قضاياهم أمام محكمة الوالي الروماني. ولا بد من الحصول على موافقة بيلاطس الشخصية ورضائه قبل إعداد هذا الجدول.

والسرعة التي يعملون بها الآن في هذه القضية بالذات تحول دون الأخذ بهذه الطرق الرسمية

 

الإدارية، فالساعة متأخرة والليل قد انتصف أو كاد، فلا محيص من عمل تدبير احتياطي مؤقت والاتفاق مع الوالي على نظر القضية في بكور الصباح التالي.

ولم يكن في أورشليم كلها غير إنسان واحد يجرؤ بحكم وظيفته على مقابلة بيلاطس في ساعة من الليل مخصصة لراحته والاستمتاع بلذاته. وذلك الإنسان هو قيافا رئيس الكهنة. والأرجح أنه هو الذي قام بهذه المهمة. فهو دون سواه، يستطيع أن يدلي، بحكم مـركزه السـامي وسـلطته الرسمية، بالأسباب التي تؤيد هذه المحاكمة.

وقد يبدو لنا شأناً تافهاً أن يكون الرئيس الأسمى للأمة اليهودية قد زار بيلاطس في ساعة متأخرة من الليلة الليلاء أم لم يزره. ولكن إذا كانت الأمور قد سارت في المسرى الذي سنبحثه في الفصل التالي، فإنه سيكون لهذه الزيارة التي لم يدونها الإنجيل شأن خطير في تعليل بعض الحوادث الغامضة علينا. وأقصد بذلك مسلك بيلاطس الغريب في اليوم التـالي في السـاعات الرهيبة العصيبة التي تقرر فيها مصير المسيح.

فصول كتاب من دحرج الحجر

حوادث قبل منتصف الليل يوم خميس العهد – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !