أبحاث

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية
مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

مقدمة

إن دور المرأة منذ العصر الرسولي الأول وتأسيس الكنيسة الأولى كان دورًا حيويًا وفعالاً فقد قدمت المرأة الكثير في مجال الخدمة الكنسية إذ تنوع نشاطها واتسع وساهمت بجهد وافر جدا في مجالات عديدة. وبسبب احتياج الكنيسة لخدمات خاصة، فقد ظهرت خدمة الأرامل والشماسات اللائى قمن بهذه الخدمات الجزيلة للكنيسة وقد كان منوط بهن القيام بالأعمال التي نذكر منها على سبيل المثال:

1 ـ مراقبة الأبواب عند دخول النساء إلي الكنيسة.

2 ـ حفظ النظام داخل الكنيسة وقت العبادة.

3 ـ تنظيم لقاءات الأب الأسقف مع من يريدون مقابلته.

4 ـ استضافة النساء الغريبات فقراء كن أم أغنياء.

5 ـ زيارة المرضي من النساء وكل من له احتياج لتعزيه أو مواساة.

6 ـ تقديم التعليم للمبتدأت وغير المؤمنات إذ يذكر المؤرخ الكنسي ثيودوريتوس (393 –457) أن إحدى الشماسات أنقذت ابنة لأحد كهنة الأوثان المعروفين من الأفكار الوثنية وعبادة الأوثان بواسطة تعليمها عن الحياة فى المسيح [1].

لكن ما يجب الإشارة إليه فيما يخص وضع المرأة الخادمة أنه سواء في العهد الجديد أو في التقليد الآبائى يوجد تأكيد علي امتياز البتولية علي الزواج لكن هذا الامتياز لا يتعلق بالبتولية في حد ذاتها، بل بالإمكانات التي تمنحها للإنسان المسيحي من اجل كماله في المسيح.

كما يؤكد علي ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم إذ يقول: [ أن البتولية ليست شيئا حسنًا أو غير حسن في حد ذاته ولكن قيمتها تكمن فيما تمنحه للإنسان المسيحي، في سعيه من أجل الكمال ][2].

هذا الامتياز لا يقلل من قيمة الزواج بالطبع، بل علي العكس فالاعتراف بقيمة الزواج يعني اعترافًا في نفس الوقت بقيمة البتولية. واحتقار الزواج يؤدي إلي إهانة لقيمة البتولية وهذا ما يشير إليه كل من القديسين غريغوريوس اللاهوتي ويوحنا ذهبي الفم.

فيقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: [ البتولية هي شئ عظيم ولكن الأعظم بكثير ألاّ تفقد هذه البتولية ] [3]. وأيضا يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : [ الزواج هو أمر حسن ولهذا أيضا فإن البتولية هي شئ رائع وامتيازها يكمن فيما تحمله من قوة ][4].

وان كانت البتولية تمتاز عن الزواج إلاّ أنها تدين بوجودها للزواج. ومن ناحية أخري فإن كان الزواج هو أمر أقل قيمة من البتولية فهذا يعني أن البتولية هي أمر إلزامي للجميع لكن ليس هذا هو واقع الأمر، ففي الحقيقة أن المرأة العذراء غير مدعوة لأن تختار بين الزواج وعدم الزواج بل أن تختار بين شكلين للزواج أي بين زواج جسدي وزواج روحي.

وهذا لا يعني أن الزواج الجسدي هو غير روحي لكن لأن له أيضًا ملمح جسدي فهو يختلف بحسب تكوينه عن زواج البتولية الروحي أي الذي له ملمح روحي فقط. هنا ويجب التأكيد علي أن طريق البتولية ليس للجميع بل للذين أعطوا موهبة خاصة من الله. ولذلك فكل من اختار طريق البتولية دون أن تكون له هذه العطية من الله يُعرض نفسه لمخاطر روحيه كبيرة.

فالبتولية الحقيقية لا تنحصر في الشكل الجسدي فقط لان لها أبعادًا أوسع وأرحب من ذلك بكثير. لأن ممارسة البتولية الجسدية هو من أجل النفس، فلو بقيت النفس أسيرة للشهوات فإن ممارسة البتولية الجسدية يصير بلا قيمه وبلا معني.

البتولية تتطلب تكريس كامل لله وخضوع كامل لإرادته، وهذا يعني انفصال كامل عن كل الاهتمامات العالمية وكل ما يعطل مسيرة العمل الروحي. ومن أجل ذلك فإن انحصار البتولية في البعد الجسدي فقط يقود بالضرورة إلي الذاتية والافتخار وعدم المرونة والقسوة ورفض المجتمع. ولهذا فإن موهبة البتولية تُمنح بنعمة خاصة من الروح القدس الذي يحرر الإنسان من قيود الفساد والموت ويجعله شريكًا حقيقيًا في الحياة والخلود.

ويري القديس غريغوريوس النيسّى أن [في شخص كل عذراء نهاية لسيادة الموت][5]، لأن البتولية أخروية في هدفها وهي تشكل واحدة من الحقائق الأساسية لملكوت الله لأنها تربط الحاضر بالمستقبل. ولذلك فإن القديس يوحنا ذهبي الفم يقارن بين المتزوجة والعذراء فيؤكد علي ” أن العذراء ليست مضطرة أن تنشغل بعريسها ولا تخشى من الخداع الذي ربما قد يحدث من عريسها الجسدي، لان عريسها هو الله وليس إنسان، السيد وليس عبدًا مثلها.

فالأمور الخاصة بالبتولية لا تتعلق بمقاييس أرضية لكن بمقاييس سماوية وأن الصلاح السمائى هو مكافأة تلك العروس “العذراء” وليست الأمور الأرضية الزائلة. وتأكيدًا علي حقيقة انتهاء سيادة الموت بالنسبة للمرأة ” العذراء” يقول: [ إن المتزوجة ترتعب من الموت لأن الموت يفصلها عن زوجها، بينما البتول تشتهي الموت، حتى تري عريسها السماوي وجهًا لوجه وتتمتع بهذا المجد الفائق ].

ويواصل ذهبي الفم مقارنته فيقول عن المرأة ” العذراء ” :

[ وأيضًا هي لا تتأفف من حياة الفقر كما يحدث في حالة الزواج، لأنها تصبر عليه بإرادتها، وهي لا تتذمر بسبب انتمائها لأسرة فقيرة أو لأنها غير جميلة، أو أي أمور أخري مثل هذه. وإن حدث وكانت عبدة[6] فهذا لن يعطل خطبتها لعريسها السماوي، يكفيها فقط أن تكون تقية النفس.

وهي لا تعاني من الغيرة أو الحسد لأن أخري تزوجت بزوج مشهور أو أكثر جمالاً. لأنه لا يوجد عريس شبيه بعريسها السماوي. أما بالنسبة للمتزوجة فإن تصادف وتزوجت برجل غني جدًا وذو حظوة وقوة كبيرة، فمن الممكن أن يظهر شخص أخر أكثر غني وأكثر قوة منه ][7].

هذه المقارنات التي يعقدها القديس يوحنا ذهبي الفم بين المتزوجة والمرأة العذراء تؤكد علي امتياز البتولية كطريق ولكنه لا يرفض الزواج أو يقلل من شأنه، فقط هو يشدد علي أهمية هذا الطريق أي طريق البتولية. ولذلك فقد دعي البتولية بالألقاب الآتية :

1 ـ مقدرة (KatÒrqwma) 2 ـ مقام فائق (Ax…wma)

3 ـ حكمه سمائية (Our£nio Filosof…a)[8]

ولم يُستثن من هذه الرؤية الآبائية بشأن امتياز طريق البتولية علي طريق الزواج إلاّ العلامة كليمنضس الأسكندرى الذي رأي أن طريق البتولية هو أقل شأنًا من طريق الزواج [9].

مكانة المرأة فى الخدمة الكنسية والحياة النُسكية

لا يمكن أن نفهم مكانة المرأة سواء في الخدمة الكنسية أو في الحياة النسكية إلاّ من خلال ارتباطها الشديد بشخص المسيح. فقد كانت مكانة المرأة قبل التجسد في وضع متدنى جدًا، وقد تأكد ذلك من خلال شواهد تاريخية كثيرة. ويشير البروفيسور ديمتريس تسامس (D. G. Ts£mhj) إلي أن ” العالم القديم في مجمله قد عامل المرأة بقسوة واعتبرها كائن أدني بدون أية حقوق ورفض أن يكون لها قدرات فكريه وحقوق شخصيه ” [10].

ومن أجل هذا فقد أكد المؤرخون أن الحضارة القديمة قد سقطت بسبب عاملين :

1ـ العبودية 2ـ التقليل من شأن المرأة

وعندما نرصد مواقف المجتمع تجاه المرأة خلال بعض المراحل التاريخية المختلفة نستطيع أن ندرك مكانتها من خلال رؤية المجتمع وتقيّمه لدورها.

الفيلسوف اليوناني أرسطو يؤكد أن الرجل يجب أن يمارس سلطة علي زوجته وأولاده باعتبار أنه بحسب الطبيعة أكثر قدرة علي القيادة من المرأة، بل انه يرفض استقلالية المرأة حتى داخل بيتها، وان كان يقبل أن كل من الرجل والمرأة لديه نفس القدرة الأخلاقية علي اكتساب الفضيلة (العمل). لكن تظل فضيلة الرجل هي من الفضائل الخاصة بالحكم والقيادة، بينما فضيلة المرأة تنحصر في مجال الخدمة والخضوع للرجل[11].

وهكذا تأسست فكرة خضوع المرأة للرجل. لذلك نجد أنه بينما كان حق التعبير عن الرأي هو حق أساسي للرجل، لم يكن للمرأة نفس هذا الحق بل كان لزامًا عليها أن تصمت. ويدعم أرسطو هذا الفكر برأي سوفوكليس القائل “إن علي المرأة أن تصمت في هذا العالم”[12].

وفي المجتمع اليهودي كان الرجل يحتل المكانة الأولي في الهرم الاجتماعي ثم بعد ذلك العبد فالمرأة ثم الطفل. وكان الفريسى في صلاته اليومية يشكر الله لأنه لم يخلقه امرأة وكانت صلاته هذه تعكس موقفه تجاه المرأة[13]. ولذلك كان الفريسي التقي يدعي بالفريسي “الدامي” لأنه كان يسير ورأسه منكسة إلي أسفل حتى لا يصادف امرأة في طريقه. والنتيجة أنه كان يصطدم بقوة في أي شيء فيصاب وينزف دمًا.

كما كانت المرأة مهمشة في العبادات والممارسات الدينية اليهودية فقد كانت تعاني من مشكلة النجاسة تلك المشكلة التي نشأت من موقف الفكر اليهودي بشأن “الدورة الشهرية ” فلهذا لم تستطع أن تشارك في الأسرار التي كانت تمارس في المجمع وأيضًا لم يكن مسموحًا لها أن تدرس الناموس علي أيدي الرابيين[14]، كما يتضح من كتابات العصر اليهودي والتي لم تكن تشير للمرأة بالألقاب التي كانت تطلق علي رجال الدين اليهودي مثل غيور، صدوقى، قديس[15].

ونلاحظ أيضا أن المرأة لم تكن تحصي في تعداد الشعب بحسب التقليد اليهودي إذ يذكر متى البشير أن ” الآكلون كانوا أربعة آلاف رجل ماعدا النساء والأولاد” (مت38:15).

أما فيما يتعلق بموضوع الطلاق، فلم يكن للزوجة حق أن تتحرر من روابط الزواج إلاّ بموت الزوج، بينما كان الزوج يستطيع أن يتخلص من زوجته بدعوى الزنا أو لأية أسباب أخرى.

وفي العصر الهيلليني الروماني اعتبرت المرأة ملكية خاصة للرجل، ونتيجة لذلك بقيت سجينه داخل جدران المنزل وانحصرت حقوقها في هذا الإطار فقط ولم يكن مسموحًا لها أن تشارك في الحياة الاجتماعية والعمل الاجتماعي ولم تتقلد أي مناصب في الدولة وحرمت من حقها أن تثقيف[16].

ونجد صدي لهذا الموقف العام تجاه المرأة ورؤية المجتمع لها، في حديث القديس يوحنا ذهبي الفم عن “اختيار شريك الحياة” فنجد أنه وإن كان يتحدث عن البعد الروحي في الاختيار إلاّ أن حديثه يعكس لنا الدور السلبي للمرأة في عصره فيما يختص بالعمل الاجتماعي وإبداء الرأي الخاص بمصالح مجتمعها وتقدمه فيقول “لقد أوكل الله للزوجة رعاية البيت والعناية به، وللرجل الأمور العامة أي كل ما يختص بالمحاكم والبرلمان والجيش والإدارة الحكومية. فالمرأة لا تستطيع أن ترمي حربة أو تقذف بنبال ولا تستطيع أن تقدم اقتراح في البرلمان.

لكن تستطيع أن تبدي رأيها فى كل الأمور التي تخص بيتها ولا تستطيع أن تدير الأمور الخاصة بالدولة حسنًا، لكن تستطيع أن تربي أولادها حسنًا وأن تدير كل الأمور الأخرى التي لا يستقيم للرجل أن يباشرها والتي لم تكن هي بالأمر السهل له، حتى وان أراد أن يمارسها[17].

هذا ” التهميش” المتعمد لدور المرأة وهذا الحرمان لها من المشاركة والمساهمة في الحياة الاجتماعية فى أزمنة قبل الميلاد تغير وأخذ بُعدًا آخر “بتجسد المسيح”. ونعني به مساواة الرجل والمرأة. هذه المساواة توضح مدي التجديد الذي حدث للإنسان في المسيح. ولهذا فقد ظهرت الصورة الإيجابية لدور المرأة إذ نجد الحضور النسائي واضح في كرازة المسيح وكيف كن يخدمنه من أموالهن ” وكثيرات كن يخدمنه من أموالهن… ” (لو3،2:8)، هؤلاء النسوة بإيمان واثق وعطاء وبذل واضح تبعن المسيح كل مسيرة خدمته وحتى الصليب، ومشهد الصليب يؤكد علي موقف هؤلاء النسوة وعلاقتهن بالمسيح “ وكانت نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي وسالومة اللواتي تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل وأُخر كثيرات اللواتي صعدن معه إلى أورشليم ” (مر41،40:15).

وهنا يجب أن نؤكد علي أن ظهور المرأة علانية وعدم تقيدها بمنزلها كان يُعد حدثًا كبيرًا ويشكل ثورة علي التقاليد اليهودية وموقفها تجاه المرأة وكان هذا واحدًا من الاتهامات التي واجهت المسيح عند محاكمته ” وابتدأوا يشتكون عليه قائلين إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ” (لو2:23). ويجب أن لا ننسي أن التلاميذ أنفسهم اندهشوا عندما رأوا المسيح يتكلم مع امرأة “ وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون انه يتكلم مع امرأة ” (يو27:4) .

هكذا نجد أن دور ومكانة المرأة في المجتمع قد بدأ يأخذ مساره الصحيح، وكان ذلك بسبب موقف المسيح منها وهو موقف قد أتي ضد المناخ العام الذي كان يسود تلك الفترة والذي كان يقلل من شأن المرأة ودورها. لقد أعطى المسيح مكانه سامية للمرأة، فصار لها دور في العمل الكرازي وفي خدمة المجتمع الذى تنتمى إليه.

ولنري موقفه من المرأة الزانية التي أمسكت في ذات الفعل، وأيضًا التساؤل الذي طرح عليه من قبل اليهود، الذى كان يحمل نوعا من الخبث، كما تعودوا في حواراتهم معه إذ قالوا له : ” موسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت؟ قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه” (يو6،5:8).

فكانوا يتصورون أن رد فعل السيد المسيح سيكون على عكس ما يقرره الناموس، وهذا يعني رفضه لما جاء بأحكام الناموس، والناموس مصدره الهي. لكن إجابة المسيح خيّبت آمالهم الشريرة إذ كانت متجهة نحو الضمائر وبعيدة عن الناموس “ من كان منكم بلا خطيه فليرمها أولاً بحجر… وأماّ هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحدًا فواحدًا مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين ” (يو7:8ـ9).

وأيضًا فى شفاء المرأة التي كانت مريضه لمدة 18 عام بروح شرير أثار ردود فعل شديدة من قبل رئيس المجمع، لان المسيح صنع المعجزة يوم سبت. حينئذ أجاب يسوع وقال “يا مرائي ألاّ يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو حماره من المذود ويمضي به ويسقيه، وهذه ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشر سنه أما كان ينبغي أن تُحلّ من هذا الرباط يوم السبت ” (لو15:13ـ16).

ولم يكتفِ المسيح بشفاء المرأة، ولكنه تجرأ أن يدعوها ابنة إبراهيم وهو يعلم أن هذا لم يكن معتاد ولا مقبول لدي اليهود.

وهكذا شعرت المرأة ولأول مرة بحضور حقيقي وفعاّل داخل المجتمع وهن اللواتي كن يعشن علي هامش المجتمع وبلا مساهمة حقيقية في العمل والخدمة الاجتماعية. لقد أعطاها المسيح مكانة حقيقية داخل هذا المجتمع. وهذا يعني أنه في المسيح فقط، قد صار لها مكانه ووضع يشار إليه. وهذا ما دعي الرسول بولس أن يركز الانتباه علي شخص المسيح حيث يتعرض لموضوع المساواة بين الرجل والمرأة ” ليس يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر. ليس ذكر ولا أنثي لأنكم جميعا واحدا في المسيح يسوع ” (غل28:3). ثم يضيف في نفس الرسالة ” إننا جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع ” (غل26:3).

هذه المساواة بين الرجل والمرأة هي من ثمار الحياة الجديدة التي أسسها المسيح، فالمرأة والرجل يشكلان وحده واحدة في المسيح ولهم نفس الإمكانات والقدرات ولهم شركه واحدة في الثالوث القدوس ” الذي خلقهما من البدء ذكرًا وأنثي ” (مت4:19).

وإذا كان الكتاب المقدس يذكر أن الرجل رأس المرأة، فإن المرأة تستطيع أن تسبق الرجل لو كانت هي الأفضل في جهادها من أجل اقتناء الفضيلة.

أن المكانة اللاهوتية للمرأة تعكس إيمانًا محددًا للكنيسة، فهى عضو في جسد المسيح. لكن هذه العضوية والدور الذي تلعبه داخل الكنيسة يصير غير مفهوم إن لم يرتبط بكرامة العذراء، فمكانتها مرتبطة بوجود حواء الثانية.

إن العذراء اعتبرت أم الخليقة الجديدة (أنظر 2كو17:5) وكل نماذج وصور الفكر اللاهوتي يجب أن تُبني علي هذه القاعدة، ووفقًا للقديس كيرلس الأسكندرى، فإن العذراء تعتبر أساس محوري في خطة الله من أجل خلاص البشرية لأنها بشركتها مع نعمة الروح القدس استطاعت أن تكون شريكًا في سر التدبير الإلهى [18].

والعهد الجديد يوضح هذا الدور الهام للمرأة ومساهماتها في حقل الخدمة والكرازة. وهذا يتضح علي سبيل المثال من موقف الرسول بولس تجاه المرأة حيث يوجد سجل لأسماء عدد كبير من النساء في رسائله تلك اللواتي جاهدن وتعبن وخدمن وشاركن معه في نشر كلمة الإنجيل. وكان دورهن مكملاً لدور الرسل.

وفي رحلات الرسل الكرازية كانت الزوجات يجلن معهم كأخوات ” ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجه كباقي الرسل واخوة الرب وصفا ” (1كو5،4:9) وأيضًا كن حاضرات يوم الخمسين وامتلئن من الروح القدس. وكان الجميع بنفس واحدة مكرسين للصلاة والشركة ” وهؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة علي الصلاة والطلبة مع النساء ومريم أم يسوع وأخوته” (أع14:1).

والملاحظ أن الروح القدس حلّ علي النساء بنفس القوه وامتلئن منه واكتسبن مواهبه دون أن يثير هذا أية مفاجأة أو تساؤل من قِبل التلاميذ أو من الكنيسة عموما.

وبحلول الروح القدس بدأ العمل الكرازي وأنضم رجال كثيرين ونساء كثيرات للرب “وكان مؤمنون ينضمون للرب أكثر جماهير من رجال ونساء” (أع14:5)، وصارت المرأة شريكة للرجل في العمل والخدمة فقد دعيت للخدمة في مجالات مختلفة مثلها مثل الرجال تمامًا. وشركتها في العمل الليتورجى للكنيسة كان أمرًا هامًا جدًا، فلم ينحصر دورها فقط في العمل الإداري. بل كان لها عطائها وخدمتها في حقل العمل الروحي كخدمة لها ثمار متميزة.

وهكذا كانت رؤية المسيح للمرأة بمثابة النور الذي بدد كل أشكال التمييز العنصري بين الرجل والمرأة وأعاد لها مكانتها كعضو في جسد المسيح مثل الرجل تمامًا.

لقد قدمت المرأة الكثير في مجال الخدمة منذ أن بدأت الكنيسة الأولى نشاطها وتقلدت رتبة خادمه، كما أشار الرسول بولس في رسالته إلى أهل روميه ” أوصي إليكم بأختنا “فيبي” التي هي خادمه الكنيسة التي في كنخريا كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين وتقوموا لها في كل شيء احتاجته منكم لأنها صارت مساعده لكثيرين ولي أنا أيضًا “(رو1:16).

ويعلق القديس يوحنا ذهبي الفم علي هذا الجزء قائلا “هناك ثلاثة أمور هامة في هذا المقطع :

1ـ أن فيبي تحمل رتبة شماسة .

2ـ أنها ذكرت قبل الجميع.

3ـ أن الرسول بولس يطلب من المؤمنين أن يقبلوها بكرامة لائقة وأن يقدموا لها المساعدة في أي شيء تحتاج إليه، لأنها ساعدت كثيرين من بينهم الرسول بولس نفسه.

ثم يتساءل كيف تكون المدافعة عن الرسول بولس هي امرأة؟ يقول ذلك لأنها ظلت بالقرب منه عندما كان مسجونًا وكانت تعزيه في وثقه وتقدم له احتياجاته الضرورية ووقفت في وجه كثيرين من أعدائه وعرّضت نفسها للموت كي تنقذه من مواقف صعبه وذلك عندما اقتادوه ليحاكم أمام الولاة[19].

ثم يضيف القديس يوحنا ذهبي الفم قائلاً: [علي الرغم من أن الرسول بولس هو الإناء المختار من الله، ومن مواطني السماء، ومعلم المسكونة ألاّ أنه لا يتردد أن يمتدح امرأة وبشكل علني، هذه المرأة هي الشماسة فيبي، وهو يفعل ذلك لكي يبين للجميع ما هو المعيار الذي يجب أن يكون علي أساسه الحب والعطاء ][20].

وهكذا استطاعت الشماسات الخادمات أن تلعبن دورًا هامًا في مجال أعمال الرحمة ومحبة القريب وشكلوا هكذا جسرًا حيويًا بين الكنيسة والنساء المسيحيات.

وقد جاء العهد الجديد مليئا بنماذج لنساء قدمن الكثير في مجال الخدمة الكنسية والخدمة الاجتماعية فالمرأة صاحبة الفلسين قلبت بتقدمتها هذه كل موازين العطاء المقبول أمام الله واستطاعت أن تغير شكل وجوهر العطاء المسيحي، ولذلك صارت ذبيحة حقيقية كما يؤكد ذلك القداس الإلهي ” وكما قبلت إليك ذبيحة هابيل الصديق وأبينا إبراهيم وفلسي الأرملة “.

كذلك المرأة الكنعانية سمعت أقسى كلام من الرب وواجهت لعنة الكنعانيين والخلاف الطويل معهم، وبقيت ثابتة في إيمانها بشجاعة وأقدام وصبر والنتيجة أن الرب مدح إيمانها لتغير مسيرة تاريخ كل شعب كنعان (أنظر مت22:15ـ28).

السامرية أعطت نموذجًا متفردًا للتوبة، قادها أن تمارس كرازة وخدمه لشعبها وحققت وعدًا للرب وصارت ينبوعًا من خلال الكلمة الإلهية (أنظر يو27:4).

وكان للمرأة أيضًا إسهامات في مجال خدمة الفقراء والمحتاجين، ويعد أفضل مثال علي ذلك تلك الصبية، طابيثا، التي عبرت بأعمالها النقية عن المحبة التي توجد في قلوب المتضعين. وتحت تأثير هذه المحبة الكبيرة أعادها القديس بطرس للحياة مرة أخري لكي تستكمل عمل الخدمة التي أحبته (خدمه المحتاجين)، ” وكان في يافا تلميذه أسمها طابيثا الذي ترجمته غزاله.

هذه كانت ممتلئة أعمالا صالحه وإحسانات كانت تعملها وحدث في تلك الأيام أنها مرضت وماتت… فقام بطرس وجاء… فلما وصل صعدوا به إلى العلية فوقف لديه جميع الأرامل يبكين ويرين أقمصة وثيابًا مما كانت تعمل غزالة وهي معهن. فأخرج بطرس الجميع خارجًا وجثا علي ركبتيه وصلي ثم التفت إلى الجسد وقال يا طابيثا قومي. ففتحت عينيها ولما أبصرت بطرس جلست ” (أع36:9ـ41).

وشاركت المرأة فى تفسير كلمة الله أيضًا كما حدث مع أبولس الذي أخذته بريسكلا وأكيلا زوجها بالقرب منهما وعلّماه كلمة الله وطريق الله بكل تدقيق ” فلما سمعا أكيلا وبريسكلا أخذاه إليهما وشرحا له طريق الرب بأكثر تدقيق ” (أع26:18).

وساهمت المرأة بفاعليه في نشر الإنجيل. وقد شعر الرسول بولس بتقدير خاص نحو النساء اللائى تعبن معه وكان يرسل سلامه وبشكل متكرر لكل من جاهدن وشاركن معه في عمله الكرازي، بحس المسئولية الكاملة والإيمان الراسخ بهذا العمل الذي كُلفن به (أنظر رو12:16).

لكن أكبر محطة في المسيرة الروحية للمرأة والتي فاجأت الكنيسة بل فاجأت النُساك أنفسهم هي محطة النسك النسائي والتي جاوزت في بعض الحالات النساك أنفسهم. والمؤرخ ثيودوريتوس يسجل وهو في معرض كلامه عن الناسكتان “مارنا” و”كيرا” أن ” النساء جاهدن دون أن ينقصوا شيئا عن الرجال وربما بحماس وغيره روحيه اكثر منهم وهن يستحقون المدح الجزيل، لأنهن وأن كن أضعف بحسب الطبيعة من الرجال، لكن أظهرن نفس الحماس من جهة السلوك النُسكي تماما مثل الرجال “[21].

والحقيقة أن طلب النساء للحياة النسكية لم يتوقف عند حدود القرى والأرض الخصبة لكنهم تماما مثل الرجال ذهبوا إلي أعماق الصحراء دون خوف من قسوة الطبيعة ولا من وحشية هجمات من جانب إنسان أو شيطان. ويقول القديس غريغوريوس النيسّى وهو يتحدث عن حياة القديسة ماكرينا البارة: ” لا أعرف إن كانت طبيعتها النسائية تعطينا الحق أن ندعوها امرأة تلك التي هزمت طبيعتها الخاصة ” [22].

وكثير من أقوال أمهات البرية تؤكد علي أن المرأة كانت شديدة العزم وقويه وماثلت الرجل في سلوكه النسكي. قالت الأم سارة موجهه كلامها إلى بعض الرهبان ” أنا رجل وأنتم نساء، بحسب الجسد أنا امرأة، لكن ليس بحسب الفكر ” [23].

بل أنه في بعض الحالات كانت حياة الفضيلة والنسك التي عاشتها المرأة الناسكة تمثل نموذجًا يحتذي من قبل الرجال. وتشير قصة حياة لعازر الغاليسيوتس الذي عاش في جبل غاليسيا بالقرب من مدينة أفسس (في القرن الحادي عشر) أنه عندما علم بوجود ناسكة عامودية مارست النسك بأكثر غيرة وحماس منه، شعر بخجل أمام ذاته وقرر أن يحتذي بها[24].

وقد استحقت هذه المسيرة الروحية للمرأة كل تقدير واحترام من قبل آباء الكنيسة. فنجد الأب زوسيما القس يجثو علي ركبتيه ويسجد لآثار أقدام القديسة مريم القبطية بكل إجلال واحترام تقديرًا لمسيرتها النسكية وجهادها الروحي [25].

أن هذه الروح الساهرة التي للمرأة ورغبتها في الكمال الروحي ترجع كما يؤكد افدوكيموف إلى أن ” رسالة المرأة لا تنحصر في العمل الاجتماعي بل في العمل الإنساني وأن ساحة نشاطها ليست هي الحضارة التكنولوجية بل هي القيم الروحية ” [26].

ويؤكد البروفيسور تسامس : ” كان من السهل أن يري المرء ويبقي منذهلاً لهذه الحالة الملائكية لتلك النسوة القديسات وعفتهن وسهرهن الدائم والتمجيد الذي لا ينقطع والشكر لله والمحبة التي هي صنو الكمال “[27].

وقد كانت الرؤية العامة التى تشكّلت من قِبل آباء الكنيسة في فترة (القرنين الرابع والخامس) تميل إلى تشجيع طريق البتولية باعتباره طريق الملائكة. وكانت فكرة الكمال المسيحي توضع في علاقة وثيقة مع فكرة البتولية.

ويوجه القديس كبريانوس حديثه للعذارى فيصفهم بالآتي: [ زهور الحياة الكنسية، زينة العمل الروحي، طابع البهجة والسرور، الصورة الكاملة للمجد والكرامة، انعكاس للصورة الإلهية في القداسة، الجانب المشرق لرعية المسيح، حاملة ثمار المجد للكنيسة ][28].

وقد وضع القديس أثناسيوس الرسولي البتولية في أعلي الدرجات الروحية فيقول إن هناك طريقين للحياة 1ـ طريق الحياة العادية ويعني به طريق الزواج، 2ـ الطريق الآخر هو طريق الملائكة ويعني به طريق البتولية ويقول لو أن شخص اختار الطريق العالمي أي طريق الزواج لا يعني أنه مستحق للانتقاد، ولكنه لن يحصل علي مكاسب كثيرة، لكن لو أن شخص اختار الطريق الملائكي أي طريق البتولية سيحقق مكاسب فائقة لأنه أثمر الثمر الكامل.

وفي تحديده لمصطلح عذراء نجد القديس باسيليوس قد أعطي سموًا للبتولية باعتبار أنها تمثل حياة القداسة فيقول: [ تدعي عذراء تلك التي قدمت ذاتها للرب بإرادتها ورفضت الزواج وفضلت حياة القداسة ] [29].

ويؤكد العلامة أوريجينوس علي أن البتولية هي [عودة للحياة الفردوسية وعربون للحياة الأخروية تلك التي أعطت لها قيامة المسيح شكلها الفائق][30]. ولهذا السبب فإن كل من يحيا في البتولية يوجد في حالة توافق وانسجام مع ملكوت الله. ولذلك فإن نساء كثيرات من كل الطبقات الاجتماعية اختاروا طريق البتولية بتكريس كامل ومحبه تجاه الله والناس ويؤكد افدوكيموف علي أن [المرأة هي أكثر قدرة علي التلامس مع حياة القداسة بعمق وتواضع] [31].

وقد عبر القديس غريغوريوس اللاهوتي عن هذه القوه وإرادة الكمال النسكي عند المرأة في حديثه الوداعي لأخته غورغونيا قائلاً: [ يا من وأنت امرأة، قد كان لك غلبة وشجاعة الرجال في جهادك من أجل الخلاص، وبينما كان لك جسدًا مغايرًا عن أجساد الرجال فإن نفسك كانت مثل نفوسهم، وقد أزلت كل فوارق بين الذكر والأنثى ” [32].

هكذا استطاعت المرأة الناسكة أن تتجاوز طبيعتها وأن تدق أبواب الحياة الجديدة برؤية مستنيرة وإنكار كامل للذات ورغبه حقيقية في تخطي كل معوقات تعطل هذه المسيرة الروحية المفرحة. هذه الحياة الجديدة تتحدي وتصرخ ضد كل قوي الظلام، فهى ليست مجرد سلوكيات من الخارج ولا هي أطر أخلاقية تشكل حياة الإنسان، لكنها طبيعة جديده تتنافر مع الخطية وتفزع منها وتلفظها وتطردها إلي خارج. هذه هي الخليقة الجديدة في المسيح والتي استُكملت معالمها تحت مظلة الروح القدس وتوشحت بكمال نعمة الله.

إن مسيرة الحياة النسكية مليئة بنماذج نسائية عشن في فقر اختياري وزهد وحياه بسيطة جدًا، لكنها كانت مملوءة بالفرح وعطايا الروح وهبات السماء. من هذه النماذج نذكر بعض الشماسات اللائى عشن في نسك كامل وقدمن خدمات كثيرة وجزيلة للكنيسة :

1 ـ الشماسه بنداذيا (Pentad…a)

كانت زوجة لنبيل يدعي تيماسيوس، هذا الرجل أضُطهد من افتروبيوس ونفي إلي صحراء مصر ولكن زوجته التقية لم تتخل عنه، بل تبعته إلي النفي وعانت هي أيضًا من الاضطهادات، وفي إحدى المرات أرادت أن تتجنب القبض عليها فطلبت حصانة في إحدى كنائس القسطنطينية. وقد حاول افتروبيوس اختراق حصانة الكنيسة إلاّ أنه لاقي مقاومة شديدة من القديس يوحنا ذهبي الفم. وبعد إنقاذها رُسمت بنداذيا شماسة وكرّست نفسها لخدمة الكنيسة. وقد دعاها ذهبي الفم “المتعقلة “[33] ومن الواضح أنها كانت موضع ثقة كبيرة لديه.

يستطيع المرء أن يستنتج هذه النتيجة من الرسائل المتبادلة بينهما، حيث كل مرة كانت تشغلها مشكلة معينه كانت تنقلها إلي أبيها الروحي (القديس يوحنا ذهبي الفم) لكي يرشدها إلي الأمور الضرورية لحل هذه المشكلة. هذه الشماسة المباركة كانت تبدو علي الدوام غير مضطربة، لأنه بينما كان يُشهر بها، كانت تصبر علي التشهير بروح هادئة وتستقبل الشتائم والإهانات بسلام وشكر.

وقد دُعيت أيضًا بالنسر النازل من السماء لأنها بتحررها من الشهوات واجهت كل أمور الحياة بفاعلية ونشاط. ووُصفت أيضًا بالغيورة من أجل التقوى والثابتة في محبتها، وبالميناء الرحب، وبالسند، وبحائط الأمان[34]، وهي أوصاف تكشف عن خدمتها المتنوعة والعمل الذي قامت به هذه المرأة وقد قال ذهبي الفم في إحدى رسائله: [إن خدمه بنداذيا معروفه في كل المسكونة وأن هذه الخدمة قد أثرت حتى في أولئك الذين هم من خارج الكنيسة وجاءت بنتائج إيجابية] [35].

هذه الخدمة كانت لها علاقة بالكرازة والتبشير، حيث يؤكد القديس ذهبي الفم أن تقوي ووقار بنداذيا، كانت كبيره جدًا حتى أن أولئك الذين لم يكن لديهم أي رغبة في موضوعات خاصة بالإيمان، حولتهم إلي مؤمنين ] [36].

2 ـ الشماسة أمبروكلا (AmproÚkla)

كانت مسئولة عن عدد كبير من النساء لهن هدف مشترك هو اكتساب الفضائل. وجهادهن المستمر أتي بثمار كثيرة وكان القديس ذهبي الفم يرشدهن أن يضعن في اعتبارهن هجمات عدو الخير، لكن هذه الهجمات هي مثل الأمواج التي تصطدم بالصخور بقوة لكنها لا تستطيع أن تحرك هذه الصخور ولو جزء بسيط، بل هي التي تنحل سريعًا[37]. لقد طُوبت الشماسة أمبروكلا لآرائها الثابتة غير المتغيرة، لرؤيتها الثاقبة، لصراحتها، لمحبتها الكبيرة[38].

ويستحق الذكر أيضًا تلك الأوصاف الثلاثة التي تنسب إليها وهي (النافعة جدًا، التقية، السيدة الوقور) وهي أوصاف تعكس خدمة ونشاط أمبروكلا. وكانت باستمرار ترسل رسائل إلي القديس ذهبي الفم فى مكان نفيه وكانت هذه الرسائل تمثل عزاء له. ولأنها لم تكن من أصل يوناني فإنها كانت تلجأ إلي أشخاص معروفين لديها لكي يكتبوا لها هذه الرسائل[39].

3 ـ الشماسة أوليمبيا (Olumpi£da)

وهي من بين الشماسات التي أرسل لها القديس يوحنا ذهبي الفم 17 رسالة ومن خلال هذه الرسائل يستطيع المرء أن يعرف الكثير ليس فقط عن حياتها ولكن عن خدمتها ونشاطها وخدمة النساء الأخريات.

وهنا يجب أن نركز علي ثلاثة أمور :

الأمر الأول: هو الأوصاف النبيلة التي كان يوجهها ذهبي الفم إلي أوليمبيا وهي :

السيدة Dšspoina

المُحبة لله Qeofilšstath

الجزيلة الاحترام Aidesmètath

وهي ألقاب كانت تُعطي للأسقف [40].

الأمر الثاني: هي الألقاب الأخرى التي كان يعطيها لها مثل الوقورة، الغيورة، البارة، الطوباوية، المُلهمة من الله [41] وهذه الألقاب لم تكن تُقال على سبيل المدح فقط، لكنها كانت تعكس العمل الكبير والخدمة العظيمة التي كانت تقوم بها الشماسة أوليمبيا.

أوليمبيا هي أخت القديس أمفيلوخيوس أسقف أيقونية. وقد تيتمت في سن مبكرة وتولي رعايتها خالها بروكوبيوس الصديق الحميم للقديس غريغوريوس اللاهوتي. وكان القديس غريغوريوس اللاهوتي يقدرها جدًا لأجل فضائلها الكثيرة. وعندما تزوجت سنة386 من نفرديوس كتب قصيدة شعر بهذه المناسبة مكونة من 111 بيت. ولم يمر وقت طويل حتى توفي زوجها نفرديوس بعد عشرين شهرًا من زواجهما فترملت وهي في سن صغير. وقد كانت هذه فرصة للشماسة أوليمبيا أن تتكرس نفسًا وجسدًا لخدمة الكنيسة.

اختيارها لهذا الطريق كان سببًا في التشهير بها من قبل البعض عند الإمبراطور ثيودوسيوس، فقد قيل إنها تنفق ثروتها ببذخ شديد. فدعاها ثيودوسيوس لكي تدافع عن نفسها وقد حاول هو من جانبه أن يدفعها للزواج من شخص من حاشيته لكنه فشل في ذلك.

لهذا أمر أن توضع ثروتها تحت الحراسة حتى تبلغ سن الثلاثين كما كان متبع في ذلك الوقت وهو الوقت الذي يعتبر فيه أنها وصلت إلي النضج الكافي. لكن حكمة أوليمبيا جعلت ثيودوسيوس أن يرجع عن قراره وأن يرد لها إدارة أموالها مرة أخري. بعد هذا القرار بدأت أوليمبيا تتبرع بهذه الثروة، فقد قدمت جزءً كبيرًا لرئيس أساقفة القسطنطينية في ذلك الوقت نكتاريوس (318ـ387 ) وقد رُسمت شماسة في سن 30 سنة [42].

وبعد رسامتها أقامت دير علي نفقتها الخاصة ومباني أخري ملحقة بالدير. وبسرعة ظهر نشاط هذا الدير وبدأ ينضم إليه أعداد أخري حتى وصل عدد راهباته إلي 50 راهبة. وفي مده زمنية بسيطة صار رئة روحية لكل المنطقة الواقع بداخلها وملجأ ضيافة للكثيرين. واستطاعت بجهاداتها الكثيرة أن تكتسب أحشاء الرأفة والرحمة والحكمة والتواضع والصبر وضبط النفس والجسد.

وان كان لها أن ترتدي ملابس غالية بسبب ثروتها الكبيرة جدًا إلاّ أنها كانت بسيطة الملبس وذلك يرجع لحكمتها العظيمة ورؤيتها الروحية الثاقبة[43]. وقد وجد القديس ذهبي الفم في شخصها المرأة المحبة المشرقة والمرشدة المُلهمة بالروح والمعطية بسخاء. وقد ساهمت بعطائها هذا في تخفيف آلام كثيرين من فقراء القسطنطينية.

وقد كانت خدمتها ونشاطها متعدد الجوانب ومتسع جدًا. وكما فعل تلاميذ المسيح الذين أتوا بممتلكاتهم وأموالهم ووضعوها عند أقدام الرسل هكذا صنعت هي أيضا وقدمت كل أموالها وتبرعت بجزء كبير منه للقديس ذهبي الفم [44]. حتى عندما كان في النفي كانت ترسل له من أجل مساعدته فى القيام بعمله وخدمته.

هذا الأمر قد أشار إليه المؤرخ الكنسي سوزمين الذي قال [ عندما نفي يوحنا تلقي أموالاً كثيرة لكن أكثر هذه الأموال كان قد تلقاها من أوليمبيا الشماسة الغنية جدًا، لكي يستطيع أن يخدم المأسورين ويقدم أعمال الرحمة الواجبة للكثيرين] [45]. أيضا اهتمت جدًا بضيافة الغرباء ولم تتوقف لحظة عن أن تطعم الجوعي وتسقي العطشى وتكسي العرايا، وترعي المرضي وتقدم المحبة للجميع. وكان بيتها في البداية ثم بعد ذلك ديرها مفتوحًا لكل الناس.

وبسبب ذلك تمتع الكثيرون منهم بهذه المحبة الكبيرة[46]. وليس أدل علي ذلك من أن أبيها الروحي القديس ذهبي الفم كان يتلقى يوميا خدماتها وعطاياها وكل ما يحتاج إليه وكانت ترسل إلى الأسقفية التي بالقرب من ديرها الكثير من احتياجاتها.

اهتمت أيضا بتعليم النساء المسيحيات، فقد انضمت نساء كثيرات إليها وأقمن بالقرب منها لكي يجاهدن الجهاد المسيحي الحقيقي، وكمثال لذلك نذكر مارينا التي دُعيت بابنتها الروحية. وكان التأثير المباشر لهذا التعليم والذي قدمته تلك المرأة المُحبة لله هو ثلاث عذارى من أقاربها هم أليسانثيا، مارتيريا، وبلاديا اللائى رفضن أمور هذا العالم وانضموا إلي المدينة الملائكية[47]. وهكذا تجمع لديها بنعمة الله 250 عذراء. وكان لها أيضًا مساهمات في حل بعض المشاكل الكنسية بالاشتراك مع أساقفة وكهنة هذه الكنائس.

هذه نماذج قليلة من كثيرات قدمن أنفسهن لخدمة الكنيسة بإنكار ذات وجهاد نسكي عظيم ومحبة حقيقية لذاك الذي أحب حتى المنتهي. إن الحاجة ماسة اليوم لبث هذه الروح الخادمة الحاملة لكل القيم والفضائل والمثل العليا التي تتوافق مع أعماق الحياة المسيحية الداعية للحرية الباطنية التي تقود للتحرر من كل قيود الفساد والموت.

[1] Qeodwr»tou Kúrou, Ekkl. Istor…a G, 10, PG 82, 1101- 1104.

[2] Iw. CrusostÒmou, Per… Parqen…aj 4, PG 48, 535.

[3] Grhg. QeolÒgou, LÒgoj 37, 10, PG 36, 293B.C.

[4] Iw. CrusostÒmou, Per… Parqen…aj 10, PG 48, 540.

[5] Grhg. NÚssh, Per… Parqen…aj 14, PG 46, 377C.

8 إذ كان يلزم تحرير العبيد قبل إتمام زواجهن.

[7] Iw. CrusostÒmou, PG 48, 580.

[8] Súgkrisij Basilik»j Dunast…aj.. Proj MonacÒn, PG 47, 388.

[9] Kl»mhj Alexandršaj, PG 8-9,GCS 12, 15, 17, 39.

[10] D. G. Ts£mhj “MhterikÒn” tÒmoj A, Qessalon…kh, 1990, s. 14.

[11] Aristotšlouj, Politik£, 1260B 206, 1260A, 2-3.

[12] Sofoklšouj, A‹aj, 293.

[13] S. Agor…dhj “Or£mata Kai Pr£gmata” Aq»na, 1971, s. 290.

[14] O.P. s. 290-291.

[15] Joachim Jermias “Jerusalem in the Time of Jesus” p. 375-376.

[16] S. Agor…dhj “Or£mata Kai Pr£gmata” Aq»na, 1971, s. 292.

[17] Iw. CrusostÒmou, PG 51, 225-242.

[18] Eij Hsa‹an 1,5, PG 70, 204D.

[19] Iw. CrusostÒmou,4, PG 63, 489.

[20] Eij Rwm. Om. 30, 2, PG 60, 663.

[21] D. G. Ts£mhj “MhterikÒn” tÒmoj A, Qessalon…kh, 1990, s. 19.

[22] O.P.. s. 17.

[23] Apofqšgmata, S£rra 4, 6.

[24] /Anna LampropoÚlou “To Gunaike…o StulitismoÚ Sto Buz£nt…o” En Qeolog…a, 1990, s. 190-191.

[25] D. G. Ts£mhj “MhterikÒn” tÒmoj A, Qessalon…kh, 1990, s. 301.

[26] P£ulou EudokimÒf “H Guna…ka kai H Swthr…a Tou Kèsmou” Paris, 1958, p. 270.

[27] D. G. Ts£mhj “MhterikÒn” tÒmoj A, Qessalon…kh, 1990, s. 331.

[28] Johannes Quasten “Patrologia” Vol. XXV, 1975, p. 357.

[29] M. Bas…lioj, KanÒnej 18.

[30] Henry Grouzel « Virginite et Marriage Selon Origene », Paris, p. 25.

[31] P£ulou EudokimÒf “H Guna…ka kai H Swthr…a Tou Kèsmou” Paris, 1958, p. 329.

[32] Grhg. QeolÒgou, LÒgoj 8, 14, PG 35, 805B.

[33] Pentad…a DiakÒnwn, Epist. 104, 1, PG 52, 663-664.

[34] Pentad…a DiakÒnwn, Epist. 94, 1, PG 52, 657.

[35] Pentad…a DiakÒnwn, Epist. 185, 1, PG 52, 716.

[36] Pentad…a DiakÒnwn, Epist. 185, 1, PG 52, 716-717.

[37] AmproÚkla DiakÒnwn, Epist. 96, 1, PG 52, 659.

[38] AmproÚkla DiakÒnwn, Epist. 103, 1, PG 52, 661.

[39] AmproÚkla DiakÒnwn, Epist. 103, 1, PG 52, 662.

[40] Eij Olumpi£da, Epist. 1, 3, 5, 8, 11, PG 52, 555, 573, 597, 608.

[41] Eij Olumpi£da, Epist. 17, PG 52, 622.

[42] B…oj thj Os…aj Olumpi£doj, DiakÒnou SC 13, 420. Eij Olumpi£da, Epist. 2,4, 5, PG 52, 559-561.

[43] Eij Olumpi£da, Epist. 2, 6, 16, PG 52, 566, 600, 621.

[44] B…oj thj Os…aj Olumpi£doj, DiakÒnou SC 13, 420.

[45] Swzomšnou, Ekklh. Istor…a. 8, PG 67, 1585.

[46] Eij Olumpi£da, Epist. 2, PG 52, 567.

[47] B…oj thj Os…aj Olumpi£doj, DiakÒnou SC 13, 420.

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان

هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!

مكانة المرأة في الخدمة الكنسية والحياة النسكية – د. سعيد حكيم

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)