أبحاث

دليل يقدمه الحجر الأَصمّ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

دليل يقدمه الحجر الأَصمّ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

دليل يقدمه الحجر الأَصمّ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

دليل يقدمه الحجر الأَصمّ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟
دليل يقدمه الحجر الأَصمّ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر ؟

دليل يقدمه الحجر الأَصمّ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

لا أظن أحداً يقرأ أول بيان كتبه البشير مرقص في وصف القيامة إلاّ تملكه الدهشة حيال ما قيل عن ذلك الحجر الذي أُحكم به باب القبر.

ونحن نعرف مبلغ الصدمة التي يختبرها الإنسان حين يلقاه أمر فجائي لم يكن منتظراً، كآثار الأقدام في الرمال التي نقرأ عنها في قصة روبنسن كروزو مثلاً. وكل حادث فجائي مثل هذا يوقظ العقل ليبحث عن تعليل له. وهذا اختبار يلقاه، فيما أظن، كلُّ من يقرأ قصة البشير مرقص. وهنا نرى أنفسنا مسوقين، على غير انتظار، وبحكم منطق الحوادث، إلى فحص قصة أخرى يرويها بشير آخر وهي قصة الحّراس.

وإني لأذكر كيف أثارت هذه القصة دهشاً في نفسي لأول مرة، وذلك لأني كنت قد ألِفْتُ أن أحسب قصة الحراس حادثاً ثانوياً لا أعلّق عليه شيئاً من الأهمية. ومما قاله الناقدون إنه لم يُسمع قط أن ينقس الجنود، وخاصة الجنود الرومان، وهم يقومون بواجب الحراسة. ولو أنهم اعترفوا بذلك لما صدّقهم أحد. ويقولون أيضاً إن الأسباب الداعية إلى إقامة الحراس على القبر لم تكن في حّد ذاتها وجيهة أو محتملة التصديق كثيراً.

وفي أول أمري قبلت هذه الأقوال في غير تساؤل، وافترضت أن أحداّ لم يخطر على باله أن يذهب إلى القبر فيما بين مغيب الشمس في يوم الجمعة وساعة الفجر التي ظهر فيها النسوة عند القبر، وزعمت مع الزاعمين أنه لا الرومان، ولا كهنة اليهود، عنوا بقبر المسيح بعد أن ثبت لدى الآخرين أن مراسم الدفن قبل مغيب الشمس قد روعيت مراعاة تامة.

ولشدّ ما كان دهشي حين وجدت أن رواية مرقص (وهي أقدم ما بين أيدينا من الروايات عن القيامة) لا تسند هذا الرأي بتاتاً بل تثبت ما ينقضه. ورغبة في تسهيل الفهم على القارئ نثبت هنا النص الحرفي للرواية

“وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطًا لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. وَبَاكِرًا جِدًّا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: «مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟» فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيمًا جِدًّا. وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابًّا جَالِسًا عَنِ الْيَمِينِ لاَبِسًا حُلَّةً بَيْضَاءَ، فَانْدَهَشْنَ.

فَقَالَ لَهُنَّ: «لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ ههُنَا. هُو َذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. لكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ». فَخَرَجْنَ سَرِيعًا وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئًا لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ”

وهذه هي الرواية الأصلية التي خلدها لنا التاريخ، وهي أقدم الوثائق وأقواها حجة فيما حدث للنسوة. وهي أقرب النصوص التي تمثّل ما وقع فعلاً لأولئك النسوة كما روينه، وكما تناقلته الألسن في العصور الأولى.

وماذا عن الجّو الذي أحاط بالحادث؟ يتعذر علينا أن نقرأ قراءة بعيدة عن الغرض منزهة عن الغاية دون أن نتأثر بصراحتها في التعبير وخلوِها من الحواشي التي لا تمسُّ الموضوع، رواية صريحة رائقة، صافية في صيغتها، لا صنعة فيها ولا تكلف، تصف القصة وصفاً واقعياً. وفضلاً عن ذلك – وهو أمر له خطورته ومعناه – تخلو بتاتاً من كل الحوادث التي تميل بالضرورة إلى التهويل والنعوت الخارقة للطبيعة والمألوف.

فهي تصّور النسوة يتخذن طرقهن إلى القبر قبيل انبثاق الفجر، وتصف حيرتهن وجزعهن حيال الحجر الكبير، وكيف وجدن الحجر مدحرجاً، فدخلن ورأين شاباً جالساً بثياب بيض، ألقى إليهن رسالة، كان لها في نفوسهن المضطربة أعمق الأثر، فهرولن مسرعات وخرجن يجررن أذيال الخوف والروع.

مشهد روائي وغير عادي. ولكن القصة كلها غير عادية، من القبض الفجائي على يسوع، إلى صلبه، إلى دفنه في قبر رجل غنيّ. وحين نفكر في ساعة النهار المبكرة، وفي النور القاتم، وفي الإحساس الذي يساور الأحياء وهم في محلاّت الموت، وفي عدم تأهب النسوة أن يرينَ ما رأين – حين نفكر في كل هذا نحكم أن مسلكهن في ذلك الموقف يمثّل مشهداً من مشاهد الحياة الحقة الواقعية.

ولكن أنا معني الآن – كما قلت بالحجر فقط، ذلك الشاهد الصامت الذي لا يكذب. وحول هذا الحجر حقائق معينة تدعو إلى كثير من البحث والدرس.

ولنبدأ أولاً بحجمه ماهيته. والرواية التي سطرتها هنا لا تدع مجالاً للشك في أنه كان كبيراً وثقيلاً. وهذه حقيقة يؤيدها صراحة أو تلميحاً كل الكُتّاب الذين أشاروا إليه. فيقول مرقص: “كان عظيماً جداً” ويقول متى: “حجراً كبيراً”. ومن الأدلة الأخرى على كبر حجمه ما أبداه النسوة من الحيرة حين أقبلنَ إلى القبر وتشاورن فيمن يدحرجه لهنَّ.

ولو لم يكن الحجر ضخماً وثقيلاً، لكان في مقدور النسوة الثلاث مجتمعات أن يدحرجنه. والذي نستنتجه من هذا كله أنه كان كبيراً بحيث لم يكن النسوة قادرات على دحرجته دون مساعدة خارجية. ولهذا كله أثره في أطوار القضية.

أما الحقيقة البارزة التي تُذكَر صراحة في كل الوثائق الباقية بين أيدينا، فهي أن النسوة وجدن الحجر مدحرجاً عند مجيئهن إلى القبر.

ولست أظن أن التضاعيف المادية المنطوية عليها هذه الواقعة قد فُحصت تماماً. فمعناها الصريح أن النسوة لم يكنّ أول من جئن إلى القبر، وإن واحداً ممن يعنيهم هذا القبر قد سبقهن إليه. وهذا هو الاستنتاج الذي يستخلصه كل من يؤمن أننا أمام واقعة تاريخية لا شكل فيها.

وما لم نتمسك بالقول إن الحجر قد دحرجته قوة خارقة للطبيعة، أو أنه قد دُفع دفعاً من الداخل، أو أنه أزيح عَرضاً على أثر هزة أرضية (من نوع الهزات التي كانت تكثر في اليهودية)، ما لم نتمسك برأي من هذه الآراء يتحتم علينا أن نعرف من هو الشخص أو الأشخاص الذين أُتيحت لهم الفرصة وتوافرت لديهم البواعث لإزاحة الحجر من مكانه، وذلك لأن الثابت من وقائع الرواية أنه أُزيح قبل الفجر في صباح الأحد.

وهذا بحث هائل متشعب النواحي، يشمل فيما يشمله إعادة القول في بعض الأسئلة التي حاولنا الإجابة عنها، ولست أجد مهرباً من هذه الإعادة. وإن كانت زيارة النسوة إلى القبر واقعة تاريخية، فإن إزاحة الحجر واقعة تاريخية أيضاً. ولا مناص أن نقبلها عنصراً مادياً من عناصر بحثنا.

وعلينا الآن أن نبحث على التوالي النواحي الثلاث التي يُحتمل أن يصدر منها تدخُل لدحرجة الحجر من على القبر. فهل يُحتمل أن يكون يوسـف الرامـي قد عاد – وهو صاحب الحق في هذا – إلى القبر فيما بين ختام السبت وبين الساعة التي أقبل فيها النسوة في صباح الأحد؟

وجوابنا عن هذا السؤال يشمل قبل كل شيء بيان الغرض الذي جاء من أجله. فإن قلنا إنه جاء سراً ومنفرداً (ليلقي مثلاً نظرة أخيرة على جسد الزعيم المائت) فإنه لا منـاص من استـنكار هذه الرأي ونبذه لسببين: الأول، لأننا نستبعد مجيئه لهذا الغرض في منتصف الليل، والثاني لأن الظروف لن تمكّنه من تحقيق الغرض الذي ابتغاه.

وإذا كان ثلاث من النسوة قد أحسسن بعجزهن عن دحرجة الحجر بسبب كبر حجمه وثقله، فإنه لا بد من وجود رجلين على الأقل ليتمكنا من إزاحته. فلو كان يوسف قد جاء وحده، لما استطاع أن يصل إلى القبر مطلقاً.

يبقى علينا إذن أن نفترض أن يوسف جاء مع فريق من العمال. ولعلّه اختار ساعات الظلمة ليخفي نفسه عن أنظار الجماهير، ولينقل الجسد إلى مثوى آخر يليق به. ولطالما شعرت أن هذا الزعم هو التعليل العقلي المحض الذي يعلل هذه الظاهرة الغريبة في حالة تعذّر الوصول إلى حل مقنع آخر. وذلك لأنه يشرح علّة خلو القبر عند مجيء النسوة، ويشرح أيضاً السبب في عدم تعيين المكان الذي نُقل إليه الجسد.

على أن هذا التعليل ينهار انهيارً في نقطة معينة. وذلك لأنه لا يبيّن لناعلّة صمت العمال الذين اشتركوا مع يوسف في نَبش الجثة ليلاً وإعادة دفنها، حينما تجاوبت في أرجاء أورشليم بعد أسابيع قليلة صيحات المنادين أن يسوع هذا قد قام من الأموات ورآه تلاميذه بعيونهم، ولو كان أولئك العمال قد صرّحوا بما يعلمون، لأجزلت لهم السلطات العطاء وخصتهم بأكبر جزاء.

وهناك أيضاً نقطة خطيرة ينهار عندها هذا الغرض ويتنافر مع الأدلة المادية. وذلك لأنه لا يلقي نوراً البتة على ما ادّعاه النسوة وسجلته أقدم الوثائق التاريخية وأقربها إلى عهد وقوع الحوادث بأنهن وجدن شاباً يحتلّ القبر.

وإنه ليبدو لي أن أولئك الناقدين الذين استمسكوا بالقول إن ليس في رواية مرقص ما يدعو بالضرورة إلى شيء خارق للطبيعة في إمكان التعرّف إلى هوية ذلك “الشاب”، قد هيأوا لقضية الحق خدمة جليلة. فإنه إذا صح الدليل على أن النسوة ذهبن إلى القبر ورأينه مفتوحاً، فهو صحيح أيضاً فيما يتعلق بقولهن إنهن رأين هناك شاباً وقد وجّه إليهن كلاماً عند رؤيتهن.

على أنه يبعد جداً أن نتصور يوسف الرامي ورجاله يتخذون هذا التحوّط، فيتركون وراءهم رجلاً يحتلّ القبر بعد إخلائه. وما من شك أنهم محتاجون إلى الأيدي العاملة كلها لإتمام عملية النقل. وهم ليسوا بحاجة في مثل موقفهم إلى ترك رقيب وراءهم. وعلى فرض أنهم كانوا ثلاثة من العمال، فإن حمل الأنوار والأدوات ونَقل التابوت فيما بينهم، كان يقتضي تعاونهم معاً بحيث لا يسعهم أن يتركوا وراءهم رقيباً لا تدعو إليه الضرورة.

فضلاً عن هذا فإن الرسالة التي تلقها النسوة ليست مما يقوله رقيب القوم في مثل تلك الظروف التي كانوا فيها. وبعد هذا نرى أنفسنا مضطرين إلى نبذ الزعم القائل إن يوسف الرامي هو الذي نقل الجسد، لأنه زعم لا ينسجم مع الأدلة المادية المتوافرة بين أيدينا.

والآن نجيء إلى الفريق الثاني في نطاق بحثنا – إلى صحابة يسوع وتلاميذه. قلت في فصل سابق من هذا الكتاب إن الإجماع البشري تقريباً يستبعد جداً أن تجسر تلك الفئة المنسحقة في موقفها الذليل على عمل من هذا النوع، أو أن تفكّر فيه. ولقد عرفنا من مسلك التلاميذ وأخلاقهم مما لا يدع مجالاً للظن أن يقدم التلاميذ، كأفراد أو كجماعة، إلى حبك هذه الخديعة. واهتداء بولس وحده يؤيد هذا الرأي. فلقد انتقل إلى معسكرهم بعد أن عرف أن التلاميذ أمناء صادقون في دعواهم، بل أنهم على حق وصواب.

وبعد أن تُسد أمامنا منافذ المزاعم، نجيء إلى الفريق الثالث ونفترض أن السلطات اليهودية هي التي فعلت هذا، وهنا يتسع أمامنا نطاق البحث، وذلك لأن ثمة أسباباً تحمل على الاعتقاد أن السلطات اليهودية قد اهتمت بأمر القبر في خلال الفترة التي نتحدث عنها.

ويرتاب بعض الناقدين الحديثين في أمر إقامة الحراس على القبر مستندين في هذا الارتياب إلى أمرين:

1 – الأول أن قصة الحراس تبدو “دفاعية” لتبرير ما حدث، وربما كانت من مبتكرات العصور المتأخرة.

2 – والثاني أنها بعيدة الاحتمال في حدّ ذاتها، ولا تنسجم مع الحقائق الموثوق بها في هذا الموقف.

ونحن نسلّم جدلاً أنه إذا كان المسيحيون قد أحسّوا في السنين المتأخرة بحاجتهم إلى دليل يسند دعواهم، فقصة كهذه تزيل كل شك وتثبّت إيمان الكنيسة الناشئة. ولكن هذا الموقف لا يتغير متى كانت القصة حقيقية تسند إلى دعامة من الحق متينة. والبحث كله يدور في الواقع حول أمرين: هل القصة بعيدة الاحتمال في حد ذاتها؟ ثم هل هي غير منسجمة مع الحقائق الأخرى المعروفة في هذا الشأن؟ وبعد البحث والاستقصاء أستطيع أن أجيب بالنفي القاطع على السؤالين.

فالمعروف لنا أن قصة إقامة الحراس مدّونة في ثلاثة مصادر في كتب التاريخ القديمة: مرة في الإنجيل الكريم، واثنتان في سفرين قديمين لا نحسبهما طبعاً في مرتبة الإنجيل من حيث قوة الحجة، أحدهما يُعرف بإنجيل “بطرس” والآخر بإنجيل “نيقوديموس”.

والقصة تختلف في المصادر الثلاثة في بعض تفصيلاتها الدقيقة. ففي بشارة متى، وهي البشارة الوحيدة في الإنجيل التي روت قصة الحراس، ينقل الحراس النبأ إلى الكهنة، فينقذهم هؤلاء رشاوي لإذاعة بيان كاذب. وفي بشارة بطرس ينقل الحراس النبأ إلى بيلاطس مباشرة، فيأمرهم هذا أن يصمتوا ولا يقولوا شيئاً. أما في بشارة نيقوديموس فيحذو الراوي حذو متى في بشارته.

على أن الروايات الثلاث اتفقت اتفاقاً تاماً في نقطتين:

1 – أن المسئولين قد تقدموا إلى بيلاطس والتمسوا منه إقامة حراس على القبر.

2 – وأن الحراس قاموا بمهمتهم في الليلة السابقة لمجيء النسوة إلى القبر.

وهنا نرى التقدم إلى بيلاطس يدعو إلى شيء من التعليق. لقد كان موقف اليهود حيال جسد

يسوع دقيقاً غاية الدقة. فهو وإن كان يهودياً، وحوكم بإيعاز من قادة اليهود، فإن الحكم والعقوبة كانتا وفق القانون الروماني، ومن الوجهة القانونية، كان جسد يسوع ملكاً للرومان، ولهم وحدهم حق التصرف فيه. وبعد أن لقي اليهود صدّاً من بيلاطس حول كتابة العنوان الذي وضعه على الصليب، لم يكن هيناً عليهم محاولة تحدي سلطة بيلاطس مرة أخرى، أو التعدي على القانون الروماني.

على أنه إذا كان كهنة اليهود قد اهتموا بقبر يسوع، فإن لم يكن بدُّ من أن يُفْضُوا إلى بيلاطس بما يساورهم من ارتياب، والحصول منه على تفويض لما يرونه من تحوّط وحرص.

كل هذا يؤيد صدق القصة، أما الإشارة إلى سلطة بيلاطس في التصرف بجسد المصلوب، فأمر تافه في حد ذاته. ولكن الباحث المؤرخ يجد في التوافق بين الرواية وبين مقتضيات الموقف التاريخي، مجالاً للقول والتخريج.

وهنا يجيء بنا إلى السؤال الأصلي: هل كان هناك وازع قوي، أو وازع ما، يحمل رؤساء الكهنة على الاهتمام بقبر المسيح؟ وهل كان هذا الوازع كافياً لأن يتحمّل القادة اليهود في سبيله ما قد يتعرضون له من صد وجفاء في الاستعانة بالوالي الروماني مرة أخرى؟ وهم قد عرفوا أن بيلاطس كان في حالة عصبية، وأن إصالة الرأي تملي عليهم أنهم ذهبوا إليه مرة ثانية؟

إن الذين ينكرون هذا يغفلون عنصرين خطيرين في الموقف. فهناك أولاً ما يبعث على الظن أن ذلك البستان كان بطبيعة الحال خاضعاً لنوع من أنواع الحراسة الوقتية. ولو كان جسد يسوع قد وُضع، كما كانت توضع أجساد المجرمين المحكوم عليهم، في المقبرة العامة، فإنه كان من الطبيعي أن يقام حرس رسمي على المكان. وكانت أورشليم في الأعياد والمواسم تكتظ بالوافدين وتثور فيها الاضطرابات لأتفه الأسباب. ولم يكن المحكوم عليه مجرماً عادياً كسائر المجرمين.

فلم يكن من المعقول أن يترك جسد، كجسد يسوع، يعتزُ به قومن ويمقته آخرون، في مكان مفتوح تدلف إليه الجماهير في غير استئذان. ومن سُخف القول أن نزعم شيئاً مثل هذا لا تجيزه حكومة متحضرة كحكومة أورشليم في ذلك العصر. والذي نعتقده أن الاحتياطات اللازمة كانت تُتخذ حسب مقتضيات الموقف دون أن يكون في الأمر شيء غير عادي.

على أن الحق التاريخي الذي لا نزاع فيه، أن جسد يسوع لم يلق هذا الهوان. وقد أجمعت الوثائق على أن يوسف الرامي، وهو رجل يهودي ذو كرامة وجاه، ذهب إلى بيلاطس وطلب الجسد، فأجابه بيلاطس إلى طلبه. ومن ثم نفّذ الرامي تدبيره، ووارى الجسد قبراً، ربما اختاره لقربه من الصليب، ولكنه كان قبره الخاص الذي أعدّه لنفسه.

ولست أظن أن جمهرة الباحثين قد أدركوا تماماً كيف أن هذا الحادث البسيط، الذي يبدو تافهاً لأول وهلة، قد غير الموقف القانوني فيما يتعلق بجسـد يسـوع، فوطّـد الأمن والنظام في أورشليم.

وقد كان حفظ الأمن والنظام في المواسم والأعياد التي اكتظت بها المدينة بها المدينة منوطاً بالسلطة المدنية. لو كان قد حُكم على المسيح بعقوبة غير الموت، لكانت حمايته والمحافظة عليه نيطت بها السلطات اليهودية، ولكن الإمبراطور الروماني نزع سلطة الحكم بالموت من اختصاص الهيئات والطوائف الدينية، فبمجرد النطق بحكم الموت، انتقلت سلطة التصرف بالمتهم من مجلس السنهدريم اليهودي إلى السلطة الرومانية. فبيلاطس كان مسؤولاً من الوجهة القانونية عن نتائج تصرفه.

وقد كان هذا ملائماً لرئيس الكهنة ومشيريه، وذلك لأنه إذا حدثت مظاهرات أو اضطرابات في مكان الصلب أو عند الدفن، فإن الوالي الروماني كان مضطراً بحكم وظيفته إلى قمعها.

ولكن سير التاريخ لم ينحُ هذا النحو، فلشدّ ما كان حنق السلطات اليهودية وخيبتها أن ترى واحداً من رجالها يذهب سراً ويطلب الجسد من بيلاطس. وكان من جرّاء هذا انقلاب الموقف، إذ عادت مسئولية حراسة القبر والمحافظة على النظام إلى السلطات اليهودية. ومن ثم كان الحنق والسخط الذي صوبه اليهود المسئولون نحو يوسف الرامي على ما تقول أسفار الأبوكريفا.

وحتى لو لم يكن الإنجيل قد ألمح إلى ما جرى، فإننا كنا نفترض من تلقاء أنفسنا أن مسئولية حفظ النظام بعد أخذ جسد يسوع على النحو الذي تمّ قد همّت رئيس الكهنة ومشيريه. وكأن بيلاطس بطريقة صريحة قد غسل يديه مرة ثانية من كل تبعة في قضية هذا الناصري، فهو قد سلّم الجسد إلى يهودي تولّى دفنه (ربما لمقتضيات الساعة) في مكان مفتوح على مقربة من باب المدينة. فإذا حدث اضطراب أو ثورة عند مكان الدفن فإن رؤساء الكهنة هم المسئولون عن قمعها، ولا شك أن بيلاطس ألحّ عليهم لمراعاة هذا.

وأسلم طريق للخروج من هذا المأزق أن يذهب الكهنة إلى بيلاطس ويلتمسون إليه أن تتولى السلطات الحربية حراسة البستان مؤقتاً. وقد كان هذا أمراً طبيعياً، ولدى بيلاطس العدد الوفير من احتياطي الجند في حين لم يكن لدى قيافا إلاّ حرس الهيكل، وهم نفر قليل لا يكفي عدده لقمع ثورة خطيرة. ويبدو لنا من رواية البشير متى أن الكهنة تقدموا إلى بيلاطس بهذا الرجاء ولكنهم لم يفوزوا بطائل. ومما يفيد البحث أن نثبت الرواية بنصها كما جاءت في بشارة متى:

“وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ». فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ”.

هذا هو أقدم بيان تناولناه من التاريخ المقدس عن هذه القصة. وهو بيان، كما يبدو للقارئ مسبوك في أسلوب صحيح خالص.

ولو أمعن القارئ النظر في هذا البيان وما تضمن من حقائق لاستخلص لنفسه أربع وقائع:

1 – أن الاجتماع لم يحدث في يوم الصلب بل في اليوم التالي له. وهذه واقعة مدونة بصريح اللفظ “”وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاسْتِعْدَادِ”.

2 – أنه طُلب إلى بيلاطس حراسة القبر: “فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ”.

3 – أن بيلاطس رفض هذا الطلب: “عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ”

4 – أن رؤساء الكهنة فعلوا كما أملت عليهم مصالحهم العاجلة: ” فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ”.

هذا تسلسل منطقي معقول للحوادث، يتفق تماماً وموقف الاضطراب والفزع الذي وُجد فيه

رؤساء الكهنة، كما يتفق وأخلاق بيلاطس المعروفة عنه. ثم هو يبين لنا أنه لم يكن لدى النسوة فرصة لتغيير الخطة التي أعددنها.

ومما يذهب إليه بعض الكُتّاب الذين يُعنون بهذا البحث في العصر الحديث، أنه يتعذر العثور على قصة الحراس في التقاليد الأولى التي دوُنها المؤرخون، وأنه لو عرف النسوة أن القبر تحت حراسة، لما بكّرن في الذهاب لإداء مهمتهن.

والحق أنه كان متعذراً على النسوة التفكير في الذهاب إلى القبر. ولو علمْنَ منذ أول الأمر، وعند ساعات الدفن، أن القبر سيوضع تحت حراسة. ولكن رواية متى تقول أن رؤساء الكهنة اجتمعوا إلى بيلاطس. “في الغد بعد الاستعداد” أي بعد أربع وعشرين ساعة من وضع الجسد في القبر.

ويخيل إلينا أن زعماء اليهود لم يشعروا بهذه الضرورة الملّحة إلا قبيل انتهاء السبت اليهودي وعودة الحياة في المدينة إلى مجراها العادي. فكيف ننتظر أن يعرف ثلاث أو أربع من النسوة ما كان يدور في الخفاء رواء جدران قصر الوالي الروماني في مساء السبت، لاسيما أنهن آوينَ، كما هو المرجح، على فراشهن في ساعة مبكرة تأهباً لليقظة الباكرة في الفجر؟

وأرى ثانياً أن القول بعد احتمال قيام رؤساء الكهنة بأي عمل في هذا الصدد مشكوك فيه جداً. ومما يبدونه تبريراً لهذا القول أن العذر الذي قدمه اليهود لبيلاطس (أي خشيتهم أن يسرق التلاميذ الجسد) بعيد الاحتمال جداً، وأن مسلك التلاميذ أنفسهم يبيّن أنه لم يخطر على بالهم ولم يؤمنوا من قبل أن المسيح سيقوم، وإنْ يكن هو قد سبق وألمح إلى ذلك أمامهم. ولذلك يكون من الفروض المستبعدة أن يُقام حرس رسمي للحيلولة دون وقوع حادثة غامضة يكتنفها كثيف الظلال.

وأنا لا أنكر قوة هذه الحجة ووجاهتها لو أنها تتفق مع قصة محاكمة يسوع، ولكنها في الواقع لا فق معها. ومن عجب أن المحاكمة من أولها إلى آخرها تدور حول عبارة تفوه بها المسيح وتتضمن هذه الكلمات الغامضة الغريبة: “في ثلاثة أيام”.

ونحن هنا لسنا أمام قوم سذّج يعسر عليهم المغالطة وتمويه الحقائق وإلباس الباطل ثوب الحق في الحيل والأساليب السياسية، ولكننا أمام نفر من أكبر الأدمغة اليهودية في ذلك العصر وأوسعهم حيلة وأشدّهم مكراً.

فوراء كل مناورتهم، وسعيهم لإحضار شهود كذبة، ثم انهيار التهمة بعد أن تتفق أقوال شهودهم – وراء كل هذه الحيل والألاعيب، الحقيقة التاريخية التي تشبثوا بها وهي أن يسوع قال في مناسبة من المناسبات عبارته المأثورة عن “الثلاثة أيام”، والتي أهاجت سخط قادة الصدوقيين، ولكنها لم تقو على احتمال المعنى الذي حاول الشهود أن يصيغوه إفكاً وبهتاناً.

فإن كان الاتهام قد تركز – كما يؤخذ من القصة – في هذه العبارة المأثورة عن يسوع، فالاستنتاج الذي ذهبوا إليه صريح. فكأن يسوع لم يتفّوه فقط بالعبارة التي دُونت كاملة في بشارة يوحنا (ص 2: 19) ولكن اليهود أنفسهم عرفوها عنه، واختاروها عمداً تكأة يقيمون عليها اتهامهم.

كل هذا يخلق لنا موقفاً يناقض تماماً ما نزعمه من عدم اكتراثهم لمسألة دفنه وإعارتها عنايتهم. وما كان في وسع إنسان أن يتنبأ بما عساه أن يحدث في عقول الجماهير الذين قبل أيام قلال هتفوا ليسوع واستقبلوه استقبال المنقذ السياسي. فإذا هم تركوا القبر دون حراسة، في حين أن الظروف تسمح لهم بالتقدّم إلى بيلاطس ليضمنوا عدم الاعتداء على القبر ممن تسّول لهم نفوسهم هذا الاعتداء، يكونون قد مهدّوا السبيل لما يجهدون أنفسهم لمنعه.

ولست أذكر هذه الاعتبارات للتدليل بها على أن الحرّاس قد أُقيموا فعلاً، فإن الإدلاء بإثبات لهذه الواقعة – غير البيان الذي أثبته الإنجيل – بعد مضي هذه الحقبة الطويلة من الزمن، يكاد يكون متعذراً. إنما أذكرها لأبيّن فقط أن إقامة حرس على القبر في ذلك الظرف الدقيق ليس بعد الاحتمال كما يُخيّل إلى بعض الناقدين.

على أننا حين نبحث انسجام القصة مع الحقائق الثابتة في الموقف، نرانا وقوفاً على قدم راسخة، وذلك لأن أبرز الحقائق وأوكدها في الموقف هي أنه في وقف ما بين الساعة التي فرغ منها يوسف الرامي من عملية الدفن، وبين انبثاق أنوار الفجر في صبيحة الأحد، دُحرج الحجر الكبير من على القبر – وقد رأينا من قبل أن ثلاثاً من النسوة شككن في مقدرتهم على دحرجة الحجر، وهذا يحملنا على أن نفترض أن الذين دحرجوا الحجر لا يقّل عددهم عن اثنين من الرجال أو ربما أكثر.

ويكاد يكون مؤكداً أن الوقت كان في ساعات الظلام بين غروب الشمس في يوم السبت وقبل شروقها في يوم الأحد، لأن دحرجة الحجر لم يكتشف أمرها إلا باكراً في فجر الأحد.

نحن إذن مضطرون إلى أن نقول – من قبيل الفرض فقط – إنه اجتمع حول القبر في خلال الساعة الحالكة قبيل انبثاق نور الفجر نفر من رجال تقوى عضلاتهم على إزاحة الحجر. فإن كان هؤلاء الناس الذين أتوا هذا العمل الغريب ممثلي السلطة اليهودية، فإن باعثاً هاماً غير عادي هو الذي حملهم على النظر إلى داخل القبر. وما دامت أعين النسوة اللائي ذهبن في الفجر لم تقع على أحد من هؤلاء، فإننا نستنتج أيضاً أنهم انطلقوا مسرعين لنقل الخبر إلى رؤسائهم.

وهذه الاستنتاجات هي بالضرورة احتياطية، أساسها الافتراض أن الحراس هم الذين أزاحوا الحجر. وفي طوقنا طبعاً أن نقترح حلاً غير هذا. فإن لم يرَ القارئ الدليل أمامه كافياً لإقناعه بوجود الحرّاس، فيمكنه أن يفترض أن فريقاً آخر من الناس أقبلوا في ساعات الظلمة بقصد شرير آثم. وهذه هي النظرية القديمة التي زعمت سرقة الجسد، وهي نظرية أثبتنا بطلانها في موضع آخر من هذا البحث.

ولمتابعة هذه الفكرة، علينا أن نعرف أي الأشخاص كانوا في أورشليم في تلك الفترة، ممن تحفزهم نفوسهم إلى ارتكاب هذه السرقة، وما الذي كانوا يرونه من الفعلة، ولأي غرض سرقوا الجسد؟

ولكني أذهب إلى أبعد من هذا، فإنه يُخيل إليّ أنه لا يمكن إثبات تاريخية أية نظرية تتعلق بحوادث هذه القصة بالذات، ما لم نعلّل في الوقت نفسه – لا مجيء النسوة فقط في الساعة التي جاءوا فيها ووقوفهن أمام القبر فارغاً، بل مواجهتهن أيضاً لذلك الشاب داخل القبر، والرسالة التي أبلغنها، على قول البشير مرقص.

وليس في نص القصة ما نتبين منه أن النسوة حسبنَ هذا الفرد مخلوقاً غير عادي. فهو في نظرهن شاب فقط يرتدي حلة بيضاء، يرونه داخل القبر، ورداً على سؤالهن وهنّ مشدوهات مذعورات، يعطيهن جواباً غريباً:

“لا تندهشن، أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام. ليس هو ههنا. هو ذا الموضع

الذي وضعوه فيه. لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم”.

ولكي نفهم حقيقة هذا الموقف الروائي، لابد أن نستعرض في أذهاننا كيف ظهر النسوة فجأة في هذا المشهد. ونحن نتصورهن ماضيات إلى القبر في غسق الفجر الباكر، ولا ينتظرن أن يشهدن مخلوقاً هناك في مثل تلك الساعة. وقد شُغلت أفكارهن بالحجر وكيف يدحرجنه، وكان كل همهنّ أن يزحنه ليتوصلن إلى جسد سيدهن الممزق.

لسنا نعرف على أية مسافة لمحنَ التغيير في وضع الحجر، ولكن الأرجح أنهن اقتربن إلى المكان فرأينه في غير الموضع الذي كان فيه، فإن يداُ دحرجته إلى أحد الجوانب، وبانت فجوة الكهف مفتوحة. والأغلب أن إدراك هذه الحقيقة أفزعهن إلى حين. لكن تقدمن بعد قليل حثيثات السير نحو القبر. ولشدّ ما كان جزعهن ورعبهن أن يرين شبحاً جالساً داخل القبر المظلم، فتراجعن إلى الوراء مذعورات مرتعدات.

وفي الوقت نفسه كان الشبح الجالس في داخل القبر قد تنبّه على أصوات تلغط في الخارج، ووقع ظلال القادمات من النور إلى الظلام، فالتفت إليهن وإذا بهن قد تراجعن خائفات. وإني أتصوره يركض وراءهن، ويدعوهن قائلاً: “لا تخفن، أنتن تطلبن الناصري. ليس هو ههنا. هو ذا المكان الذي وضعوه فيه….” لكن النسوة قد أدركهن الخوف الشديد، فلم يستطعن مبادلة الكلام. وكما يقول الراوي مرقص في وصفه المؤثر: “خرجن سريعاً وهربن من القبر، لأن الرعدة والحيرة أخذتاهنّ”.

وإن كانت حقيقة المشهد هي كما صورها لنا الراوي في عبارته الموجزة الرائعة، فإننا أمام واقعة جديدة خطيرة الشأن. ويزداد الموقف تعقيداً بظهور زائر غريب للقبر مضى إليه لعلّة ما، قبل النسوة، وهو لم يعرف نبأ زيارتهن.

فهل هذا الزائر شخص تاريخي، أم هو شخص خيالي؟ إن قلنا إنه تاريخي، فكيف يتفق حضوره على هذا النحو مع الحقائق التي نعرفها عن الموقف كله؟

وقبل أن نبحث شهادة الراوي مرقص عن هذا الأمر الخطير، لا بد من الإشارة إلى واقعة خاصة، وأعني بها ذعر النسوة، الذي حملهن على الفرار من القبر. وما أظن أن هذا العنصر النفسي الذي نشأ عن الرعب، كما رواه مرقص، قد نال حظه من البحث الدقيق الذي يستحقه. ومما لا شك فيه أن النسوة، وقد مضين لغرض معين هو تطييب جسد ميت، كنّ متأهبات لملاقاة الظروف المحزنة، بل المخيفة، التي يتطلبها هذا العمل، ونستبعد جداً أن يفزعن هذا الفزع لمجرد رؤية القبر فارغاً، أو لمجرد تصورهن إنساناً تخلقه خيالاتهن.

على أنك إذا فكّرت في ثلاث من النسوة الباسلات في حالة عقلية عادية يمضينَ إلى قبلا في غسق الفجر الباكر لتطييب جسد ميّت، وإذا فكرت فيهن وهنّ مقبلات قُدماً نحو القبر واثقات أنهن سيجدن جثة مضطجعة ملفوفة في أكفانها، فإذا بهن أمام شبح جالس في حلة بيضاء….

أقول إنك إذا فكرت في الموقف على هذا النحو، أدركت عوامل الفزع التي استسلم إليها هؤلاء النسوة، وأسباب فرارهن من المكان لينجون بحياتهن. ويؤخذ من القصة كما رواها مرقص أنهن هربنَ دون أن ينتظرن سماع النبأ الكامل من الشاب الذي جرى وراءهن. هذا هو استنتاجي من القصة كما أفهمها، وهو استنتاج أراه ضرورياً لفهم الواقعة كلها.

وإن كان هذا الشاب شخصية تاريخية في القصة، فإنه يظهرنا على عامل جديد في المشكلة التي نعالجها، ويقدم لنا خيطاً جديداً في نسيج الحوادث التي تزاحمت حول مركز واحد هو قبر المسيح. فهل هناك فرض من الفروض نستطيع به تعليل هذه الحوادث المنفصلة غير العادية التي جرت كلها في وقت واحد؟

وفي المظاهر الغريبة في المشكلة أن الجواب السليم لكل هذه الأسئلة نجده مطموراً في الرواية الموجزة التي سجلها مرقص. ومفتاح الحل نعثر عليه في الكلمات الثلاث الأخيرة من الرسالة التي قيل إن الشاب أعطاها للنسوة الخائفات: “إنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم”. ومتى قال يسوع لتلاميذه إنه يسبقهم إلى الجليل؟ قلّب صفحات القصة قبل المحاكمة والصلب، حتى تعثر عليها في رواية مرقص ذاته:

“وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ»”. (مرقص 14: 27، 28).

والذي نلحظه خاصة في هذه الكلمات القليلة، أنها قيلت وهم في الطريق إلى جثسيماني.

وكانوا قد فرغوا من عشاء الفصح، وكان يهوذا قد سبقهم ليحبك دسيسة مع رؤساء الكهنة، وكانوا قد نهضوا من فوق الوسائد ونزلوا إلى الطريق يسيرون مع زعيمهم وقد نقص عددهم فصاروا أحد عشر. وفي أثناء الطريق، على قول مرقص، نطق يسوع بهذه الكلمات.

وهنا نسأل: هل كان معقولاً أن يسترق أحد سمع هذه الكلمات التي تفّوه بها المسيح؟ أما نحن فلا نحجم عن الجواب بالسلب القاطع، لأن مكان العشاء قد كُتم أمره ولم يعرفه أحد، خشية أن يتعجل المتآمرون أمر القبض عليه، فيفسدوا عليه ذلك المؤتمر الهادئ مع صحابته.

ونحن نتصور انهم قد أطفأوا أنوار العلّية، ثم نزلوا في هدوء إلى الطريق العام، تأهباً للسير إلى جثسيماني. فلم يكن ثمة مجال لدخيل يندس فيما بينهم، ولا لمناصر غريب من أعضاء الصحابة الرسولية.

ومع ذلك…. فقد تعقّب خطاهم إلى بستان جثيسماني في تلك الليلة، شخص آخر، شاب، على قول مرقص. ولست أرى حلاً لصيغة الكلام الذي يدّونه مرقص عن هذه الواقعة إلاّ الجزم بأن مرقص نفسه هو ذلك الشاب الذي دخل البستان مع التلاميذ، وتقول الرواية إنه تبع يسوع (مرقص 14: 15). ولا معنى للكلام عن نفسه في هذا المقام إلا من حيث تقرير الحوادث. والوقعة في حد ذاتها لا وضع لها في سرد الكلام إلاّ من حيث كونها عنصراً في مغامرته الجريئة الخالدة في الليلة المأثورة.

قلت من قبل في فصل سابق أن بشارة مرقص تقف كصخرة هائلة في عرض البحر تستند إليها المؤلفات المسيحية، وهي تأخذ بألباب، حتى القارئ الناقد، لما حوت من دقة بيان وصريح عبارة. وأظهر ما تكون هذه الدقة وتلك الصراحة في الوصف الدقيق المفصّل عن الساعة الأخيرة التي قضاها المسيح في غير تكلّف مع صحابته.

ولا يمكن أن يكون هذا الوصف ابتكاراً خيالياً أدبياً في عصر متأخر، فمن ذا الذي يجسر على اصطناع قصة التلاميذ وقد غلبهم النوم من فرط الإعياء في أخطر ساعة في حياة سيدهم، أو واقعة إيقاظ السيد لهم مرتين وهو يعود إليهم في رفق في فترات متقطعة من مصارعته تحت الأشجار البعيدة، أو كلماته الناهية بعد أن غَلَب في الصراع وبلغ الرأي الفاصل فيما هو فاعل: “ناموا الآن واستريحوا!”، ثم كلماته الأخرى وقد لمح من بعيد وهج المصابيح المتراقصة: “قوموا. هو ذا الذي يسلّمني قد اقترب”؟

لا شك أن هذا تسجيل صحيح لحوادث تلك الليلة التي لن تُمحى. وليس في القصة شيء من اعتلاج العاطفة أو ثورة الحماس وخاصة من التلاميذ أنفسهم، بل نراها سجلاً هادئاً رزيناً، بعيداً عن كل صنعة، يروي حادثة من أروع حوادث التاريخ البشري. وإن وُجد شيء يؤيد صدق هذه القصة، فهو الحادثة التي حُشرت حشراً غريباً عن هذا الشاب الذي اختُطفت عباءته في الصراع فهرب عرياناً كسهم يشقُ سدفة الظلام.

ترى لماذا تُذكر القصة دون موجب لها، إلاّ لكونها من الوقائع التي حدثت فعلاً؟ ولست أشك أن شبح ذلك العريان الهارب في الظلام كان من الآثار العميقة التي نُقشت في ذكريات الذين شهدوا هذا الفصل من الرواية.

وفي هذا كله شيء في منتهى الغرابة وخليق بالبحث الدقيق. ووجه الغرابة نراه في تماسك الظواهر الثابتة وتوافق الوقائع المسجلة في هذا الموقف.

وكل باحثٍ يتناول قصة مغامرة النسوة كما سجلها البشير مرقص، وينظر إليها، لا كشعاعة من أشعة نور القمر، بل كواقعة من وقائع التاريخ، لا يلبث أن يجد نفسه متأثراً بشيء آخر غير ذهاب النسوة إلى القبر أو حتى القبر الفارغ – وهو أنهن لم يكنّ أول من ذهب إلى القبر قبيل الفجر، وأن شخصاً آخر سبقهن، تدلّل الدلائل على أنه انطلق من أورشليم قبلهن بدقائق معدودات.

هذا فيما أرى، هو المعنى الذي قصده كاتب أقدم بشائر الإنجيل وأقرها إلى زمن الحوادث. وفي رواية مرقص لا شيء مطلقاً ينبئ عن مظهر خارق للطبيعة في وجود ذلك الشاب. وما هو إلاّ طرف رابع مع النسوة في مغامرة جريئة غير عادية. ولعلّ دهشته من وجود النسوة في تلك الساعة لا تقل عما عراهنّ من دهشة وذهول لرؤيتهن إياه.

وتراجعهنّ السريع عند رؤيته داخل القبر يعلل الايجاز الذي نحسّه في رسالته، وإني أتصوره يناديهن بصوت عالٍ هنّ مسرعات مهرولات، والكلمات التي أبلغهن إياها لا غموض فيها، تتفق تماماً مع الموقف الذي كان فيه. ولم يستطع أن يزيدهن قولاً لأنهن كنّ على الأرجح قد ابتعدن عن مرمى السمع.

وحين نفكّر في ذلك الشاب، لا كزائر خيالي من فوق أطباق السحب، بل كحقيقة ثابتة من حقائق ذلك الفجر المنير، نرانا أمام موقف شائق حقاً. ونحن نعلم سبب ذهاب النسوة إلى القبر في تلك الساعة المبكرة، ويبدو أنهن أعددن العُدة في مساء الجمعة، وفي الساعة المعينة قبيل انطلاق خيوط الفجر من وراء رُبى الشرق، انطلقن لإداء مهمتهن الحزينة المؤلمة.

ولكن ما الذي حمل شاباً عبرانياً – المفروض أن قضى الليلة في أورشليم – على التبكير والذهاب إلى قبر المسيح قبلهن؟ هذا سؤال جدير بالبحث لأنه يعالج موقفاً خاصاً. ولو كانت الأدلة المتوافرة لدينا تنبئ أن قبر يسوع كان سليماً لم تمسه يد عند وصول النسوة، لكنّا مضطرين إلى تلمُّس سبب معقول يعلل لنا ذهاب شاب بمفرده إلى القبر في تلك الساعة المبكرة من صباح يوم بارد من أيام شهر إبريل.

ولكن الأدلة تتجه إلى عكس هذا، وهي مقنعة في قوتها وانسجامها. فالحق الدافع الذي تحدّر إلينا جيلاً بعد جيل، هو أن النسوة وجدن القبر فارغاً، والحجر الكبير مدحرجاً.

أننا نرى في هذا الحقيقة تضاغيف لا مهرب لنا منها، أولها أن القبر كان بلا ريب على حالته هذه ردحاً من الزمن. وقد عرفنا بالدليل أن الحجر كان أثقل من أن تزيحه يدا رجل واحد، ولم ترَ النسوة على مقربة منه نفراً من الرجال حتى كان يُقال إنهم هم الذين دحرجوا الحجر. فالذي أزاحه كائناً من كان، لا بد أن يكون غادر المكان في الصباح الباكر جداً، قبل أن يرفع ستار الظلمة عن وجه الأرض.

هذا ما يبدو لنا من ظاهر الموقف. على أن هناك أمراً آخر أعظم وأعمق أثراً. فإنه يبقى علينا أن نعلل، لا دحرجة الحجر فقط، بل الباعث الذي أيقظ شاباً في أورشليم، وحمله في ثورة من الحماس وحب الاستطلاع، على الذهاب باكراً إلى القبر قبل النسوة بدقائق معدودات.

ونحن أمام أمر هام حقاً، لأن الوسيلة الوحيدة التي يُنقل بها نبأ حدوث ظاهرة غير عادية في قبر يسوع إلى أي إنسان في أورشليم قبل وصول النسوة إليه، لا تكون إلاّ عن طريق قوم أشاعوا النبأ وعادوا سريعاً. ومن الغريب أن هذا الوصف ينطبق تماماً على الحرّاس الذين أشارت إليهم قصة الإنجيل!

ولو كان قبر يسوع عبثت به أيدي طغمة من اللصوص النهّابين، أو أيدي أثمة أرادوا العبث بالجسد لأغراض شريرة، لكانوا اختفوا في الظلام وتسللوا خلسة من أعين الرقباء. وما كانوا يذيعون جريمتهم في طرقات أورشليم، بعد دقائق قلال من ارتكابها…

ولو كان يوسف الرامي هو الذي فتح فجوة القبر قبيل الفجر لنقل بقايا الجسد إلى مثوى آخر، لظلّ باقياً منهمكاً في مهمته عند المدفن الجديد، ولانتقل هذا الخبر بسرعة البرق إلى آذان السلطات الرسمية…

أما إذا كان قد هرول في طرقات أورشليم الضيقة في غبشة الصباح الداكنة بعد أن ولّت ظلمة الليل، رجال مُسْتَثارون يذيعون أن حَدثاً غريباً عجيباً وقع في قبر يسوع الناصري – أقول: إذا عرفنا هذا، نفهم لماذا يستيقظ أكثر من نائم واحد ليرى حقيقة هذا الحادث الغريب. وليسمع بعض الهمسات الغريبة التي أشاعها الرواة المشاهدون.

وإن كان بين الذين سمعوا هذا النبأ الذي شاع في أورشليم في غبشة الصباح، أو الذين انتهت إليهم الشائعة بطريقة من الطرق – إن كان بين هؤلاء ذلك “الشاب” الذي جازف فتبع يسوع في بستان جثسيماني، وتسمّع تلك الكلمات الغريبة التي قالها في الطريق لتلاميذه، أفلا يختطف أي رداء تصل إليه يده ويركض مسرعاً بقدر ما يستطيع إلى بستان القيامة؟!

فصول كتاب من دحرج الحجر

دليل يقدمه الحجر الأَصمّ – فرانك موريسون – من دحرج الحجر؟

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !