أبحاث

صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر (2)

صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر (2)

صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر (2)

صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر
صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر

صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر (2)

الباحث. جورج ميشيل أندراوس

 

شدة الإجراءات وقسوة الولاة في الشرق:

لقد كانت الإجراءات الأولية التي اتخذت من قِبَل الولاة تهدف إلى المساس بالكيان الكنسي كتنظيم. لهذا بدأت هذه الإجراءات بهدم الكنائس، والتخلص من الكتب المقدسة، وكذلك التخلص من الأكليروس ورؤساء الكنائس. لقد طلبوا من تيموثاؤس وهو قارئ في الكنيسة[1]، أن يسلم الكتب المقدسة التي لديه، وذلك بحجة من أريانوس الوالي أنه يريد أن يَعْلم ما بها من قوة. بالطبع رفض تيموثاؤس ذلك معتبرًا هذه الكتب إنها أبناؤه كمثل يجب أن يحافظ عليهم من الموت[2].

      برغم أن الإضطهاد كان يسود كل أرجاء الأمبراطورية، إلا أن الشرق قد اجتاز آلامًا أكبر بكثير مما أجتازه الغرب[3]. لقد كانت المنشورات المطبَّقة واحدة في كل الأمبراطورية. لكن الاضطهادات كانت أخف في مكان عن مكان آخر، وذلك تبعًا للقادة الذين كانوا يشغلون إمارة هذه المقاطعات. ففي الشرق كانت تطبق القوانين بطريقة حرفية، بينما في الغرب كان يُطبق فيها روح القانون. لقد وقعت مصر في أيدي قاسية في فترة دقلديانوس، وأيضًا في فترة إمارة ماكسيمينوس. لقد عُرفت أسماء ارتبطت بعصر الإستشهاد في هذه الفترة مثل ارمانيوس، كولسيانوس، سوسيانوس، هيروكليس وبالطبع ساتريوس اريانوس[4]، وهم أشخاص طبقوا المنشورات الصادرة بحذافيرها. لهذا فإن مصر، وخاصة مصر العليا، كانت مكانًا مشهورًا ومعروفًا بالنسبة للإستشهاد ليس للمصريين فقط، وإنما أيضًا للمعترفين الذين أرسلهم الحكام من خارج مصر لكي تُنفذ فيهم الأحكام وتُمارس ضدهم العذابات المختلفة.

لقد أقترح رومانوس، وهو أب الشهيد بقطر، أن يُرسَل كلوديوس ابن بتولماوس، وهو من عائلة ملكية إلى أريانوس في أنصنا لكي يحاكم فيها بدلاً من أن يُرسل إلى بلده الأصلي أنطاكية[5]. ومن أنطاكية نعرف شخصية أخرى وهو باسيليدس، شخص ذو مكانة عالية في بلده، مع مجموعة من عائلته وأصدقائه الذين كانوا يرتبطون به[6]. لقد أُرسل هؤلاء إلى مصر للمحاكمة بناء على أوامر من الحكام. كما إننا نعرف حالات أخرى مختلفة مثل الشهيد أبادير والذي قاده السيد المسيح نفسه أن يذهب إلى مصر لينال إكليل الشهادة، كما جاء في المخطوطات القبطية والعربية[7].

بالرغم من القسوة التي كانت ظاهرة للعيان في معاملة الشهداء القديسين، إلا أنه كان يوجد رغبة من المضطّهِدين كي يرجع المسيحيون ويقبلوا مشاركتهم في الديانة الرسمية للدولة. ولهذا بذل القضاة كل ما بوسعهم كي يجذبوا هؤلاء المعترفين ويربحوهم. لذا فإننا نلاحظ من سجلات الإستشهاد وسير الشهداء ومحاكماتهم أن الحوار الذي جرى معهم من جانب القضاة كان طويلاً، وخاصة مع هؤلاء الذين كانوا في مكانة إجتماعية مرموقة أو في وظيفة من الوظائف العليا في الإدارة، كما هو في حالة الشهيد فيلياس[8]. لقد كانت الضغوط والعذابات النفسية عليهم أقسى من عذابات الجسد التي رأها المشاهدين. فلا يجب أن ننسى الضغوط التي كانت تلحق بهم من جراء التأثير على مشاعرهم نحو عائلاتهم والتي كانت تُستَخْدَم كوسائل للضغط عليهم، حتى يتركوا إيمانهم. لقد حاولوا مثلاً الضغط على تيموثاؤس عن طريق زوجته الشابة مورا[9]. وبالنسبة للأساقفة كانوا يستخدمون علاقة الأسقف ومحبته نحو رعيته كوسيلة للضغط. حتى الكتاب المقدس كانوا يستخدمونه بصورة خاطئة حتى يؤثروا على المعترفين؛ فيتساءلون مثلاً أليس المسيح هو الله، فكيف له أن يُصلب[10]؟ لقد أرسل ماكسيمينوس دايا رسالة ينصح فيها القضاة بأن يستخدموا التملق والنصح كوسيلة حتى يعرف المسيحيون إهتمام آلهة الدولة ورعايتها، وبذلك يعودوا إليها[11]. ومن هنا ندرك كيف يكون القرار بالنسبة لهؤلاء القديسين في ظل هذه الظروف الصعبة والجو المشحون وتحت كل هذه الضغوط. والأمر يكون أكثر صعوبة حينما يتعلق بمن هم في سن صغيرة، كما هو الحال بالنسبة للثلاثة عذارى الأخوات ثيؤكتيستا 15عامًا، ثيؤذوسيا 13عامًا، وأدوكسيا 11عامًا واللاتي استشهدن مع أمهن أثناسيا . لقد شعر القديس أباكير بالخوف لربما تتراجع الصغيرات ولا يتحملن العذابات بسبب سنهن الصغيرة. ولكنهن أبدين شجاعة كبيرة، كما لو كانوا يعذبون أجسادًا أخرى وليس أجسادهن[12].

 

أضطهاد ماكسيمينوس دايا:

          لقد كان جاليريوس عدوًا دائمًا للمسيحية، ووجد هذا الإمبراطور من يساندونه في تنفيذ سياسته ضد المسيحيين في الشرق، وذلك في الفترة التي أعقبت اعتزال دقلديانوس العرش. وكان ماكسيمينوس دايا واحدًا من هؤلاء، والذي جعل صفحة الإضطهاد في مصر أكثر قتامة. قال عنه لاكتانتيوس، إنه لكي يشبع رغباته الشهوانية جعل إرادته الخاصة هي مقياس الحق[13]. لقد حكم مصر في الفترة من عام 305 وحتى هزيمته عام 313. وبحسب ما روى يوسابيوس القيصري فقد جعل هذا الطاغية الإضطهاد أكثر شدة وتحول بصورة أكبر ضد المسيحيين[14]. لقد وصف يوسابيوس بالتفصيل سلوكه المشين، فلقد فعل كل ما بوسعه لكي يجدد العبادة الوثنية في المقاطعات، ولقد طبق سياسات متشددة وظالمة. استخدم ماكسيمينوس كل وسائل التعذيب ضد الرجال وقادته شهواته إلى أفعال مشينة ضد النساء، ولكن هؤلاء فضلن أن يسلمن حياتهن للموت على أن يسلمن أجسادهن للنجاسة. لقد أرسل ماكسيمينوس بعض الشهداء إلى المحاجر والمناجم في أعمال اضطرارية، ولكن قبل أن يرسلهم كان يقطع إحدى أرجلهم ويقلع إحدى عينيهم[15]. وإذ لم تكفِ المحاجر في طيبة، كانوا يُرسلون إلى مناجم النحاس في فلسطين. ولدينا من هؤلاء سبعة وتسعون شهيدًا ممن قاسوا هذه الآلام. وهم أيضًا كانوا قد فقدوا العين اليمنى والرجل اليسرى قبل ذهابهم لتأدية هذه الأعمال الإجبارية[16]. وهناك أيضًا مائة وثلاثون نُقلوا إلى مناجم فلسطين وكليكية[17]. في عام 308 أرسل ماكسيمينوس رسائل إلى حكام المقاطعات وللقادة العسكريين، وأمرهم بإعادة بناء الهياكل الوثنية المتهدمة، لكي يجبروا الجميع رجالاً ونساءًا وأطفالاً أن يذبحوا للآلهة الوثنية. كما أمر أن يأكل الجميع من هذه الذبائح، وأيضًا أن يتم رش دماء هذه الذبائح على الأطعمة الموجودة بالأسواق. لقد وصل إصراره على عبادة الأوثان إلى درجة الأمر بأن يُرش هؤلاء الذين يستعملون الحمامات الشعبية العامة بدماء الذبائح أو بالبخور المستخدم في الهيكل. مثل هذه الأوامر لم يرض عنها الوثنيون أنفسهم بسبب تطرفها[18]. وبمرور الوقت كانت تزداد القسوة والشدة. لقد أستشهد ثلاثة مصريون وهؤلاء كانوا في البداية متطوعين ذهبوا إلى كليكية بإرداتهم لخدمة المعترفين هناك. هكذا أيضًا فإن الكثيرين ممن يُذكرون مع الشهداء الفلسطينيين كانوا مصريين[19]. قُتل من هؤلاء المعترفين أيضًا تسعة وثلاثون لم يقدروا أن يعملوا في المحاجر بسبب أعمارهم الكبيرة أو بسبب مرضهم، ومن الواضح أن هؤلاء كانوا أيضًا مصريين[20].

 

منشور ميلان وعودة السلام:

          قبل أن ينتهي هذا الإضطهاد الذي لماكسيمينوس، تخلل عام 311 إصدار منشور جديد، وبحسب هذا المنشور توقف جاليريوس بصورة مفاجئة عن الإضطهاد. ينادي هذا المنشور بتطبيق سياسة التسامح مع الديانات الأخرى[21]، وفيه يطلب من المسيحيين أن يتضرعوا لإلههم لأجل سلامة الأباطرة والإمبراطورية نفسها، وألا يفعلوا شيئًا ضد النظام[22]. وهذا المنشور يُعد برهانًا على فشل الإضطهاد في تحقيق أهدافه، ويُعد هزيمة للوثنية نفسها، وأنتصارًا للمسيحية، وإنتصارًا لشهداء المسيح في الوقت ذاته.

          لقد توافق ماكسيمينوس، ولكن ظاهريًا فقط مع هذا المنشور، مما يبين عداوته وشعوره الداخلي ضد المسيحية. فلم يستخدم أي وسيلة رسمية من شأنها أن تنقل هذا المنشور، وإنما اكتفى بالتوصية بذلك[23]. على أية حال تُرك المقيدون في الحبس أحرارًا، كذلك أيضًا عاد المعترفون من المحاجر مرة أخرى. بذلك تنسَّم المسيحيون الحرية وزال الضيق ولو لفترة زمنية قصيرة.

          ولعل استشهاد القديس بطرس الملَّقب بخاتم الشهداء، وهو رئيس أساقفة الأسكندرية في ذلك الوقت، يؤكد ما قلناه بخصوص عداوة ماكسيمينوس ضد المسيحية وضد إله المسيحيين، كما يشير إلى المحاولة الأخيرة والجريئة له كي يقضي على المسيحية في مصر، والتي كانت غالبيتها في ذلك الوقت من المسيحيين[24]. لا يوجد من الأسباب ما كان يتطلب القبض على ق. بطرس والتخلص منه[25]. ربما تكون الأسباب هي تعاليمه وإهتمامه برعيته، ومقاومته للشعائر الوثنية، وهو ما يكون بذلك سببًا لغضب دقلديانوس[26]. ولكننا نعرف أن هذا القديس لم ينل الشهادة حينما كان دقلديانوس إمبراطورًا، ولكن في وقت متأخر في إدارة ماكسيمينوس. كما أن التقليد يربط بين إستشهاد ق. بطرس ونهاية الإضطهاد. وبالرغم من وجود اختلافات بين روايات الإستشهاد في النصوص التي تتكلم عن القديس بطرس[27]، إلا إنها تتفق على إنه كان يريد ألا يتعرض شعبه لأي مكروه بسببه، ولذلك ضحى بنفسه حتى ينجي شعبه، والذي كان مجتمعًا محيطًا بسجنه يريد أن ينقذه من أيدي منفذي الحكم. ومن أجل هذا سلَّم نفسه بصورة خفية إلى منفذي الحكم دون أن يراه الشعب[28].

          من الواضح أن الإسترخاء في الأضطهاد من جانب ماكسيمينوس في شتاء عام312ـ313م ضد المسيحية لم يكن محل ثقة من جانب المسيحيين[29]. ولكن هزيمة ماكسيمينوس ومنشور ميلان كانا قد جلبا السلام للكنيسة بصورة نهائية. وبهذا أنطوت صفحة المضايقات الخارجية للكنيسة، وبدأت صفحة أخرى وهي الخاصة بشئونها الداخلية.

          نستطيع أن نلّخص ملامح هذا العصر الجديد: لقد عادت حرية العبادة، وعادت اجتماعات المسيحيين دون خوف، كما عادت أيضًا ممتلكات الكنائس المغتَّصَبة[30]. وهكذا بدأت المسيحية رويدًا رويدًا تجد السلام، كما ساعد ذلك على نمو الكنيسة وإزدهارها. وإن كان ليسينيوس في وقت لاحق لم يحافظ على الإتفاق مع قسطنطين فخرج عليه محاولاً تجديد المضايقات مرة أخرى ضد المسيحيين في الشرق عام 322ـ323، ولكن لم تستمر هذه الإجراءات بسبب هزيمته من قسطنطين.

 

+++++++

[1]  Acta Sanctorum, Mai I, 741.

2 لقد كان تيموثاؤس حينما قبضوا عليه وعذبوه متزوجًا حديثًا بمورا وكان قد مر على زواجه عشرون يومًا فقط.

3  قارن T.D. Barnas, Constantine and Eusebius, London 1981, pp.14, 28

4 لقد تحول أريانوس فيما بعد للمسيحية وقد تم ذلك بعدما حدثت معه معجزة ذُكرت في قصة إستشهاد فليمون وأبوللونيوس ( انظر Acta Sanctorum, Mart. I, 895-899).

[5] R. Graffin, F. Nau, Patrologia Orientalis, 17, 552-555.

[6] Delacy O’Leary, The Saints of Egypt, London, New Yourk 1937, P.18.

7 مخطوط سير قديسين 43 ص91 “Passion des ss. Abadir et Irai, P62

بكتالوج(Ugo Zanetti, Les Manuscrits de Dair Abu Maqar, Geneve 1989).

أنظر أيضًا Patrologia Orientalis 1,303

[8]  ΕΠΕ, (سلسلة آباء الكنيسة باللغة اليونانية) 30,336-357.

[9] Acta Sanctorum, Mai I, 741-744.

[10]  ΕΠΕ 30, 340, 344, 346.

11 تاريخ الكنيسة 9:9: 15.

[12] Bibliotheca Hagiographica Greace (BHG). 469, PG 87, 3677-3689.

13 لاكتانتيوس، موت المُضطهِدين، إصدار مطرانية بني مزار والبهنسا 2006، الفصل39، صـ98.

[14]  Περί των εν Παλαιστίνη μαρτυρησάντων 4.1, PG 20, 1472c. تاريخ الكنيسة 14:8: 9

15  يعتقد المُضطهِدون أن هذه العقوبة عمل إنساني وأخف قسوة بالمقارنة بعقوبة الموت، أنظر تاريخ الكنيسة 12:8: 10.

[16] PG 20,1485D.

[17] PG 20,1489C-D.

[18] PG 20,1492B.

[19] PG 20,1496C. PG 20, 1513C-1516A.

[20] PG 20,1513A- 1516B. قارن H.D elehaye, “ Les Martyrs d’Egypte”, Analecta Bollandiana, 40 (1922), 20.

21 سبب تطبيق هذه السياسة إما الفشل في الاضطهاد أو مرضه الشديد. أنظر

Α. Γλαβίνα, Ιστορία της Εκκλησίας , Ά, Θεσσαλονίκη 1995, P221.

22 تاريخ الكنيسة 17:8

 Lactantius, De Mortibus Persecutorum, 34 (Ante- Nicene Fathers, vol. VII).

23أنظر تاريخ الكنيسة 2:9ـ6 ومنها يظهر كيف أن تطبيق سياسة جاليريوس الجديدة لم تتوافق مع كره ماكسيمينوس للمسيحية.

[24] W.H.C.Frend, Martyrdom and Persecution in the early church, Oxford 1965, P452.

25 يوسابيوس، تاريخ الكنيسة 6:9: 2.

26 يذكر ساويرس بن المقفع قصة عماد أم لطفليها في الأسكندرية، وأن هذا ما سبب غضب دقلديانوس ضد القديس بطرس. أنظر:

 Corpus Scriptorum Christianorum Orientalium, Scriptores Arabica, IX (1906), 55-58.

27 في رواية قصيرة باللغة اللاتينية نجد إستشهاد القديس بطرس في السجن، بينما في رواية أخرى باللغة العربية نجد أن الاستشهاد تم خارج السجن. تتضمن النسخة العربية للإستشهاد أيضًا السماح للقديس بطرس بأن يخرج من حبسه قبل إستشهاده للصلاة عند قبر الشهيد القديس مارمرقس. أنظر:

 Coptic Encylopedia, 6,1945.BHG. 1502. J.Viteau, Passions des Saints Ecaterine et Pierre d’Alexandrie, Barbara et Anysia, Paris 1897, PP 68-85.

[28] BHG. 1502. J.Viteau, 75-76 قارن T.vivian, St. Peter of  Alexandria Bishop and Martyr, Philadelphia 1988, PP 44-45.

29  يوسابيوس، تاريخ الكنيسة 9:9: 13ـ15.

30 لقد حاول ماكسيمينوس بعد هزيمته أن يصدر منشورًا يمنح فيه الحرية الكاملة للمسيحيين، ولكن الوقت كان قد تأخر على ذلك المنشور وواضح انه لم يستفد أي شيء من ذلك. تاريخ الكنيسة 10:9: 7ـ15.

صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر (2)

تقييم المستخدمون: 3.75 ( 1 أصوات)