أبحاث

الغيرية في مفهومها اللاهوتي – د. فائق متى إسحق

الغيرية في مفهومها اللاهوتي – د. فائق متى إسحق

الغيرية في مفهومها اللاهوتي - د. فائق متى إسحق
الغيرية في مفهومها اللاهوتي – د. فائق متى إسحق

الغيرية في مفهومها اللاهوتي – د. فائق متى إسحق

رئيس تحرير مطبوعات كوبتولوجيا اللاهوتية

تورنتو ـ كندا

الغيرية [1] في مفهومها اللاهوتى

من حيث القيمة الفاعلية والجوهر المُطلق

 

          الغيرية صنوان، فمنها الغيرية السلبية كالتوجس خيفة من الغير، ومنها ما هو إيجابي كالأخذ بيد الضعيف، ومد يد المساعدة للمحتاج والمُعدم. والإيجابيات تتبلور أيضًا في الغيرية الاستشهادية، وغيرية التوسلات والشفاعات، والغيرية المقدسة للإيقونات ورفات القديسين والقديسات. وتصل الغيرية ذروتها في تماجيد الثالوث المقدس، وفي الوحدانية الجوهرية وثثليث الأقانيم.

بيد أن هذه الأخيرة تمثل الغيرية المُطلقة، وهي ذروة الغيريات، وخلاصة مفهومها الجوهرى.

          وكما أن للغيرية صفتها اللاهوتية، فلها أيضًا صفتها السيكولوجية من حيث التعامل مع الآخرين، والعوامل النفسية التي تؤثر على الفرد تجاه الجماعة التي يعيش في وسطها والتي تؤثر على صلتها به وصلته بها.

          أما الغيرية الأخلاقية فهي التي تنم عن السلوكيات إن كانت خيرًا أم شرًا، أو فضائل تُحتذى، ورذائل تُرتكب، وشرور نسعى إليها بمحض إرادتنا، وموبيقات نستظل بها تحت جناح الحرية الزائف!.

          لذا لا يمكن فهم الغيرية بدون الإشارة إلى الغير، سواء كان جسمًا أو مجرد فكرة، مبدأ أو عقيدة، نفحة قدسية أم صور ذهنية. وفي كل ذلك تتشكل الغيرية بأشكال عديدة، وألوان متباينة، وفصل بين الإيمانية القويمة والإلحادية السافرة، وذود للمبادئ الفضلى، والفوضى العقلية في الجرى وراء كل ما هو جديد، والسعى الدائب وراء الأضداد المتنافرة!

          ويرى علماءاللاهوت أن نسيم الغيرية العبق لا يمكن أن يفوح شذاه إلاّ في جو صافٍ من البذل والعطاء وإنكار الذات. وهو جو التضحية الباذلة بأجلى معانيها، وهو جو الميطانيات، والسهر المتواصل، وتنقية الأدران الجسدية من كل شوائبها.

          وهذا هو عين القداسة، وفحوى التقرب إلى الغيرية القدسية، لا عن طريق السلبيات التي ولت الأدبار، بل بطريق الإيجابيات الوثابة التي تدفع المرء إلى الأمام للتخلص من الذنوب والخطايا الماضية، والوقوف على طريق الحق والاستقامة، والسمو بقدر المستطاع إلى أعلى درجات الكمال!

          وكلما ازداد إنسيابنا في جداول الترقي نجدها تصب في آخر الأمر في المنبع الاسخاطولوجي حيث الغيرية الإسخاطولوجية والغيرية الأبدية، وهي التي تتبلور في المفهوم اللاهوتي في كون الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله.

          وهذه بدورها تنم عن الوحدة اللاهوتية الكونية. وهذه الوحدة تقوم على دعائم الشركة والارتباط الكوني بين المنظور وغير المنظور، أي بين الأرض والسماء، وبين العالمية الإنسانية والغيرية السمائية!

          ولعلنا ننوه هنا إلى حقيقة لاهوتية هامة وهي أن الغيرية السمائية مُطلقة ولا تقبل الخلط أو التجزيئ. وهذا مما يسوقنا إلى التعرف على الماهية الغيرية، وهي التي تركز على دعائم الصلة أو الصلات بين الفرد والغير.

          وناهيك بما يُحدثه الروح القدس للغير من تغيرات شمولية ودخول في مناطق الروحانيات والمقدسات البعيدة المدى، والتجرد من الذاتيات، والوقوف على شواطئ الإلهيات! فهو تجرد من الذاتية والفردية الشخصية. وهذه الغيرية دائمًا تتطلع إلى الأمام وإلى المستقبل الروحاني الأصيل وإلى مملكة الله السمائية!

          وهذا مما يدخلنا في مجال الغيرية عند القديسين والقديسات الذين عبروا بحار الآلام وساحات الاستشهاد وتربعوا على عرش الغيرية الأخروية حاملين فوق رؤوسهم تيجان النصرة والفخار!.

          كما أن القداس الإلهي وهو عصب الكنيسة وقلبها الذي ينبض بالمحبة والتآخى والتآزر والاتحاد برب المجد يسوع المسيح، تتحقق فيه غيرية التناول حيث تمتد محبة الله إلى جميع المتناولين بما في ذلك من تغيّر للفرد وبروز للصلات الروحانية بين الأفراد بعضهم لبعض، والقربى بين المتناولين والخالق جل شأنه. وهذه كلها هي خلاصة التفاعل الروحي بين رب المجد والروح الإنسانية، وهو تفاعل قائم على أعمدة التاريخ وعلى أسس الروحانية المتينة التي تعطينا أو تهب لنا نفحة من نفحات السماء وتذوقًا للدهر الآتي.

          ولعلنا نؤكد هنا حقيقة هامة وهو أن الغيرية في هذا المجال تنفى نفيًا تامًا عوامل الفرقى والانفصال، وتعمل على التجمع تحت لواء الحب السمائي. فالكل ههنا قد اشتركوا في الوليمة السمائية بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الطابع أو البيئة وغيرها. إذ أن القداس الإلهي بطبيعته يتخطى الحدود المكانية والزمنية والشخصية الفردية والنواحي الاجتماعية والسلبيات البيئية.

          وفي التبشير ذود لروح الآخرين وإعلاء لشأن الغيرية الإيمانية لكارزما Charisma الروح لما فيها من انضمام إلى حظيرة الإيمان وانتقال من ظلمة الوثنية إلى نور الإيمان المسيحي الذي يشع حرارة روحانية، وتعرف على الأصول والمنابع الإنجيلية، ورفعة روحية لا تُجارى.

          والغيرية التبشيرية تعمل بدورها أيضًا على الوحدة لا الانفصال بغض النظر عن تباين البيئات وتباعدها. فهي تجمع البعيد، وتوّحد القريب، وتزيل الفرقى الانفصالية، لتصل في نهاية الشوط إلى مثالية العمل بالقلب الواحد والفكر الواحد!.

          ومن الخطأ بناء التبشير على أساس الغيرية الثقافية أو الغيرية الجنسية، فهي تؤدى بدورها إلى الانفصال لا الوحدة، وإلى تباين الإنعزالية لا الوحدة المسيحية القائمة على أساس الإيمان الراسخ السليم. وبالرغم من أن التبشيرية الإفريقية قد خطت خطوات لا بأس بها في هذا المجال، إلاّ أننا نطلب المزيد من السعى الدائب والمرامي البعيدة المدى.

          ومن العبث فهم الغيرية على أنها تحد من الحرية الشخصية أو الحرية الفردية، إذ يتحتم فهم العلاقة السليمة بين الفرد والغير على أنها علاقة تفاهم ومحبة ومودة، وهذه كلها ليست مثالية، إلاّ أن الانحرافات النفسية والإعتداد بالذاتية هي التي تشوه معالم هذه العلاقة، وقد تزج بها في محيط الكراهية والعدوانية، والدخول في مضمار الجريمة والمنازعات والحروب! وهنا تنقلب الغيرية رأسًا على عقب مما يفتت نياط القلوب ويهز كيان الإنسان نفسه!

          تلك هي سمات الغيرية المريضة، وهي غيرية مادية وإلحادية، وهي المتفشية في المجتمعات الأوربية والأمريكية والكندية المبنية على إعلاء شأن الفرد وسوء فهم الحرية الشخصية والإعتداد الزائد بالذاتية، والبُعد عن الأصول والمنابع الدينية، ودحض الوازع الأخلاقي بل وطرحه جانبًا في سبيل تحقيق نزوات مقيتة لا تمت للإنسانية بأدنى صلة!

          فلا غرو إن ضاعت معالم الغيرية المثالية وسط ركامات الإلحادات والسلبيات والإنطواءات، وناهيك بعوامل اللامبالاة فهى السم الزعاف الذي يمخر في صلب الجسم الاجتماعي! ولذا أضحى الشباب بلا مثالية كمالية تُحتذى، وبلا أهداف روحانية أو على الأقل أهداف أخلاقية يسعون إليها! ومن المؤلم أن نلمس ضياع القيم الأخلاقية والمبادئ السامية وسط زحمة الأنانية!

          ويترتب على ذلك أن المفهوم اللاهوتي للغيرية ينبع في أصوله من المحبة غير الذاتية أى المحبة بمعناها المسيحي، أى تلك التي تمتد إلى الغير بغير حدود، أى الإنسانية جمعاء التي يتربع على عرشها الأخاء والتعاطف والأخذ بيد المحتاج أينما وجد وأينما كان.

          وهذا لا يتأتي إلاّ بمعرفتنا أن المفهوم اللاهوتي للغيرية لا يتم إلاّ عن الحياة الإيجابية Vita Positiva التي تصل ذروتها فيما يُعرف باسم “الغيرية الاستشهادية” Martyric Otherness  أي غيرية الشهداء الذين يبذلون حياتهم ضحية لمعتقدائتهم الأرثوذكسية الرصينة.

          وينطوى تحت لواء هذه الغيرية أيضًا غيريات متباينة مثل غيريات الأواشيInvocations والتذكارات Anamneses والقسمات Fractions والتراحيم Diptychs والتماجيد Glorifications والمدايح Lauds والتراتيل Hymns وقدسية رفات The Sacredness of Relics الأواني المختارة والمكرسة لله.

          وتصل هذه الغيرية إلى منتهاها في “تماجيد الكلمة” G. of the Word، ” والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًا” (يو14:1).

          وفي تماجيد الأقانيم الأقانيم ووحدة الجوهر: Unification of Ousia، ” المجد لك أيها الوحيد. أيها الثالوث المقدس ارحمنا”[2].

          وأيضًا في وحدانية تجسد الكلمة في القسمة السريانية:

          ” واحد هو عمانوئيل وغير مفترق من بعد الاتحاد وغير منقسم إلى طبيعتين، هكذا نؤمن وهكذا نعترف”[3].

وفي الكلمات المؤثرة النافذة إلى الأعماق في نفس القسمة التي تتحدث عن حقيقة الصلبوت:

          ” هكذا بالحقيقة تألم كلمة الله بالجسد وذُبح وانحنى بالصليب. وانفصلت نفسه من جسده. إذ لاهوته لم ينفصل قط لا من نفسه ولا من جسده”[4].

          وفي هذه التماجيد وتلك الاعترافات تتبلور حقيقة ” الغيرية الإلهية المُطلقة “:

The reality of the absoluteness of the Divine Otherness.

التي تمثل غاية الغايات والنهاية اللاهوتية لما لا نهاية له!.

          وهذا ما يسوقنا بدوره إلى ما أجمع عليه علماء اللاهوت بقولهم إن الغيرية اللاهوتية تظهر بأجلى معانيها في الميطانيات metanoia وفي إنكار الذات وفي السهر الليلي المتواصل: Preminent Night Vigils وفي قمع الذات للوصول إلى الرفعة الروحية التي يبغيها ذوى الحرارة الإيمانية، وفي سلم الترقى الذي يصعد على درجاته ذوو الأناة والصبر الذين تنبض قلوبهم بالمحبة الإلهية.

          وتلك هي خلاصة الغيرية القدسية: The Sanctified Otherness التي تنبع بحق من الإسخاطولوجية الأخروية ومن قدسية المملكة الإلهية لرب المجد. ولا غرو إذ يؤكد لنا بولس الرسول بقوله: ” أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو16:3). وأن الله قد خلقنا على صورته ومثاله، وأن الروح بطبيعتها تتوق إلى العودة إلى الفردوس وإلى العشرة الحقيقية مع الله قبل السقوط.

          وهذا مما يشكل حقيقة لاهوتية هامة وهي أن الأساس في الغيرية الإلهية مبني على دعائم الشركة النُسكية The Ascetic Koinonia التي تسعى بكل ما أوتيت من عزم وثبات ومثابرة إلى النهوض إلى الغيرية السمائية The Heavenly Otherness التي هي مُطلقة في جوهرها وغير قابلة للفصل أو التجزيئ، ذلك أنها روحية في كل مشتملاتها.

          وهذه الغيرية بالذات بمثابة السراج المنير الذي يهدى النفوس الضالة إلى الحق وسط ظلمات العالم، وزحمة الأفكار الشريرة، والنوايا الخبيثة، والشرور المتلاحقة، والمعاصى التي لا طائل لها، والشرود الذهنى، والمحن الأخلاقية، وأساليب اللامبالاة، والحرية الزائفة التي تجلب الشرور على الأفراد والجماعات!.

          ولا يسعنا في هذا المجال إلاّ أن نشير إلى قول بولس الرسول:

          ” احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير وبعد أن تتموا كل شئ وأن تثبتوا” (أف13:6).

وهذا الثبات لا يتم إلاّ بفاعلية الروح القدس، فهو الدرع الواقى الحصين The protective armour الذي يقى الكثيرين من بلايا اليوم الشرير، والذي يعمل على تحوّل النفس والروح من عالم الذاتيات إلى عالم الروحانيات. حيث يلبسها حللاً تشبيه من العفة والقداسة الحقة، وحيث يسبغ عليها نورانية وضاءة من نعم رب المجد وبركاته الفياضة التي لا تُحد.

          وهذه الأنفس المستنيرة وتلك الأرواح الملتهبة بحرارة الإيمان قد خرجت من عالم الفانيات The World of the Perishables ودخلت في ثبات وعزم إلى المناطق القدسية لما هو خالد The Sanctified Areas of Eternalities حيث تتربع على عرش البركات السمائية Heavenly Blessings ونعيم الفردوس Paradisal Grace الذي تحظى به أرواح القديسين والقديسات وعُباد الله الصالحين الذين نفذوا برمتهم إلى بواطن غير المرئيات The Inner Recesses of Invisibilities، وهذا ما عبّر عنه علماء اللاهوت بأنه فحوى غيرية القداسة الحقة لمن حظوا بعد حياة الجهاد بومضات الغيرية الإسخاطولوجية The Glimmers of Eschatological Otherness وهي ومضات النصرة والفخار والنعم الأبدية.

          ولعلنا نجد في صلوات الأجبية ومزامير السواعي بالإضافة إلى القداس الإلهي الذي سبق الإشارة إليه، ذلك القلب النابض الذي يذخر بالمنابع الفياضة للغيرية الروحانية:

Overflowing springs of Spiritual Otherness

فهي التي تنبض بالمحبة الفائقة وبالاتحاد برب المجد، كما ورد في القداس الباسيلي:

          ” اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا. لكي نكون جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا ونجد نصيبًا وميراثًا مع جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء”[5].

          حينئذٍ تتجلى غيرية التناول The Otherness of Communion وغيرية الوحدة القائمة بين المتناولين وبين الجسد الطاهر والدم الذكى الكريم للفادي الحبيب. وهنا أيضًا يتضح أجلى معاني غيرية التحول الروحي The Otherness of Spiritual Transformation وذلك بفاعلية الروح القدس الذي يحلّ على الأسرار المقدسة.

          ومن الجدير بالذكر أن هذه الغيريات الروحانية في صلبها وجوهرها إنما تعمل على إزالة عوامل الفُرقة والانقسامات، فهي تعمل جاهدة على التوحيد، ومناصرة الدأب النُسكي وإحياء الأرواح النائمة، والأنفس التي تترنح في دياجير الظلمات، وتنغمس في ملاذ الشهوات.

          فتلك هي عناصر الغيرية الروحانية التي تعمل جاهدة على رفع لواء المحبة الإلهية، متخطية في ذلك محدودية المكان والزمان، والفردية والانعزالية، لتصل بنا إلى رحاب غيرية الرؤيا المقدسة، العالم العلوى للقداسة الحقة، والنورانية الوضاءة، والشفافية التي تطل على المكنونات الأبدية: Transparency that peeps into the eternal components. وهذه بدورها تكون لب المستيكية (السرية) الغيرية The Butt of Mystical Otherness.

          وهذه الغيرية بالذات في مفهومها اللاهوتي السليم القائم على دعائم المحبة الرحبة والجهاد الروحي، تعمل بكل مقوماتها على إرساء معالم الصحة النفسية والامتلاء الروحي البعيد عن المهاترات والسفسطات الكلامية. وهذه هي الغيرية اليانعة  The Budding Otherness التي تورق وتترعرع أغصانها في أرض الخصب والنمو الروحي، إذ أن أشجارها قد غرست على شواطئ الجداول المائية التي تنعكس على صفحاتها الرجراجة إشعاعات المحبة الإلهية ذات الوهج العظيم الذي يأخذ بلب النفوس ويحرك أوتار القلوب.

          ومن ناحية أخرى نرى أن صورة الغيرية قد تتغير تغيّرًا كاملاً بل قد يصيبها صدع لا تفوق منه وذلك إذا انحازت إلى مقومات الاعتداد بالذات والفخر الذي لا أساس له، والعظمة الزائفة، والتظاهر المقيت، والجهالة والضعف أمام صنوف الشرور، وهذه كلها تشكل ما أُطلق عليه الكثيرون بالغيرية المريضة Sickly Otherness وهي غيرية مادية، قد تكون إلحادية أو وجودية، وهي مُنتج من نتائج الجدب الروحي، والعلل الأخلاقية، وشطحات الحرية الزائفة. وتلك هي مكونات السم الزعاف والسرطان المُهلك الذي يقضى على عضوية الأفراد والجماعات هالكًا الجميع في غير هوادة.

          فلا عجب إن ضاعت غيرية القيم والمعايير وسط زحمة الأفكار البغيضة والتعالي المقيت والبُعد عن غيرية المبادئ الأصيلة للروحانيات والأخلاقيات، والأسس القويمة للحياة الفُضلى المبنية على الشركة بمعناها النُسكى، والسجايا الحميدة المستمدة من منابعها الروحانية الأصيلة.

          ونتج عن ذلك ظهور غيرية من نوع خاص قوامها الموجات العنيفة من الشك والإلحاد واللامبالاة non-chalance  وهي التي أحدثت أثرًا عميقًا في نفوس الجيل الصاعد وفي محو تفكيرهم مما يشكل خطرًا كبيرًا على مفهوم الحياة الروحية والحياة الاجتماعية بما في ذلك من انحرافات وسلوكيات ممقوتة.

          وأمام هذه الأجواء الملبدة بالغيوم نجد أن الإنسان المسيحي يحس في قرارة نفسه بأنه يعيش في عالم غريب متغير الغيرية، وفي صراع دائم مع هذه التغيرات التي كثيرًا ما تنم عن جهالة تعمل على هدم كيانه الروحي بدلاً من الإعلاء من شأن استنارته الروحانية والفكرية. ويجدر بنا في هذا الصدد أن ننوه إلى المقولة الكلاسيكية للقديس بولس:

          ” لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل” (رو15:7). وهذا يبين لنا قوة الغيرية الاجتماعية وفاعليتها بالنسبة للإرادة الإنسانية والإقدام أحيانًا على فعل ما لا نريده. ويحدونا هنا الرجوع إلى حتمية التعلق بأهداب الفضيلة وحياة الغيرية الفاضلة القائمة على أعمدة النصرة الروحية بما فيها من قمع للشهوات والدأب على الإعلاء من شأن غيرية الحياة الروحية التي تشع طهارة وعفة ونقاء.

          بيد أن هذا كله لا يتأتي إلاّ بأخذ غيرية التضحية The Otherness of Sacrifice التي تظهر بأجل معانيها في الحياة النُسكية بما فيها من دحض للغيريات الاجتماعية المتقلبة والشطحات الفكرية التي لا طائل لها.

          وقد نوه علماء اللاهوت في هذا الصدد إلى أهمية الهيزيخيا Hesychia وهي صلاة الهدوء العميقة المصاحبة للتأمل في الحضرة الإلهية. كما بينوا أيضًا أهمية التأمل في الغيرية الكرازية Kerygmatic Otherness، وغيرية المجيء الثاني المعروفة باسم الغيرية الباروسية Parousian Otherness، وهي التي يدور محورها حول الكمال الإسخاطولوجي والمجد الإلهي.

          وهذا مما يظهر بوضوح على سبيل المثال في حياة الأب أمونيوس التي قيل عنها: [ إنها حياة الطهارة والحكمة التي فاق فيها هذا الناسك عما عداه من رهبان عصره لدرجة أن كل من شاهده أقرّ معترفًا بأن الأب أمونيوس قد ضرب قصب السبق في التعرف على السرائر الخفية للحكمة الإلهية][6]. ولا غرو فصومعة الناسك: [ هي بمثابة عمود الغمام الذي من خلاله تكلم الله مع موسى النبي][7]. وهذا هو شأن الحياة التي تسعى بكل جوارحها إلى التقرب من غيرية القداسة المبنية على الدأب النُسكي والمثابرة الاجتهادية. وهي تعلو في سماء الرفعة الروحية عما عداها من صنوف العبادة والصلاة، إذ أنها بمثابة الغذاء الروحي الذي لا يجارى.

          ومن ثم تنغمس الروح في غيرية المحبة الإلهية وغيرية النعيم الأبدي، فهي بمثابة جرن المعمودية الذي تخرج منه صافية نقية، تحوى في ثناياها كل مقومات الطهارة والقداسة الحقة وكارزما Karisma البركات السمائية.

          وهذا ما عبّر عنه اللاهوتيون بقولهم إن تلك هي خلاصة ميتافيزيقا الغيرية The Metaphysics of Otherness، وهي ليست ميتافيزيقية فكرية بقدر ما هي ميتافيزيقية روحية لأنها تتبلور في عالم الروحانيات لا في عالم الفكر المجرد. وهذه الروحانية متأصلة في الملكوت السمائي الذى تعتبره الروح الإنسانية مسكنها الأصلى ومقرها الأخير الذي تعود إليه إن آجلاً أم عاجلاً. وهذا المسكن بدوره يمثل غيرية النعيم الأبدي للفردوس حيث الأزاهير اليانعة والرحيق العبق السمائي الذي ترشف من منهلة أرواح القديسين والقديسات ليكون بلسمًا شافيًا لجراحهم الدامية وما لاقوه من عذابات ومحن وما تحملوه من شدائد في ساحات الاستشهاد.

          تلك هي سمات الغيرية الرؤيوية Revelatory Otherness or The Otherness of Revelation التي يمكن للروح أن تصل إليها حينما تسمو إلى أعلى درجات التأمل وتحلق في سماء الإلهيات. وهذا ما قد عبّر عنه القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه عن ” تجسد كلمة الله”: [ إن الروح الإنسانية قد تحتفظ بعد فسادها إذا ما عملت دائبة للحفاظ على الصورة الأصلية في أننا خُلقنا على صورة الله ومثاله، وذلك عن طريق التأمل المتواصل][8]. ذلك التأمل الذي يتخطى المرئيات ليصل إلى عالم غير الفانيات The Imperishables ، حيث تنفذ الروح في ثنايا الغيرية الرؤيوية لتصل إلى منابع غيرية الحقائق الإلهية المُطلقة

The Otherness of the Absolute Divine Realities

التى تشكل خلاصة الإسخاطولوجية الأبدية لمملكة الله السمائية

The eternal Eschatology of the Heavenly Kingdom of God

          تلك هي العناصر مجتمعة التي تكوّن في مفهومها أسس الأرثوذكسية العاملة التي تسعى إلى الآخرين والتي ترتكز على دعائم الرؤيا الثاقبة التي تنفذ إلى أعماق الغيرية المقدسة السليمة حيث الإيمان القويم، والحق الأسمى، والغيرية التبشيرية، والاستنارة الروحية التي تغرس نبتاتها النابضة في الأراضى الحالكة الظلام، تلك التي تخيم عليها الظلمة من كل جوانبها، والتي تتخبط في دياجير الوثنية وصنوف الإلحاد، لكي ما تورق ببراعمها اليانعة تلك الأزاهير السمائية التي تطل بتيجانها المتفتحة على عالم الخلود بغيرياته الأبدية.

 

Selected Bibliography

Apprey, Maurice. Intersubjectivity, Projective Identification and Otherness. Pittsburg: Duquesne University Press, c 1993.

Balslev, Anindita Niyogi. Cultural Otherness: Correspondence with Richard Rorty. Atlanta: Scholars Press, 1999.

Bartra, Roger. Wild Men in the Looking Glass: the Mythic Origins of European Otherness, translated by Carl T. Berrisford. Ann Arbor: University of Michigan Press, 1994.

Birnbaum, Daniel. The Hospitality of Presence: Problems of Otherness in Hussert’s Phenomenology. Stockholm: Almqvist and Wicksell International, 1998.

Bhattacharya, Sutapas. The Oneness and Otherness Mystery: the Synthesis of Science and Mysticism. Delhi: Motilal Banarsidass Publishers, 1999.

Clark, Charles E. Uprooting Otherness: the Literacy Campaign in NEP-Era Russia. Selinsgrove, PA: Susquehanna University Press; London: Associated University Presses, c2000.

Colloque Canada-Bulgaria. Université Laval. Perception de l’altérité de Diversité des Cultures = Perception of Otherness and Diversity of Cultures. Montréal: Editions Montmorency, 1993.

Contested Countryside Cultures: Otherness, Marginalization, and Reality, edited by Paul Cloke  and Jo Little, London; New York: Routledge, 1997.

Cultural Encounters: Representing Otherness edited by Elizabeth Hallam and Brian V. Street. London; New York: Routledge, c2000.

Cultures Otherness and Beyond, edited by Chanda Gupta and D.P. Chattopadhyaya. Leiden: Brill Press, 1998.

The Eight Technologies of Otherness, author-edited Sue Golding. London; New York: Routledge, 1997.

Floyd, Wayne W. Theology and Dialectics of Otherness: On Reading Bonhoeffer and Adorno. Lanham, MD.: University Press of America. C1988.

Friedman, Maurice S. The Confirmation of Otherness in Family, Community, and Society. New York: Pilgrim Press, c1983.

Gunn, Giles. The Interpretation of Otherness: Literature, Religion and the American Imagination. New York: Oxford University Press, 1979.

Jervis, John. Transgressing the Modern: Explorations in the Western Experience of Otherness. Oxford: Malden, Mass.: Blackwell Publishers, 1999.

Mooren, Thomas. On the Border: the Otherness of God and the Multiplicity of the Religions: the Intercultural Dialogue from an Anthropological Perspective as an Inquiry into the Theology of Religions. Frankfurt am Main; New York: P. Lang, 1994.

Nature: Literature and its Otherness OR La Littérature et son Autre, edited by Svend Erik Larsen, Morten Nojgaard Annelise Ballegarrrd Petersen, Odense, Denmark: Odense University Press, c1997.

New Exoticisms: Changing Patterns in the Construction of Otherness, edited by Isabel Santaolalla. Amsterdam: Rodopl, 2000.

Nieto, José. Religious Experience and Mysticism: Otherness as Experience of Transcendence. Lanham, MD.: University Press of America, 1997.

The Otherness of God, edited by Orrin F. Summerell, Charlottesville: University Press of Virginia, 1998.

Shanin, Teodor. The Roots of Otherness: Russia’s Turn of Century. New Heaven: Yale University Press, 1985.

Volf Miroslav. Exclusion and Embrace: a Theological Exploration of Identity, Otherness and Reconciliation. Nashville, TN: Abingdon Press. C1996.

Wentz, Richard. The Contemplation of Otherness: the Critical Vision of Religion. Macon: Mercer, c1984.

Wilson, Charles A. Feuerbach and the Search for Otherness. New York: P. Lang, c1989.

1 الغيرية: تعنى إيثار حب الغيّر على النفس، وهى عكس الأنانية وحب الذات (انظر المُنجد فى اللغة والأعلام دار المشرق بيروت 1998).

 

[2] الإبصلمودية المقدسة السنوي ص 17ـ18.

[3] الخولاجي المقدس، طبعة جمعية المحبة سنة 1967، ص539ـ540.

[4] القسمة السريانية ص537.

[5] الخولاجي المقدس، طبعة جمعية المحبة سنة 1967 ص 268 ـ 269.

[6] The Desert Fathers, translated by Helen Waddell. New York: Vintage Spiritual Classic, 1998, p. 59.

[7] The Desert Fathers, op. eit., p. 95.

[8] De Incarntione Verbi Dei, St. Vladimir’s Orthodox Theological Seminary, 1982. p. 30.

الغيرية في مفهومها اللاهوتي – د. فائق متى إسحق

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)