أبحاث

تواز نفسي في القوى – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تواز نفسي في القوى - فرانك موريسون - من دحرج الحجر؟

تواز نفسي في القوى – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تواز نفسي في القوى - فرانك موريسون - من دحرج الحجر؟
تواز نفسي في القوى – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تواز نفسي في القوى – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

يخطئ كل من يزعم أنه يواجه أمراً هيناً عند بحث محاكمة يسوع الناصري أمام بيلاطس الوالي الروماني. فإن الأمر غامض دقيق. ولا نرى في ظاهره إلا المياه الهادئة تجري في هدوء وسكون، ولكن هذا السكون يخفي تحته تيارات عميقة متدافعة، مما يجعل هذه القضية من أعمق البحوث النفسية وأكثرها لذة وإمتاعاً في تاريخ المحاكمات كله. ونحن لا نتخلص من الأسرار التي أحاطت بالمسيح حين نجيء به إلى ساحة القضاء الرومانية، بل إنّا نزيدها عشرة أضعاف.

والشيء الغريب حقاً في هذه القصة الذي لم يكشف عنه الرواة، لا نجده في مسلك اليهود ولا في مسلك المتهم نفسه، بل في مسلك بيلاطس. وأذكر أني قرأت الروايات التي كتبها البشيرون الأربعة جنياً إلى جنب. قرأتها لا مرة بل مرات، وأنا أحاول أن أتكشف ذلك الطابع الخفي الذي امتازت به هذه المحاكمة. وكل مرة قرأتها يرسخ فيّ اليقين أني أجد العنصر الخفي الدفين عند محاولتي تخطيط مسلك بيلاطس كما دونه الإنجيل، ومقارنته بما عرفناه من أخلاقه وسوابقه.

ونحن نعلم بعض الشيء عن التاريخ السابق لذلك الجندي الروماني الفظّ غير المثقف. وتقول بعض التقاليد التي قد لا يركن تماماً إلى صحتها، إنه ولد في مدينة سـيفل من أعمـال اسـبانيا، وإنه تحدر من أسرة محاربة، وكان عضواً في جماعة من جماعات الفرسان، وخدم بعض الوقت تحت إشراف جرمانيكوس في ألمانيا. ثم أقام بعد ذلك مدة طويلة في روما، أولع فيها بحبّ فتاة رومانية من بنات الطبقة الرفيعة وهي “كلوديا بروشلا” التي قُدّر له أن يتزوجها فيما بعد، والتي سنسمع عنها بعد قليل في هذه القصة.

وكانت هذه الفتاة ابنة غير شرعية لكلوديا، الزوجة الثالثة للإمبراطـور طيـباريوس. فكأن “كلوديـا بروشـلا” هي حفـيدة أغسـطس قيصـر. وظاهر من تسلسل هذا النسب، ومن علاقة الفتاه بالبيت المالك الروماني، أن هذا الزواج كان له الفضـل الأكبر في ترقية مصالح بيلاطس الخاصة. وقد تعين في سنة 26 ب.م. بتوصية سيجانوس والياً على اليهودية. وبعد نيله هذه الوظيفة السامية طلب أن يؤذن له بامتياز لم يكن مصرحاً له لولاة الرومان، أن يأخذ زوجته معه.

هذه هي الحقائق القليلة، القوية في دلالتها، التي نعرفها عن بيلاطس قبل مجيئه إلى اليهودية. وحين نقرأ تاريخه في خلال السنين العصيبة العشر التي قضاها في اليهودية، تشع على سيرته أنوار من نواح أخرى. وقد حفلت تلك الفترة العاصفة من الزمن بأحدث ثلاثة: هي إدخال الأعلام الرومانية إلى أورشليم وعليها تمثال الإمبراطور، وحادث النذر أو الكنز المقدس، وحـادث اللوحات المنذورة. وإلى هذه الأحداث الثلاثة يضاف حادث النصب والاحتيال السامري الذي كان علّة استدعائه من منصبه وإقصائه نهائياً. وكل من هذه الحـوادث يرسـم صــورة للرجل الذي نقف أمامه الآن.

ومن يقرأ بإمعان وفي غير تحيّز الروايات القديمة التي وضعها المؤرخون المعاصرون في وصف هذه الحوادث، ويدقق النظر في مسلك بيلاطس، دون البواعث المعزوة إليه، يقدر أن يرسم لنفسه صورة واضحة الخطوط لرجل فظّ خشن، تعوزه الحنكة السياسية، وتطغى على عقله عوامل العناد والقسوة – صورة رجل أعطي سلطاناً فلم يحسن سياسته، ولم يرَ فيـه غير قـوة لتنـفيذ مشيئته، دون أي اعتبار لتبعاته نحو الآخرين. وإنك لا ترى في مسلكه أثراً للحنكة وسعة الحيلة في معاملة الشعوب الغريبة الخاضعة للإمبراطورية، مما امتاز به يوليوس قيصر مثلاً او غيره من الولاة الرومان البعيدي النظر الذي تحدروا من أسر عريقة.

بل على نقيض ذلك قد تجسم في شخصه العدوان الأثيم الطاغي، مما تراه عادة في الرجال الذين تطُوح بهم المقادير إلى مراكز من السلطة دون قدرتهم وكفايتهم، فلا يطلبون شيئاً غير بلوغ مآربهم.

أما عناده ورعونته ونقص حنكته في الشؤون السياسية العامة فقد بدت بأجلى مظاهرها في مشكلة الأعلام الرومانية ولسنا ندري ما الذي حفزه إلى إرسال الأعلام الرومانية وبيارق الكتائب الرومانية إلى أورشليم، حاملة تماثيل قيصر التي يعدّها اليهود أوثاناً. وكونه أرسلها خلسة في الليل دليل على أنه توقع حدوث الاضطراب.

ولما وقع هذا الاضطراب كان هو محاصراً في مدينة قيصرية مدة ستة أيام وست ليال، ولكنه لم يبذل أقل جهد لحل المشكلة بطريق المفاوضة أو الحجة. وكان جوابه الوحيد في اليوم السادس أن حاصر الوفد القـادم إليه بالقوة المسلحة. ولما وجد على أثر هذه التجربة البطيئة أن المخرج الوحيد لن يتم إلى بمذبحة هائلة (وكان تعصب اليهود شديداً ضد هذه التماثيل) عدل عن المقاومة وسلّم أمام هذا الضغط، وسحب الأعـلام والبيارق من أورشليم.

ومن حسن الحظ أنه يمكـننا أن نـوازن بـين مسـلك بيلاطـس في هذه المشـكلة وبين موقـف والٍ روماني أخر – يدعى بترونيوس – في موقف أشبه بهذا في دقّته وتعقده. وقد روي يوسيفوس المؤرخ القصة كاملة مسهبة. والمظهر البارز في القصة هو ذلك الاعتراف الصريح الذي يبديه بترونيوس في تسلميه بأن وراء المظاهرات اليهودية الوطنية قوى أدبية متأصلة لا يصلح أن تتجاهلها السلطات السياسية الرومانية، بل تحسـب لها كل حسـاب. وإذ وُجـد في موقـف كهذا، عمد إلى إزالة العقبات بالمحاجّة المعقولة والمفاوضات الهادئة في مؤتمر خاص.

وقد كان له من حافز القوة والبطش لتنفيذ مشيئته أكثر مما كان لبيلاطس، وذلك لأنه كـان مكلـفاً مـن قبـل إمبراطور مجنون أن يضع تمثال الإمبراطور في هيكل اليهود. وكان تقصيره في القيام بهذا الأمر يجلب عليه عواقب وخيمة. فلما اصطدم بالصخرة عينها التي اصطدم بها بيلاطس كتب تقريراً إلى كايوس دلّ، لا على شجاعته فقط، بل على يقظـته لـرفع سـمعة روما وإعلاء كلمتها في الشرق.

والذي أبغيه من إيراد هذه القصة بيان الفارق الصارخ بين معالجة بترونيوس لمشكلة دقيقة وبين مسلك بيلاطس في مشكلة من نوعها. وهذا الفارق المميّز لخصـال رجليـن، يبـين أيضـاً فارقاً بين عقلين متباعدين كل البعد عن بعضهما. والحق أن بيلاطس عالج كل المشاكل التي عرضت له بنقص في المرونة العقلية وقلّة في الإدراك والفهم.

خذ مثـلاً مشـكلة “النـذر” أو الكـنز المقـدس: أن الغـرض الذي أخـذ بيلاطـس من أجله المال لا غبار عليه في حدّ ذاته – وهو تدبير المال اللازم لحفر قناة من بركة سلوام إلى داخل المدينة. وكان يهمّ اليهود طبعاً، أكثر من غيرهم، توفر ماء الشرب النقي في أورشليم. وقد شغلت هذه المشكلة أفكار كثرين من الملوك والساسة مدى أجيال التاريخ، وقد بذل زعماء اليهود جهودهم أكثر من مرة لحلّ هذه المشكلة.

ولم يكن عسيراً تدبير المال لهذا المشروع الحيوي العام، لو بسطه الوالي صراحة أمام السلطات. ولكن بيلاطس بأساليبه المعوجة الملتوية يسطو على “النذر” وهو المال المفرز كله للأغراض الدينية. ولما ثار عليه الشعب وهو أمر طبيعي، عمد إلى خلق اضطراب دموي خطير بإرساله الجنود متنكرين في ملابس مدنية وسط الغوغاء للإيقاع بالشعب.

ونرى هذه الرعونة عينها وذلك العقل المعوج التفكير في حادثة “اللوحات المنذورة” (أي التقدمات للآلهة الرومانية) التي وضعها في القصر الهيرودسي وهو مقام الوالي في أورشليم على مقربة من الهيكل، وهو غير القصر الذي كان يسكنه هيرودس والي الجليل الذي يقع الآن على مقربة من باب يافا. والظاهر أن تفكيره خلا من أي تقدير أو فهم للاعتبارات الدينية، وتجردت نفسه من أي رغبة للتفاهم والمفاوضة. ولم يرجع عن غيّه في هذه المسألة إلا بعد أن تلقى توبيخاً قوياُ من الإمبراطور طيباريوس على أثر رسالة تلقّاها من زعماء اليهود.

وجاء في الإنجيـل إشـارة إلى حـادث دمـوي مزج فيه بيلاطـس دماء بعض الجليليين “بذبائحهم” (لوقا 13: 1). ولسنا ندري إلى أي شيء تشير هذه العبارة، ولكنها تنسجم تماماً مع المزاج الذي عرفناه في بيلاطـس، وتتشـابه كل التشابه مع طريقة معالجته للمشكلة التي ذكرها فيلو الفيلسوف الإسكندري في كتابه.

هذه هي ملامح بيلاطس البنطي كما نتمثلها في بعض الروايات المستقلّة عن بعضـها التي أبقاها لنا التاريخ العالمي. وكلها روايات منسجمة مع بعضها تصور الرجل المستبد العاتي كما هو في خصاله وعقله ومزاجه.

ولكن حين نعود إلى قصة الإنجيل عن محاكمة يسوع على يد هذا الوالي ينطبع في نفوسنا أثر عميق يحملنا على الاعتقاد أن الشخصية التي لعبت دورها في المحاكمة لا تنسجم تماماً مع الشخصية التي عرفناها وكُونا الفكرة عنها. ذلك لأننا لا نرى في هذا الموقف بيلاطس الحقيقي المنتفخ، المتجّبر، العاتي، الشرس، القاسي. الذي يحاكم “إنسان الموت”. وهو يبدو لنا راغباً شديد الرغبة في مهادنة اليهود ومراضاتهم، ولكنه شديد التمتع في الاستسلام لرغباتهم. ونتمثله في موقف المحاكمة إنساناً تتنازعه قوتان مختصمان متعارضتان.

وأنا أحسّ احساساً قوياً أن بيلاطس لم يرد أن يمس هذه القضية. فإن فكرة معينة تسلطت عليه وتمكّنت منه – أن يطلق المسيح بريئاً بأي حال ومهما كلّفه ذلك. ونرى هذا الباعث متمشياً في كل الإجراءات – في محاولته نقل القضية إلى هيرودس. وفي إعلانه ثلاث مرات براءة المتهم، وفي غسل يديه، وفي محاولته اليائسة الأخيرة لإحلال باراباس محل المتهم كلقمة يسدّ بها الأفواه الصارخة ويهدئ الحناجر الصاخبة. ولم تعتره رعشة من الخوف غلبت عليه أمره إلا حين سمع الصرخة الداوية المشئومة: “لست محباً لقيصر”.

فما هو تعليل هذا التناقض الظاهر في مسلك رجل عُرف عنه قوة الإرادة وصلابة الرأي؟ ولم يبدو بيلاطس الذي وصمه التاريخ العالمي بطابع الظلم والقسوة، رجلاً حائراً متذبذباً في قصة الإنجيل؟

لا أظن أننا واصلون إلى التعليل الصحيح لهذه الظاهرة الغريبة، إلا حين نُدخل في تقديرنا بعض الحوادث الشخصية من ناحية بيلاطس، لا سيما ما حدث منها داخل بيته في مساء اليوم السابق للمحاكمة:

قلنا بعد استنتاج الأسباب والعوامل التي أدت إلى تأخير القبض على يسوع بضع ساعات، أن بيلاطس لابد أن يكون قد أبلغ ما سوف يحدث في الغداة، وأن المقابلة التي تمت بينه وبين رئيس الكهنة لا يمكن حدوثها قبل الساعة الحادية عشرة في المساء.

ومع قوة الدليل الذي يثبت هذه المقابلة التي لم تدّونها القصة، فإن هناك شيئاً آخر يؤيدها ويسندها – ذلك أن كلوديا بروشلا زوجة بيلاطس كانت في القصر الهيرودسي تلك الليلة. ومما له مغزاه الخطير ان يسجل التاريخ عن كلوديا بروشلا هذه الإشارة الوحيدة التي تناقلتها الأجيال عنها في هذه المأساة، فيقال عنها: “أنها حلمت عن يسوع المسيح في الليلة السابقة لموته”. وإذ نفكر في المحاكمة الرومانية سائرة حسب الأصول التقليدية التي بموجبها قدّم اليهود المتهم إلى بيلاطس في صباح الجمعة دون تدبير سابق، فإننا لا نجد معنى للإشارة إلى بروشلا.

وتبدو لنا القصة في هذه الحالة عارية عن المنطق، بعيدة عن كل احتمال. أما حين نضع الأمور في نصابها ونرتّب الحوادث في تسلسلها الطبيعي، فلا نلبث حتى ينجلي الحق أمامنا. وإليك تسلسل الحوادث في تلك الليلة المأثورة:

كان بيلاطس ليلتها في “المدينة” أي أورشليم، لا لزيارة قصيرة عاجلة، بل للإقامة مدة أيام العيد العشرة. ومن المحتمل جداً أن تكون كلوديا قد قدمت معه حتى ولو لم يكن لدينا رواية متى التي تدل على أن هذا هو الذي حدث (متى 27: 19). وقد كان أصدقاء بيلاطس وزوجته قليلين بلا شك في العاصمة الأجنبية. وكان لزاماً على رجل رسمي في مركز بيلاطس أن يضيق دائرة أصحابه الأخصاء إلى أقل عدد ممكن. وطبيعي في حال كهذه أن يطيل الرفيقان – الزوج وزوجته – التسامر معاً في مدينة كأورشليم.

ولا نبعد عن الصواب كثيراً، إذا تصورناهما في تلك الليلة جالسين معاً أمام المدفأة يصطليان في قاعة فسيحة بالجناح الخاص في قصر الولاية، لأن الليلة كانت قارسة البرد، بدليل دخول بطرس إلى فناء دار رئيس الكهنة ليدفئ يديه. ولكي نستتبع سير الحوادث تماماً، علينا أن نذكر قيود الزمن التي تثيرها هذه القضية. فإننا نعلم من رواية الإنجيل أن بيلاطس نظر القضية في بكور يوم الجمعة، وأن زيارة يهوذا العاجلة لرئيس الكهنة تمّت على الأرجح فيما بين الثامنة والتاسعة من مساء الخميس، لأن حفلة العشاء استمرت بعض الوقت بعد خروجه.

وبقي علينا أن نعلل سبب الانتظار ساعتين في البستان. فإذا كان قرار القبض على يسوع قد صدر على أثر المعلومات التي حملها يهوذا إلى الكهنة (ولدينا من الأدلة القوية ما يؤيد هذا الرأي)، فلا بدّ أن تكون المقابلة مع الوالي قد جرت فيما بين التاسعة والحادية عشرة مساء. وإلا فكيف تمكّن رؤساء الكهنة من تقديم القضية إلى الوالي في صباح اليوم التالي، وحملّه على النظر فيا بكور اليوم؟

وكما قلت من قبل لم يكن في أورشليم كلها إلا رجل واحد يستطيع بحكم وظيفته الرسمية أن يقتحم آمناً الدار الخاصة التي يقيم فيها ممثل روما في ساعة متأخرة من الليل، ولأسباب سياسية عاجلة، وذلك الرجل هو قيافا رئيس الكهنة. لست أدري كيف حصل اليهود على رضاء الوالي الروماني للنظر في القضية على وجه السرعة بعد إخطار قصير الأجل، إلا إذا سلمنا أن قوة شخصية وسلطة يهودية عليا لعبت دورها في الإلحاح والإقناع.

وأعتقد أننا لا نبعد كثيراً عن نطاق الاحتمالات التاريخية، إذا نحن افترضنا أن زائراً ممتازاً ذا مقام خطير يمّم وجهه صوب القصر الهيرودسي فيما بين الساعة التاسعة والحادية عشرة، ولعل ساعة المقابلة كانت أقرب كثيراً إلى الأخيرة منها إلى الأولى. ومن الممكن أن يكون قد سُمح للزائر أن يدخل الجناح الخاص الذي يقيم فيه الوالي، وإن كنا نرجح أن بيلاطس نفسه خرج للقائه في قاعة خارجية من قاعات القصر.

وأتصور أن ذلك الزائر الكبير قصّ على الوالي خلاصة القضية وقال له إنه سيقيض الليلة على مهيج سياسي خَطِر، ومن الصالح العام ان تتم المحاكمة في صباح اليوم التالي، وأن يكون الحكم بأقصى العقوبة. وسأل الزائر بيلاطس: أيرضى أن ينظر القضية في ساعة مبكرة ليمكن إصدار الحكم وتنفيذه قبيل مغيب الشمس قبل حلول الفصح اليهودي؟

وأفترض أن حديثاً آخر جرى بين الإثنين عن مشكلة التدنيس الدقيقة. وذلك لأنه لم يكن مصرحاً لذوي الوظائف الكهنوتية في الهيكل أن يدخلوا فناء الأجنبي الغريب في ذلك اليوم. ولكن المسألة عاجلة، فهل يتنازل بيلاطس في هذا الظرف الخاص، ويخرج من ساحة القضاء إلى مقابلة الوفد الذي سيجيء إليه بالمتهم وبقرارات المحكمة اليهودية؟

جرى الحديث في شؤون من هذا القبيل زهاء عشرين أو ثلاثين دقيقة. وبعد خروج الضيف عاد بيلاطس إلى المدفأة. فهل يفترض أي إنسان له بعض الإلمام بأخلاق المرأة وخصائصها أن تمر هذه الحادثة دون أن تحاول كلوديا الوقوف على بعض ما جرى؟ إنها لا تكون امرأة لو لم يدفعها حب الاستطلاع إلى أن تقف على جليّة الخير. وأكاد أوقن أن حديثاً جرى قبل الذهاب إلى مخادع النوم بين الوالي وزوجته عن تلك الزيارة المفاجئة وعن هويّة المتهم، وعن أسباب القبض عليه. وكل شيء يُشتم منه رائحة سوء التفاهم بين اليهود وبين زوجها كانت تهتم به “كلوديا بورشلا” كل الاهتمام.

وحينما آوت كلوديا إلى مضجعها في تلك الليلة كان التفكير في يسوع هذا ملأ عقلها وفكرها. فلما استيقظت في الصباح بعد حلم أليم مزعج ورأت زوجها وقد غادر القصر، عرفت أين ذهب، وعرفت القضية الدقيقة التي تحتّم عليه اليوم أن يفصل فيها. وفي تلك اللحظة، على رواية كاتب بشارة متى، بعثت إليه برسالة – تكاد تكون أشبه برسالة برقية في قِصَرها وسرعتها – نقلت فيها إليه أفكارها ومخاوفها، وما ينبغي عليه أن يفعل في القضية:

“إياك وذلك البار. لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله”.

على هنا نقدر أن نتتبع تسلسل الحوادث بطريقة منطقية مفهومة. وأعتقد أن القارئ يقّرني على هذا الرأي، ومن الخواص البارزة في رسالة كلوديا، كما رواها متى، تلك العَجَلة التي امتازت بها. وتدل الألفاظ في ظاهرها وقلّتها على أنها كتبت بسرعة فائقة، أرادت بها صاحبتها أن تنقل نبأ خطيراً عاجلاً بأقل ما يمكن من الألفاظ.

والحق أنه ليس من الميسور أن نبتكر عبارة غيرها في إيجاز يماثلها تنقل الأفكار والمعلومات التي أرادت بروشلا إبلاغها إلى زوجها في صباح ذلك اليوم. فهي قد أرادت أن تحذره حتى لا يمس ذلك الإنسان بسوء، وأن يمتنع عن التدخل في القضية. والظاهر أنها كانت متأثرة بفكرة أن بيلاطس اعتزم أن يسلّم المسيح إلى أعدائه في الدور الأول من أدوار الإجراءات. لذلك أسرعت فأنذرته كي لا يفعل.

ولست أريد الإطالة هنا في القول إنه متى سلّمنا بأن كلوديا قد علمت في الليلة الفائتة بظروف القبض على المتهم، فإن هذا العلم السابق يعلل تعليلاً كافياً الحلم الذي أزعجها بالليل. ولكنني أريد أن ألفت النظر إلى أمر هام، وهو أن الحلم ما كان ليزعج بروشلا على هذا النحو عند يقظتها في الصباح الباكر لو لم تكن قد عرفت أو توفرت لديها الأسباب بأن بيلاطس معتزم تسليم المتهم إلى إعدائه.

ومضمون الرسالة ونصها يؤيدان هذا الرأي:

“إياك وذلك البار، لأني تألمت كثيراً في حلم من أجله”.

وعلى أي وجه قلّبنا هذه الألفاظ، فإنه لا يسعنا إلا الجزم بأنها كتبت بيد امرأة متلهفة أرادت أن تحول دون أمر كان على وشك الحدوث. والحقائق كلها تنبئ أن كلوديا أيقنت أن بيلاطس كان مصمماً على إجازة قرارات المحكمة اليهودية دون بحث مسهب في القضية، أو على الأقل بعد مراعاة القليل من الإجراءات الرسمية التي يتطلبها الموقف. وبعبارة أخرى كان معتزماً فعلاً أن يؤيد القرار اليهودي. ومن المحتمل أنه أبدى هذا الاستعداد من جانبه في حديث الليلة الفائتة مع رئيس الكهنة.

وأني أميل إلى هذا الاستنتاج بعد دراسة دقيقة للموقف السياسي الذي ساق رؤساء الكهنة إلى اتخاذ التحّوط الدقيق الذي اتخذوه. وأحسّ أن أول شيء أراد قيافا التأكد منه قبل إصدار الأمر بالقبض على المتهم هو وجهة نظر بيلاطس ومدى استعداده للتصديق على ما يفعلون. وإذا كان بيلاطس قد رضي إقرار إجراءات السنهدريم بعد أن بسطها له رئيس الكهنة في زيارته الخاصة بأن الجرم يستحق عقوبة الموت، فإنه لا يصعب السير بالإجراءات سريعاً وتنفيذ الحكم قبل غروب الشمس.

أما إذا لم يرض بيلاطس فإن الإجراءات تطول، ولا يدري أحد ما سيحدث بعد ذلك. ولو لم يضمن رئيس الكهنة هذا القبول من الوالي، لعدل حتماً عن القبض على المتهم، وآثر التربص إلى موسم آخر. أما وقد نفذ القبض عليه حسب التدبير الذي وضعه اليهود، فإني لا أشك أنهم قد استرضوا الوالي أولاً فيما هم فاعلون.

وما كنت أنتظر مطلقاً أن أتبين من دراسة القضية أن الروايات المدونة عن المحاكمة الرومانية ذاتها تؤيد تأييداً قاطعاً هذا الرأي الذي أذهب إليه.

خذ روايات البشائر الأربع عن محاكمة يسوع أمام بيلاطس البنطي، وضعها أمامك قبالة بعضها في صفحة واحدة، ثم قارن بينها، تجدها مجمعة على شيء واحد وهو أن بيلاطس سأل يسوع: “أأنت ملك اليهود؟”.

والمهم في الأمر هنا أن البشارتين المتقدمتين في التاريخ لم تشيرا قط إلى نوع التهمة التي أقامها اليهود أمام بيلاطس. فمتى ومرقص بما عُهد فيهما من الإيجاز في القول والبُعد عن التبسيط في تفاصيل الحوادث ذكرا أن بيلاطس سأل هذا السؤال الهام مباشرة، دون أن تسبقه مقدمات تدعو إليه:

رواية مرقص

“وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» ” (مرقص 15: 1و2)

 

 

رواية متى

“وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْب عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ، 2فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي…… فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قِائِلاً: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» ” (متى 27: 1و2و11).

وظاهر أنه لا يمكن أن تكون هذه بداية الإجراءات. وقد قفز ذانك الكتابان وتخطّيا أموراً هامة نراها ضرورية، على الأقل في هذا البحث الذي نحن بصدده – وأعني بذلك كيف سيق الوالي إلى أن يسأل هذا السؤال الخطير، وما المقدمات التي أدت إليه.

ومن حسن التوفيق أن لدينا في الإنجيل الكريم روايتين أخريين تشفيان لنا هذا الغليل، وها أنا أوردهما أما القارئ للدرس والموازنة:

رواية لوقا

“فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ، وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ قِائِلاً: «أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» ” (لوقا 23: 1-3)

رواية يوحنا

“فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هذَا الإِنْسَانِ؟» أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: «لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا». لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ. ثُمَّ دَخَلَ بِيلاَطُسُ أَيْضًا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: «أنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»” (يوحنا 18: 29-33).

ونرى من هاتين الروايتين أمرين: أولاً – أنهما تقدمان لنا بياناً أوفى وأدق لما حدث. وثانياً وهو الأهم، أن سؤال بيلاطس لم يكن إلاً بعد محاجّة تمهيدية مع اليهود. وإلى هذه المحاجّة التمهيدية أوجه الآن نظر القارئ:

لو لم يكن لدينا غير رواية لوقا وشهادته، لجاز لنا أن نفترض أنه بمجرد أن قدّم الكهنة المتهم أمام محكمة بيلاطس، أقاموا ضده دعواهم قائلين:

“إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً إنه هو مسيح ملك”

لنسلّم هنا لحظة أن هذا هو الافتتاح الطبيعي الذي بُدئت به القضية. ولو لم يكن لدينا بيانات أخرى لجاز لنا في غير حرج، بل لاضطررنا، إلى أن نفترض أن جلسة الاتهام افتُتحت بهذا القول من المدّعين. ولكن في البشارة الرابعة شيئاً آخر يسترعي النظر، وذلك لأنها تشرح الطريقة التي تقدّم بها الاتهام اليهودي أمام بيلاطس. وليس معنى هذا أن رواية يوحنا تناقض روايات البشائر الثلاث الأخرى. بل على نقيض ذلك هي تكملها وتؤيدها. أن البشير يعود إلى الوراء لذكر وقائع سابقة، ويقدم لنا الحلقة المفقودة في قصة البشيرين الآخرين.

ويذكر البشير قبل كل شيء واقعة نحسبها قريبة الاحتمال جداً، وهي أنه عند إحضار المتهم أمام بيلاطس، سيق المتهم نفسه إلى داخل القصر، وبقي الكهنة والمدّعون الآخرون خارجه.

وبعد فترة قصيرة، على قول البشير يوحنا، خرج بيلاطس وسأل اليهود قائلاً: “أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟” وهذا هو السؤال الذي كانت تستهل به المحاكمة الرومانية إجراءاتها، لأن القضاء الروماني يصرّ على توجيه اتاهم علني، يعقبه تحقيق القاضي، ثم دفاع المتهم.

وكان جواب الكهنة على شيء من الخطورة قلّما نفطن إليها ونحن نقرأ الألفاظ عَرضاً. قالوا:
“لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلمناه إليك”.

وقبل إمعان الفكر في معنى هذه العبارة، لنعد إلى الروايتين اللتين أوردناهما متجاورتين من لوقا ويوحنا – وواضح حتى لدى القراءة العاجلة أن هناك ثغرة في رواية يوحنا تعقب هذا الجواب الملتبس الذي أجاب به الكهنة. فإنه لا يعقل أن بيلاطس ينتقل من هذا الجواب الذي ينضح مراوغة وتملصاً وحنقاً، إلى سؤال خطير يوجهه إلى يسوع قائلاً: “أأنت ملك؟”. لابد أن بين القولين حديثاً آخر حمل بيلاطس على توجيه هذا السؤال.

ومن حسن الحظ أن العبارة الناقصة قد أوردها البشير لوقا. فنستطيع أن نورد القصة كاملة حسب تسلسلها المنطقي مأخوذة عن روايات بشائر الإنجيل الأربع:

قصة كاملة لافتتاح المحاكمة الرومانية

تقديم المتهم إلى بيلاطس:

“ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية كي لا يتنجسوا فيأكلون الفصح”

طلب بيلاطس إقامة الدعوى:

“فخرج بيلاطس إليهم وقال: أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟”

تمنّع اليهود عن إقامة الدعوى:

“أجابوا وقالوا: لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلمناه إليك!”

ردّ بيلاطس:

“فقال لهم بيلاطس خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم”

جواب الكهنة تهمة مرتجلة:

“فقال له اليهود لا يجوز لنا أن نقتل أحداً. وابتدأوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً إنه هو مسيح ملك”

سؤال بيلاطس للمتهم:

“ثم دخل بيلاطس أيضاً إلى دار الولاية ودعا يسوع وقال له: أأنت ملك اليهود؟”

وهذه القصة المنسقة الكاملة لا تشمل فقط الحقائق الجوهرية التي رواها البشيرون الأربعة حسب الترتيب الذي أثبتوه، بل هي في الواقع القصة الوحيدة التي بين أيدينا عن الإجراءات. ويثبت لنا عند بحث الوثائق أن أولئك الكتاب الأربعة قد أجمعوا على الوقائع التي اشتركوا في تدوينها. وتبدو لنا القصة في هذا الوضع لمح تاريخية منسقة صادقة.

وبهذا الوصف الذي أجملنا، نقدر الآن أن نتتبع أدوار القصة التي تكاد تكون فريدة من نوعها في تاريخ العالم من ناحيتها التاريخية والنفسية:

وأول حادث في هذه المأساة التي أجملنا تاريخها فيما تقدم هو المجيء بيسوع من مكان اعتقاله (ربما في دار رئيس الكهنة) إلى مكان المحاكمة. وقد استغرق هذا على الأرجح عشرين دقيقة. ولما كانت الساعة مبكرة فمن المحتمل أنه لم يشهد هذا الموكب الصغير وهو سائر في طرقات أورشليم الضيقة إلاّ نفر قليل من النظارة.

وكان الوالي نفسه قد استيقظ باكراً في صبيحة ذلك اليوم وبقي منتظراً مجيء الوفد. وعند الوصول إلى باب القصر، لابد أن يقف القوم دقائق معدودات ريثما تُبحث الوثائق والمستندات، وبعد ذلك يُقاد المتهم، مخفوراً بجندي روماني، إلى قاعة البلاط التي يجلس فيها بيلاطس، أما الوفد والمرافقون له فيبقون خارجاً.

وهنا نجيء إلى نقطة شيّقة. فإنه بعد فترة قصيرة خرج بيلاطس نفسه إلى الوفد اليهودي وسألهم: “أيه شكاية تقدمون ضد هذا الإنسان؟” وقد كان هذا السؤال دليلاً لا شك فيه على أن بيلاطس اعتزم إعادة النظر في القضية، مما أثار حَنق رؤساء الكهنة – لأن جوابهم لم يكن فقط خلواً من اللياقة والاحترام لبيلاطس وهو يقوم بواجبه، بل يُشتمّ منه أيضاً أن في نفوسهم حفائظ ضده في هذه القضية بالذات:

“لو لم يكن فاعل شر، لما كنا قد سلمناه إليك”

ويخيل إليّ أن ليس لهذا الجواب الجاف إلا تعليل واحد، وهو أن الكهنة حنقوا على بيلاطس حين رأوه معتزماً إعادة بحث القضية. وذلك لأنهم جاءوا، على ما يظهر، وهم متأثرون بأن بيلاطس غير مصرّ على إعادة النظر في القضية وبحث وثائقها من جديد. وأظنهم جاءوا دون أن يجهزوا تهمة عامة لإقامتها على المتهم أمامه. ولو أسغنا لأنفسنا وضع هذا الجواب في تعبير آخر لا يبعد عن الصواب، لقلنا إن الكهنة أجابوا “أما تكتفي بالتحقيق الذي أجرته محكمتنا التي اتضح لها أن هذا الإنسان فاعل شر؟ ولماذا تريد البحث من جديد ما دمنا قد وجدناه مستحق الموت؟”

وقد أجاب بيلاطس جواباً ماكراً لبقاً: “خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم”.

ولم يكن لهذه الهجمة اللبقة الحاذقة إلاّ جواب واحد ينطوي على طلب جديد للتصديق على الحكم: “لا يجوز لنا أن نقتل أحداً”

ثم يبدو لنا بعد ذلك أنهم، وقد يئسوا من نَيل ما يطلبون دون فحص القضية “ابتدأوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر قائلاً إنه هو مسيح ملك”.

وقد كان في ذكر كلمة “ملك” مثاراً لتفكير بيلاطس، فدخل إلى القصر ووجّه إلى المسيح هذا السؤال التاريخي: “أأنت ملك اليهود؟”

وفي هذه القصة شيئان حقيقيان بالنظر الدقيق:

الأول: أنها صورة من صور الحياة.

الثاني: أن دهشة رؤساء الكهنة وحنقهم حين ألمح بيلاطس إلى عزمه على النظر في القضية من جديد، يدلاّن من غير شك على شبه اتفاق سابق بين الفريقين. فهم ما كانوا ليجسروا على مخاطبة بيلاطس بهذه القحة، والإلماع إليه بطلب التصديق على حكمهم، لو لم يكن قد أدخل في روعهم من قبل أنهم نائلون هذا في غير عناء.

وحين نضع هذه الحقيقة إلى جانب رسالة كلوديا العاجلة إلى زوجها – نتبيّن لماذا تلهفت كلوديا على إيصال رسالتها إلى زوجها قبل فوات الفرصة. فإنه إذا كانت الحوادث قد اتخذت سيرها الذي أجملنا، تكون كلوديا قد عرفت حين آوت إلى مخدعها، لا هويّة المتهم فقط، بل عرفت أيضاً أن بيلاطس كان يفكر (إن لم يكن قد وعد) بإقرار الحكم الذي أصدره اليهود. وهنا السرّ في الرسالة العاجلة التي بعثت بها إلى زوجها، ملحّة ألاّ يسير فيما اعتزم عليه من قبل، مهما كلفه الأمر.

وإذا كان هذا هو الاستنتاج الصحيح الذي نستخلصه من القصة، فإننا نستنتج منه أن رسالة كلوديا بروشلا إلى بيلاطس في صباح يوم الصلب غيّرت مجرى التاريخ من بعض الوجوه الخاصة. ولا ريب أن بيلاطس تلقّى الرسالة عقيب وصوله إلى قاعة المحاكمة، لأن المرأة المتوترة الأعصاب تنام عادة نوماً خفيفاً. وما نعرفه من فحوى الرسالة يدلُّ على كُتبت حالاً بعد اليقظة من النوم. ويبدو لي جلياً من هذا أن بيلاطس نزل إلى قاعة المحاكمة وهو معتزم أن يصّدق على الحكم الذي أبرمه اليهود. وقبل أن يجيء الوفد ومعه المتهم، حدث أمر حمله على أن يغيّر رأيه.

وليس هذا كل ما في الأمر. فإن خواص الحالات النفسية، حين تتحداها عوامل خارجة، أن تميل إلى التطرف في ناحية تناقض ما عزمت النفس عليه. ومن ثم نرى بيلاطس في موقفه مع اليهود في صبيحة ذلك اليوم، مُعنياً بشيء واحد، هو أن ينقل تبعة هذه القضية إلى الآخرين ولا يكون له دخل فيها.

ولا يمكن محو هذه الحقيقة من ثنايا القصة التي بأيدينا، فإننا نراها مبدئياً في محاولته إقناع اليهود أن ينفذوا الحكم بأنفسهم، ثم نراها في محاولته إطلاق المتهم ثلاث مرات، ثم نراها في إحالة القضية على هيرودس، ونراها أخيراً في اللحظة الخطيرة التي عجز فيها عن إسماع صوته وسط ضجيج الجماهير فأخذه ماءً وغسل يديه معلناً أن لا يد له في القضية.

ومن ثمّ يكشف لنا أحد أفراد أسرة بيلاطس الوالي الروماني في ذلك التوازن النفسي في القوة التي لعبت دورها في موت المسيح. والذي نعرفه أن تأثير يسوع على المرأة كان عميقاً جداً، فلقد انتزع مريم المجدلية، التي أنقذها من قوات الشيطان، من قريتها مجدلاً وجعل منها تلميذة طيُعة له.

ثم أخذ الأبناء والعائلين من سالومة ومريم زوجة كلوبا، ومع ذلك فإنهما أخلصتا له الإخلاص كله وما كانتا لتخشيا الموت في سبيله، وتحمّلتا فيما بعد أكثر المعاناة والمشقة من أجله. ثم كان صديقاً ودوداً للنساء المثقفات في عصره مثل مريم وأختها مرثا. وفي بيت هيرودس نفسه كان له تابعة مخلصة أمينة هي يونّا، فهل يصح أن نضيف إلى دائرة تابعاته كلوديا زوجة بيلاطس؟

وفي الساعات التي غلب فيها هذا الحافز النبيل على نفسه وهو يعالج هذه القضية المعقدة المحيرة، كاد يكون موقفه كاملاً لا غبار عليه. فما كان لإنسان أن يطلب من أية محكمة في ذلك العصر أكثر من هذه الإجراءات العادلة وأنت تتبين في أدوارها نفس قاض أيقن في غير مواربة براءة يسوع. ولكن حينما تراخى هذا الحافز وتوارى أمام عناد اليهود وصرير أسنانهم، وحين تخلّع قلب بيلاطس لدى سماعه التهديد بتدخل قيصر، خار حزمه وعاد إلى عزمه الأول من حيث تسليم المتهم إلى أيديهم.

وهكذا انتهت المعركة بين الإرادتين بهزيمة الوالي الروماني. ولم كنا هناك، لرأينا بعد هذا الاندحار إنساناً مضطرباً مغيظاً يتعثر في طريقه إلى باحات القصر الملكي. ولا حاجة بنا الآن لأن نفكر طويلاً في هذه النكسة، فإنه بعد ساعات عاد إليه الكهنة، وإذا به قد كتب في عجلة، أو ربما في رغبة جافية لكشح معذبيه، عنواناً مأثوراً خالداً باللغات الثلاث: “هذا ملك اليهود”. وقد طلب إليه الكهنة أن يغير ما كتب فأبى وقال: “ما كتبتُ قد كتبتُ”. وانكشف في النور بيلاطس الحقيقي بعد أن ولّت ساعة السمّو والارتفاع في أزمة شخصية لم تقو فيها نفسه على معاناة التجربة.

فصول كتاب من دحرج الحجر

تواز نفسي في القوى – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !