آبائياتأبحاث

النعمة والإنسان في فكر القديس أثناسيوس الرسولى د. وهيب قزمان بولس

النعمة والإنسان في فكر القديس أثناسيوس الرسولى د. وهيب قزمان بولس

النعمة والإنسان في فكر القديس أثناسيوس الرسولى د. وهيب قزمان بولس
النعمة والإنسان في فكر القديس أثناسيوس الرسولى د. وهيب قزمان بولس

النعمة والإنسان في فكر القديس أثناسيوس الرسولى [1] د. وهيب قزمان بولس

تظهر ” النعمة ” (c£rij) كمفهوم لاهوتى وروحى عند القديس أثناسيوس في كتابيه “الرسالة إلى الوثنيين ” و” تجسد الكلمة ” في تأكيده على تفضل الله بنعمته على الإنسان لكى يخفف من الفارق الكبير الذي يفصل بين الله الخالق من جهة والطبيعة المخلوقة من جهة أخرى. تلك “الطبيعة المخلوقة التى أتى بها الخالق من العدم إلى الوجود، حيث ينعم الله على الخليقة الفقيرة ” بالشركة في كلمة الله “ (toà LÒgou metalamb£nousa)[2]. ومثل هذه الشركة، إنما تعكس قدرة الله وصلاحه في حفظ الخليقة وضمان اتساقها واستمراريتها. من هنا فإن الفارق الطبيعى بين الله والخليقة يصبح محكومًا في الحقيقة بهذه الشركة التى تحوره وتضبطه لصالح الخليقة ذاتها.

وهذا التحوير لا تظهر مفاعيله وتتأكد بوضوح، إلاّ في بشريتنا دون سائر الخليقة، وفى هذا الإطار فإن القديس أثناسيوس يتناول الحديث عن الله الذي ميَّز الإنسان عن باقى الكائنات المخلوقة من العدم بمنحه ” نعمة إضافية ” (plšon ti carizÒmenoj aÙtoij) إذ خلقه على صورته وأعطاه نصيبًا في قوة كلمته [3].

ويوضح قديسنا أن “النعمة الإضافية” التى وهبها الله للبشرية عند خلقتها، والتى هى بمثابة شركة على مستوى متميز في الكلمة، تجعل البشر شركاء اللوغوس، “عاقلين”  (logikÒi)[4]. من هنا فإن البشر “المخلوقين من العدم” (t¦ dš ™x oÙk ×ntwn gegenÁsqai)[5] وإن كان الفارق الطبيعى بينهم وبين الله خالقهم، كان يمكن أن يساهم في عدم معرفتهم له، لكن الله يتحنن على البشرية ويمنحها أن تتجاوز هذا الفارق الطبيعى بنعمة الكلمة، بل وتستطيع أن تعرف الله، وأن ” تحيا حياة إلهية ” (tÕ kat¦ QeÕn zÁn) [6].

ولكن البشر في ضلالهم وتمردهم ” ازدروا بالنعمة التى نالوها ” (katoligwr»santej tÁj doqe…shj aÙto‹j c£ritoj) وتركوا الله كليةً [7]، ومن هنا أخذ الفارق الطبيعى الكبير بين الله الخالق والمخلوق يزداد، بل وأدى هذا الازدراء بالنعمة إلى ” الفساد الطبيعى ” (¹ kat¦ fÚsin fqor¦) [8]، وفقدان الإنسان لمعرفة الله. لذلك لاق ” بالكلمة ” الذي خلق البشرية على صورته، أن يتجسد ليجدد نعمة الخلقة بحسب الصورة الإلهية.

ودراسة رسائل قديسنا ضد الآريوسيين توضح كيف فهم القديس أثناسيوس تجديد صورة الله في الإنسان. فبينما نحن بالطبيعة ” أعمال ” الله و ” عبيد” الله الذي هو خالقنا وسيدنا قد أصبحنا ” أبناء ” الآب بالتبنى بتجسد الابن الوحيد الجنس، أى أن خالقنا قد أصبح أبانا بتجسد الابن الكلمة وصيرورته إنسانًا، إذ أخذنا أصل حياتنا من الله بتجسد ابنه الكلمة، وأصبح الله هو أصلنا [9].

ونحن إذ نتأمل تلك العلاقة الجديدة بين الله والإنسان من منظور إنسانى في إطار حياة النعمة، فإننا نستعين بكتابين أساسيين يبدو فيهما موضوع حياة النعمة متكاملاً هما: ” حياة أنطونيوس ” (The Life of Antony) و”الرسائل الفصحية ” (The Festal Letters).

 

سيرة الأنبا أنطونيوس

يقدم لنا القديس أثناسيوس في سيرة القديس أنطونيوس [10] نموذجًا مثاليًا لعمل النعمة في حياة الإنسان، أى للمسيحى المُفتدى. ومن هنا يمدنا القديس أنطونيوس بالنموذج العملى لمفهوم حياة النعمة، بالإضافة إلى الجانب اللاهوتى لحياة إنسان النعمة حتى يتكامل الجانب النظرى مع العملى المُعاش.

 

حياة النعمة والخلاص

يزعم الآريوسيين أن الابن مخلوق مثلنا، وأنه بإمكاننا أن ننمو في النعمة والقامة حتى نُكافأ ببنوة مساوية في المجد لذلك المجد الذي ناله المسيح مخلصهم الأرضى ورفيقهم في “الجهاد النُسكى ” على حد زعمهم [11]. بينما يؤكد تعليم القديس أثناسيوس عن النعمة والخلاص على عدم وجود أى تساوى بين المخلوقين وخالقهم الفادى غير المخلوق[12]. كما أن الفارق الآخر بين تعليم القديس أثناسيوس وهرطقة الآريوسيين يكمن في أن قديسنا لا يؤكد على عنصر الجهاد البشرى فقط لبلوغ الكمال، بل بالأحرى على الشركة مع المسيح والعون من الأعالى، إذ أن قداسة الأنبا أنطونيوس لم تتحقق بجهده الشخصى وحده بل بمؤازرة النعمة الإلهية [13].

إن قداسة أنطونيوس الناسك ليست نتيجة جهاده فقط [14]، لأن الله هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل من أجل المسرة… هكذا يفند القديس أثناسيوس مزاعم الآريوسيين حول تفسيراتهم لنجاح القديس أنطونيوس وأعماله النسكية فيكتب ” حياة أنطونيوس ” على ضوء مفاهيم الخلاص فيما قبل نيقية، وفيها يدحض الزعم الآريوسى بأن تبنى الله لنا إنما هو ثمرة للنمو في الفضيلة والجهاد [15]، ليفصل بين تعليمين عن الخلاص: تعليم آريوسى باطل وتعليم أرثوذكسى مستقيم [16].

القديس أثناسيوس واضح ومحدد في قوله إننا نحن الذين أصبحنا ” أبناء بالنعمة ” لسنا متساويين مع ذاك الذي هو ” ابن بالطبيعة “، لكن هذا الاختلاف أو عدم المساواة لابد أن نفهمها، في ضوء العلاقة الإيجابية بين الله والبشر من خلال الابن الكلمة المتجسد، على أساس أننا نستمد بنوتنا لله بالنعمة من خلال بنوته هو لله بالطبيعة، وذلك بتجسده[17]. وقد أسهب القديس أثناسيوس في الحديث عن النعمة الإلهية والجهاد البشرى في الرسائل الفصحية كما سنرى فيما يأتى:

 

الرسائل الفصحية

ففى الرسائل الرعوية التى اعتاد بطاركة الأسكندرية إرسالها إلى شعبهم بمناسبة عيد القيامة، وفى ضوء ” نعمة القيامة “ (¹ c£rij tÁj ¢nast£sewj) التى يوضحها القديس أثناسيوس عمليًا بمناسبة العيد، فإن الموضوع الرئيسى في هذه الرسائل هو حث الشعب على شكر الله على نعمته والاعتراف بفضله. ولهذا يحذر شعبه من ” الازدراء بالنعمة ” [18]، كما يحذرهم من الاقتداء بجحود البُرص الذين بعد شفائهم لم يرجعوا ليقدموا الشكر لله [19] اعترافًا بنعمة الشفاء التى نالوها، ” لأنه لا رجاء لغير الشاكرين.. الذين أهملوا النور الإلهى ” [20]، لهذا يجب علينا بالأحرى ” أن نقر بالنعمة موضوع العيد، مدركين هبات الله ” [21].

فلا ننسى أبدًا ” صنيع الله معنا ” [22]. لأن العيد ما هو إلاّ ” اعتراف بعمل الله معنا وتقديم الشكر له ” [23]، والإقرار والعرفان بهذه النعمة يجب أن يتمثل في فعل ملموس “سلوك يتجاوب مع هذه النعمة ” [24]، مع ” ممارسة الفضيلة ” [25]. تلك الممارسة التى ” تتميز قبل كل شئ بالجهاد ” [26]. بهذه الطريقة لا نكون قد أخذنا النعمة عبثًا [27]، بل سنكون مثل أولئك الذين امتدحهم الرب لأنهم تاجروا بالوزنات واستثمروا النعمة التى أخذوها [28].

هكذا نرى القديس أثناسيوس في هذه الرسائل الخاصة بالقيامة منشغلاً باستجابتنا الصحيحة لنعمة الله، وفى هذا الإطار نجده يرسم لشعبه الطريقة المثالية للاحتفال بالعيد في شكل نصائح وتحذيرات. لو تأملناها فإننا نؤصل علاقتنا بالله في إطار نعمته الفياضة من منظور وجودنا وحياتنا العملية وعبادتنا الليتورجية.

 

النعمة والجهاد في الرسائل الفصحية

لا شك أن الرسائل الفصحية تؤكد على مبادرة النعمة من جانب إلهنا المحب والفادى. ومن هنا كان الشكر منا واجبًا، ويُلزمنا جميعًا بالاستجابة لمبادرة الله. وفى الحقيقة فإن النعمة الإلهية تحتم علينا الاستجابة لها بشكل لائق، لهذا يقول قديسنا في إحدى رسائله الفصحية (3:3) [29]: [على إرادتنا أن تتوافق مع نعمة الله، وألاّ تتخلف عنها، لئلا وإرادتنا خاملة، تبدأ النعمة المعطاة لنا في الرحيل عنا، وإذ يجدنا العدو فارغين وعراة يدخل فينا].

فعمل نعمة الله فينا مرتبط بتجاوب إرادتنا، وإن لم تحدث هذه الاستجابة من جانبنا لصارت النعمة بلا منفعة لنا. ولكى نتجنب فقدان النعمة والوقوع في الجفاف الروحى، من الضرورى أن نكون ” ساهرين ومهتمين ” [30]. ولا يرى القديس أثناسيوس أن هناك فصلاً تامًا بين النعمة واستجابتنا لها، بل بالحرى يرى أن الاستجابة البشرية تنبع أساسًا من المبادرة الإلهية.

وعند القديس أثناسيوس فإن سر النعمة هو سر ” أخذ المسيح ما لنا ” بمعنى أن المسيح قد أعطانا الذي له كإله، حين أخذ الذي لنا كإنسان. ولهذا حين يقول إن استجابتنا للنعمة ليست منا أصلاً، يقصد أن يوجه أنظارنا إلى ما أخذه المسيح الإله منا حتى جعل ما ليس له خاصًا به، ووهب البشرية الحياة الإلهية التى ليست خاصة بها أصلاً. ونقرأ في الرسالة الفصحية (4:5) [31]: [يتطلب هذا الموسم منا.. أن نحاكى أعمال القديسين.. حين نعترف بالذى مات، وأننا لم نعد نحيا لأنفسنا، بل للمسيح الذي يحيا فينا، حين نرد الجميل للرب بأقصى قدرتنا، رغم أننا حين نقدم له شيئًا فإننا لا نعطيه مما نملك أصلاً، بل تلك الأشياء التى نلناها منه قبلاً، خاصة من نعمته، حتى أنه يطلب منا عطاياه الخاصة، وهو يشير إلى ذلك حين يقول: “قرابينى (التى تقدمونها لى) هى عطاياى الخاصة ” (عدد2:28س) أى أن تلك القرابين التى تقدمونها لى هى عطاياى لكم، على أساس أنكم تقبلتموها منى].

هنا يتحدث القديس أثناسيوس عن التواصل بين الله والإنسان، والإنسان والله، أو المبادلة بين ما لله وما للإنسان Reciprocity. فالذى لنا هو لنا، كما أنه ليس لنا في نفس الوقت، هو ليس لنا لأن الله هو الذي منحنا إياه، بينما هو لنا لأننا قد ” أخذناه ” فعلاً وصرنا نملكه والله يطلبه منا. نجد هنا إذن تواصلاً بين الله والبشر، هو تبادل في تصاعد مستمر: فالله يعطينا النعمة ويطالبنا أن نقدم له ثمارها، ومن ثمّ فإن الفضيلة والقداسة، يُفهمان على ضوء هذا التبادل المتصاعد، أى على أساس رد ما ” أخذناه ” كهبة من الله.

وفى هذا الإطار فإن جهاد الإنسان لتنفيذ الوصية والقيام بأعمال المحبة، هو ببساطة إقرار بنعمة الله، ويرتبط أساسًا بشركتنا في هذه المبادلة من حيث رد العطايا لله التى هى عطاياه الخاصة، ومن ثم فإن القديس أثناسيوس يشرح الجهاد بمفهوم التواصل مع الله وفقًا لنعمته[32]. وعلى العكس فإن إهمالنا وتراخينا وغياب الجهاد الحسن هو بمثابة ازدراء بالنعمة[33]، والإرادة البشرية هى التى تقرر الاختيار بين الالتصاق بالنعمة أو الابتعاد عنها[34].

وللقديس أثناسيوس نص فريد يصف فيه حياة الإنسان في العالم، ويُشبّه الإرادة البشرية بقلع المركب، التى تحركها الريح، المحرك لمركب حياته، إما إلى بر الأمان بالمسيح، أو إلى الهلاك بعيدًا عنه، فيقول في الرسالة الفصحية (7:19):[نحن نبحر في هذا البحر (أى العالم) بإرادتنا الحرة كما بواسطة الريح، لأن كل واحد يوجه مساره حسبما يريد: إما أن يكون تحت إرشاد الكلمة فيدخل إلى الراحة وينعم بالمسرة، أو أن تتحطم سفينته ويهلك في العاصف] [35].

هنا يرى القديس أثناسيوس توافقًا بين توجيه حياة الإنسان بإرادته وبين توجيهها بإرشاد الله الكلمة، ومنتهى التناغم والانسجام بين مشيئة الله وإرشاده من جهة وإرادة الإنسان ورغبته في تسيير سفينة حياته من جهة أخرى. فالإرادة الإنسانية تظل حرة في اختيار طريق المسرة والنجاة، وهى أيضًا تحت إرشاد وتوجيه نعمة الكلمة في نفس الوقت.

 

المؤازرة والاشتراك في العمل (السنرجيا)

إن مساندة النعمة الإلهية للإنسان، وتوافق الإرادة البشرية الحرة معها في العمل، استجابة لفعل الروح القدس في الإنسان، يُسميها الآباء المؤازرة والتوافق في العمل والاشتراك فيه (sunerg…a). ولهذا يقول الأب الكاهن في أوشية المسافرين: ” اشترك (يارب) في العمل مع عبيدك في كل عمل صالح “.

وتؤازر النعمة الإلهية الإنسان في سائر أعماله وأقواله، مثل “عمل الخير” (eÙpo…a)، إذ يوضح القديس أثناسيوس في تعليقه على قول المخلص ” كونوا رحماء، كما أن أباكم الذي في السموات هو رحيم ” (لو36:6)، إننا بعمل الرحمة وصنع الخير إنما نقتدى بالله، فيقول:

[نحن أيضًا نصير أبناء لله، ليس مثل الابن الحقيقى الوحيد الجنس بالطبيعة وبالحق، بل بحسب نعمة ذاك الذي دعانا.. وكما سُرّ الله الذي قد وهبنا هذه النعمة ؛ هكذا نحن أيضًا نصير رحماء مثل الله، لا بأن نصير مساوين لله، ولا بأن نصير فاعلى خير بالطبيعة وبالحقيقة مثل الله، لأن صنعنا الخير(eÙpo…a) ليس من أنفسنا بل من الله، لأننا ننقل كل ما يعطيه الله لنا بالنعمة إلى الآخرين دون تمييز بينهم، بل ببساطة نمتد بأعمال الخير إلى الجميع، لأننا بهذه الوسيلة وحدها نصير متمثلين بالله] [36].

كما يوضح القديس أثناسيوس اشتراك نعمة الله ومعونته معنا في الفكر والعمل إذ يقول:

[كيف يجب أن يصيروا فيما بينهم واحدًا في الفكر.. بواسطة قوة الآب والابن يصيرون واحدًا ويقولون ” قولاً واحدًا ” (1كو10:1)، لكن هذا غير ممكن بدون معونة الله، وهذا المعنى يمكننا أن نجده أيضًا في الكتب الإلهية مثل: “ بالله نصنع ببأس ” (مز12:60)، و” بك ندوس أعداءنا ” (مز5:44)] [37].

ويؤكد القديس أثناسيوس في تعليقه على رومية (18:15،19) أن أعمال القديس بولس لم يعملها وحده، بل هى أعمال المسيح أيضًا بواسطته:

[لقد قال بولس إن الأعمال التى عملها بقوة الروح هى أعمال المسيح أيضًا: ” لأنى لا أجسر أن أتكلم عن شئ مما لم يفعله المسيح بواسطتى.. بالقول والفعل بقوة آيات وعجائب بقوة الروح القدس ” (رو18:15،19)] [38].

بل إن أقوال الأنبياء والرسل وشهادتهم، هى بالشركة في الروح القدس أيضًا، وفى هذا يقول قديسنا:

[فحينما يقول القديسون: ” هكذا قال الرب ” (أنظر عا3:1)، فإنهم لا يتكلمون إلاّ بالروح القدس. وإذ يتكلمون بالروح القدس فهم يتكلمون بهذا في المسيح. وعندما يقول أغابوس في الأعمال ” هذا يقوله الروح القدس ” (أع11:21)، فليس هذا إلاّ بواسطة الكلمة الآتى إليه، يمنح الروح أغابوس أيضًا القوة ليتكلم ويشهد عن الأمور التى تنتظر بولس في أورشليم، وهكذا أيضًا حينما يشهد الروح لبولس فكما قلنا قبلاً، فالمسيح عينه كان هو المتكلم فيه] [39].

ولكى نرى هذا التآزر بين نعمة الله وبين الإنسان، هذه النعمة التى صارت لنا كهبة بتجسد الابن الوحيد، نذكر ما يراه القديس أثناسيوس عن النعمة الإلهية التى حدثت بالتجسد.

يرى القديس أثناسيوس في التجسد فعلاً خلاصيًا ذا شقين:

1 ـ أباد المسيح الموت، ووهبنا جدة الحياة.

2 ـ الاستعلان الشخصى للكلمة وأبيه من خلال أعمال المسيح بالجسد ” بإعلان نفسه وتعريف ذاته، أنه كلمة الآب مدبر الكون وضابطه ” [40].

ويمتد عمل المسيح وانتصاره على الموت بقيامته، في تلاميذه وكنيسته: في تلاميذه الذين لم يهابوا الموت، وفى كنيسته المقدسة التى تستمد قداستها كهبة من المسيح القائم[41]. بل إن القديس أثناسيوس يؤكد أن أعمال تلاميذ الرب وشجاعتهم أمام الموت، هى دليل أكيد على قيامة المسيح، لأن أعمال التلاميذ مستمدة أساسًا من أعمال المسيح وقدرته (™nšrgeia) [42].

[لأنه إن كان المخلص يعمل الآن أعمالاً عظيمة كهذه بين البشر، ولا يزال كل يوم بطريقة غير منظورة، يجتذب الجماهير العديدة من كل ناحية،.. ليقبلوا إيمانه، ويطيع الجميع تعاليمه، فهل لا يزال يوجد من يتطرق الشك إلى عقله في أن القيامة قد أتمها المخلص، أو أن المسيح حى، أو بالحرى أنه هو نفسه الحياة؟ وهل يُتاح لشخص ميت أن ينخس ضمائر البشر؟

ويصد الأحياء عن حركاتهم وأعمالهم: فيكف الزانى عن زناه، والقاتل عن القتل والظالم عن الظلم والاغتصاب، ويصبح الدنس متدينًا؟ هذا لا يمكن أن يكون عمل شخص ميت، بل عمل شخص حى، بل هو عمل الله.

فمن ذا الذي يستحق أن يُدعى ميتًا؟

هل المسيح الذي يتمم أعمالاً كثيرة كهذه، في حين أن الميت لا يعمل؟! أم هو ذاك الذي لا يبذل أى مجهود على الإطلاق؟ بل هو مُلقى عديم الحياة، الأمر الذي ينطبق على الأوثان.. لأنها ميتة حقًا؟! لأن ابن الله حى وفعَّال يعمل كل يوم ويتمم الخلاص للجميع] [43].

ويوضح النص السابق كيف كان تأكيد القديس أثناسيوس قويًا ومقنعًا فيما يخص عمل المسيح كفعل سابق على أعمال التلاميذ. وعلينا على هذا الأساس أن نفسر شركة المسيح في العمل مع القديس أنطونيوس (sunerg…a)، حيث انتصارات القديس أنطونيوس هى هى انتصارات المسيح فيه. [44] وهو نفس ما قاله القديس أنطونيوس في إحدى عظاته لتلاميذه من أن جهادهم ضد الشيطان يقودهم إلى استنتاج أن انتصار المسيح جعل الشيطان عاجزًا وعديم القدرة.

 

وهنا يظهر منطق الفكر الروحى عند الآباء أثناسيوس وأنطونيوس من أن فعل الله وعمله هو الذي أمَّنَ وحفظ عمل الإنسان في جهاده ضد الشياطين. فإن كان الشيطان منهزمًا أمامنا، فلأن المسيح هو الذي انتصر عليه أولاً، وبنصرة المسيح على الشيطان وغلبته على قواته، نلنا نحن القدرة على مواجهته والانتصار عليه. وهذا ما أكده القديس أنطونيوس في إرشاداته الرعوية لأبنائه الرهبان، إذ يقول:

[إن المسيح قد قيد الشيطان أمامنا كالعصفور المربوط في الفخ، لكى نهزأ به..، لذا لا يليق بنا أن نخاف من الشياطين لأن كل محاولاتها فاشلة بنعمة المسيح] [45].

هنا يقدم لنا القديس أثناسيوس روحانية القديس أنطونيوس، مؤكدًا على ثقته في المسيح وعدم خوفه من محاربات الشيطان. والأساس في هذا الفكر هو أن المعركة التى دارت رحاها بين المسيح وإبليس، قد انتهت بنصرة المسيح وفوزه على الشيطان:

[لأن الرب حل في وسطنا، وسقط الشيطان وأُبيدت قواته. ولهذا السبب، حتى وهو عاجز عن أن يفعل فينا شيئًا، فإنه كطاغية سقط من جبروته، لم يحتمل سقوطه بهدوء، بل إنه يهددنا، مع أن تهديداته ليست سوى كلمات. لأنه كذاب وأبو كل كذاب. فليحفظ كل واحد منكم هذا الأمر، وسوف يقوى على احتقار الشياطين] [46].

وإن كان القديس أنطونيوس يحث تلاميذه الرهبان على عدم الاكتراث بضربات الشيطان العقيمة العاجزة، فإن عليهم أن يثقوا لا في قدراتهم هم، بل في النصرة التى ربحوها فعلاً بواسطة الرب، وعلى تلميذ المسيح أن يزدرى بمقاومة الشيطان له، فتصير حربه معه في شجاعة وفرح وبلا خوف:

[إن كان إبليس قد اعترف بنفسه أن قوته قد تلاشت، فيجب أن نحتقره مع شياطينه احتقارًا تامًا.. لهذا يجب ألاّ نيأس في هذا الطريق، وألاّ نخاف، وألاّ نصور المخاوف لأنفسنا قائلين: أنا خائف أن يأتى الشيطان ويحطمنى..، أو أن يثور علىَّ بغتة ويزعجنى؟ إن مثل هذه الأفكار يجب ألاّ تخطر ببالنا أبدًا، ويجب ألاّ نحزن كأولئك الهالكين، بل بالحرى نتشجع ونتهلل فرحين على الدوام، كأناس قد نالوا الفداء، ولنفكر في نفوسنا أن الرب معنا، هذا الذي طرد الأرواح الشريرة وأبطل قدرتهم، فلنتذكر هذا، ونضع في قلوبنا دائمًا أنه مادام الرب معنا، فإن أعداءنا لن يستطيعوا إيذاءنا] [47].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] المرجع الرئيسى لهذا الموضوع رسالة دكتوراه:

Khaled Anatolios, Athanasius, The Coherence of his thought, London and New York, 1998, pp. 164-195.

[2]]Seeing that all created nature … is in a state of flux and dissolution … may be able to remain firm since it shares in the Word.[R. Thomson, Athanasius Contra Gentes and De Inccarnation, Oxford, 1971, p. 115 (P.G. 26:84A2- 14), الرسالة إلى الوثنيين41

[3]]God had special pity for the human race… he gave it an added grace… making them in his own image and giving them also a share in the power of his own Word.[Thomson, p.141 (P.G. 26:101B6-9), تجسد الكلمة 3.

]By the grace of the participation of the Word they could have escaped from the consequence of their nature.[Thomson p. 145 (P.G. 26:105A3, 4), تجسد الكلمة 5.

راجع د. وهيب قزمان: النعمة عند القديس أثناسيوس الرسولى، ج1، إصدار مركز دراسات الآباء بالقاهرة 1993، ص43ـ37.

[4] تجسد الكلمة 3: P.G. 26:101B12، المعروف أن اللوغوس كلمة يونانية تعنى نطق الله العاقل، أو عقل الله الناطق.

[5] تجسد الكلمة 11: P.G. 26:113D6.

[6]] Ð mšn g¦r QeÒj oÙ mÒnon ™x oÙk Ôntwn ¹m©j pepo…hken, ¢ll¦ kaˆ tÕ kat¦ qeÕn zÁn ¹m‹n ™carisato tÁ toà LÒgou c£riti[,]God granted us, by the grace of the Word to live a divine life[P.G. 26:104D1, R. Thomson p. 145: تجسد الكلمة 5.

[7]] But men, despised the grace which had been given them, and so turned away from God [, R. Thomson p. 161 (P.G. 26:116B6-8): تجسد الكلمة11.

الازدراء بالنعمة تعبير يتميز به القديس أثناسيوس، وهو يحذر شعبه من هذا الازدراء بالنعمة عدة مرات في رسائله الفصحية 3:3 و4:6 و9:7 وغيرها، ولكن بعض الكتاب الغربيين يترجمون هذا التعبير على أنه سقوط من النعمة، كما فعل خالد أناتوليوس في كتابه: Athanasius, The Coherence of his thought ص 17.

[8] تجسد الكلمة 5 P.G. 26:104D1:.

[9] [بينما أخذ الرب جسدًا من مريم والدة الإله، فإن الذي أعطى الآخرين أصل حياتهم قيل عنه هو نفسه إنه قد وُلد، ليصبح هو ذاته أصلنا (الجديد)، فلا نعود نرجع إلى الأرض بعد باعتبارنا مجرد تراب من الأرض، لكن إذ اتحدنا باللوغوس الذي من السماء، فإننا نُحمل إلى السموات بواسطته]. ضد الآريوسيين 33:3 راجع، د. وهيب قزمان: النعمة عند القديس أثناسيوس، جـ2، إصدار مركز دراسات الآباء بالقاهرة 1994، ص 142ـ145.

[10] إن نسبة ” حياة أنطونيوس ” للقديس أثناسيوس كانت محل شك وتساؤل، لكن الدارس للفكر اللاهوتى المتماسك والرصين في هذا العمل، ومدى تماثله مع بقية النصوص الأخرى الخاصة بالقديس أثناسيوس إنما يقتنع تمامًا بأن قديسنا هو مؤلف هذه السيرة.

Barnes, “Angel of light or mystic initiate? The problem of the life of Antony”, Journal of theological studies 37, 1986, pp.353 -68. Louth, “St. Athanasius and the Greek Life of Antony”, Journal of theological studies 39, 1988, pp.504-9.

[11] Gregg & Groh, Early Arianism – A view of Salvation, Philadelvia, 1981.

[12] المرجع السابق ص 147. راجع أيضًا د. وهيب قزمان: النعمة عند القديس أثناسيوس الرسولى ج2، إصدار مركز دراسات الآباء بالقاهرة 1994، ص 70ـ75.

[13] Early Arianism – A view of Salvation, p. 147.

[14] المرجع السابق ص 148.

[15] المرجع السابق ص 139.

[16] ويعلق د. خالد أناتوليوس على تحليل الباحثين Gregg & Groh. ويفند آراءهما بخصوص فكر الآريوسيين حول تماثل المسيح معنا وأنه ببساطة ” مثلنا “، أنظر كتابه ص169 Athanasius, The Coherence of his thought. المستقر أن الآريوسية هاجمت مساواة الابن بالآب من أجل تأكيدها على وحدانية الله المطلقة Monist Conception of God، أى تمجيد الآب وحده على حساب اللوغوس، الذي زعم الآريوسيون أنه مخلوق وغير مساوٍ للآب في الجوهر، أنظر: Stead, “Arius in modern research”, Journal of theological studies 45:1, April 1994, p.36.

[17] [هذه هى محبة الله للبشر أنه بالنسبة لأولئك الذين صنعهم قد صار لهم أبًا أيضًا بعد ذلك بحسب النعمة.. عندما حصل هؤلاء الناس على “روح ابنه في قلوبهم صارخًا: أبانا أيها الآب” (غل6:4).. لكى يحدث هذا فقد ” صار الكلمة جسدًا ” لكى يجعل الإنسان قادرًا على تقبل الألوهية] ضد الآريوسيين 59:2.

[18] الرسائل الفصحية 3:3، 9:7.

[19] الرسائل الفصحية 3:6.

[20] الرسائل الفصحية 4:3 ((NPNF vol.4, p. 514.

[21] الرسائل الفصحية 3:5.

[22] المرجع السابق.

[23] الرسائل الفصحية 3:7 ((NPNF Vol.4, p.524.

[24] الرسائل الفصحية 1:6.

[25] الرسائل الفصحية5:5 و 3:7.

[26] الرسائل الفصحية 1:7.

[27] الرسائل الفصحية 4:6.

[28] الرسائل الفصحية 5:6، وأنظر متى14:25ـ30.

 [29] NPNF Vol.4, p.513.

[30] المرجع السابق (3:3).

[31] NPNF Vol.4, p.518.

[32] الرسائل الفصحية 3:5 ,1:6.

[33] الرسائل الفصحية 3:3 ,4:6 و9:7.

[34] القديس أثناسيوس ليس باللاهوتى القدرى Predestinationist، ولا هو باللاهوتى الذي يعول بشكل أساسى على الإرادة البشرية في اكتساب النعمة ‎والحفاظ عليها، أنظر:

Gregg, Athanasius: The Life of Antony and the Letters to Marcellinus, New York, 1980, p.21.

[35] NPNF Vol.4, p.547.

[36] الرسالة الثالثة ضد الآريوسيين:19: راجع د. وهيب قزمان: النعمة عند القديس أثناسيوس الرسولى، ج2 ص 102ـ104.

[37] الرسالة الثالثة ضد الآريوسيين:21.

[38] رسائل الروح القدس 19:1.

[39] رسائل الروح القدس 31:1.

[40] تجسد الكلمة 16ـ Thomson p.172.

[41] قابل تجسد الكلمة 27،29 ـ Thomson pp.198-190.

[42] الرسالة إلى الوثنيين 1:30.

[43] تجسد الكلمة 30ـ31: ـ Thomson pp.208-11.

[44] حياة أنطونيوس 8.

[45] حياة أنطونيوس 24: Gregg, pp.49-50.

[46] حياة أنطونيوس 28: Gregg, p.52.

[47] حياة أنطونيوس 42: Gregg, pp.62-63.

 

النعمة والإنسان في فكر القديس أثناسيوس الرسولى د. وهيب قزمان بولس

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)