أبحاث

فاعلية الثالوث في حياتنا في رسائل القديس بولس الرسول (2) د. موريس تاوضروس

فاعلية الثالوث في حياتنا في رسائل القديس بولس الرسول (2) د. موريس تاوضروس

فاعلية الثالوث في حياتنا في رسائل القديس بولس الرسول (2) د. موريس تاوضروس

فاعلية الثالوث في حياتنا في رسائل القديس بولس الرسول (2) د. موريس تاوضروس
فاعلية الثالوث في حياتنا في رسائل القديس بولس الرسول (2) د. موريس تاوضروس

فاعلية الثالوث في حياتنا في رسائل القديس بولس الرسول (2) د. موريس تاوضروس

كتبنا في الجزء السابق عن نعمة التبني التي وهبها لنا الثالوث القدوس. وقلنا إن نعمة التبني تلزمنا بواجبات نحو أبينا السماوي.

          وفي هذا العدد نتتبع ما هى واجباتنا كأبناء نحو أبينا السماوي في ضوء ما علّم السيد المسيح في الصلاة الربانية.

          نحن في الصلاة نقول ” ليتقدس اسمك “. ولكن فيما يشرح القديس كيرلس الأسكندري: هل نحن نصلي من أجل أن نضيف إلى الله مزيد من القداسة. هل قداسة الله ناقصة وتحتاج إلى تكميل؟ إن الله كامل بالطبيعة وهو ممتلئ بالقداسة ولا يحتاج إلى مزيد. وهل نحن نصلي من أجل الله ونيابة عن الله. بلا شك هذا أمر غير معقول.

إذًا ما معنى ليتقدس اسمك؟ معنى هذا أن الله كلّي القداسة وأنت لا تستطيع أن تقترب إليه إلاّ إذا كنت تحيا حياة القداسة وكما يقول الكتاب ” كونوا قديسين لأني أنا قدوس ” (لا44:11). ومعنى هذه العبارة أيضًا أن الله يتقدس في أولئك الذين يقتربون منه، كما يقول أيضًا في سفر اللاويين ” هذا ما تكلم به الرب قائلاً في القريبين مني أتقدس، وأمام جميع الشعب أتمجد ” (لا3:10). فإن عبارة ” ليتقدس اسمك ” تعني: ليت اسمك يُحفظ مقدسًا فينا، في أذهاننا وإرادتنا. نحن نصلي إذًا من أجل أنفسنا، من أجل أن تتقدس حياتنا. ونصلي أيضًا

من أجل هؤلاء الذين لم يدركوا قداسة الله وقداسة المسيح، نصلي من أجل هؤلاء الذين لم يحصلوا بعد على نور الحق والذين لم يقبلوا الإيمان بعد. نصلي من أجل هؤلاء الذين لم يعرفوا المسيح بعد، حتى يعرفوه، وحتى يؤمنوا به أنه هو الله القدوس. 

          وعندما نصلي أيضًا ونقول: ” ليأت ملكوتك ” فنحن لا نصلي من أجل أن يضاف شئ إلى مجده الملوكي، لأن ملكوت الله قائم معه بلا بداية كما قيل في المزامير       ” بمجد ملكك ينطقون وبجبروتك يتكلمون، ليعّرفوا بني آدم قدرتك ومجد جلال ملكك. ملكك مُلك كل الدهور وسلطانك في كل دور فدور ” (مز5:145ـ7). فنحن إذًا لن نضيف على الله شيئًا، ولكننا نصلي ” ليأتِ ملكوتك ” بمعنى أننا يا رب نريد أن يمتد الإيمان بالمسيح إلى كل العالم.

نريد للعالم كله أن يقبل المسيح مخلّصًا له. كذلك نحن نعرف أن السيد المسيح سوف يأتي في المجيء الثاني ولكن المجيء الثاني لا لكي يرينا طريق الخلاص، فهذه كانت رسالة المجيء الأول، ولكن المجيء الثاني يرتبط بالدينونة: المسيح سوف يأتي ثانية ليدين العالم. ويذكر الرسول بولس هذا في حديثه عن المجيء الثاني فيقول: ” لأنه لابد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي السيد لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًا ” (2كو10:5). فكيف نحن نطلب من أجل مجيء يوم الدينونة، ومنبر الدينونة مرعب، والقاضي لا يأخذ بالوجوه.

ويوم الدينونة هو يوم المسائلة؟ بل هو يوم المحاكمة والمجازاة، فكيف نطلب من أجل أن يجيء يوم الدينونة. والنار معدة للأشرار. كيف يمكن للناس أن يطلبوا أن يعاينوا ذلك الوقت؟ يجيب القديس كيرلس على ذلك فيقول ” لاحظوا مهارة المخلّص وحكمته العجيبة.

إنه يطلب منهم أن يصلوا من أجل أن يأتي هذا اليوم المرعب، لكي يجعلهم يعرفون أنه يجب عليهم أن يحيوا ليس بإهمال ولا بانحلال، بل على العكس أن يعيشوا كما يليق بالقديسين وبحسب مشيئة الله. لكي تكون تلك الساعة بالنسبة لهم هى واهبة الإكليل وليس النار الأبدية، نار الدينونة. القديسون إذًا يطلبون سرعة مجيء المُلك الكامل للمخلّص لأنهم جاهدوا كما ينبغي وهم يتوقع

ون المجازاة عما سبق أن فعلوه. إن يوم الدينونة بالنسبة للقديسين هو يوم عيد لأنهم سوف يسمعون صوت الديان السماوي يقول لهم ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ” (مت34:25). إن السيد المسيح ضرب أمثلة كثيرة لهذه الفئة من الناس التي تنتظر يوم الدينونة بفرح.

          هناك مثل الوكيل الأمين الحكيم (لو41:12ـ48) قال الرب يسوع ” فمَنْ هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم وجبتهم من الطعام في حينها؟ الحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع أمواله “. يعني لو افترضنا أن رب بيت كان مزمعًا أن يسافر في رحلة وأوكل لواحد من عبيده الأمناء مهمة تدبير كل بيته، لكي يعطي خدمه الطعام المستحق لهم في حينه.

فعندما يعود رب البيت إلى بيته ووجد هذا الوكيل يفعل كما أمره رب البيت، فإن رب البيت سوف يسر من هذا الوكيل، وسوف يقيمه على جميع أمواله. بلا شك: مثل هذا الوكيل الأمين الذي نفذ كل ما طلبه منه سيده، وقام بواجبه على أحسن ما يرام. أى إنسان يسلك في حياته بأمانة وإخلاص ويؤدي واجبه على أحسن ما تكون صورة الأداة، بلا شك مثل هذا الإنسان يصلي من أجل أن يأتي ملكوت الله، ومن أجل يوم الدينونة لأنه سينتظر المكافأة لأنه بالنسبة له هو يوم المكافأة، اليوم الذي يكلل فيه.

          ونفس الأمر أيضًا في مثل الوزنات الذي ذكره السيد المسيح (مت21:5ـ30) إنسان مسافر دعا عبيده وسلمه أمواله. أعطى واحدًا خمس وزنات وآخر وزنتين وآخر وزنة. كل واحد على قدر طاقته فمضى الذي أخذ الخمس وزنات وتاجر بها فربح خمس وزنات أخر وهكذا الذي أخذ الوزنتين، ربح أيضًا وزنتين أخريين، وأما الذي أخذ الوزنة الواحدة، فمضى وحفر في الأرض وأخفى فضة سيده.

سوف يقول السيد للأول والثاني أيها العبد الصالح والأمين كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير ادخل إلى فرح سيدك. هذان الشخصان بلا شك ينتظران يوم الدينونة ويرفعان صلواتهما ليأت ملكوتك.

          أما الوكيل الذي لا يكون أمينًا في عمله، ويتوقع أن سيده يبطئ فلا يفكر في يوم الدينونة وبدل أن يقوم بواجبه نحو الآخرين، فإنه يعاملهم بكل قسوة وعنف. ويأكل ويشرب ويسكر فيأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها لأن يوم الدينونة يأتي كلص فلا يعرف أحد متى يأتي.

          تُرى هل الإنسان غير الأمين في حياته وفي وكالته، هل ينتظر يوم الدينونة وهل يمكن أن يصلي قائلاً: ” ليأتِ ملكوتك ” فيوم الدينونة بالنسبة له هو يوم العقاب. وكما يقول مثل الوكيل الأمين بالنسبة لهذا الإنسان الذي لم يسلك بأمانة في وكالته، يقول المثل ” يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه إربًا ويجعل نصيبه مع الخائنين ” (لو46:12).

          وكذلك إذا رجعنا إلى مثل الوزنات. هل ينتظر صاحب الوزنة الواحدة الذي لم يتاجر بها بل طمرها في الأرض، هل ينتظر يوم الدينونة، وهل تتوقع منه أن يصلي قائلاً “ليأت ملكوتك ” بلا شك لا. لأن يوم الدينونة بالنسبة له سيكون يوم عقاب وسوف يسمع صوت الديان: ” خذوا منه الوزنة واعطوها للذي له العشر وزنات. والعبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ” (مت30:25).

وكأبناء نخاطب الآب فنقول ” لتكن مشيئتك، كما في السماء. كذلك على الأرض ” (لو2:11). في السماء يصنع الملائكة مشيئة الله. وأما الذين فعلوا غير ذلك، فقد سقطوا من رتبهم. أما بالنسبة للملائكة الذين يصنعون مشيئة الله، يقول داود النبي في مزاميره ” الرب في السموات ثبَّت كرسيه ومملكته على الكل تسود. باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه.

باركوا الرب يا جميع جنوده خدامه العاملين مرضاته (أى مشيئته) ” (مز19:103ـ21). فنحن نصلي حتى يتمثل البشر سكان الأرض بسلوك الملائكة في السماء وبالطبع فإن الملائكة في السماء لا يخدمون خدمة مادية، بل خدمة روحية مقدمين دائمًا التماجيد والتسابيح لله الخالق. وبالطبع فإن هؤلاء الذين يصلّون من أجل أن تسود مشيئة الله على الأرض كما في السماء، بل أنهم يسلكون بحسب هذه المشيئة، ويكونون في مقدمة الذين يعملون مرضاة الله ويسلكون حسب مشيئته.

          إن السيد المسيح باعتباره يمثل البنوة على أكمل صورة لها، لأنه هو ابن بالطبيعة وليس بالتبني، لنسمع المسيح وهو يخضع المشيئة الإنسانية للمشيئة الإلهية فلا تكون هناك بعد مشيئتان، بل مشيئة واحدة وإرادة واحدة وفعل واحد للثالوث.

          التلاميذ مرة أرادوا أن يقوموا بواجبهم نحو معلّمهم، فجاءوا بطعام للسيد المسيح وقالوا له يا معلّم كُل. ولكن السيد المسيح وجه أنظارهم إلى الطعام الروحي الذي هو أيضًا أساس لحياتنا. البعض يعتقد أن سلامة الإنسان وصحته هى في الاهتمام بالأكل المادي، ويتبعون في ذلك نظامًا دقيقًا ولكنهم يتركون الروح ولا يهتمون بالصحة الروحية وينسون أن عدم الاهتمام بالصحة الروحية يصيب الجسد نفسه بالمرض فلا ينفع معه مجرد الأكل، وكم من مرضى تقدموا إلى المسيح ولم يكن سبب المرض نقص في الغذاء لكن كانت أمراضهم بسبب الخطايا.

ولذلك قال السيد المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت4:4). والعجيب أن السيد المسيح جعل الطعام الروحي يقوم أساسًا على العمل حسب مشيئة الله فقال لهم يسوع ” طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله ” (يو34:4)، ويذكر السيد المسيح في أكثر من موضع خضوع المشيئة الإنسانية للمشيئة الإلهية فيقول أيضًا     ” لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني ” (يو30:5). ويقول أيضًا      ” لأني نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني ” (يو38:6).

          وبولس الرسول في رسالته إلى كولوسي، يصلي إلى الله لكي نعرف مشيئته ونسلك حسب هذه المشيئة فيقول: ” من أجل ذلك نحن أيضًا منذ يوم سمعنا لم نزل مصلين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي، لتسلكوا كما يحق للرب في كل رضى مثمرين في كل عمل صالح ونامين في معرفة الله ” (كو9:1ـ10).

          فنعمة التبني التي نحن قد أخذناها تظهر فينا وتتعمق في حياتنا، بقدر ما نحن نعرف مشيئة الرب ونعمل حسب هذه المشيئة. مقياس حياة التبني عندنا هو العمل حسب مشيئة الله بمعنى أنت ابن لله بقدر ما تعمل حسب مشيئة الله.

          بل في الرسالة إلى العبرانيين يوضح الرسول بولس أن كمال العمل الصالح يتم في العمل بمشيئة الله فيقول: ” ليكملكم في كل عمل صالح لتصنعوا مشيئته ” (عب21:10).

          لذلك لا نستغرب إذا كان الرسول بولس يضع حياته بين يدي الله ولا يفعل شيئًا إلاّ حسب مشيئة الله. يقدم مشيئة الله في كل شئ. في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس أظهر رغبته في السفر إلى كورنثوس، ولكن جعل الأمر متوقفًا على مشيئة الله يقول لهم ” ولكن نأتي إليكم سريعًا إن شاء الرب ” (1كو19:4). وبولس الرسول يوضّح أنه إن كان يخدم كرسول فهو لم يدع نفسه لهذه الخدمة بل دعى لهذه الخدمة بمشيئة الله.

ويفتتح أكثر رسائله بتأكيد هذه الحقيقة. في الرسالة الأولى إلى كورنثوس يقول  ” بولس المدعو رسولاً ليسوع المسيح بمشيئة الله ” (1كو1:1). وفي الرسالة الثانية إلى كورنثوس يؤكد أيضًا هذه الحقيقة فيقول في عبارات مماثلة ” بولس المدعو رسولاً ليسوع المسيح بمشيئة الله ” (2كو1:1)، وفي الرسالة إلى غلاطية يفتتحها على هذا النحو ” بولس رسول لا من الناس ولا بإنسان بل بيسوع المسيح والله الآب ” (غلا1:1) وهكذا الأمر بالنسبة لافتتاحيات أكثر رسائله.

          لذلك يجب أن نصلي إلى الله ” لتكن مشيئتك ” قل له يارب: لا تسمح لي أن أتصرف بمشيئة مستقلة عن مشيئتك. لا تدعني أن أختار حياتي بحسب ما تستحسنه مشيئتي بل بحسب ما تراه مشيئتك. قل له يا رب: لست أنا الذي أشاء، بل أنت الذي تشاء فيَّ، لست أنا الذي أرسم حياتي وأخطط لمستقبلي. أنت يا رب هو كل شئ بالنسبة لي.

(يتبع)

فاعلية الثالوث في حياتنا في رسائل القديس بولس الرسول (2) د. موريس تاوضروس

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !