أبحاث

دليل يقدمه الرجل الطرسوسي – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

دليل يقدمه الرجل الطرسوسي – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

دليل يقدمه الرجل الطرسوسي – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

دليل يقدمه الرجل الطرسوسي – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟
دليل يقدمه الرجل الطرسوسي – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

دليل يقدمه الرجل الطرسوسي – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

في الوقت الذي كانت تتهيأ فيه المسيحية لمنازلة خصومها، وفَد إلى أورشليم شاب امتاز بالكفاية ودقة النظر، وحتى لو حكمنا عليه بمقياس العصر الحديث، ولعلنا لا نقدر أن نتصور عاملاً تاريخياً كان له من حُسن التوفيق ما كان لقدوم ذلك الشاب في تلك الفترة المعينة.

أما اسمه فكان شاول. وهو عبراني تحدّر من سلالة محافظة حريصة على مراعاة الطقوس والفروض الدينية، ولكن تفكيره اتسع بفضل احتكاكه بالعالم الروماني اليوناني واتصاله بثقافة ذلك العصر. فكان ملماً بعض الإلمام بكتابات أراتوس، وأبيميندس، وميناندر، كما يبدو من خطبه المتأخرة.

رحل الشاب من طرسوس في كيليكية حوالي سنة 34 ب.م. والذي نعنى به الآن إنما تحليل موقفه في القضية التي نحن بسبيلها. فلقد بدأ حياته شخصية بارزة في المعسكر المعادي يجادل ويحاور في عنف وجفاء، فانقلب شخصية بارزة في المعسكر الآخر. حاول أن يقضي على الحركة بأساليب العنف والقوة، فأُخضع هو نفسه واندمج فيها.

فإلى قائمة المهتدين فرادى – أمثال بطرس ومتى وفيليبس، وسالومة ومريم ويونّا، ويعقوب ومتياس وغيرهم – نضيف ذلك الشاهد المستقل الجديد. ولا أشك أن كل باحث منصف في القضية يرى الحقيقة الماثلة في هذا الإنسان خليقة بالبحث والاستقصاء، فإنه لا يمكن تجاهلها أو إغفالها. ولابد أن نعرف لماذا كان ذلك الشاب المتحمس إلى جانب رؤساء الكهنة أولاً، وما الذي حمله على أن ينقلب إلى الجانب الآخر.

وأرى أن نبحث أولاً الموقف الذي ساد أورشليم في الوقت الذي ظهر فيه شاول على المسرح وبعده بقليل.

نتبين من القصة أنه في الوقت الذي ظهر فيه شاول على المسرح كبطل الرواية، كان الجدل والحوار على أشدهما في المجتمعات العامة. وكانت الحركة قد نمت وامتدت من نواة صغيرة إلى جماعة كبيرة من الأتباع والأنصار، حتى اقتضى الحال تعيين سبعة من الشمامسة للإشراف على شؤونها. وكانت الدعاية – أي المحاجّة والتعليم الخاص والعام – الوسيلة الوحيدة التي تكاثرت بها تلك الطائفة.

ولم تكن ثمة حاجة لإثبات حقيقة صريحة كهذه، لولا أن الدكتور “ليك” أنكرها في عبارات أُثرت عنه قال فيها:

“نستدل من بشارتي متى وبطرس أن قصة القبر الفارغ لم توضع على بساط البحث إلاّ مؤخراً، في الجدل الذي ثار بين اليهود والمسيحيين. وواضح من الوجهة النفسية أن هذا الجدل لم يحتدم في الفترة الأولى من العصر المسيحي، لأن اليهود لم ينصرفوا إلى الحوار في أول الأمر ولكنهم أخذوا الأمر بالقوة والاضطهاد. لم يتسع المجال للنقاش والحوار إلاّ بعد أن اشتد ساعد المسيحيين” (صفحة 195 من كتابه).

وإذا أخذنا بهذه الأقوال حرفياً، كان معناها أن اليهود لم يجادلوا المسحيين قط قبل سنة 35 ب. م. التي وقع فيها الاضطهاد الكبير، وأن الحركة قد امتدت بأداة غامضة دون جدل أو حوار حتى تفاقم خطرها فاتجهت إليها أنظار السلطات، وقامت في وجهها الصدمات.

وهذا قول هراء باطل، وهو يناقض وقائع الحال بحيث لا يسعني الاعتقاد أن هذا هو الذي قصد إليه الدكتور “ليك”. وأظن الذي يعنيه أن الرؤساء ذوي الجاه والكرامة والمناصب لم يتنزلوا إلى مجادلة المسيحيين ومناقشتهم.

وهم في هذا الموقف يقفون آثار التقاليد التي درج عليها خلقاؤهم، ويكررون الأساليب الفنية التي استخدموها ضد يسوع، فإنه في الصراع ضد يسوع، لم يظهر على المسرح زعماء الصدوقيين وهم سادة الموقف، ولكنهم عهدوا بذلك إلى مرؤوسيهم من الكتبة والفريسيين لمناقشة ونصب الأحابيل الكلامية للإيقاع به، ولم يُزح حنان وصهره قيافا وزعماء طائفة الصدوقيين الأثرياء القناع عن وجوههم ويظهروا أمام الناس “على المكشوف” إلاّ بعد أن وقع العدو الأكبر بين أيديهم وتمكنوا منه فعلاً.

وهكذا كان الحال أيضاً في تاريخ هذه الحركة فيما بعد. فبين الفينة والفينة نرى رئيس الكهنة وزملاءه يظهرون شخصياتهم الرسمية كما حدث في القبض على بطرس ويوحنا وتوجيه الأسئلة إليهما. ولكنهم في أكثر المواقف يتوارون وراء غيرهم ويعملون من وراء الستار. ولعلّ هذه هي السياسة المحنكة الحكيمة التي يجري عليها رجال الحكم والأشخاص الرسميون، ليتجنوا الوقوع في أيدي خصومهم بالابتعاد عن صغائر الأشياء حتى يضطرهم ضغط الحوادث إلى التدخل فعلاً.

وإن صحّ القول إن الممثلين الرسميين للسلطات اليهودية لم يجادلوا المسيحيين، فإنه لا يصحُّ فيما يتعلق باليهود أنفسهم. فإن المتنصرين في السنوات الخمس الأولى كانوا كلهم من اليهود تقريباً. وأنت لا تتصور حركة مثل هذه يُقبل الداخلون إليها بمعدّل ثمانية عشر شخصاً إلى عشرين كل أسبوع لمدة خمس سنوات، دون أن يحتدم الجدال ويشتد الحوار في المنتديات الخاصة والعامة. وهنا معقل الدليل في هذه القصة.

فإنه حين يجلس الباحث الناقد في هدوء، ويزن الحقائق والوقائع ويفكر كيف تكاثر أتباع هذا الدين الجديد حتى بلغ عددهم في أربع أو خمس سنوات حداً يحمل الخصوم على إثارة اضطهاد ضدهم – أقول حين يُفعل هذا لا بد يصطدم بحقيقة تحيره وتذهله – ألا وهي أن كل هذه الحوادث جرت على مقربة من القبر الذي وضع فيه يوسف الرامي جسد يسو. ومهما يكن من أمر ما حلّ بيوسف هذا، فإن القبر باقٍ هناك لم يُنقل من موضعه.

وإن صحّ ما يذهب إليه الناقدون الجاحدون، كان الأمر مدعاة إلى كثير من السخرية والتهكم، وذلك لأن التلاميذ كانوا يجادلون ويكسبون الأنصار يومياً، وهم على مسافة ألفي متر من القبر الذي كان في وسع خصومهم أن يستمدوا منه الدليل الذي يُخسرهم ويفسد عليهم دعايتهم.

ولو أن التلاميذ سلكوا سبيلاً غير هذا الذي سلكوه، لما كان موقفهم مفهوماً. ولا يخفى أنه كان من الميسور أن يُقال عن المسيح أشياء كثيرة في تلك الأسابيع الحرجة التي عقبت الصلب دون إثارة موضوع القبر الفارغ. كان ميسوراً أن يقال إنه كان إنساناً عظيماً من الصالحين، وإن موته العنيف في عنفوان قوته كارثة قومية بل عار وطني.

كان ميسوراً أن يُشار إلى تعاليمه السامية في الموعظة على الجبل وفي أمثاله الكثيرة التي ترفعه إلى أعظم مكانة بلغها نبي من أنبياء إسرائيل. بل كان ميسواً أن يقال إن التهم التي أُقيمت ضده كانت باطلة وإن موته كان جريمة من جرائم القتل العمد، وإثماً فظيعاً في نظر الله.

ونستطيع أن نتصور الجدل يحتدم حول هذه الأقوال في المجتمعات الخاصة أو شبه العامة في أورشليم على نمط الحوار اليهودي بما يلابسه من حرارة وطلاقة لسان، ثم يتفرّق المتحاورون ويذهبون إلى دُورِهم دون أن يفكّر أحد في ذلك الكهف الصامت في بستان الرامي. أما الذي لا نقدر أن نتصوره مهما امتدّ بنا الخيال، فهو أن تُعقد هذه الحلقات في قلب مدينة أورشليم للاحتفاء بقيامة يسوع والمناداة بها دون أن تتجه أفكار كل السامعين إلى حادثة القبر الخطيرة.

وما من شك أن حالة القبر كانت القول الحاسم الفاصل في موضوع النقاش، فإما أنه كان يضم في جنباته بقايا الجسد وإما لا. فإن كان القبر خالياً خاوياً، لا بد أن شاول وقف على هذه الحقيقة وعرفها بلا مراء من أول الأمر في جدله وحواره مع المسيحيين، ولا بد أنه شرع بالاضطهاد الكبير عمداً على الرغم من وضوح هذه الحقيقة.

وكان من حق رجال السلطات أن يغضّوا الطرف عن دعوى التلاميذ، ولكن حقيقة اختفاء جسد متهم سياسي خطير الشأن لا يمكن أن يخفى عليهم. وإن كان رجال السلطة قد وقفوا على جلية الأمر، فلا شك أن شاول عرف أيضاً.

اعتقد تماماً أن شاول وقف على حقيقة الأمر فيما يتعلق بدعوى اختطاف جسد يسوع، لا من رجال السلطة فقط، بل من جدله وحواره مع المسيحيين في المجامع اليهودية. ولو أننا فرضنا أن جسد يسوع كان ثاوياً في قبره في بستان الراميّ طيلة المدة التي كان شاول فيها يناضل المسيحيين ويكافح دعايتهم، تارة بالجدل الحامي وأخرى بالعنف القاسي، لكان معنى هذا أن الجسد ظلّ باقياً أيضاً في مثواه بعد هذا التاريخ بثلاث سنوات حينما عاد شاول إلى أورشليم إنساناً مهتدياً، وكان معناه أن شاول هذا آمن واهتدى وهو واقف على أمر هذه الأكذوبة المفتراة.

وحسبنا أن نتصوره يقضي أسبوعين كاملين يتحدث مع بطرس ويعقوب في أورشليم عن عقيدة تدور حول جسد مقام في حين أنه ثاوٍ في قبره!!! وحسبنا ان نتصورهم يرسمون الخطط ويضعون البرامج لنشر الدعاية عن قيامة المسيح وهم يعلمون أن بقايا جسد زعيمهم وسيدهم رميمة في القبر!!!

أكان هذا هو الموقف التاريخي؟ لا أظن. فإنه لا ينسجم مع وقائع الحال ومنطق الحوادث. فكر معي في حقيقة لها خطورتها على صغر شأنها، وهي كيف أننا لا نجد في سفر الأعمال، ولا رسائل الرسل، ولا في الوثائق التاريخية الأولى، أي أثر نستدل منه على أن إنساناً ما ذهب ليقدم فرائض الإخلاص والولاء إلى المزار الذي ثوى فيه جسد يسوع.

ألم يكن بين الصحابة امرأة تثير الذكريات شيئاً من الشجن في نفسها، فتسوقها إلى ذلك المزار المقدس لسكب دمعة من دموعها؟ ألم يكن بين الرسل الأوفياء الأمناء أمثال بطرس ويوحنا وأندراوس من تضطرم في نفسه لواعج الذكرى، فينساق إلى زيارة ذلك المقّدس الذي ضم رفات أعز الناس لديهم؟

ألم يكن الأجدر بشاول حين تهتاج نفسه ذكريات كبريائه الأولى واعتداده بذاته أن يذهب وحيداً ولو مرة واحدة إلى القبر، ليبلل ثراه بدموع التوبة والندم جزاء ما اقترفت يداه ضد هذا الاسم الكريم الذي يعتزُ به الآن؟ حقاً لو أن هؤلاء القوم عرفوا أن سيدهم دفين في قبره، لكان أمرهم من أغرب ما شهد التاريخ من أباطيل!

ثم فكّر معي ثانياً في مسألة الوثائق التاريخية: فلو كانت المسيحية بدأت مثلاً بمجرد فكرة خلود يسوع، ثم تطورت في تاريخ بطيء حتى غدت، كما هو شأن الأساطير، عقيدة في قيامته بالجسد، لكانت أقدم الوثائق التاريخية وأقربها إلى الدور البدائي، وأقلها أثراً وأضألها فعلاً. فبشارتا متى ومرقص، وهما أقدم بشائر الإنجيل بإجماع الآراء، وأوجزها في التعبير، تصفان قصة القبر الفارغ بعبارات خالية من التزويق أو التصنع، لا خروج فيهما عن الموضوع ذاته.

ثم فكّر أيضاً أن بين اثنين على الأقل من كُتّاب البشائر وبين بولس الرسول علاقة تاريخية وثيقة، فالرجل الذي كتب الفصل الرابع والعشرين من بشارة لوقا قضى أسابيع طوالاً بصحبة الرسول الكبير، وكان له أكثر من زميل، كان صديقاً وفياً. وفي أخريات أيامه أشاد الرسول بذكر وفائه وإخلاصه فقال: “لوقا وحده معي”.

والرجل الذي كتب الآيات الثماني من الفصل السادس عشر من بشارة مرقص كان، على قول

 

جمهرة الأئمة والعلماء، يوحنا مرقص نفسه، وهو شاب ثار بينه وبين الرسول شِجار، ولكنه عاش حتى اكتسب فيما بعد عطف الرسول وتقديره. فهل اعتنق ذانك الرجلان سراً عقيدة تناقض عقيدة الزعيم الوقور الذي اتّبعاه وأُعجبا به أيّما إعجاب؟

وحين نقرأ رسائل بولس نفسه قراءة منصفة، نرانا أمام أقوال صريحة تزيح كل شك في عقيدة بولس حول القيامة.

فانظر مثلاً إلى عبارته – التي تكاد تكون اعتراضية محصورة بين قولين – والتي أدمجها في استهلاله رسالة غلاطية:

“بولس رسول، لا من الناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من الأموات”.

أو إلى هذه العبارة في رسالة أخرى قبلها، وهي الرسالة الأولى إلى تسالونيكي: “…. رجعتم إلى الله من الأوثان لتعبدوا الله الحي الحقيقي تنظروا ابنه من السماء الذي أقامه من الأموات، يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي”.

أو إلى هذه العبارة التي وردت في مقدمته الشهيرة لقائمة شهود العيان في الفصل الخامس عشر من رسالته إلى كورنثوس الأولى:

“فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ….” (1كورنثوس 15: 3 و4)

أو إلى القولة الرائعة المأثورة عنه في هذا الفصل عينه:

“وَلكِنْ إِنْ كَانَ الْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ؟” (1كورنثوس 15: 12)

وإنه ليتعذر علينا قراءة هذه الآيات، في سياق الحديث الذي جاءت فيه أو منفردة، دون أن نشعر أن فكر الكاتب بعيد كل البعد عن مجرد الخلود أو القيامة الروحية. على أن في هذا الفصل عينه عبارة نيّرة تضع الأمور في مستقرّها وتقضي على كل تقّول أو مماحكة:

وقد كان بولس – شأن عدد كبير من زملائه المسيحيين في ذلك العصر – يؤمن أن يسوع الناصري سيعود قريباً مكللاً بالمجد إلى الأرض، وقد توقّع هذا المجيء في حياته على الأرض. وكان الإيمان بمجيء المسيح السريع فكرة اختلجت في نفوس عدد غفير من المسيحيين في خلال الخمسين سنة الأولى من العصر المسيحي، وبولس كان واحداً من أولئك.

وقد اقترن بتلك العقيدة سؤال عملي خطير. ذلك أن بعض المؤمنين كان قد مات، وبقي البعض الآخر أحياءً. فكيف يكون الموقف عند مجيء المسيح ثانية؟ ويجيب عن هذا السؤال إجابة صريحة بقوله:

“هُو َذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ” (1كورنثوس 15: 51 و52).

ومحال أن نقبل العبارة على ظاهرها الذي قصد إليه الرسول، دون أن نفطن إن وراءها فكرة صافية من تحوّل الجسد الطبيعي إلى جسد روحي ممجّد. وكان واضحاً حقاً، كما عرف بولس، أن “لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله”. ولم يكن بدّ من حدوث تغيير في الأحياء الأموات على السواء لإعدادهم للحياة الفضلى في الملأ الأعلى.

ففيما يتعلق بالأموات ذهب بولس إلى أن هذا التغيير أو التحول سيحدث في ساعة القيامة. ولكن ما من شك أنه آمن أن الجسد الأصلي هو الذي سيطرأ عليه هذا التحول: “يزرع في ضعف ويُقام في قوة. يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً. يوجد جسم حيواني. ويوجد جسم روحاني”. وفي موضع آخر يزيد هذا التعبير إفصاحاً وإرهافاً حين يكتب إلى أهل رومية فيقول إن الله “سيُحي أجسادكم المائتة”.

فكُل ما نعرف عن بولس الرسول يؤيد تأييداً تاماً اعتقاده الراسخ الوطيد في أن قبر المسيح كان خالياً في فجر يوم أحد القيامة. ولسنا نرى في كل أقواله تلميحاً ولا تصريحاً يُفهم منه أن الجسد كان باقياً في القبر.

على أنني لست أجد بين الكُتاب الحديثين من حاول أن يفسّر العلاقة الهامة بين ظاهرة القبر التاريخية وبين اهتداء الرسول بولس.

وليس يقدر أن ينكر أحد أن اهتداءً عقلياً كاملاً كالذي أشرقت أنواره على ذلك الرسول الكبير، لن يمكن أن يكون أساسه فقط اقتناعه المجرد بعدالة قضية التلاميذ، ولا بد أن يكون باعث قوي أقنعه بصدق القصة كلها. ومن العجب أن تُكتب المجلدات الضخام عن العوامل النفسية في اهتداء الرسول كأنها من الموضوعات التي يمكن معالجتها بمعزل عن فكر بولس إزاء مشكلة القبر. مع أن هذه المشكلة من الأصول الجوهرية في البحث كله.

ولم يكن مستطاعاً لشاول أن يبلغ حدّ التطرف الذي بلغه من النفور العنيف والكراهة الشديدة للعقيدة المسيحية دون أن يكّوِن لنفسه فكرة مستقلة. وكان مثار الجدل دائراً بين معسكرين متعاديين متعارضين، فالمسيحيون قالوا إن الجسد أُقيم من الأموات، بينما قال أحبار اليهود إنه سُرق من القبر.

وينبغي ألاّ نغفل أن شاول دخل الكفاح شريكاً للكهنة ضالعاً معهم، فهو لا شك قد عرف ما عرفوا، وشاطرهم وجهة نظرهم إلى حدّ بعيد.

ولو حاول القارئ أن يضع نفسه في مكان شاول، لوجد أنه من الصعب جداً على عقل منطقي سليم أن يعارض المسيحيين دون أن تكون له وجهة نظر منحوسة شريرة فيما يتعلق بالقبر الفارغ. وما كان في وسعه أن يجتنب الفكرة بأن التلاميذ أنفسهم، وإن كانوا لم يختلقوا الدعوى ويدّبروها، هم على الأقل متواطئون مع الذين سرقوا الجسد وأخفوه. وبهذا ينتقل الأمر من نطاق الجدل المباح إلى نطاق التزوير والخديعة المتعمدة، ويصير أمراً محتوماً أن يستأصل دعاة الفكرة المزّورة في غير شفقة ولا رحمة بقوة القانون وسلطان الدولة.

بهذا بدأ الاضطهاد الكبير الذي كان استفانوس الشهيد الأول باكورة ضحاياه. وما نشك أن الهدوء والثبات ورباطة الجأش التي استقبل بها استفانوس موته، طبعت آثارها على عقل بولس كما فعلت في الآخرين.

لكن لم تؤدِ هذه إلى التخفيف من وطأة الاضطهاد والقسوة، بل أمعن المضطهدون في قسوتهم وراحوا ينقضّون كالصواعق على أوكار المسيحيين، ويزجّون الرجال والنساء في سجون الدولة انتظاراً للمحاكمة الصورية التي كانت تنتهي في أكثر الأحيان بالموت. وفرّ آخرون إلى القرى النائية، فتعقّبهم مطاردوهم وهم ينفثون فيهم سموم الكراهة والحقد. وغدا من أخطر الأشياء على أين إنسان أن يصرح بانتمائه أو مناصرته قضية الناصري.

وبينما كانت الأشياء تسير هذا المسير، انتهت إلى شاول أنباء، من زعماء مجمع اليهود المحافظين في دمشق، تنبئه أن الأحوال في هذا المدينة العظيمة لا تسير سيراً حسناً، فالكفر قد تأصل فيها واستعصى أمره، واشتدّ ساعد المارقين عن دين إسرائيل بالمهاجرين الذين انظموا إليهم.

وشاول لم يطق أن يبقى جامداً، ما دام بين هؤلاء المتآمرين من لم يلحقه صارم العقاب والتعذيب. فسعى إلى الحصول على سائل من السلطات اليهودية في أورشليم تخّول له سلطان التنفيذ لدى المجامع التابعة للرئاسة الدينية في أورشليم. وبعد أن جمع إليه نفراً قليلاً من معاونيه، غادر المدينة في رحلة من أهم الرحلات وأبقاها أثرً في حياته.

وبعد ستة أيام، شارف الركّبُ المعفّر بالتراب مدينة دمشق، حدث أمر جلل، كان له أعمق الآثار وأبعد النتائج في تاريخ العالم. والأسباب متوافرة على أن الذين صحبوا شاول رأوا نوراً بزّ في لمعانه ووهجه شمس الظهيرة، وأنهم حين رفعوا شاول من على الأرض كان شبه أعمى لا يبصر شيئاً.

وقيل إنهم اقتادوه من يده المسافة القصيرة التي بلغوا بها المدينة. وإنها لخاتمة غريبة مروعة لتلك المغامرة الجريئة! ولكن لا سبيل إلى الشك في صدق الرواية من الناحية التاريخية. وما نظن أن لوقا كاتب سفر الأعمال استقى البيانات المفصلة التي سجلها عن هذا الحادث من أحد غير الرسول بولس نفسه.

فكيف نعلل هذا الحادث الغريب وما ترتب عليه من نتائج خطيرة الشأن؟ ولماذا يُنزع في لحظة خاطفة، ذلك الإنسان الأصيل في محتده الديني، السليم في منطقه العقلي، المتحمس في غيرته وتفكيره، من وسط العقائد التي اعتزّ به وامتزجت بلحمه ودمه، ويُحمل كأنه على جناح الريح إلى المعسكر الآخر بين ألدّ أعدائه وأبغض الناس إليه؟

ولسنا نُعنى هنا بآثار اهتدائه وإن تكن لهذه خطورتها وقدرها. ولكن كيف يَقْوى هذا الانقلاب الخطير، في أفكار الرجل وعقائده، وعلى أن يصمد ثلاث سنوات قضاها معتكفاً في الصحراء العربية، وتسع سنوات آُخر قضاها ينتظر الدعوة في طرسوس، بل كيف يقوى على معاناة صنوف الاضطهاد والعناء التي قاساها في رحلاته المضنية؟ لماذا ينتقل عقل جبار من أقطاب الفكر الذين عرفهم التاريخ، في لحظة خاطفة، من عقيدة إلى أخرى، كلتاهما على طرفي نقيض؟

لسنا ندري، وربما لن نعرف كلّ ما اختبر شاول في طريق دمشق. فهناك طرق كثيرة تستعلن بها الحقيقة غير المنظورة وتنساب إلى قرارة نفس الإنسان. على أنن واثق من شيء واحد ومقتنع به اقتناعاً تاماً، وهو أن الحقائق التي قلبت حياة شاول هي عينها التي قوّمت حياة بطرس ومتياس ويعقوب – ولكن الغريب في الأمر أنا جاءته من طريق عكسي.

فالتلاميذ بدأوا بفكرة مضطربة عن حقيقة القبر الفارغ، ووقع النبأ الذي تلقوه في بكور ذلك اليوم المأثور موقع الغرابة والدهشة من نفوسهم. أما شاول فكان موقفه غير ذلك. فلقد أقبل إلى إدراك هذه الحقيقة من اتجاه مضادّ. كان مشبّعاً بوجهة نظر رؤساء الكهنة، فنظر إلى التلاميذ وسيّدهم نظرته إلى مضللين مخادعين، مجدفين على الله، ومنادين بكفر شرير أثيم. فأصرّ على استئصالهم عن بكرة أبيهم. وبدأ رحلته إلى دمشق بهذه النية المبيّتة، ولكنه بلغها إنساناً تائباً نادماً، مهدّم الأعصاب موجع القلب.

ولم يستطع شيء مما رأى أو سمع أو اختبر، بعد رؤيا طريق دمشق، إن يؤثر أقل في حالته العقلية التي استقّر عليها. استعاد بصره الذي فقده إلى حين، ولكنه لم يستعد ذلك الشك الذي حمله على الغلّو والإفراط، وتلك الكراهية التي نضحت من نفسه إمعاناً في القسوة. انطلق إلى الصحراء العربية شهوراً طوالاً في عزلة ليفكّر في الأمر، ثم عاد كما هو الرجل الذي اهتدى وتجدد.

نادى في دمشق بالدين الجديد الذي اعتنقه، ولكن اسمه أدخل الفزع الرعب في قلوب أعدائه السابقين، ولما صار مُقامه هناك خَطِراً عليه أدلته بعض الأيدي الكريمة في سلّة أثناء الليل من فوق أسوار المدينة. ثم تذّرع بالشجاعة والإقدام وانطلق إلى أورشليم ليلقى هناك الهزء والتحقير والمذلة والهوان، وقضى خمسة عشر يوماً مع بطرس الذي عرف من أمر شاول كل ما يستطيع إنسان بشري أن يعرف. ومرة أخرى حملوه على الهرب من المدينة اجتناباً للاضطراب والفوضى، وعاد إلى موطنه طرسوس.

ثم تنقضي تسع سنوات، وحين تذكر الكنيسة الفتية الناهضة في أنطاكية الغيرة التي عهدتها في شاول، وترسل لاستدعائه، يرونه هناك في وطنه الرجل الممكّن في عقيدته، الثابت على الحق الذي عرفه. ونحن إذ نقرأ الرسائل التي كتبها في منتصف حياته وأواخرها، لا نجد فيها أثراً للهزال العقلي. بل بالعكس نستشفُّ من بين ثناياها نضوج عقل كبير رزني ومنطقاً سليماً شديد الاتزان.

ولم أشأ هنا إلاّ إثبات الوقائع الجوهرية بلهجة هادئة، لأن الحقائق في ذاتها رزينة هادئة. فأنت لا تستطيع أن تعلل هذا الولاء الصادق في حياة طويلة كهذه بطارئ من الطوارئ العاصفة، أو اختبار من الاختبارات الهستيرية الزائلة. وأن اقتضاها وصف كيفية إيمان بولس بالمسيح، اللجوء إلى المحسّنات اللفظية وعبارات البديع والبيان، فإننا نكون جدّ مخطئين.

وقد يكون الاختبار الفعلي الذي جازه في طريق دمشق منسجماً بطريق ما مع مزاجه الخاص ونزعته الخاصة. وقد يكون – كما قال الدكتور “ليك” نفسه – إن شخصاً غير منظور وقف فعلاً على قارعة الطريق، وإن شاول رأي شيئاً أشبه بما تحسُّه الحيوانات أحياناً بقوة الإحساس دون أن تراه بالعين الطبيعية. وقد يكون سمع صوتاً. ألم نسمع قط أسماءنا ينطق بها في إيضاح وتمييز في حين لا يوجد إنسان منظور لنا؟ فليس ثمة غرابة أن يسمع الزملاء شاول يتكلم دون أن يراه أحداً.

على أن الحقيقة التي يوردها المؤرخ لوقا في سفر الأعمال تقول إن المسافرين مع بولس سقطوا جميعهم على الأرض بتأثير ما رأوه، ثم قاموا ووقفوا صامتين ينتظرون ما عساه سيحدث بعد ذلك. وسمعوا ما قيل لبولس ولو أنهم لم يفهوا كلمات المتكلم. لقد رأي بولس النور، وسمع صوت المسيح وكلماته، بينما المسافرون معه رأوا النور ولم يروا المسيح، وسمعوا الصوت دون أن يميّزوا الكلمات (أعمال الرسل 9: 22، 26).

وفي هذا الآراء كلها نحن لا نذهب إلى أبعد ما يستوعبه علمنا الحاضر. على أن الناحية العقلية في هذا الظاهرة الغريبة حق صراح. فإنه حين اقتنع بولس أنه رأى المسيح المقام، لاحت في عقله لأول مرة بقوة دافعة فكرة القبر الفارغ، وكأنما الحجر الكبير قد تدحرج داخل نفسه فحطّم خطوط دفاعه تحطيماً.

وعرف أنه لم يكن التلاميذ مخادعين مضللين، فهم على حق فيما ادّعوه، وأدرك أنه يستحيل على امرئ معاناة استشهاد عنيف، كالذي عاناه استفانوس بروح البسالة والروعة، لمجرد اعتناق فكرة كاذبة مبنيّة على أكذوبة مختلقة كسرقة جسد ميت، ثم الادعاء أنه قام من الأموات. وأخذ شاول من تلك الساعة يفهم علّة ثبات بطرس، وصدق يقين الآخرين الذين نهّجوا نهجه، ممن امتزج اقتناعهم بعاصفة من الفرح والتهليل.

والأمر الغريب حقاً هو الظاهرة البارزة في هذه القصة العجيبة – وهي أنه بمجرد الاقتناع بها، يتأثر العقل تأثراً رائعاً عميقاً. فخلّو القبر حقيقة تاريخية، ثابتة لا تتغير، كلما تعاقبت الأجيال زادت ثابتاً ورسوخاً، فهي لم تتزعزع قط في حياة بولس، وهي اليوم باقية كالطود الراسخ شامخة بأنفها، لا يضيرها نقد ولا إفك.

فصول كتاب من دحرج الحجر

دليل يقدمه الرجل الطرسوسي – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !