أبحاث

التغيير – فيليب يانسي

التغيير – فيليب يانسي

التغيير – فيليب يانسي

التغيير – فيليب يانسي
التغيير – فيليب يانسي

التغيير – فيليب يانسي

“والآن بمعونة الله سوف أحقق ذاتي”

سورين كيركجارد

والآن سنوات المدرسة الثانوية كنت أسعى لإعادة بناء هويتي. وفي المقام الأول كنت أكره أن أكون جنوبياً من الجنوب. كانت البرامج التلفزيونية مثل “بيفريل هيلبليس The Beverly Hillbillies”  و”نهيق Heehaw” كانت تربكني، فكنت أنكمش وأتراجع في كل مرة أسمع فيها الرئيس “ليندون جونسون” وهو يفتح فمه قائلاً: “Mhafella Amuricuns…” ولأن باقي الأمريكيين في الستينات كانوا يحكمون على أهل الجنوب بأنهم متخلفون، جهلاء، وعنصريون، لذلك كنت أريد أن أفصل نفسي عن إقليمي الذي ولدت فيه.

لقد بذلت جهداً لتغيير لهجتي، ونجحت في ذلك حتى أن الناس كانوا يندهشون لدى علمهم أنني من الجنوب. وبدأت في قراءة الكتب المشهورة لكي أوسع مداركي. وتجنبت استخدام بعض التعبيرات التي يستخدمها أهل الجنوب. وقررت مواجهة مخاوفي دفعة واحدة، وحاولت التغلب عليها. وجاهدت لكي أتحكم في مشاعري لتكون طوع إرادتي، فلا تتحكم فيّ. كما أنني قمت بمحاولات لتحسين طريقة كتابتي.

نجحت محاولاتي في الإصلاح، ومنحتني الشخصية المناسبة لتلك الفترة. وأصبحت أقل حساسية وأكثر انفتاحاً ومرونة. وتلاشت أشباح الطفولة ومورثاتها، وأعتقد أنني هربت من ماضيّ.

وبعد عدة سنوات بدأت المشاكل في الظهور، عندما بدأت أدرك حدود شخصية كونتها بنفسي. فقد فشلت فشلاً كبيراً في معظم أموري الهامة بالنسبة لله. فقد كنت أنانياً، انعزالياً، غير محب للآخرين، وتنقصني العاطفة والمشاعر.

وفيما عدا القدرة على التحكم في الذات كنت محتاجاً إلى تسع من ثمار الروح المذكورة في غلاطية 5. ورأيت أن هذه الصفات لا يمكن بناؤها، ولكن يجب تنميتها بعد أن يزرعها الله بحضوره وسكناه داخلي. واتفق مع ما قاله ج. هنريك أرنولد: أن التلمذة المسيحية “ليست تساؤلاً عما نفعله، بل المهم هو إعداد مكان لله لكي يتمكن من السكنى فينا”.

ومنذ ذلك الوقت بدأت أمارس الصلاة بطريقة منتظمة من خلال القائمة الموجودة في رسالة غلاطية: محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، وداعة، صلاح، إيمان، تعفف. هل أظهر المحبة واختبر الفرح والسلام وأتعامل بالصبر؟ وظللت أطرق على سقف من زجاج، لأنه بالرغم من تغلبي على الشك، ومحبة الذات، فقد كنت أشعر بحاجة شديدة إلى الفرح والمحبة.

وعندما كنت أعتقد أنني أصبحت صبوراً ووديعاً، كنت أقطع الاتصال التليفوني إذا ما استمر لمدة 20 دقيقة، وأبداً بطرق الطاولة بقبضة يدي. وكنت أعلم أن أي تقدم في هذه المجالات يحدث نتيجة عمل الله.

أخيراً أدركت أن كل مشروعي لإعادة بناء شخصيتي قد أُسيء تنفيذه. إن الله لا يريدك أن تعمل بشخصية مختلفة تماماً، فالله قد اختارني أنا. لقد رأيت هذا بكل وضوح أثناء فترة خلوة للإرشاد والتأمل الروحي، وطلب مني مرشدي الروحي أن أركز على قصة إقامة لعازر في يوحنا 11: ” وأنت تقراً ضع نفسك مكان لعازر، لقد قام لحياة ثانية، لكنه كان ملفوفاً في الأكفان.

كان بحاجة إلى من يفكه ويُطلقه حراً. وأريدك أن تتعرف على القيود التي تلتف حولك وتمنعك من أن تحيا الحياة التي قصدها لك الله”.

كتبت قائمة طويلة اشتملت على أشياء مثل سرعة التردد والتباطؤ التي تُفسد كل اختباراتي للفرح، ومع نفسي من التعبير عن الفرح أو توقعه. جراح قديمة تحتاج إلى مزيد من الإيمان بالله لكي تُشفى. أيضاً أعراض الكتابة التي منعتني من أن أحيا حياة طبيعية، والتعلق بعناد بشخصيتي كنوع من الارتداد، وتجنب نموذج مارسته في علاقتي مع الله ومع الآخرين.

وأود أن أسجل هنا أن الله قد أزال كل تلك القيود والأربطة خلال أسبوع من الارشاد والتأمل الروحي. إن الشفاء الروحي ليس أمراً سهلاً أو سريعاً. لقد ألقيت نظرة على عملية الشفاء هذه، وراجعت محاولة إعادة بناء شخصيتي بمعونة الله، وليس بمجهودي أنا – إنه إصلاح يحرر – لا ينكر ذاتي الحقيقية.

أستاذ الأدب “مارك فان دورن” الذي علّم “توماس مرتون”، قام بزيارة تلميذه السابق في دير كينتكي ولم يكن قد رآه منذ 13 عام. لم يتمكن دورن وبعض أصدقاء مرتون من فهم واستيعاب تحوله من حياته الصاخبة في نيويورك، إلى هذه العزلة والسكون في دير. قال دورن:

“كان يبدو متقدماً في السن، ولكن أثناء جلوسنا وحديثنا معه لم أتبين اختلافاً كبيراً فيه. فقلت له: إنك لم تتغير إطلاقاً يا توم”.

فأجاب: “ولماذا أتغير؟ إن من واجبنا هنا أن نسلك على طبيعتنا”. وكانت هذه إجابة هامة ساعدت على تصحيح مفاهيمي”.

أثق أن له هدفاً مماثلاً لذلك لنا جميعاً، أن نسلك على طبيعتنا التي أرادها الله أصلاً لنا. قال الحاخام زوسيا Zusya: “لن يسألني أحد في الأبدية: لماذا لم تسلك كموسى؟ وسيسألونني: “لماذا لم تسلك كالحاخام زوسيا؟”.

وبكل هدوء سأقول إن الروح القدس أرشدني ألا أكون موسى أو زوسيا، ولكن لكي أكون فيليب يانسي، الإنسان الخاطئ الذي اختاره الله ليسكن فيه. إن الله على استعداد لأن يساعد كل إنسان على الأرض له الرغبة في أن يسكن فيه. ويبدأ الأمر كله بالثقة في أن الله يريد لي الأفضل، ثقة في أن الله سيحرر. نفسي الحقيقية لا أن يقيدها. كتب بولس الرسول إلى أهل أفسس: “فإنه لم يبغض أحدٌ جسده قط بل يقوته ويربيه، كما الرب أيضاً للكنسية.

لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه… هذا السر عظيم…”، كما لو أن بولس أيضاً يجد صعوبة في الإيمان بعمق، علاقة الله القوية مع شعبه. إنني أقوم بكل ما يحتاج إليه جسدي: أتناول الفيتامينات، أمارس رياضة العدو، أقص شعري وأظافري، أنام، أزور عيادة الطبيب، آكل، أضمد جراحي.

أضع شامبو على البشرة الجافة، احتفظ بدرجة مقبولة لغرفتي. إنني لا أهمل احتياجات جسدي على الإطلاق. هذه هي نفس العلاقة الحميمة التي لله مع شعبه على الأرض، لأنه اختار أجسادنا لنا لأنها ملكه.

“انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله!” هكذا كتب يوحنا البشير في رسالته الأولى. مع أن كل شيء حولنا يقول عكس ذلك: نحن لا نستحق، لقد سقطنا، إنه ينقصنا الكثير. كما لو أننا نتوقع الاعتراض، ويضيف يوحنا: “أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله”، والآن جزء منا ما زال مختبئاً، لم ينمُ حتى الآن مثل العضو الذي لم يُستخدم بعد.

ومع ذلك فإن عمل الروح يتقدم بطريقة غير مرئية، ولا نهاية لها لكي يُشكل ذواتنا الحقيقية. فليس بإمكاننا أن نبني الشخصية التي تُسر قلب الله، بل أن الله نفسه هو الذي وعد بأن يفعل ذلك.

لقد قال الله بك وضوح أنه يقبلنا – بل ويُسر بنا – لأننا نحمل صورته. إننا لا نشعر بهذا الحب السماوي. إن الشك واليأس قد يسرقان منا هذا الشعور مثلما حدث للناس الذين كتب لهم البشير يوحنا. وأحياناً “تلومنا قلوبنا” ولكن الله “أعظم من قلوبنا، ويعلم كل شيء”.

عندما وصل مترجم العهد الجديد ج. ب. فيلبس إلى هذه الآية من رسالة يوحنا الأولى، تصور أن يترك هذه الصفحة. ويقول فيلبس: “إنني مثل كثيرين آخرين، أجد نفسي في بعض الأحيان ميالاً إلى رفض ما هو دون الكمال، وإذا لم نحذّر أنفسنا من تملك فكرة الكمال علينا فقد تصيبنا بالغرور، ونبدأ في انتقاد الآخرين، أو ننتقد أنفسنا”.

لقد عانى فيلبس من الاكتئاب المرضي، وعندما كان يعاني من المزاج السيء يتمادى في الإدانة بلا رحمة. وحدث معه ذلك حتى بعد أن تمسك بكلمات هذه الآية. كما وأنه يقول: “إذا كان الله يحبنا فمن نحن حتى نتعالى ونرفض أن نحب أنفسنا”.

بالنسبة لي أنا أيضاً، فإن قبول محبة الله يتضمن أصواتاً مكتومة قاسية تهمس لي بطرق أخرى: أنت لا تستحق، لقد سقطت ثانية، ولا يمكن أن يحبك الله. ويبدأ ضميري في رسم صورة الله كما في العهد القديم الي كان له السلطان والعقوبة القاسية، وبصعوبة يمكنني أن أفهم حقيقة أن الله تنازل ليعيش داخلي، والآن يحبني من الداخل والخارج.

ويجب أن أسأل الله “الذي هو أعظم من قلوبنا” أن يوقف هذه الدائرة القاسية من الدينونة، وأن يذكرني بحقيقة أن الله يحبني ويُسر بي.

لماذا يحبني الله؟ يجيب الكتاب المقدس على هذا السؤال العميق بكلمة لا تُبارى: النعمة. الله يحب لأن طبيعته هي المحبة، وليس لأنني فعلت أي شيء يستحق ذلك. الله لا يستطيع يمنع نفسه عن الحب لأن المحبة هي طبيعته.

أتذكر القليل من الخدمات الكثيرة التي سمعتها في حياتي، من بينها خدمة قدمها “إيان بيت واطسون” وقد اشتملت هذه الخدمة على نقطة واحدة، ربما تكون هي السبب الذي جعلني أتذكرها: “إننا نحب بعض الأشياء لأنها تستحق ذلك، وبعض الأشياء الأخرى تستحق أن تُحب”.

بدأ واطسون بأمثلة لأشياء نحبها، لأن فيها من الصفات ما يستحق ذلك: عارضات الأزياء، الرياضيون الموهوبون، العلماء العباقرة، الأعمال الفنية الثمينة والنادرة. ثم ذكر شيئاً ليس فيه أية صفة تجعلنا نحبه، ومع ذلك نحبه. أخبرنا عن ابنته “روزماري” ولعبتها القذرة المصنوعة من القماش، ومع ذلك فهي من أغلى ممتلكاتها، إذ أن روزماري لا يمكنها العيش بدونها.

وعندما قرر بيت واطسون السفر من اسكتلندا عبر المحيط ليستقر في أمريكا، اختار كل عضو في أسرته بكل عناية شيئاً من ممتلكاته ليأخذه معه. لقد اختارت روز ماري شيئاً واحداً: إنها دميتها المصنوعة من القماش. وعندما وضعوها في مكان غير مناسب (من وجهة نظرها) في المطار اضطربت روزماري بشدة حتى أن الأسرة فكرت في تأجيل الطيران. وعندما وجدوها أخيراً كان للدمية فعل السحر في تهدئة روزماري. إن قيمة الدمية في حد ذاتها قليلة جداً، ولكنها في عيني روزماري غالية القيمة.

طبق بت واطسون هذا المثل بشكل كتابي: إن محبة الله ليست مبنية على استحقاق ذاتي فينا. لقد وصلت إلينا بالنعمة كهبة مجانية، ومنحت الاستحقاق لأناس غير محبوبين. وبعض الأشياء نحبها لأنها تستحق ذلك، والبعض الآخر يستحق أولاً ثم يُحب. ولاهوتياً؛ يناسبنا الجزء الثاني من هذه العبارة، يقول القديس أوغسطينوس: “بمحبتك يا رب لمن لا يُحب، جعلتني محبوباً”.

عندما أحب شخصاً ما فإنني أُسر به، وعندما يزورنا بعض الأصدقاء في كولورادو، نشتري لهم الطعام الذي نعرف أنهم يحبونه، وننظف المنزل ونضع أزهاراً في حجرة الضيوف، ونضع لهم خطة للرحلة لنعطيهم أقصى متعة من الزيارة. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من النظر عبر النافذة، وكلما اقترب موعد وصولهم كما لو أن انتظاري لهم سوف يُسرع بمجيئهم. إن الله يشعر نحو كل منا بمثل هذا السرور.

وعندما اقترب حياة هنري نووين من نهايتها قال: إن الصلاة أصبحت بالنسبة لي في المقام الأول وقتاً “للاستمتاع بالبركة”. وأضاف أن: “العمل الحقيقي للصلاة هو أن تصمت، وتستمع للصوت الذي يقول لك أموراً طيبة عن نفسك”. وقال: إن هذا قد يبدو نوعاً من التساهل مع النفس، ولكنه كان يقصد أن يرى نفسه كالمحبوب من الله الذي اختره لكي يسكن فيه.

وكلما ازداد سماعه لهذا الصوت، كلما قلت حساسيته تجاه تجاوب الآخرين معه، أو تقييمه لإنجازاته. وصلى لكي يعلن الله عن سكناه في داخله من خلال حياته اليومية مثلما يأكل، ويشرب، ويتحدث، ويحب، ويلعب، ويعمل. كان يسعى لأن تكون له الهوية التي تتمتع بحرية حقيقية مثبتة في مكان “يفوق كل المديح والملامة الإنسانية”.

أنا أيضاً عرفت أن الصلاة ليست مجرد الطلب من الله لأن يفعل لي ما أريده. إنها تعني أولاً؛ أن أضع نفسي في مكان يُمكِّن الله من “تجديد عقلي” حيث يمكنني استيعاب الهوية الجديدة كالمحبوب من الله، وهذا ما يصر عليه الله كأساس للإيمان.

في تشابه جزئي تعكس “كاثرين نورس” وجهة النظر التي عادة ما ننسبها إلى الله:

“في صباح أحد أيام الربيع الماضي لاحظت زوجين وطفلهما عند بوابة الرحيل في أحد المطارات. كان الطفل يحملق باهتمام في الناس بالمطار، وحالما ينظر وجه أي شخص، سواء كان صغيراً أو كبيراً، جميلاً أو قبيحاً، حزيناً أو سعيداً، كان يتجاوب معه بسرور بالغ.

كم كان جميلاً أن أرى ذلك. لقد أصبحت بوابة الرحيل المقبضة باباً للسماء. وكلما شاهدت هذا الطفل يلعب مع أي شخص يقبل منه ذلك، شعرت بخوف كالذي شعر به يعقوب، لأنني أدركت أن هذا هو أسلوب الله في النظر إلينا، فهو يحملق في وجوهنا لكي نفرح ونتهلل، ولكي نرى خليقته التي خلقها صالحة مع بقية الخلائق الأخرى. وكما يذكر ذلك المزمور 139: “الظلمة أيضاً لا تُظلم لديك”، وهو الذي يستطيع أن ينظر إلينا ويحملق فينا مهما فعلنا من شر في حياتنا، فنحن خليقته، وقد صنعنا على صورته.

الله وحده فقط، وأولاده المحبوبون أيضاً، يمكنهم أن يرونا بهذه الصورة”.

نادراً ما أستيقظ في الصباح وأنا ممتلئ بالإيمان. وبدلاً من ذلك، أشعر مثلما يشعر به سمك استوائي اعتدت أن أحتفظ به في مياه مالحة في حوض للأسماك. فكل سمكة صغيرة لها طريقتها في حماية نفسها بالليل: فالبعض يختبئ في القواقع، والبعض الآخر له أشواك حادة، وأسماك أخرى تختبئ في الحصى.

هذه الأسماك تُفرز طبقة من السم حول جسمها ثم تنام في هدوء ولا تنزعج من مضايقات جيرانها. ومع ذلك؛ ففي كل صباح تستيقظ الأسماك وسط سحابة بيضاء من السموم. غالباً ما يكون إيماني بهذه الصورة – فهو الذي كان قوياً في اليوم السابق – يختفي بالليل وأستيقظ وسط سحابة من الشك السام.

سأل بولس أهل كورنثوس: “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم؟” وكان يبدو عليهم أنهم لا يعرفون هذه الحقيقة. وكم أشعر بالخجل من نفس لأنني أحتاج أحياناً لأن أذكر نفسي بهذه الحقيقة. فإذا كان الله نفسه يحيا فيّ، ألا يجب أن أستيقظ وهذا الفكر في ذهني، وأعيش به طوال اليوم؟ ولكن؛ يا للأسف، إنني لا أفعل ذلك.

في مكان آخر يقول بولس: “إن الله وضع خاتمه علينا لملكيتنا، ووضع روحه في قلوبنا كوديعة تضمن حياتنا المستقبلية”. فبعد زراعة عضو جديد في الجسم يجب على الأطباء استخدام بعض العقاقير التي تساعد الجسم حتى لا يرفض العضو الجديد. فبإمكاني أن أقول إن الروح القدس يقوم فينا بنفس هذا الدور، فهو قوة حية بداخلنا تحمينا من رفض الخليقة الجديدة التي زرعها الله بداخلنا. وجهاز المناعة الروحي بداخلي يحتاج إلى من يذكره يومياً بأن حضور الله بداخلي أصبح أمراً طبيعياً في أعضائي الروحية، وليس عضواً غريباً.

إنني أذكّر نفسي بما أعرفه بعمق في داخلي: إن قيمتي هي من الله الذي سكب محبته ونعمته عليّ. وفي تواصلي مع الله غير المنظور قد تزل وتبتعد أفكاري عنه. مكالمات تليفونية، أمور تشتت الانتباه، بعض المناظر في التلفزيون قد تنسيني يقظتي بوجود الله فيّ. كيف أحفظ نفسي من كل هذا؟ كيف أغرس في داخلي الإيمان بأن الله نفسه يعيش في داخلي، حتى وإن كنت أحياناً أنسى هذا الحضور؟

لاحظ “جون ف. تايلور”، وهو يقيم في أفريقيا، كيف يختبر الأفارقة الشعور بالحضور الشخصي. يقول: إننا في الغرب نتحدث مع أصدقائنا بعقول مشغولة جزئياً بشيء آخر، ويلاحظ ذلك الأصدقاء الذين نتحدث معهم. في حين أن الأفريقي ينشغل بعمله ويدخل الصديق الغرفة ويحيهم ويجلس القرفصاء، بعد تبادل بعض الكلمات، يستمر صاحب المنزل في عمله الروتيني، أثناء جلوس الزائر.

وبعد مضي نصف ساعة يقف الزائر ويقول: “لقد شاهدتك”، ويمضي لحال سبيله. ولم يكن بحاجة لأية معلومات مكتفياً بمشاركة الحضور مع صديقه.

ويقول تايلور إن الانتباه هو مفتاح تذكر هذا الإحساس بالحضور:

“يعرف كل مدرس ناجح أهمية الطرق على الطاولة بيده، ويقول للتلاميذ: انتبهوا من فضلكم. فالانتباه الحقيقي هو أمر ضروري لموضوع الحديث. فالطفل الذي يرضع ويشبع يسترخي. والعقل الناضج يجب أن يكون متلقياً ومتوقعاً قبل أن تكون له أية قوة إبداعية.

ومرة أخرى أقول إن هذه هي حالة العقل الذي تُشرق عليه الحقائق الجديدة. نحن لا نضع أو نستنبط هذه الحقائق، بل بالحري يكون لدينا إحساس بالانتظار في اكتشاف شيء ما موجود فعلاً هناك. فالانتباه يعني الحضور…. وأن تكون “في الروح” يعني أن تكون واعياً ومتيقظاً لكي شيء في تلك اللحظة: إلى الغصن الصغير بالشجيرة، كما إلى حضور الله”.

يمارس الرهبان في الأديرة ما يُسمونه Statio ويعني التوقف بعد انتهاء عمل ما قبل أن تبدأ في آخر. لا تندفع من عمل لآخر مباشرة، استرح دقيقة لتسترد أنفاسك. وقبل أن تدير قرص التليفون استرح وفكر في المحادثة مع الشخص على الطرف الآخر. وبعد قراءة كتاب ما، توقف وفكر فما تعلمته، وكيف تأثرت به.

وبعد مشاهدة التلفزيون توقف وتساءل ما الذي أضافه لحياتك. وقبل أن تقرأ الكتاب المقدس توقف وأطلب إرشاد الروح القدس. افعل هذا باستمرار لتكتسب هذه العادة. وجدت أنني إذا قضيت وقتاً في الصلاة قبل البدء في كتابة رسالة أو عمل تليفوني فإن هذا يخفف من الأمر ويجعله فرصة لتلقي نعمة الله أو مشاركتها مع الآخرين.

إذا لم أمارس عملية الانتباه بوعي مني، فسوف أشابه العالم من حولي، عالم يحترم فقط الإنجازات والتنافس. ويصحح بولس هذا الأمر، إذ يوصي بعملية تطهير الذهن بفترة استراحة وتوقف: “ركزوا أذهانكم على ما يريده الروح القدس”، هكذا نصح أهل رومية. وفي فيلبي يقول: “… كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مُسر، كل ما صيته حسن، إن كانت فضيلة، وإن كان مدح ففي هذه افتكروا”.

إن اكتساب شخصية جديدة يتطلب عملاً إرادياً. تخلص من ذاتك القديمة وألبس ذاتك جديدة، وفي كل مكان آخر ينصح بولس “بتجديد الذهن”، كما لو أننا نختار ملابس جديدة كل يوم من دولاب الملابس.

تساءل “ديترش بنهوفر”: ماذا نريد من تأملنا؟ ويجيب: “نريد أن نكون في حالة تختلف عما كنا عليه قبل جلوسنا للتأمل”.

إن العالم المنظور يفرض نفسه عليّ دون دعوة، أما غير المنظور فيجب أن أزرعه بداخلي بكل وعي مني. كم كنت أود أن تتم العملية بطريقة تلقائية وطبيعية، ولكنها لا يمكن أن تكون كذلك. وفي الحقيقة وجدت أن مثل هذه العملية، مثل أي شيء آخر ذي قيمة، تحتاج إلى نظام. ويقول عازف البيانو “أرثر روبستين”: “إذا لم أمارس العزف ساعة لمدة يوم واحد، فأنا أشعر بذلك.

وإذا لم أمارسه يومين يشعر به النقاد، وإذا امتنعت عن العزف لمدة ثلاث أيام فإن الجمهور سيكتشف ذلك”. وبالمثل فإن الحياة المسيحية تتطلب عملاً يومياً من الإرادة، وإيمان توجيه لهوية شخصية جديدة.

وكذلك التواصل مع الله يتطلب أوقاتاً من التأمل الهادئ. قضى والد عازف الفيولونسيل “يو يو ما Yo – Yo Ma” فترة الحرب العالمية الثانية في باريس حيث عاش بمفرده في غرفة على السطح طوال فترى الاحتلال الألماني.

ولكي يسترد عافيته وسلامته العقلية بدأ يمارس قطعاً موسيقية لباخ على الكمان طوال النهار والليل، وحتى أثناء الظلام كان يعزفها بمفرده. وأخذ الإين “يو – يو” بنصيحة أبيه، وأخذ يعزف موسيقا باخ من الذاكرة كل ليلة قبل ذهابه للنوم. يقول “يو – يو ما” معلقاً على ذلك: “لم يكن هذا تدريباً ولكنه تأمل. لقد كنت منفرداً مع روحي”.

لقد اشتملت هذه الروحانية على الجانبين: الممارسة المنتظمة التي اتبعها “روبنستين”، والتأمل الهادئ الذي قاله “يو – يو ما”. وسألت نفسي في نهاية اليوم، هل قمت بفعل أي شيء يُسر قلب الله؟ وطالما أن الله يريد أن يفرح بي، فهل أعطيته مثل هذه الفرصة؟

إن أية إجابة ليست مهمة، فأنا ما زلت أتمتع بمحبة الله وأطلب منه أن يشملني بالنعمة والغفران. أنني أحاول أن أهدئ الضجيج الذي بداخلي، وأفسح مكاناً للهدوء الإلهي لكي يتسرب داخلي. وأنا مقتنع بأن أكثر الأمور أهمية لله في الصلاة هو اشتياقي لمعرفته.

تخبرنا “روبرتا بوندي” عن راهب عاش في القرن السادس رأي مجتمعاً في حالة اضطراب عظيم. بعض اخوتنا المضطربين بدأوا يتجهون إلى علاقة صحيحة من الحب لله.

واشتكى بعض الرهبان، فقال هم “دوريثوس”: إنكم مخطئون، انظروا إلى العالم على أنه دائرة عظيمة مركزها الله، والأنسان يعيش خارج الدائرة التي بها البشر، مع الله الذي هو في المركز. ألا ترى أنه ليست هناك أية طريقة للتحرك نحو الله بدون التقارب مع الناس الآخرين، ولا توجد طريقة للاقتراب من الآخرين بدون الاقتراب إلى الله”.

وبينما تتغير هويتي من الداخل، تنفتح عيني لترى الآخرين المحتاجين إلى محبة الله ورحمته يتابع بولس نصيحته لأهل رومية قائلاً: “… أن تتغيروا بتجديد أذهانكم”، مع أول ذكر كامل لجسد المسيح، ثم يُعطي سلسلة من أوامره الحاسمة مثل: “اشتركوا في احتياجات القديسين، عيشوا بالسلام مع الجميع”.

وفي رسائل أخرى يطلب من الذين يقرأون الرسالة أن يُشبعوا الجوعى، ويضيفوا الغرباء، ويظهروا المحبة مع غير المؤمنين ممن حولهم. فالعقول المتجددة تُعبر عن نفسها في علاقتها مع الآخرين. يقول “داج هامرسخيلد”: “إن الطريق للقداسة يمر بالضرورة من خلال الحياة العملية”.

مرات عديدة أتذكر قصة الرجل الذي جاءني مرة قائلاً: “أنت كتبت كتاباً عنوانه: أين الله في وقت الألم؟ هل هذا صحيح؟” فقلت له: نعم. فقال: “ليس لدي وقت لقراءة الكتاب، هل بإمكانك أن تقول لي خلاصة الكتاب في جملة أو جملتين؟”

فكرت قليلاً ثم أجبت: “حسناً، سأجيبك بسؤال آخر: أين الكنيسة عندما نتألم؟ وشرحت له أن الكنيسة تُمثل حضور الله على الأرض، إنها جسده. وإذا قامت الكنيسة بعملها – إذا تواجدت الكنيسة أثناء الكوارث، تمول عيادات مرضى الإيدز، تعطي المشورة لضحايا الاغتصاب، وطعاماً للجياع، وسكناً للمشردين – فلا أعتقد أن العالم سوف يسأل هذا السؤال.

إنهم سيعرفون أين الله في وقت الألم. فهو موجود في المؤمنين الذين يخدمون البشرية الساقطة. وفي الحقيقة فإن شعورنا بحضور الله غالباً ما يكون حصيلة لحضور الناس الآخرين.

لعدة سنوات وقفت بجانب صديق لي في ظروف صعبة مظلمة. كان يعاني بقسوة من الاكتئاب، والذي أدى إلى الطلاق، وفقد لوظيفته. ودخل مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، وحاول الانتحار ثلاث مرات. التقيت به، وصليت معه، وتحادثت معه تلفونياً لساعات طويلة. وكنت أشعر معظم الوقت بأنني عاجز وبلا فائدة. قررت أخيراً أنه بحاجة إلى محبتي أكثر من حاجته للنصيحة. فاقتربت منه كثيراً على قدر استطاعتي.

” تلك هي تلميحات وتخمينات فقط، تلميحات تتبعها تخمينات والباقي:

صلاة، وشعائر، ونظم، وفكر وعمل.”

ت. إس. إليوت

وأخيراً؛ شُفي صديقي، وعاد إلى صوابه. قال لي: “أنت كنت بمثابة الله بالنسبة لي، لم تكن لي علاقة مع الله الآب، فقد بدا لي أنه غير موجود. ولكنني احتفظت بإيماني بالله بسبب معاملتك أنت معي”.

وأردت أن أوقفه وأمنعه من أن يقول هذا لأنني أعلم من أنا. ومع ذلك، فعندما كنت أستمع له أدركت المعنى العميق لقول بولس “جسد المسيح”. ولأي سبب من الأسباب، قد اختارني الله وقليلين غيري “كأوان خزفية” سكب فيها حضوره. ونحن نقوم بهذه الرحلة ليس بمفردنا، بل بالحري معاً.

 

التغيير – فيليب يانسي

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !