أبحاث

اللغز التاريخي في المشكلة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

اللغز التاريخي في المشكلة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

اللغز التاريخي في المشكلة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

اللغز التاريخي في المشكلة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟
اللغز التاريخي في المشكلة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

اللغز التاريخي في المشكلة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

كل من يتقدم نحو هذه المشكلة، يجابه عاجلاً أو آجلاً، حقيقة لا يمكن تعليلها أو تذليلها بأي وسيلة من وسائل المنطق، لأنها حقيقة صلدة تصدم الوجه، لا قبل لإنسان على مناجذتها أو التعرض لصدقها وحقّها.

أما هذه الحقيقة فهي أنه فيما بين ختام الساعات الست والثلاثين التي أعقبت الصلب، وبين فترة من الزمن لا تعدو ستة أو سبعة أسابيع، شاع في نفوس النفر القليل الهزيل من التلاميذ يقين راسخ أن يسوع قد قام من القبر.

وأنه موقف غريب لا مثيل له في التاريخ. وليس الأمر أو واحدة أو اثنتين من النسوة المرهفات الشعور، ممن حضرن مشاهد الصلب الأخيرة، قد أُظهر لهما أن يسوع قد قام، فألحّتا على هذه الدعوة كل الإلحاح أما أصدقاء بينهم المنكر الجاحد، وبينهم المرتاب المتردد. ليس شيء من هذا ممّا لا يحتمل الضغط التاريخي.

ولكن جوهر الأمر أن الجماعة كلها ومن بينهم الرجال التسعة الذين ولّوا الأدبار عند القبض، وغيرهم من الأشخاص المستقلين الذين لم تُذكر أسماؤهم في القصة من قبل – هؤلاء وأولئك اقتنعوا بأن حادثاً وقع بدّل وُجهة نظرهم تبديلاً، فحّول اندحارهم فوزاً، وقلب حزنهم فرحاً وبشْراً!

ولو كان الدليل الوحيد على هذا المظهر مستمداً من عبارة مفردة جاءت في الفصول الأولى من سفر الأعمال، لجاز لنا القول إنها بيان غزير المادة فاتر العبارة أثبته أحد المؤرخين المعاصرين، ممن اتصلوا بالحركة الأولى وتأثروا بأطوارها، فصبغ القصة بوجهة نظره الخاصة. ولكن أحداً لا يقدر أن يدّعي هذه الدعوى.

فإن هناك وثائق أقدم منها عهداً في رسائل بولس الرسول وبطرس ويعقوب، ومؤلفات الكنائس المسيحية التي امتدت أطرافها وسط المخاطر والموت والاستشهاد من أورشليم، على آسيا الصغرى، إلى سراديب روما. وغير معقول أن تتناثر هذه الشهب الملتهبة من بلد صغير كفلسطين إلى كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية إلاّ من مستودع متأجج بنيران الغيرة المتقدة.

وليس من الحق أن نصرّ على التشبّث بنظرية العلة والمعلول في العالم الطبيعي، وننكرها في العالم النفسي. ونحن الآن تجاه مظهر من أروع مظاهر التاريخ، وحادث من أخطر حوادثه، لا يمكن تعليله إلاّ بوجود قوة هائلة دفعته دفعاً.

ولكن المواد البشرية الأصلية التي خرجت منها هذه القوة الدافعة نراها ممثلة في متشكك مرتاب مثل توما، وفي صياد ضعيف مثل بطرس، وفي شرذمة من رواد البحر مثل أندراوس ونثنائيل، وفي طائفة صغيرة من النسوة المواليات، وفي اثنين أو ربما ثلاثة غير هؤلاء.

ولست أقصد إلى الحطّ من شأن النواة التاريخية التي بزغت منها المسيحية. ولكن أحقاً نجد القوة التي يتطلبها الموقف في فئة هزيلة غير متجانسة قد هدّت أعصابها قسوة الصلب، وامْتَهَن كرامتها موت الزعيم؟ ما أظن أحدً يزعم هذا. وكلما فكرنا في تفكك قواها تحت عبء الأزمة، تعذّر علينا التصديق أن في وُسعها لم شعثها على هذا النحو واستجماع قواها الخائرة المبعثرة للقيام بالأعمال المجيدة التي شهدتها العصور المسيحية الأولى. ولكن التاريخ شاهد صدق على أن تلك الفئة المستضعفة قد فعلت كل هذا.

إن شيئاً ما قد انساب إلى حياة أولئك القوم العاديين البسطاء، فما عادوا كما كانوا فئة ضعيفة محطّمة كالتي شهدناها في صحابة يسوع.

أما موضوع الاختبار الذي عرفوه – سواء كان جسمانياُ أو نفسياً أو كليهما معاً، وسواء كان حادثاً عظيماً خارجاً عن نطاق معرفتنا أو غير ذلك – فهو اللغز الذي نتولّى الآن دراسته.

وقبل بأن نتبسّط في دراسة وافية، خليق بنا أن نفطن إلى نقطة هامة: وهي أن الوثيقة التاريخية التي أجمعت على صدقها العصور الأولى، والتي دبجّتها براعة كاتب له علم ببواطن الأمور التي أجمعت على صدقها العصور الأولى، والتي دبجّتها براعة كاتب له علم ببواطن الأمور، روت لنا أن أول إذاعة علنية عن قيامة يسوع من الأموات أُعلنت في أورشليم في خلال عيد الخمسين، عقب عيد الفصح الذي رُّوِعت فيه صحابة يسوع، أي بعد سبعة أسابيع من تاريخ الصلب.

ترى ما علّة انقضاء هذه الفترة؟ إنه سؤال سديد مليء بالمعاني. لنفرض أولاً أن قصة القيامة كانت أسطورة. والمعروف لنا أن لوق كتب سفر الأعمال، وهو الوثيقة التاريخية التي ألمحنا إليها من قبل، بعد وقوع الحوادث التي نحن بصددها بثلاثين أو أربعين من السنين. كان هناك متسع من الوقت لأن تنضح الأسطورة وتتوالد – على فرض أنها أسطورة – وتبلغ أكمل وضع لها. وما كانت القصة لتفقد ما فيها من قوة إقناع بمرور الزمن، وبالأولى كانت تخلص من عناصرها الضعيفة غير المتماسكة ومظاهرها التي لا تلائم الحبكة الأسطورية.

وإذا نظرنا إلى القصة كأنها أسطورة محض، فإن انقضاء فترة الأسابيع السبعة لا تبدو لنا مظهراً يلائم طبيعة الأشياء، إنما هي خطأ في تاريخ تسلسل الحوادث من الطراز الأول، وذلك لأنها تترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لإدخال أخطر الشبهات والريب، إذ يقول الناس: إذا كان يسوع قام من الأموات يوم عيد الفصح، فلماذا لم يذيعوا النبأ من فوق سطوح المنازل من فورهم؟ ولماذا أبطأوا سبعة أسابيع حتى كاد الناس ينسون المأساة العظيمة، ثم يطلعون بعد ذلك فجأة بإعلانهم هذا؟

ولسنا نعقل أن قصة أسطورة كحادث القيام – هذا على فرض أنها أسطورة – بذرة خصيبة كهذه تتوالد عنها الشكوك والريب. وإذا كانت القصة رواية مصطنعة، فإن واضعيها على هذا النحو ليسوا على شيء من الفهم والإدراك. وما من شك أنه لو كانت القصة مجرد أسطورة تناقلتها الألسن مدة سنوات طوال بعد الحادث، لتجنّب واضعوها نقطة الضعف هذه، ولأثبتوا في مدّوناتهم إعلان القيام على الملأ في اليوم الذي كُشف فيه أمرها.

فكيف نعلل هذه الفترة من الزمن التي امتدت سبعة أسابيع قبل إذاعة الحادثة والجهر بها علناً أمام الناس؟ لا أرى إلاّ تعليلاً واحداً لهذا الأمر، وهو أننا أمام حادث واقعي، لا قصة روائية ولا أسطورة خيالية. فالروائي يرتّب حوادثه ويصيغها بحيث تخدم الغرض الذي يقصد إليه، وكاتب القصة يبتكر ما تهيّه له حوادث السيرة.

وأنا أفترض أن أحد قرائي قد وقف مرة فوق طريق أثري قديم استخدمه الناس أجيالاً – وعجب أن يرى انحناء فجائياً في نقطة ما، أو دورة حادة لاجتناب شيء لا يراه هو. ولعلّه يسأل نفسه: لماذا لم تمتد الطريق في خط مستقيم نحو الهدف الذي تتجه إليه؟ فالدورة لم تقصر مسافة الطريق بل تطيلها، ولا تجعل الانحدار هيناً سهلاً، بل تجعله عنيفاً حاداً، فما علّة هذا الانحناء أو الدوران، وكان أهون أن تمتدّ الطريق مستقيمة؟

وأنت إذا تتبعت تاريخ هذا الطريق، يتبيّن لك التعليل الكافي لهذا الانحناء أو الدوران في علامة من العلامات التي طُمست معالمها، أو في فسحة من الأرض المسّورَة، أو في حق من الحقوق المقررة التي لم يقدر أن ينازع فيه ممهّدو الطريق. إن الطريق تميل وتنحني، وتلف وتدور لاجتناب بشيء ما لم يكن بدُّ من اجتنابه يومئذٍ.

ويخيل إليّ أن شيئاً من هذا القبيل يتخلل المشكلة التي نحن بصددها. فقد كان ميسوراً، بعد انقضاء سنوات كثيرة، وبعد أن تهدّمت معالم أورشليم واختلطت المواقع المقدسة بالأنقاض التي كدستها أحداث الخراب الماحق، كان ميسوراً جداً بعد كل هذا أن يصطنع الرواة قصة القيامة بعد أن يستبعدوا منها تلك الفترة الغريبة. التي مضت قبل إذاعة النبأ.

وكان أفعل في آذان الغرباء الذين لم يشهدوا الحادث، وأقوى في أقناعهم، لو قيل في المدوّنات التاريخية إن إذاعة النبأ تمت بعد كشف الحادثة مباشرة في غير إبطاء. وما كان ليتصدى أحد إلى منازعة هذا الادعاء، لأنه كان أقرب إلى المنطق وأكثر انطباقاً على طبائع الأشياء في حادث غريب رائع كالقيامة.

على أننا ننسى هنا موقف الذين مهدّوا الطريق وخططوا منحنياتها ودورانها. فإن قصة القيامة التي أُذيعت ونودي بها في العالم القديم في خلال الأربعين سنة الأولى من العصر المسيحي، لم يَرْوٍها أناس غرباء خوارج، بل أذاعها صُحابة يسوع الأصليون وهم لم ينتظروا عقدين أو ثلاثة من السنين قبل إذاعتها في العالم، ولكنهم بدأوا حملتهم المنظمة في خلال شهرين من وقوع الحادث. وما انقضى ستون من الأعوام حتى كان هلك أغلبهم على أيدي العنف والقسوة بسبب اعتصامهم بهذه القصة.

ومن ثمّ يتضح لنا أن فترة الأسابيع السبعة، بما فيها من منافذ وثغرات تسهل على المتشكّكين والمرتابين سبيل الشك والارتياب، كانت واقعة صحيحة في الرواية المسيحية تمثّل ما حدث فعلاً. وهم رووا قصة تلك الأسابيع السبعة، لأنها كانت القصة الوحيدة التي يرويها الصادقون الأمناء. هكذا كانت الحوادث، فلم يرووا إلاّ حقيقة في التاريخ.

وحين ندرك هذا، يتبين لنا أن التاريخ الذي أُذيع فيه هذا التصريح المسيحي العظيم لأول مرة في أورشليم لم يكن إلا في عيد الخمسين من سنة الصّلب – وهو التاريخ الذي يعيّنه سفر الأعمال، والذي أجمعت عليه كل الأحاديث المسيحية المسندة المتواترة.

والآن لنبحث الطريقة التي بها أذيع هذا التصريح: كانت أورشليم في حركة ناشطة من الحركات التي تألفها في أعيادها الموسمية، وكان الوقت عيد الخمسين، وهو عيد يُقبل فيه الزائرون والحجاج إلى المدينة من كل فجّ من فجاج الإمبراطورية، وإن يكن الزحام والتدافع بالمناكب أقل عادة من أيام عيد الفصح. بهذه الجموع الحاشدة التي لم يكن لها عمل أو مأرب إلاّ الاحتفاء بالعيد، كانت تعجّ طرقات أورشليم القديمة وأسواقها بخلق كثير ممن جرت في أعصابهم حرارة الشعور الديني.

في تلك الفترة من تاريخ أورشليم أذيعت الأخبار التي انتهت إلينا تفاصيلها في سفر الأعمال مدموغة بطابع الحق والصدق. ولنا أن نتصور طائفة مؤلفة من اثني عشر أو أربعة عشر رجلاً وربما ست من النساء، يخرجون فجأة من مساكنهم الخاصة في أورشليم وهم في حالة من الثورة

الروحية العنيفة، ونتصور أيضاً جمهوراً من الشعب يلتفّ حولهم، بعضه يسخر منهم ويتصورهم ثملين بنشوة السُّكْر، والبعض الآخر يسوقه حب الاستطلاع للوقوف على علة الثورة الحماسية. ولنا أن نتصور أيضاً صياداً مثل بطرس يقف على منصة عالية، ربما درجات أحد المنازل، ويذيع في الناس هذا التصريح الغريب.

على صور كهذه أُذيع لأول مرة في الناس نبأ الاختبار المسيحي. والآن تتبّع سير الحوادث: لو أن الاعتقاد بقيامة يسوع بقي مقصوراً على الفئة المختارة، يتداولونه فيما بينهم سراً ويتناقلونه بين الأخصاء وراء أبواب مغلقة، لبقيت حالة أورشليم الخارجية دون تغير، أما وقد خرج التلاميذ عن عزلتهم وأذاعوا في الناس نبأهم، فلم يكن بدّ من حدوث أمرين:

الأول: نقاش حاد وجدل عنيف بين أنصار هذه الحركة الجديدة وبين أضدادها. ولم يكن الأمر خلافاً طفيفاً في الرأي في مسألة دينية ثانوية، بل كان فضيحة مشينة وافتراء شنيعاً. فإن صحّ ما ادعاه التلاميذ فكأنّ الكهنة ورجال الدين الذين ألجّوا على قتل يسوع، قد خانوا الشعب واقترفوا أشنع جريمة أمام الله. أما إذا لم تكن دعوهم صحيحة، وكانت اذاعتهم زوراً وبهتاناً، فلا بدّ من فضحها واستئصالها في غير هوادة. ولم يكن في الإمكان اتخاذ موقف وسط، فكان كل إنسان إمّا موالياً للحركة الجديدة، أو خصماً لها ناقماً عليها.

والثاني: أن رجال السلطات، مهما اشتد ميلهم إلى إخفاء قضية يسوع وحمل الناس على نسيانها، لم يكن في وسعهم تجاهل حملة كهذه والسماح لقوم بفضح جريمتهم الأدبية تحت سمعهم وبصرهم وفي أفنية الهيكل. إن موقفاً كهذا يعرّض مراكزهم للخطر، ولابدّ من اتخاذ بعض الأساليب العنيفة للدفاع عن أنفسهم. وهم إذا فشلوا في هذا، انهارت كرامتهم وضعفت في الناس هيبتهم، والسكوت هنا عنوان الفشل.

ويتضح جلياً من شهادة سفر الأعمال أن ذينك الأمرين قد تمّا فعلاً في خلال السنوات الأربع التي نشطت فيها الدعوة المسيحية ولقيت نجاحاً باهراً قبيل الاضطهاد العنيف الذي أثاره شاول الطرسوسي، فقادة الرسل أُلقي عليهم القبض مرة، بل مرتين. واقترنت المرة الأولى بحادث اضطراب حول رجل أعرج قعيد، ولكنها في الواقع من أجل تعليمهم عن يسوع.

والدليل على هذا أنهم عند إطلاق سراحهم أُستحلفوا أن لا يذيعوا شيئاً عن هذا الاسم. وكانت المحاولة العميقة الأولى من جانب السلطات أشبه بمن يقبضون على ذنب الحية قبل أن يلسعهم نابها.

ولكن إزاء هذا العمل الذي لم يكن حاسماً من جانب السلطات اليهودية، كانت المسيحية تزدهر وتنتشر وتكتسب الأنصار والأتباع في نطاق واسع ما كانوا يحلمون به. والاضطهاد المرّوع الذي قام به شاول في مدن بعيدة مثل دمشق يدلّ على أن الحركة كان قد اتسع نطاقها اتساعاً أفزع القوم وأقضّ مضاجعهم. وإذا لم يزد أهل ذلك “الطريق” الذين حاول شاول إفناءهم، عن ثلاثة آلاف نسمة، فإن معنى هذا أن نسبة هائلة تفوز بها عقيدة ثورية انقلابية داخل أورشليم ذاتها. الرقم ثلاثة آلاف كان بلا شك أقل من الحقيقة.

وحَتْم هنا على كل قارئ أن يبحث في هذا السؤال: هل كان ممكناً أن تصادف هذه الثورة الانقلابية – بما انطوت عليه من تضارب في الآراء والادّعاء أن يسوع قام من الأموات – هذا النجاح الفائق، لو كانت جثة يسوع باقية رميمة في قبرها؟ هذه نقطة خطيرة جوهرية في الموضوع نضطر إليها الفينة بعد الفينة، لأنها تمسّ لباب الأمر كله.

إنَّ الحقيقة تقوم على قوة الدليل، وكلُّ ما لدينا من الأدلة تنهض لإثبات عكس هذا الزعم. فلنفكر هنيهة في ظاهرة أشرنا إليها في فصل سابق، ولكنها تلحُّ علينا إلحاحاً في هذا المقام، وأقصد بها خلّو أذهان المعاصرين خلواً تاماً من الاهتمام بقبر يسوع أو التفكير فيه خلال الأسابيع والسنوات التي تلت الصلب.

ومن يقرأ تاريخ تلك الفترة من الزمن، لا يسعه إلا أن يتأثر في الأعماق بهذه الفكرة، وأعني بها نسيان الناس، الأصدقاء والأعداء سواء. لقبر يسوع وعدم تفكيرهم فيه بتاتاً. فإن أحداً لم يذهب في السنوات اللاحقة إلى بستان يوسف الرامي ويقف هناك أمام القبر المنحوت في الصخر ويقول: “هنا المكان الذي دُفن فيه السيد”.

ولم تقم السلطات المعادية بأي سعي لتثبت للناس أن بقايا جسد هذا المعلم العظيم راقدة في القبر حيث وُضعت قبل أيام أو أسابيع أو أشهر. والأغرب من هذا وذاك أنه لم يقل أحد ممن لهم بعض الإلمام ببواطن الأمور، “دُفن هناك لا هنا!!”. وبدل هذه الظواهر الطبيعية التي كنا ننتظرها على أثر هذه الحادثة الغريبة، نرى جموداً وعدم اكتراث من هذه الناحية لا مثيل لهما، ومنذ الساعة التي عاد فيها النسوة من البستان، اختفى قبر يسوع من القصة اختفاء تاماً.

والحق أنها ظاهرة غريبة فريدة من نوعها. وعلى أي وجه قلّبناها تبدو لنا حقيقة هائلة رائعة لا سبيل لنقضها. فإن عدد الذين عرفوا يسوع معرفة وثيقة في حياته من أهل أورشليم كان قليلاً جداً، ربما لا يزيد على الثلاثين. وهؤلاء الأقلّون انتثروا وسط جمع هائل من الحجيج من الأقاليم الأخرى والبلدان النائية يبلغ عدّهم مئات الألوف.

والذي يتبادر إلى الذهن أن ينبري من وسط هذا الحشد الهائل نفر ممن سمعوا التلاميذ ينادون بقيامة يسوع، ويتولّون البحث عن القبر للوقوف على جليّة الأمر، وعندئذٍ كان يثور الجدل العنيف ويحتدم النزاع بين الفريقين.

على أن لا أثر البتة لمثل هذا الجدل، ويُخيّل إلينا أن الإجماع كان معقوداً على خلو القبر. وكلّ ما بقي لنا في القصة من تعليل سقيم مغيظ أن التلاميذ نقلوا الجسد سراً، وهي كذبة عالجناها في فصل سابق. ومرة أخرى أقول إن هذه حقيقة هائلة رائعة، تدّل على أن حدثاً معيناً وقع يومئذ، جعل خلو القبر أمراً مسلماً بها مفروغاً منه، فوق متناول كل نزاع أو جدال.

على أن اختفاء القبر وراء ستار، ليس الشيء الوحيد الذي يبهر الأبصار. فهناك الحقيقة الغريبة الأخرى المقابلة لها، ألا وهي أنك لن تقدر على إنكار خلو القبر دون خلق موقف غريب من الناحية العقلية المنطقية:

صور لنفسك الحالة في أورشليم بعد انقضاء أسابيع على الحادث من وجهة النظر السلبية المتطرفة – عاد صحابة يسوع إلى العاصمة بعد فترة قضوها في الجليل، ربما كانت ثلاثة أسابيع أو ستة أو سبعة. ولا يهمنا كثيراً مدى هذه الفترة، لأنه على أي حال كانت قد خمدت العواطف الثائرة التي أهاجها الصلب. وفي هذه الغيبة جاز أفراد هذه الجماعة اختباراً قلب حياتهم رأساً على عقب وبدّل وجهات نظرهم تبديلاً كاملاً.

واقتنعوا يقيناً بعد أن جالوا بتفكيرهم في حوادث السنتين السابقتين، ولا سيما في بعض أقوال يسوع الغامضة التي لم يفهموا معناها في وقتها، أن يسوع قد قام من الأموات، وارتفع إلى “يمين عرش الله”. وازداد هذا اليقين شدة وثباتً على أثر اختبارات جازها أكثر من واحد من تلك الجماعة ممن وثقوا أن يسوع المقام قد ظهر لهم وعلامات الصلب بادية في جسده.

ونقلوا هذه الاختبارات إلى غيرهم من إخوانهم الذين كانوا على استعداد لقبول هذا الإيمان. وما انقضى زمن طويل حتى تأهبت الجماعة كلها من رجال ونساء للرحيل إلى أورشليم لإذاعة هذا الحق الذي ملأ نفوسهم، منادين أن يسوع هذا هو المسيا المنتظر حقاً.

(وقد حاولتُ فيما أسلفتُ أن أبسط القضية في شيء كثير من الاعتدال والإنصاف. فإن أحسّ القارئ أنه يعوزها قوة الإقناع في تعبيرها ووضعها، فليضعها في القالب الذي يشاء).

 ولعلّه ليس ثمة خطأ أعظم من أن نفترض أن هذا التعليل الذي عزونا إليه اهتداء التلاميذ،

تعليلاً أيضاً لقومة المسيحية قومة فجائية ونهضتها تلك النهضة الغريبة. فالمحكّ الصحيح لهذه الاختبارات سنراه بعد قليل….

علينا الآن أن نصّور هذه الفئة المقتنعة ولكن المخدوعة (على زعم هذه النظرية) في المدينة عينها التي يقع فيها القبر الذي لا يمكن أن يُنقل، حيث ظلّ الناس أسابيع يقومون بأعمالهم اليومية واثقين أن القبر لم يتعرض له إنسان، ومسلّمين بأن الإجراء الرسمي الذي قامت به السلطات في قتل يسوع إنما يمثل في نهاية الأمر مشيئة الله وقصده. وعلينا أن نفكر الآن في أولئك التلاميذ كقوم يتأهبون لاستمالة هذه الجموع الغفيرة الى عقيدتهم وإيمانهم.

ولا يفوتنا أن هذا الجهد الجبار في الدعوى للإيمان الجديد لابد أن يتخذ قبل كل شيء شكل نداء، لا لإثارة العواطف، بل للتأثير على العقل. فقد كان اليهود على قسط كبير من الذكاء وسرعة البديهة، وحسناً أن نقرأ خطبة استفانوس، وكلام بطرس من فوق منصّة درجات الهيكل، وغيرهما من الخطب التي بقيت لنا من سفر الأعمال، لنحكم كيف حاول الزعماء المسيحيون الأُول التأثير في عقول سامعيهم واستهواء ألبابهم.

وسنرى فيما بعد أن تصريح التلاميذ أثار معركة جدلية حماسية تقارعت فيها الحجج العقلية بضعة شهور في كل مجمع من مجامع اليهود قامت فيه ضجة حول هذه الدعاية.

ولو تصورنا هذا الجهد مبذولاً في كفر ناحوم أو طبرية، أو أية مدينة أخرى بعيدة عن مشاهد المحاكمة والصلب، لقدّرنا له شيئاً من التوفيق، فإن شرذمة من الناس المتحمسين بقوة الإقناع، وفي بيئة لا تتوافر فيها أسباب تمحيص دعايتهم والحصول على المعلومات الدقيقة فيما هم بسبيله من الأقوال، قد تُفلح في استمالة كثيرين من المهتدين إلى جانبهم.

ولكن التاريخ يثبت في جلاء أن المعركة الجدلية ثارت في أورشليم حيث لا مجال لأسباب الخداع والتغرير، وحيث يستطيع من شاء أن يذهب إلى القبر فيما بين ساعة العشاء وساعة النوم، وحيث يتيسر دائماً الاستعانة بالسلطات الرسمية المعادية وأقوال الشهود الحاسمة. في هذه البيئية الجامدة الرجعية، لا أقلّ من ثلاثة آلاف شخص اهتدوا إلى هذا الإيمان الجديد في يوم واحد على قول المؤرخ لوقا، ثم لم يلبث أن قفز هذا الرقم بعد قليل إلى خمسة آلاف.

تُرى ما العامل الجوهري في تدهور الطائفة اليهودية تدهوراً بلغ من الخطورة في بضع سنوات حداً حمل شاول الطرسوسي على أن ينظم حملة هائلة لكبح جماح العوامل التي نخرت في جسم الهيئة اليهودية؟ وما سرّ القوة التي أقنعت واحداً بعد آخر بأن المسيحيين كانوا في حقهم مجاهدين، وأن كهنة اليهود كانوا في باطلهم معتدين. وترى هل كان يفلح مجهود يبذله التلاميذ لو كانت شهادة القبر سلبية يعضدها إنكار الكهنة وتكذيبهم، وريبة الجماهير وذبذبتهم؟

على أن للمسألة وجهاً آخر لا يجوز إغفاله: كيف ساغ للتلاميذ أنفسهم الإيمان بهذا الحادث الغريب المدهش؟

إلى هنا كنا نفترض في تحليلنا أن كل شيء جائز من ناحية التلاميذ أنفسهم. لكن الباحث المنصف الذي يتخذ العقل البشري ميداناً لبحثه، يجد نفسه أمام مشكلة تفوق أي مشكلة أخرى في تعقيدها وبُعدها عن المنطق والمعقول. وذلك لأننا نعرف عن أولئك الأحد عشر أكثر مما نعرف عن أي فئة أخرى في التاريخ القديم. فإن أخلاقهم وخصالهم قد سُجِّلت في الروايات بحروف بارزة، ويسوع نفسه حين اختارهم لم يغفل ما فيهم من خواص عقلية وروحية.

ونحن قد أبينا في الشطر الأول من بحثنا قبول الزعم القائل إن التلاميذ سرقوا جسد يسوع، وعزونا هذه إلى ما نعهده في التلاميذ من سجايا أدبية تترفّع عن هذا، ومن تفكير عقلي يعفُّ عن اصطناع الخيالات والأوهام. وهنا أيضاً تتصدى لنا هذه الصعوبات، وإنما في وضع أشد، حين نفكر أنهم قد خضعوا جميعاً وبدون استثناء لتأثير الوهم والخداع والتضليل.

وما نظنه من الميسور أن نجمع في هلوسة جامعة قوية بين بطرس الصياد المخشوشن وأخيه اندراوس، وتوما المتشكك المرتاب، ومتى العشّار الجامد الحسّ المرتب الذهن، وفيلبس البطيء في الفهم، الحار في الولاء. وما نظن أنه من الميسور الجمع بين هؤلاء جميعاً في حالة واحدة من الهذيان واختلاط العقل.

والجهد الذي أزمعوا القيام به لا يُقدر له نجاح إلاّ بإجماع في الرأي وثبات راسخ في العقيدة. والأهوال والاضطهادات التي تعرّض لها هذه النفر فيما بعد وصمدوا لها، لا تدل مطلقاً على عقيدة فاترة أو اتفاق سري يشوبه شيء من الشك أو التواطؤ، فالموقف يتطلب عقيدة شديدة الصلابة قوية المراس، تشقّ طريقها في إفهام الناس وعقولهم بالحجة المقنعة والدليل الدافع.

والظاهرة الغريبة في هذه الرسالة التي حملها التلاميذ، أنها لم تُعلَن فقط لكل فرد من أفراد صحابة يسوع الذين عرفنا شيئاً من أمرهم، بل قد حملوها أيضاً إلى أورشليم كوثيقة صِدق لا كذب فيها، وأذاعوها متحمسين في أوساط اليهودية المتعلّمة النابهة، وتحدّوا بها أصحاب منطق العصر، وأشد أساليب المقاومة المنظّمة.

وكانوا في هذا الجهاد من المفلحين. وما انقضت عشرون سنة حتى كانت هذه الرسالة التي حملها الفلاحون الجليليون قد طغت على المجتمع اليهودي فمزقته، وطبعت أثرها العميق في كل مدينة من مدائن شرق البحر الأبيض المتوسط من قيصرية إلى تراوس. وفي أقل من خمسين عاماً رفعت هذه الرسالة رأسها لتهدد سلام الإمبراطورية الرومانية.

وبعد أن نقول كلّ ما يُقال عن مبلغ استعداد صنف من الناس للإيمان بما يريدون أن يؤمنوا به، وعن سرعة انقيادهم إلى عواطفهم وأحاسيسهم، وعن اندفاعهم في إذاعة حقيقة كانت في أصلها بدعة وهلوسة، بعد أن نقول ما يتسع له القول في هذا المضمار، تصدمنا الحقيقة الهائلة التي يفوق سرّها كل الأسرار: لماذا أفلحت رسالتهم وكان لها ذلك الشأن الرفيع في مصير العالم؟

ولقد تكاثر عدد الداخلين إلى الكنيسة المسيحية باضطراد، لا من حجاج أورشليم الذين وفدوا إليها في المواسم والأعياد، بل من سكانها الأصلين المقيمين فيها. ولزام علينا أن نعلل الظاهرتين الغريبتين في هذه الرسالة وهما حماس أنصارها ودُعاتها وانكماش أعدائها ومقاوميها، كما نقلل أيضاً تدفق ذلك السبيل الجارف من الداخلين إلى أحضان هذا الدين الجديد.

وحين نذكر أن ذوي المقامات الرفيعة في أورشليم ناضلوا لخنق هذه الحرمة في مهدها ولكنهم عجزوا، وأن شتى العقبات والحيل استُنبطت لإسكات الرسل فما بلغت مراماً، إلى حين نذكر كل هذا، ندرك أن وراء كل هذه الحيل والأحابيل حقيقة صامدة ساكنة لا تزعزعها الحوادث، ونتبيّن السبب الذي حمل قيافا وحنان وغيرهما من زعماء الصدوقيين – الذين أهاجهم هذا التعليم الجديد وعفّر كرامتهم في التراب – على السكوت والصبر في خلال السنوات الأربع التي امتدت فيها المسيحية في أورشليم وتكاثر أنصارها ومريدوها.

رأوا هذا بعيونهم وسمعوه بآذانهم، فما وجدوا سبيلاً للإفلات من هذا المأزق.

وإن كان جسد يسوع باقياً في القبر حيث أودعه يوسف الرامي، فلماذا لم يقولوا هذا؟ وهم لو أعلنوا الحقيقة مجردة على لسان أحد رجال السلطات اليهودية وفي أبهاء الهيكل، لكان عملهم هذا بمثابة صبّ ماء بارد على النار المشتعلة التي أذكتها البدعة المسيحية، وكان كافياً لتثبيت موقفهم، وحفظ كرامتهم، صدّ تيار الداخلين إلى هذا الدين الجديد.

على أنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا، لأنهم عجزوا عنه، وأنت تنقّب في بقايا تلك المعركة الجدلية التي انتهت إلينا بعض آثارها، فما نجد أحداً من الرجال المسئولين تجرأ أن يقول إن جسد يسوع باق في القبر. وكل ما قيل لنا هو الأسباب التي تعلل خلّو القبر. ولكن فكرة خلو القبر تخلل كل الوثائق القديمة التي انتهت إلينا.

فهل من الميسور التهرب من هذا الدليل الجامع الدامغ؟ لا أظن هذا مستطاعاً. ويخيل إليّ أن تسلسل الحوادث وتعاقبها المنطقي قوي إلى أقصى حدود القوة.

فحين نذكر تطور موقف التلاميذ من الذعر والخوف إلى الشجاعة واليقين، وفترة الأسابيع السبعة، وتهافت يهود أورشليم على الدخول إلى هذا الدين الجديد، وتراجع السلطات عن المقاومة، ونمو الكنيسة نمواً مضطرداً في السلطان والقوة، وحتى هبّت العاصفة الجائحة التي أثار غبارها شاول الطرسوسي – حين نذكر كل هذا ندرك أننا أمام ظاهرة غريبة ملموسة أقوى من مجرد انعكاس نفسي كان الدليل الحاسم والشاهد الصادق الأمين الذي قضى على كل قول هراء، وسدّ المنافذ أمام كل محاولة.

ولو صحّ هذا الزعم الفاسد لكان من سخرية الأقدار حقاً أن يبدأ تلاميذ يسوع حملتهم الموفّقة من مكان يبعد دقائق معدودات عن القبر الذي ثوت فيه بقايا زعيمهم وسيدهم، وينادون أنه قام من الأموات. ولو كان يسوع باقياً في القبر على الرغم من هذه المناداة، أفما كان ميسوراً القضاء على هذه الكذبة في مهدها بأقوال من شهود عيان؟

وهكذا نرى أنفسنا بعد أن تفرغت أفكارنا، نعود إلى حيث بدأنا، ونرى الدليل على صدق قصة النسوة حاسماً دامغاً في انسجامه وفي قوته. وهو من طراز الأدلة التي يستأثرنا هدؤها وعدم تطفلها، واتجاهها إلى ناحية معينة لا زَيْغَ فيها.

وسنرى الآن أن الاتجاه لا يتغير عندما نبحث الموقف التاريخي من نواح أخرى ونستعرض أقوال شهود عيان آخرين، ممن لهم سلطة القول الحق، وممن لديهم الخبر اليقين الذي لا يُنقض.

فصول كتاب من دحرج الحجر

اللغز التاريخي في المشكلة – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !