إلحاد

عبثية الحياة بدون الله William Lane Craig

عبثية الحياة بدون الله William Lane Craig

عبثية الحياة بدون الله William Lane Craig
عبثية الحياة بدون الله William Lane Craig

عبثية الحياة بدون الله William Lane Craig

لماذا لا نجد في الإلحاد أي معنى للحياة أو قيمة أو هدف، ولماذا لا يصلح الإلحاد للحياة؟

الضرورة الحتمية لله والأبدية:

كتب لورين ايزيلي: الإنسان هو ذلك اليتيم الكوني. ذلك أنه الكائن الوحيد في هذا الكون الذي يتساءل دومًا: “لماذا؟” وإن كان الحيوان يسترشد بغريزته، فالإنسان يطرح الأسئلة، “من أنا؟”، “لماذا أنا هنا؟” “وإلى أين المصير؟”. ومنذ عصر التنوير، حيث تحرر الإنسان من قيود الدين، حاول الإنسان أن يجيب عن هذه الأسئلة دون الرجوع لله.

ولكن لم تأتِ الرياح بما تشتهيه السفن، ذلك أن الإجابات التي حصل عليها زادته حيرة فوق حيرته، وعوضًا عن أن تنير عقله زادته ظلمة ورعبًا. “ما أنت إلا شيء عارض ثانوي حدث في الطبيعة، ما أنت إلا نتاج مادة وزمن وصدفة ليس إلا. ولا مبرر لوجودك. أما مصيرك فهو الموت المحتوم”، وظن الإنسان أنه حين تحرر من الله، فقد حطَّم كل القيود التي تُكبّله وتخنقه. ولكنه على العكس من ذلك، اكتشف أنه حين قتل الله، فقد قتل نفسه.
وإن لم يكن الله موجودًا، صارت حياة الإنسان عبثًا في عبثٍ. وإن لم يكن هناك إله، فإن المصير الحتمي للإنسان والكون هو الموت. ذلك أن الإنسان مثله مثل كل الكائنات البيولوجية لا بُدَّ وأن يموت. وبدون رجاءٍ في الخلود، فحياة الإنسان لن تذهب إلى أبعد من القبر. ولن تكون حياته برمّتها إلا ومضة في ظلمة حالكة، بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل، ولا يعود يظهر ثانية.

لذلك، وكما يقول اللاهوتي “بول تيليش”: على الإنسان أن يواجه بنفسه بما يمكن أن نطلق عليه “تهديد اللاوجود”. لأنه وإن كنت أعرف أنني موجودٌ، أنني حيّ، إلا أنني أعرف أيضًا أنه يوما ما لن أكون موجودٌ، سوف أكون في عداد الموتى. ويالها من فكرة تبعث على الدهشة وتحمل تهديدًا: فكرة أن الشخص الذي أدعوه “أنا”، ذات يوم لن يكون موجودٌ! وإني أتذكَّر بشكلٍ جيد حين قال لي أبي للمرة الأولى أنني: سأموت ذات يوم. ولم ترد على ذهني هذه الفكرة طوال فترة طفولتي. وقد تملّكني الخوف حين قالها لي أول مرة، واجتاح قلبي حزن شديد. وعلى الرغم من كونه حاول طمأنتي مرارًا كثيرة أن هذا الأمر بعيد المنال ولن يحدُث الآن، إلا أن هذه المحاولات كانت بلا جدوى. فهناك حقيقة لا يمكن إنكارها وهي: أنني لا بُدَّ أن أموت يومًا ما سواء كان عاجلًا أو آجلًا، وقد استحوذت هذه الفكرة على كل تفكيري. ويومًا بعد يومٍ، مثلنا كُلنا، كانت هذه الفكرة تزداد توغلًا في داخلي. فكُلنا تعلّمنا كيف نُسلّم بالأمور التي لا مفر منها. ومع ذلك، تبقى الرؤية الطفولية حقيقة لا يمكن الهروب منها. يقول المفكر الوجودي الفرنسي “سارتر”: تَفقِدُ الحياة معناها في اللحظة التي نفقد فيها وَهْم كوننا خالدين.

وأن الموت المحتوم وتهديد “اللاوجود” يمثلان هلعًا ورعبًا للإنسان. ولكنني قابلت ذات يوم طالبًا لم يشعر بهذا التهديد. قال لي: إنه نشأ في مزرعة واعتاد رؤية الحيوانات تولَد وتموت. كان الموت بالنسبة له أمرًا طبيعيًا ـــ جزءًا من الحياة، على حد تعبيره.
كنت متحيرًا من أن وجهة نظر كلٍ منّا في الموت مختلفة عن الآخر، ولم أفهم لماذا لا يشعر هذا الطالب بتهديد اللاوجود كما قال “بول تيليش”. ولكنني وبعد عدة سنوات وجدت ضالتي فيما كتبه “سارتر”. فهو يرى أن الموت لا يمثل لنا تهديدًا طالما أننا ننظر إليه بكونه موت شخص آخر، ولكنه يشكّل تهديدًا لنا حين نستوعبه ونتحدث عنه بصيغة المتكلم -“موتي: أنا سأموت”ـ هنا يتجلّى تهديد اللاوجود بشكل واضح ويصير حقيقة. وكما أشار سارتر، فإن كثير من الناس تتجاهل وجهة النظر هذه في خضم الحياة. كما يمكن لشخص أن ينظر إلى موته بمنظور شخص آخر، وكأنه موت شخص أو حيوان آخر، وهكذا فعل صديقي.

ولا يمكنني أن أُدرك القيمة الوجودية الحقيقية لموتي، إلا إذا نظرت إليه بمنظور شخصي، أي أن أُدرك أنني سوف أموت وينعدم وجودي الشخصي. وما حياتي إلاّ تحوُّل سريع من حالة نسيانٍ إلى نسيانٍ آخر. كما أن الكون ذاته سوف ينهار. يخبرنا العلماء أن الكون في حالة تمدد، وكل شيء فيه يزداد ابتعادًا. ومن ثم يزداد برودة وهكذا يستنفذ طاقته. وفي نهاية الأمر، تنحل المادة إلى نجوم مائتة وثقوب سوداء. لن يكون ضوءٌ فيما بعد، لا ولا حرارة بل ولا حياة أيضًا. أما أثار النجوم والمجرات المائتة فتظل تتمدد في الظلمة الحالكة والبرودة القارصة التي لا قرار لها في تجاويف الفضاء ــولن يكون أمامنا سوى أطلال كونٍ. والكل يمضي وليس حياة الأفراد فقط بل سيزول كل الجنس البشري. أين المفر؟ لايوجد رجاء.

عبثية الحياة بدون الله وبدون الخلود:

إن لم يكن هُناك إلهاً، لكان الإنسان والكون بجملته محكوم عليهم بالفشل. نكون مثل سجين محكوم عليه بالإعدام، وهكذا نظل في حالة انتظار لمصير لا يمكننا أن نتجنبه. فلا إله نترجاه ولا خلود نتمناه. والسؤال الذي يطرح نفسه، ما نتيجة كل هذا؟ هذا يعني أن الحياة مجرد عبثًا. ولا أهمية لهذه الحياة التي نحياها بل ولا قيمة أو هدف لها. دعنا ننظر إلى كل واحدة منها على حدة.

لا وجود للمعنى المُطلق في الحياة بدون الله والخلود:

إن تلاشت حياة الإنسان بموته، فما المعنى الذي يمكننا أن نضفيه على حياته؟ وماذا لو لم يوجد على الإطلاق، هل يُحدث هذا فارقًا؟ ربما كانت حياته مهمة في بعض أحداثها، ولكن ما المعنى الكامن وراء تلك الأحداث؟ وماذا عن أثر تلك الأحداث، هل يمكننا أن نُضفي عليها أي معنى؟ في الواقع، لن يكون هناك أي معنى.
أنظر إلى الأمر من زاوية أخرى: يقول العلماء، إن الكون قد نشأ من “الانفجار العظيم” الذي حدث منذ 13 مليار سنة مضت. والسؤال الآن: ماذا لو لم يحدث هذا “الانفجار العظيم”؟ وماذا لو لم يوجد الكون؟ ما الفارق الذي يمكن أن يُحدثه هذا؟ إن الكون محكوم عليه بالموت على أية حالٍ. وفي نهاية المطاف، لن يكون هناك أي معنى من وجود أو عدم وجود الكون.
ونفس الأمر ينطبق على الجنس البشري. إذ أنه محكوم عليه أن يحيا في كون مائت. ذلك أن البشرية ستفقد وجودها في نهاية المطاف، وأي فارقٍ يُحدِثه وجود أو عدم وجود الجنس البشري والحال هكذا؟ لن تزيد أهمية الجنس البشري عن أهمية سرب من البعوض أو قطيع من الخنازير داخل حظيرة، فنهايتهم واحدة. والعملية الكونية العمياء التي أنتجتهم، هي ذاتها التي سوف تكتب نهايتهم في نهاية الأمر.

كما ينطبق هذا على كل فرد من الجنس البشري. ذلك أن إسهامات العلماء من أجل تقدم الجنس البشري، وأبحاث الأطباء من أجل تخفيف الألم والمعاناة، وجهود الدبلوماسيين في سبيل صنع السلام في العالم، وكل التضحيات التي يقوم بها الصالحون من البشر لأجل خير البشرية، أقول، كل هذه ذهبت أدراج الحياة. وهذا ما يسبب الرعب لإنسان العصر الحديث: إذ ينتهي إلى لا شيء ولم يحصد سوى الرياح، وهو …..لا شيء، ولا قيمة له. ولكن، علينا أن ندرك أن الإنسان لا يحتاج فقط إلى الخلود لكي يجد معنًى لحياته. لأن معنى الوجود لا يتوقف على طول مدته. وأكثر من ذلك، فإن بشرية وكون بدون إله، تفقد معنى وجودها وغايته.
ولنضرب مثلًا: ذات يومٍ كنت أقرأ إحدى روايات الخيال العلمي، حيث تُرك رائد فضاء فوق صخرة جرداء فُقدت في الفضاء الخارجي. وكانت معه قنينتان: تحتوي الأولى على جرعة من السم القاتل، أما الثانية فبها جرعة دواء يمكنها أن تجعله يحيا إلى الأبد. لكنه كان يُدرك الورطة التي حلّت به، فابتلع السم القاتل. ولكنه، ومع شعوره بالرعب، اكتشف أنه أخطأ وابتلع محتويات الزجاجة الأخرى -لقد شرب جرعة الخلود. وبالنسبة له، كان هذا يعني أن لعنة أصابته وسيظل حيًا هكذا إلى الأبد- حياة بلا معنى ولا نهاية لها. إذًا، لو لم يوجد إله، ستكون حياتنا هكذا. تستمر وتستمر خلوًا من المعنى. ولاستمرّت تساؤلاتنا عن الحياة أيضًا، وما نستخلصه من هذه الرواية: ليس الخلود هو كل ما يحتاجه الإنسان إن أراد أن يكون لحياته معنى في نهاية المطاف، بل يحتاج إلى الله والخلود معًا. وإن لم يوجد الله، لا يوجد المعنى.
وقد أدرك إنسان القرن العشرين كل هذا. وما عليك إلاّ أن تقرأ مسرحية “في انتظار جودو Waiting for Godot” لصموئيل بيكيت Samuel Beckett. حيث يتبادل شخصان حوارًا مملًا بلا أي معنى طوال المسرحية، ذلك لأنهما كانا في إنتظار شخص ثالث يُدعى “جودو” ، أما جودو فلم يصل قط. وحياتنا تُشبه أحداث هذه المسرحية. يقول بيكيت، فما انتظارنا إلا لقتل الوقت ــ من أجل ماذا؟ نحن لا نعرف!
وفي مشهد مأساوي، كتبه بيكيت في مسرحية أخرى، حيث يُفتح ستار المسرح، ليكشف عن مقلب للقمامة. ويظل المشاهدون يحملقون في صمت في مقلب القمامة هذا لمدة ثلاثين ثانية. ثم تُغلق ستارة المسرح. هذا كل ما في الأمر.
وقد استوعب الوجوديان الفرنسيان جان بول سارتر Jean Paul Sartre وألبير كامو Albert Camus ذلك أيضاً. فقد صوَّر سارتر الحياة في مسرحيته “لا مخرج من الجحيم” No Exit as hell ـ وتضمن السطر الأخير من الرواية كلمات تعبّر عن الإستسلام للواقع: “دعنا نواصل ما نحن فيه”. كما كتب سارتر مسرحية أخرى بعنوان ” الغثيان nausea” وهي مسرحية وجودية. وكان ألبير كامو يرى الحياة عبثًا. وفي نهاية روايته القصيرة “الغريب”، مرّت ببطل الرواية لحظة توهج لبصيرته، فاكتشف أن الكون لا معنى له ولا يوجد إله يمنحه المعنى. أي أنه، إن لم يوجد إله، فلا معنى للحياة. ولا معنى لوجود الكون أو الجنس البشري. وفي نهاية المطاف، لن تكون هناك قيمة لهما بدون وجود الله والخلود.

هذا المقال جزء من سلسلة يُمكن قراءة باقي الأجزاء من هُنا: الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الأخير.

لا وجود للقيمة دونالله والخلود:

إن كان القبر هو نهاية الحياة، فلا فرق إن عاش الإنسان مثل ستالين أو مثل أحد القديسين. وطالما أن مصير الإنسان غير مرتبط بسلوكه، فعِشْ كما ترغب وكما تشتهي. يقول دوستويفسكي:
“إن لم يكن هناك خلود، فكل شيءٍ مباح”. وعلى هذا الأساس، كان كاتب مثل آين راند Ayn Rand يمتدح فضيلة الأنانية. عِش لذاتك فقط، ولا تحمل مسئولية أحد! من الحماقة أن تفعل شيئًا آخر، فالحياة أقصر جدًا من أن نجازف ونسلك فيها بدافع آخر غير النفعية المطلقة. أن تبذل نفسك من أجل الآخرين لهو الغباء بعينه. وقد حاول فيلسوف ملحد آخر وهو كاي نيلسن Kai Nielsen أن يدافع عن جدوى الأخلاق في غياب الله، لكنه اعترف في النهاية قائلًا:

“لم نكن قادرين على الإعتراف أن العقل (والمنطق) في حاجة إلى وجهة النظر الأخلاقية. وأن كل العقلانيين وأولئك الذين لا تفتنهم الأساطير أو الأيدولوجيات ليسوا في حاجة لأن يتّسموا بالأنانية أو اللاأخلاقيات. فالمنطق ليست له الكلمة الأخيرة هنا. إن الصورة التي قدّمتها لكم الآن لهي صورة مُحبطة. حتى أن التفكير فيها يصيبني بالإكتئاب… ذلك أن العقل (والمنطق) العملي الخالص، حتى إن دعَّمَته المعرفة الجيدة بالحقائق، لن يقودك إلى الخلود1.

لكن الأمر ازداد سوءًا. ففيما يتعلق بالخلود، فإن لم يوجد إله، لن تكون هنالك معايير موضوعية لما هو صواب وما هو خطأ. فإن ما نواجهه جميعًا هنا، وبحسب كلمات جان بول سارتر: العار، وحقائق لا قيمة لها عن الوجود. إن الأخلاقيات ما هي إلا تعبيرعن الذوق الشخصي أو قُل هي منتج ثانوي للتطور البيولوجي الإجتماعي والتكيُّف مع البيئة المحيطة. وفي عالمٍ بدون إله، فمن ذا الذي يستطيع أن يحكم على أمرٍ أنه صواب أم خطأ؟ ومن هو الذي يمكنه أن يقرر لنا فيما إذا كانت القيم التي سار عليها “هتلر” هي أسوأ من قيم القديسين؟ إذًا، في عالمٍ بدون إله، يفقد مفهوم الخلود معناه .

وكما يشير أحد الخبراء في الأخلاقيات الإلحادية المعاصرة: “القول بأن أمرًا ما هو خطأ، لأن الله قال ذلك… فهذا مقبولٌ لدى من يؤمن بإله قد أعطانا شريعته. أما أن تقول أن شيئًا ما هو خطأ حتى لو لم يوجد الله ليقرر هذا، فهذا أمرٌ غير مقبول…”. “إن مفهوم الإلتزام الأخلاقي بعيدًا عن الله، لهو مفهوم غامض. كلمات بلا معنى” 2. وفي عالم من غير إله، لن يكون هناك معيار موضوعي للصواب والخطأ، الحق والباطل. ولكن الأمر سيعتمد علي أحكامنا الذاتية وثقافتنا. وهذا يعني أنه لا يمكن إدانة الحروب، الإضطهاد أو الجريمة والشر. ولن نمتدح الأخاء، المساواة والحب كأمور صالحة. ذلك أنه في عالم بلا إله، كل شيء مباح، ولا قيمة للوجود، ولا يوجد من يقول لنا ما هو الصواب وما هو الخطأ.

لا توجد غاية نهائية بدون الله والخلود:

وإن كان الموت متربصًا بنا وهو نهاية الأمر المُحتمة، فما الهدف من هذه الحياة؟ أكُل هذا من أجل لا شيء؟ ألا يوجد سببٌ لوجود هذه الحياة؟ وماذا عن الكون؟ هل يلفّه العبث ولا شيء غير العبث؟ وإن كان مصيره قبر شديد البرودة في عمق أعماق الفضاء الخارجي الفسيح، فإن الإجابة ستكون بكل تأكيد، نعم، إنه عبث. فلا هدف ولا غاية للكون. بل بقايا كون ميت تظل تتمدد وتتمدد ـ بلا توقف. أما السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ماذا عن الإنسان؟ ألا يوجد أي هدف من وجود الجنس البشري؟ هل سيتلاشى هو أيضًا في غياهب كونٍ باردٍ ويصير نسيًا منسيًا؟ لقد تنبأ الروائي الإنجليزي هـ.ج. ويلز بهذا المصير في روايته “آلة الزمن” حيث يمكن القيام برحلة إلى المستقبل البعيد واكتشاف مصير الإنسان وذلك باستخدام آلة الزمن التي تحدّث عنها ويلز. وكل ما سيجده هناك كرة أرضية مائتة، باستثناء بعض النباتات والطحالب التي تدور حول قرص الشمس الأحمر العملاق. ولن تسمع هناك سوى صفير الرياح وأمواج البحر. يقول ويلز: (أما ما وراء هذه الأصوات الهامدة، فلا شيء غير “الصمت الرهيب”، العالم كله صامت. الصمت؟! يصعب التعبير عن هذا الأمر. أي أن كل أصوات البشر، ومأمآت الأغنام، زقزقة الطيور، طنين الحشرات، والضجيج الذي يشكل خلفية حياتنا- كل هذا ذهب أدراج الرياح ولا وجود له)3 ومن ثم، عاد المسافرون على آلة الزمن. ولكن إلى ماذا؟ – إلى مجرد نقطة سابقة على الإندفاع نحو الفناء الذي لا مبرر له. وكنت قد قرأت كتابات ويلز قبل أن أعتنق المسيحية، وأخذت أفكر: “لا يمكن أن تكون نهايتي هكذا!” . وستكون نهايتي هكذا في حالة واحدة ، حين لا يوجد إله. وحقيقة الأمر، أنه لا رجاء ولا هدف ولا معنى لحياة تخلو من الله .

وما هو حقيقي بالنسبة للبشرية كلها، هو حقيقي بالنسبة للفرد: نحن هنا بلا هدف. وإن لم يكن هناك إله، لن تختلف حياة الإنسان عن حياة الحيوان. هذا يذكّرنا بالقول القديم الذي جاء في سفر الجامعة: ” لأَنَّ مَا يَحْدُثُ لِبَنِي الْبَشَرِ يَحْدُثُ لِلْبَهِيمَةِ، وَحَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمْ. مَوْتُ هذَا كَمَوْتِ ذَاكَ، وَنَسَمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكُلِّ. فَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْبَهِيمَةِ، لأَنَّ كِلَيْهِمَا بَاطِلٌ. 20 يَذْهَبُ كِلاَهُمَا إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. كَانَ كِلاَهُمَا مِنَ التُّرَابِ، وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُ كِلاَهُمَا –جامعة3: 19- 20)

ففي هذا السفر، الذي يبدو وكأنه قطعة من الأدب الوجودي الحديث أكثر منه سفراً في الكتاب المقدس، يكشف لنا الكاتب عبث المتعة، الثروة، التعليم، المجد السياسي، والكرامة في حياةٍ محكوم عليها أن تنتهي بالموت. وأصدر حكمه قائلًا: ” بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ- جامعة 1: 2″.وإن كان القبر هو نهاية الحياة، فلا هدف أو غاية قصوى للحياة.

وأكثر من ذلك: إن لم تنته الحياة بالموت، فإن حياة بلا إله هي حياة بلا هدف ولا غاية. ويكون وجود البشرية والكون مجرد صدفة، أي أن انفجارًا حدث بالمصادفة فأوجدهما. ولن يكون هناك سببٌ آخر لوجودهما. أما فيما يتعلق بالإنسان، فهو مجرد حادث طبيعي أو عرضي ــ نتاج أعمى للمادة والزمن والفرصة. وما الإنسان إلا كتلة من طين تطورت إلى إنسان عاقل. وكما قال أحد الفلاسفة: “حياة الإنسان تأسست على قاعدة غير إنسانية، وعليه أن يُدبر أمره بنفسه وسط كون صامت لا عقل له”4وما يسري على الكون ككل يسري علينا كأفرادٍ أيضًا. إن كان الله غير موجود، فأنت مجرد شيء لفظته الطبيعة خطأً، دُفِعتَ إلى كون بلا هدف لتحيا حياة بلا هدف أو معنى.

إذاً، إن كان الله غير موجود، فهذا يعني أن وجود الإنسان والكون هو وجودٌ خالٍ من الهدف والمعنى طالما أن نهاية كل شيء هي الموت وطالما أنهما نتاج أعمى وليد الصدفة. وفي عبارة موجزة: لا مبرر لوجود الحياة على وجه الإطلاق.

هل أدركت خطورة البدائل التي أمامنا؟ ولكن، إن كان الله موجودًا، فهناك رجاءٌ للإنسان. أما إن لم يكن هناك إله، فلن نحصد سوى اليأس والقنوط. لعلنا الآن أدركنا أهمية التساؤل حول وجود الله، وياله من سؤالٍ حيويٍّ يتوقف عليه مصير الإنسان. كما أوضح أحد الكتَّاب هذا الأمر ببراعه حين قال: “إن موت الإله يعني موت الإنسان أيضًا”.

ولسوء الحظ، فإن غالبية الجنس البشري لا يدركون هذه الحقيقة. ويواصلون حياتهم وكأن الأمر لا يعنيهم. وأتذكر ما رواه نيتشه Nietzsche عن رجلٍ مجنونٍ اقتحم ساحة السوق في الصباح الباكر وهو يحمل مصباحًا في يده، وكان يصرخ قائلًا: “إني أبحث عن الله! إني أبحث عن الله!” فأثار ضحك الناس، ذلك لأن الكثيرين منهم لا يؤمنون بالله. واستهزؤا به قائلين: “هل ضل الله الطريق؟ أم أنه اختبأ في مكان ما؟ ربما ذهب في رحلةٍ أو هاجر إلى بلدٍ آخر!” وعلت أصوات ضحكاتهم وصياحهم. واستطرد نيتشه قائلًا: لكن المجنون ظل يرمقهم بنظراتٍ حادة وهو واقفٌ في وسطهم، وصرخ في وجوههم: “أتسألونني أين الله؟” سأخبركم. لقد قتلناه ــ نعم، قتلناه أنت وأنا.

ولكن، كيف قتلناه؟ كيف استطعنا أن نشرب البحر كله؟ من ذا الذي أعطانا الممسحة لكي نمحو الأفق كله؟ ماذا فعلنا حين حررنا هذه الأرض من قبضة الشمس؟ وأين تدور الآن؟ هل تدور بعيدًا عن كل الشموس؟ هل سنظل نغرق؟ أم سنظل نتحرك إلى الخلف وإلى الأمام وإلى اليمين وإلى اليسار وفي كل الإتجاهات على غير هدًى؟

هل لا يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألسنا تائهين كما لو كُنا عبرعدم لا منتهًى له؟ ألا نشعر بهبوب الفراغ على وجهنا؟ ألم نشعر بشدة البرودة أكثر من ذي قبل؟ ألا تزداد الظلمة الحالكة شيئا فشيئًا؟ ألا يجب أن نوقد الفوانيس منذ الصباح؟ ألم نسمع أصوات حفّاري القبور الذين دفنوا الله؟… لقد مات… ونحن من قتلناه. كيف سنتعزّى ونحن قتلة القتلة؟ 5

وأخذ الحشد يحملقون في وجه المجنون صامتين مذهولين. وأخيرًا، قذف بمصباحه إلى الأرض وقال: “لقد أتيت مبكرًا جدًا. مازال يتردد صدى هذا الحدث الهائل في أرجاء الكون، وليس من يسمع”. ولم يُدرك البشر حقُا نتائج قتلهم لله حتى الآن. ألعلهم يدركون نتائج إلحادهم يوما ما؟ هذا ما تنبأ به نيتشه. ربما يقود هذا الإدراك إلى عصر من العدمية ــ عصر تدمير كل معنى وكل قيمة في الحياة. ولازال معظم الناس لا يفكرون في نتائج إلحادهم، لذا هم يشبهون أولئك الذين قابلهم مجنون نيتشه في ساحة السوق، أي يسيرون في طريقهم على غير هدًى. وحين ندرك كما أدرك نيتشه، ما يعنيه الإلحاد، سوف يلح سؤاله على أذهاننا مرارًا وتكرارًا: كيف سنتعزّى ونحن قتلة القتلة؟

الإستحالة العملية للإلحاد:

الحل الوحيد الذي يمكن للإلحاد أن يقدمه لنا هو: أن نواجه عبث الحياة بشجاعة. وعلى سبيل المثال، كتب برتراند راسل: “يجب علينا أن نبني حياتنا على أساس راسخ من اليأس الشديد.”6 وحينما ندرك أن العالم ما هو إلا مكان مريع، حينئذٍ سنفهم الحياة. أما ألبير كامي فقد قال: “علينا أن نكون صادقين في إدراكنا لعبثية الحياة وبعد ذلك علينا أن نحيا لنحب بعضنا البعض.”

ومع ذلك، فإن القضية الجوهرية في هذا الحل هي: أنه لا يمكنك أن تحيا سعيدًا وفي تناغم مع تلك “النظرة الكونية” “Worldview”. فإن عشت متناغمًا معها لن تكون سعيدًا والعكس صحيح. ولقد أوضح فرانسيس شايفر هذه النقطة بشكل جيد بقوله: إن الإنسان المعاصر، يسكن في “كَون ذي طابقين” (“Two-story Universe” وقد وجد المترجم من الأسهل على القاريء أن يُشرَح المثال بوجود طابقين). يمثل الطابق الأسفل عالمًا محدودًا يخلو من الله، لذا تتسم الحياة بالعبث في هذا الطابق كما رأينا سابقًا. أما الطابق الأعلى ففيه المعنى والقيمة والهدف. وحالياً، يعيش الإنسان المعاصر في الطابق الأسفل، ذلك لأنه لا يؤمن بوجود الله. ولكنه لا يستطيع أن يحيا سعيدًا في مثل هذا العالم الذي يتسم بالعبثية، لذلك، يواصل قفزات الإيمان إلى الطابق الأعلى بحثًا عن المعنى. وذلك على الرغم من أنه ليس لديه الحق في ذلك، لا لشيء إلا لأنه لا يؤمن بوجود الله.

دعنا نلقي نظرة أخرى على كل من المجالات الثلاثة حيث تبدو الحياة بدون الله مجرد عبث، لنبرهن على أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش سعيدًا ومتسقًا مع إلحاده.

معنى الحياة:

المجال الأول هو: المعنى. حيث رأينا أنه بدون الله، تفقد الحياة معناها. لذلك عاش الفلاسفة كما لو أن للحياة معنى. وعلى سبيل المثال، يرى سارتر أنه يمكن للإنسان أن يخلق معنًى لحياته وذلك من خلال الإختيار الحر للنهج الذي يعيش به حياته. وقد اختار سارتر الماركسية كمنهج حياة له. وفي هذا تناقض فادح. فمن السخف أن تقول: إن الحياة مجرد عبث، ثم تقول عليك أن تخلق المعنى لحياتك. فإن كانت الحياة عبثًا بالنسبة لك، فأنت مازلت تحيا في الطابق الأسفل lower story. ولكي تخلق المعنى لحياتك، عليك أن تقفز قفزة إيمان إلى الطابق الأعلى upper story كما سبق وأوضحنا، ولكن سارتر لم يمتلك أساس هذه القفزة. وبدون الله، فليس هناك معنًى موضوعيّ للحياة. وما البرنامج الذي عرضه سارتر سوى تدريب على خداع النفس. قال سارتر: “دعنا نتظاهر بأن للكون معنى.” أي دعنا نخدع أنفسنا.

فالنقطة الأساسية في هذا الأمر هي: إن لم يوجد الله، فلا معنى للكون، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يحيا في سعادة واتساق وهو يعلم أن الحياة بلا معنى. لذا، فلكي يحيا سعيدًا يلجأ للتظاهر بأن للحياة معنى. ولكن في هذا تناقض واضح ـــ لأنه بدون الله، لا أهمية حقيقية تُذكر للإنسان أو الكون.

قيمة الحياة:

لنناقش الآن قضية قيمة الحياة. هنا يظهر التناقض وعدم الإتساق الصارخ (في النظرة الكونية للإلحاد) بشكل واضح جدًا. وبادئ ذي بدء، فإن الملحدين من أصحاب النزعة الإنسانية قد وقعوا في التناقض الشديد في محاولتهم للتأكيد على القيم التقليدية للمحبة والأخاء. وكان النقد الموجه لألبير كامو محقًا حيث ناقض نفسه بتمسكه بعبثية الحياة ودعوته للمحبة والأخاء بين البشر. ذلك أن هذين الأمرين متعارضان منطقيًا. كما وقع برتراند راسل في هذا التناقض أيضًا.

وعلى الرغم من كونه ملحدًا، إلا أنه كان ينتقد المجتمع في صراحة تامة، وكان يشجب الحروب والحد من الحرية الجنسية. واعترف راسل بأنه لم يستطع أن يحيا القيم الإلحادية كما لو أنها ببساطة مسألة ذوق شخصي، لذا رأى أن وجهة نظره لا يمكن قبولها. واعترف قائلًا: “ليس لديّ حل لهذه المسألة”7 فعدم وجود الله يعني غياب الصواب والخطأ. وكما قال دوستويفسكي “إن لم يوجد الله، فكل شئ مباح”.

ولكن دوستويفسكي أوضح أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش هكذا. لا يمكنه أن يحيا كما لو أن للجنود الحق الكامل في ذبح الأطفال الأبرياء. وكما لو أن لديكتاتور، مثل بول بوت Pol Pot، الحق في إبادة الملايين من المواطنين. كان يصرخ من أعماق قلبه ووجدانه ليقول أن مثل تلك الأعمال خاطئة. ولكن، إن لم يكن هناك إله، فلن يستطيع الإنسان أن يتوقف عن هذا الشر. لذا، يقوم بقفزة إيمان ليؤكد تلك القيم. وحين يفعل ذلك، فهو يعلن أن عالمًا خالٍ من الله هو عالمٌ ناقصٌ.

وقد اكتشفت منذ عدة سنوات مضت حقيقة الهلع الذي يعيشه عالمٌ خالٍ من القيم، وذلك بينما كنت أشاهد أحد البرامج الوثائقية يُسمّى “الإجتماع” بثّته قناة BBC التليفزيونية. يصور الفيلم اجتماع بعض الناجين من محرقة النازي “الهولوكوست” في أورشليم، حيث أعادوا اكتشاف صداقاتهم المفقودة وتبادلوا الخبرات فيما بينهم. تحدثت إحدى السجينات، التي كانت تعمل كطبيبة أمراض نساء في معسكر النازي في “أوشفتيز” وقد لاحظت أن الجنود كانوا يجمعون النساء الحوامل ويعهدون للدكتور مينجل Mengele بمهمة الإشراف عليهنَّ على أن يسكنَّ في نفس الثكنات العسكرية. ولاحظت أنه جاء وقت لم تعد ترَ أولئك النساء ثانية.

لذا أجرت تحقيقًا وتساءلت: “أين أولئك النساء اللواتي كن يسكُنَّ في هذه الثكنات؟” وجاءت الإجابة: “ألم تسمعي بالأمر بعد، لقد قام د. مينجل بتشريحهن”. كما أخبرتها امرأة أخرى كيف قام د. مينجل بربط ثدييها حتى لا تُرضع طفلها. أراد هذا الطبيب أن يعرف كم من الزمن يمكن لطفل أن يعيش دون تغذية. أما المرأة فكانت تعطي لطفلها قطعة من الخبز وقد غمستها في القهوة كمحاولة يائسة منها لكي تحافظ على طفلها حيًا، ولكن دون جدوى.

كان الطفل يفقد وزنه يومًا بعد يومٍ، وكان د. مينجل يراقب الأمر بشغف. وذات يوم، جاءت إحدى الممرضات إلى تلك المرأة وقالت لها: “لقد دبّرت لك طريقة للهرب من هذا المكان، ولكنك لن تستطيعي أن تأخذي طفلك معك. وقد أحضرت حقنة من مخدر المورفين لتحقني بها طفلك لتُنهي حياته.”

وأمام اعتراض الأم، أصرَّت الممرضة على رأيها: “انظري، إن طفلك سيموت لا محالة. فانقذي نفسك على الأقل” فقتلت المرأة طفلها. وحين علم د. مينجل بالأمر استشاط غضبًا، ذلك لأنه قد فقد إحدى عينات التجارب. فأخذ يبحث بين الموتى عله يجد جسد الطفل ليزنه للمرة الأخيرة. مثل هذه القصص تمزّق قلبي. وقد لخّص أحد الحاخامات -والذي نجا من معسكر التعذيب النازي- الأمر قائلًا: “إن أوشفيتز عالم يعيش على خلاف الوصايا العشر” ولن ترَ البشرية جحيمًا مثله.

إذًا، إن لم يوجد إله، يتحول عالمنا إلى أوشفيتز: لن يكون هناك حق مطلق أو باطل بل يصير كل شيء مباح، ولن يقدر ملحدٌ أو لاأدري أن يعيش متسقًا مع وجهة النظر هذه. بل إن نيتشه نفسه، وهو من نادى بأنه من الضروري أن نحيا فيما وراء الخير والشر، قد خاصم معلّمه الموسيقار ريتشارد فاجنر بسبب معاداة الأخير للسامية وبسبب صرامة الجنس الألماني.

وقد كتب سارتر في أعقاب الحرب العالمية الثانية وأدان معاداة السامية، وأوضح أن أيّ معتقدٍ يقود إلى إبادة البشر لا يُعد مجرد رأي أو مسألة ذوق شخصي ويتساوى مع نقيضه.8 وفي مقاله الهام “الوجودية نزعة إنسانية” كافح سارتر – دون جدوى – لكي يهرب من التناقض ما بين إنكاره للقيم الإلهية المحددة سابقًا وبين رغبته المُلحَّة في التأكيد على قيم ومبادئ الجنس البشري. ومثله مثل راسل، إذ لم يستطع أن يتعايش مع نتائج إنكاره للأخلاقيات المطلقة.

كما أن هناك معضلة أخرى وهي: إن كان لا يوجد إله ولا يوجد خلود، إذًا، لن يعاقَب أحد على أعمال الشر، ولن يُثاب أحد على أعمال الخير. ومن ذا الذي يستطيع أن يعيش من خلال هذا المنظور؟ يقول ريتشارد ورمبراند Richard Wurmbrand الذي تم تعذيبه في السجون الشيوعية بسبب إيمانه:

“يصعب علينا تصديق مدى قسوة الإلحاد ووحشيته، حين لا يؤمن الإنسان بمكافأة الصالح ومعاقبة الشرير. ليس هناك سبب لتكون إنسانًا، ولا يمكن كبح الشر الذي في أعماق الإنسان. هكذا كانوا يقولون في معسكرات التعذيب الشيوعية: “ليس هناك إله، وليست هناك حياة أخرى ولا عقاب للشرير، لذا يمكننا أن نفعل ما نرغب فيه” سمعت أحد المُعذِّبين يقول: “أشكر الله، الذي لا أؤمن به، أنني عشت إلى هذه الساعة واستطعت أن أعبّر عن كل الشر الذي في قلبي”، وقد عبّر عن شرِّهِ في وحشيةٍ سافرةٍ، وصب جام غضبه على المساجين.9

نفس الكلام ينطبق على أعمال التضحية بالنفس. منذ عدة سنوات مضت، حدثت كارثة جوية مروعة في منتصف الشتاء، حيث أقلعت طائرة من مدينة واشنطن واصطدمت بجسر على نهر بوتوماك Potomac وقفز ركابها إلى الماء البارد جدًا. وما أن جاءت طائرة الإنقاذ، شد رجل انتباه الجميع، فقد دفع بسلم النجاة المصنوع من الحبال إلى راكب آخر بدلًا من أن يستخدم هو السلم لينقذ نفسه، وقد كرر نفس الأمر ست مرات. ولما عادت الطائرة مرة أخرى، كان قد لقى حتفه. لقد بذل حياته بكامل حريته ليحيا الآخرون. وكان الجميع ينظرون نظرة احترام عظيم إلى هذا الرجل مبدين أشد الإعجاب بعدم أنانيته والعمل الرائع الذي قام به.

وهنا نقول: إن كان الإلحاد على حق، فهذا الرجل لم يقم بعملٍ نبيلٍ ـــ بل قام بعمل يتسم بالغباء الشديد. كان عليه أن يكون أول من يستعمل السلم لينقذ نفسه. إما أن يموت من أجل آخرين هو لا يعرف أحدًا منهم، وإما أن يُضحّي بما تبقَّى من حياته من أجلهم، هنا يثور تساؤل ــ لماذا قام بهذه التضحية؟ بالنسبة للملحد، لا يوجد سبب. وعلى أية حالٍ، فإن الملحد مثله مثلنا، قد يقوم بالفطرة بالثناء على عدم أنانية هذا الرجل. نعم، يصعب أن تجد ملحدًا تتسق حياته مع ما يعتقده. وأن عالمًا يخلو من المُساءلة الأخلاقية ومن القيم لهو عالمٌ مرعبٌ بشكل لا يمكن تصوره.

هدف الحياة:

أخيرًا، دعنا نناقش قضية الهدف من الحياة. الطريق الوحيد الذي يسلكه كل من ينكر أن للحياة هدفًا هو إما بأن يضع هدفًا نصب عينيه ليحققه والذي قد يصل إلى الوهم الذاتي. كما رأينا مع سارتر أو بأن يتجنب الإستنتاجات المنطقية لوجهة نظره في الحياة. وعلى سبيل المثال، مشكلة الموت.

وفقًا لأرنست بلوخ Ernst Bloch، إن الطريقة الوحيدة التي يواجه بها الإنسان المعاصر الموت، أن يستحضر إلى ذهنه المعتقدات التي كان يعتنقها أجداده بشأن الخلود، وذلك على الرغم من أنه يفتقر إلى الأساس القوي لهذا المعتقد، لأنه لا يؤمن بالله.

يقول بلوخ: “حين يستحضر هذا الاعتقاد في الخلود، لا يشعر الإنسان المعاصر بالهُوَّة التي تحيط به والتي حتمًا ستبتلعه في نهاية الأمر. ومن خلال هذا الاعتقاد يحافظ على شعوره بهُويته الذاتية أيضًا. كما يزداد شعوره بأن مصيره ليس الفناء، ولكن يوما ما لن يقبل العالم فكرته هذه.” ويضيف بلوخ: “تقوم هذه الشجاعة الزائفة على أسس غير حقيقية. ذلك أن مصدرها أمال سابقة، والدعم الذي قُدِّم له من قبل” 10ولأنه يرفض الإيمان بالله، لا يستحق الإنسان المعاصر هذا الدعم مرةً أخرى، ولكن، لكي يحيا حياة هادفة، فهو يحاول أن يقفز قفزات إيمانية ليجد سببًا أو هدفًا للحياة.

غالبًا ما نرى هذا التناقض بين من يدّعون أن الكون والإنسان جاءا إلى الوجود دون سببٍ أو هدفٍ. بل الأمر برمّته محض صدفة. ولأنه غير قادر على العيش في كونٍ لا شخصي impersonal universe حيث كل شيء ناتجٌ عن مجرد مصادفة عمياء، ينسب مثل هذا الإنسان الشخصية والدوافع إلى العمليات المادية نفسها. ويالها من وسيلة غريبة للتحدث، تمثل قفزة من الطابق السفلي إلى الطابق العلوي.

على سبيل المثال، فإن فرانسيس كريك Francis Crick ومنذ منتصف كتابه “أصل الشفرة الوراثية” The Origin of the Genetic Code بدأ يكتب كلمة طبيعة Nature (حرف N كبير)، وفي موضعٍ آخر يصف عملية الإنتخاب الطبيعي natural selection بأنها عملية تتصف “بالذكاء” و”التفكير” فيما سيُعمَل. وقد نسب الفلكي الانجليزي فريد هويل Fred Hoyle صفات الله إلى الكون أيضًا. أما كارل ساجان Carl Sagan فإنه يكتب كلمة الكون Cosmos (حرف C كبير)، والكون عنده يلعب دورًا بديلًا لله. وعلى الرغم من أن كل هؤلاء لا يعترفون بإيمانهم بالله، إلا أنهم كانوا يؤمنون سرًا بوجود إله، ذلك أنهم لم يتحمّلوا العيش في كونٍ كل شيءٌ فيه جاء بالصدفة بفعل قوًى غير بشرية.

ومن المثير للدهشة أن ترى بعض المفكرين يخونون وجهة نظرهم حين تواجههم بالنتائج المنطقية لها. وعلى سبيل المثال، أثار بعض المدافعين عن المساواة بين الجنسين عاصفة شديدة ضد علم النفس الجنسي الفرويدي “نسبة لفرويد” وذلك لأنه يتسم بالعدائية والتحيز ضد النساء. كما عكف بعض علماء النفس على مراجعة نظرياتهم. وفي هذا تناقض وعدم إتساق شديد. فإن كان علم النفس الفرويدي صحيحًٌ بالفعل، فماذا يهم إن كانت نتائجه الصحيحة تُهين النساء! لا يمكنك أن تغير الحقيقة لأنك لا تحب نتائجها. ولكن لا يمكن لأناسٍ أن يعيشوا سعداء متَّسقون مع عالم يُهان فيه أناسٌ آخرون. وإن لم يكن هناك إله، فلن يكون للإنسان قيمة تُذكر. أما إن كان الله موجودًا، ففي هذه الحالة يمكن لشخص أن يدعم حقوق المرأة. لأنه إن كان الله غير موجود، فبحسب الإنتخاب الطبيعي natural selection سيكون الرجل هو المهيمن ولا عزاء للمرأة. فلن يكون للمرأة أية حقوق تفوق حقوق أنثى الماعز أو الدجاجة. فالطبيعة دائمًا على حق. والسؤال الآن: من يقدر أن يحيا بوجهة النظر هذه؟ وأقولها بوضوح، حتى علماء النفس الفرويديون الذين خانوا نظرياتهم عندما تواجهوا مع الإستنتاجات المنطقية لها، لا يقدرون أن يحيوا بوجهة النظر هذه.

انظر لمثال آخر هو الدكتور ب.ف.سكنر B. F. Skinner من المدرسة السلوكية الإجتماعية، قال: هذه الرؤية تقود إلى مجتمع يشبه ذاك الذي تحدّث عنه جورج أورويل George Orwell في روايته “1984” حيث تتحكم الحكومة في أفكار الناس وتبرمجها. وإن كانت نظرية سكنر صحيحة، فلن يكون هناك اعتراض أخلاقي على معاملة الناس كفئران التجارب التي يتعامل معها د. سكنر في معمله، حيث تهرول الفئران داخل متاهاتها قانعة بطعامها وبالصدمات الكهربائية التي تتلقاها. ووفقًا لسكنر، فإن كل أعمالنا مبرمجة على أيّ حالٍ. وإن لم يوجد الله، فلا اعتراض أخلاقي يمكن أن يثور ضد هذا النوع من البرمجة، ذلك أن الإنسان لا يختلف نوعيًا عن الفأر. فالإثنان مجرد مادة وزمن وصدفة. ومرة أخرى نتساءل، من ذا الذي يمكنه أن يعيش بمثل هذه الرؤية اللاإنسانية؟

وأخيرًا، خذ ما قاله الدكتور فرنسيس كريك أحد أنصار الحتمية البيولوجية: من كل ماسبق، فإن الإستنتاج المنطقي هو: أن الإنسان مثله مثل أيّ عينة معملية أخرى. لقد أصاب الذعر العالم حين عرف أن النازي استخدم المساجين في معسكر داخاو Dachau لإجراء التجارب الطبية. ولما لا؟ فإن لم يكن هناك إله فلن يعترض أحد على استخدام البشر كحيوانات تجارب مثلهم مثل خنازير غينيا. وتؤدي هذه الرؤية إلى التحكم في البشر بحيث يُقتل الفرد الضعيف أو غير المرغوب فيه ليفسح المجال للفرد القوي. والسبيل الوحيد للاعتراض على هذه الرؤية، أن يكون هناك إله. فإن كان الله موجود، إذًا هناك معنى وهدف للحياة.

إن الإنسان المعاصر يواجه معضلة حقيقية رهيبة. وبقدر إنكاره لوجود الله وللمعنى والهدف، تظل المعضلة دون حل حتى لإنسان عصر ما بعد الحداثة أيضًا. وبالفعل، فإن تلك المعضلة تتمثل تحديدًا في إدراك أن قضايا عصر الحداثة تتمثل في العبث واليأس اللذين يشكِّلان مُعاناة إنسان ما بعد الحداثة. وأن عصر ما بعد الحداثة ماهو إلاّ إدراك إفلاس عصر الحداثة.

إن الرؤية الكونية للإلحاد قاصرة عن تحقيق السعادة والتناغم في الحياة. فلا يمكن لإنسانٍ أن يعيش سعيدًا كما لو أن الحياة في نهاية الأمر خالية من المعنى، القيمة والهدف. وإن أردنا أن نعيش في تناغم مع وجهة النظر الإلحادية، سنجد أنفسنا تعساء للغاية. أما إن نحيا حياة سعيدة، فهذا لن يتم إلا عن طريق التخلّي عن رؤيتنا هذه.

وفي مواجهة تلك المعضلة، ارتبك الإنسان وحاول بشكل مثير للشفقة أن يجد وسائل للهروب. وفي محاضرة شهيرة ألقاها دكتور ل.د ريو L. D. Rue في الأكاديمية الأميركية لتقدم العلوم عام 1991، تحدّث فيها عن معضلة الإنسان المعاصر، قال: إننا نخدع أنفسنا بما يسمى “خرافة جائزة نوبل” Noble Lie ونظن أننا والكون مازال لنا قيمة.11 وأضاف قائلًا: “إن الدرس المستفاد من القرنين السابقين هو: علينا أن نعي أن القضية تتمثل في نسبية الفكر والأخلاق”، وقال متأملًا: “إن نتائج هذا الوعي تتمثل في استقلال سعي الإنسان إلى الكمال الذاتي (أو تحقيق الذات) عن سعيه إلى تحقيق التماسك الاجتماعي. ذلك لأنه من وجهة نظر النسبية، فإن سعي الإنسان نحو تحقيق ذاته يصبح أمرًا شديد الخصوصية: إذ يختار كل شخصٍ مجموعة القيم الخاصة به ويضع لنفسه المعنى الذي يناسبه. وإن أردنا ألاّ يكون مصيرنا “مستشفى المجانين” حيث ننشد “تحقيق الذات بمعزلٍ عن التماسك الاجتماعي”، و “الخيار الشمولي”، حيث نسعى نحو التماسك الاجتماعي على حساب تحقيق الذات، يكون ليس لنا خيار إلا أن نصدق “خرافة نوبل” والتي ستطالبنا بأن نعيش فيما وراء المصالح الذاتية ومن ثم يتحقق التماسك الاجتماعي. فـكذبة نوبل؟، “هي كذبه تخدعنا، تحتال علينا، وتدفعنا إلى ما وراء المصالح الذاتية، الأنانية، العائلة، الدولة، بل والعرق”. يالها من كذبة، لأنها بذلك تُخبرنا أن للكون قيمة ثمينة (وهذا محض خيال كبير)، ولأنها تدّعي أن هُناك حقيقة مُطلقة للكون (وليس هُناك حقيقة مُطلقة)، ولأنها تخبرني ألا أعيش من أجل مصلحتي الشخصية (وهذا زيفٌ واضحٌ). “ولكن، بعيدًا عن هذه الأكاذيب، لا يمكننا أن نعيش.”

هذا هو الحُكم المروّع الذي وُضِعَ على الإنسان المُعاصر. فلكي يحيا، عليه أن يعيش في خداع ذاتي. لكن حتى هذا الخيار -أي كذبة نوبل- غير قابل للتطبيق. ولكي يعيش الإنسان سعيدًا عليه أن يؤمن بمعنى موضوعي، قيمة وهدف. ولكن، كيف لنا أن نؤمن بأكاذيب نوبل، وفي نفس الوقت نكون ملحدين ونؤمن بالنسبية؟ كلما اقتنعت بضرورة “كذبة نوبل”، قل إيمانك بها. والأمر يشبه الدواء الوهمي placebo، ذلك أن كذبة نوبل لا تعمل إلا مع أولئك الذين يؤمنون أنها الحقيقة. وما أن ندرك أنها محض خيال إلا وتفقد قوتها وسيطرتها علينا.

وهكذا، ومن سخرية القدر، أن كذبة نوبل لا يمكنها أن تحل “المأزق البشري” لأي شخص لجأ إليها. بل تؤدي هذه الكذبة -في أفضل الأحوال- إلى إنتاج مجموعة من النخبة المستنيرة تعمل على خداع الجماهير من أجل مصلحتها الخاصة وذلك بالعمل على استمرار كذبة نوبل. ولكن، لماذا ينبغي على الذين استناروا من بيننا أن يتبعوا ذلك الحشد المخدوع؟

لماذا علينا أن نضحي بمصالحنا الشخصية من أجل أمر وهميّ؟ فإن كان الدرس الذي تعلّمناه من القرنين الماضيين هو النسبية الأخلاقية والفكرية، إذًا لماذا ندَّعي “كلما استطعنا” أننا لا نعلم تلك الحقيقة ونعيش في ظل هذا الكذب عوضًا عنها؟ وإن أجاب أحدهم قائلًا: “إن ذلك من دواعي التماسك الاجتماعي”، فربما طرح آخر سؤالًا مشروعًا: ولماذا أُضحّي بمصالحي الشخصية من أجل تماسك المجتمع؟

والإجابة الوحيدة التي يمكن للنسبية أن تقدمه لنا هو: أن تماسك المجتمع مرتبطٌ بمصالحي الشخصية – ولكن المشكلة في هذه الإجابة، أن المصلحة العامة كثيرًا ما تتعارض مع المصالح الشخصية. وإن كنت أهتم بتماسك المجتمع (لكي يعود ذلك عليّ بـ”مصالحي الشخصية”)، فقد زاد احتمال السقوط في النظام الشمولي الديكتاتوري ازديادًا كبيرًا: أتغاضى عن كذبة نوبل وأهتم بتماسك المجتمع (إلى جانب مصلحتى الشخصية) وذلك على حساب الاكتمال الشخصي للجماهير .أما “ريو” فسينظر إلى هذا الخيار بكونه أمرًا بغيضًا. وههنا تكمن المشكلة. ذلك أن المأزق الذي تورّط فيه ريو أنه يُعلّي من قيمة كل من التماسك الاجتماعي والتكامل الشخصي كلُ على حدة، وبعبارة أخرى، ووفقًا لفلسفته، فتلك قيم موضوعية ليس لها وجود. لقد قفز بالفعل إلى الطابق الأعلى. إن خيار كذبة نوبل يؤكد ما ينكره ويضحد نفسه بنفسه.

انتصار المسيحية الكتابية:

وإن كان الإلحاد قد خسر هذه المعركة ، فماذا عن المسيحية الكتابية؟ إن الرؤية الكونية للمسيحية الكتابية تقول: إن الله هو خالق الكون، وحياة الإنسان لن تنتهي عند القبر. وفي جسد القيامة سيتمتع الإنسان بحياة أبدية والوجود في محضر الله. أي أن المسيحية الكتابية تعطينا شرطين ضروريين من أجل أن يجد الإنسان المعنى والقيمة والهدف لحياته: الله والخلود. وبهذا يمكننا أن نحيا سعداء وفي تناغم مع ما نعتنقه من مبادئ. أي أن المسيحية الكتابية نجحت فيما فشل فيه الإلحاد فشلًا زريعًا.

الخلاصة..

أريد أن أوضح أنني إلى الآن لم أعرض الأسباب التي تبرهن على أن المسيحية الكتابية هي الحق. ولكنني ناقشت البدائل. فإن كان الله غير موجود، فما الحياة إلاّ عبثٌ كبير. أما إن كان إله الكتاب المقدس موجودًا، هنا يُصبح للحياة معنى وهدف. وهذا الخيار الأخير هو القادر أن يجعلنا نحيا حياة سعيدة متوازنة. لذلك، يبدو لي، أنه وإن تساوت البراهين المؤيدة لهذين الخيارين، إلا أن الإنسان العاقل سيختار المسيحية الكتابية لا الإلحاد. ويبدو لي، أن اختيار الموت لهو خيار غير منطقيّ، بلا جدوى بل ومُدمِّر للحياة والمعنى والسعادة. وكما قال باسكال: ليس لدينا ما نخسره، لكن لدينا الكثير والكثير لنربحه.