آبائياتمُترجَم

المعمودية وظهور الرب –  للقديس كيرلس الأسكندري

المعمودية وظهور الرب – للقديس كيرلس الأسكندري

المعمودية وظهور الرب -  للقديس كيرلس الأسكندري
المعمودية وظهور الرب –  للقديس كيرلس الأسكندري

المعمودية وظهور الرب –  للقديس كيرلس الأسكندري [*]

لو21:3ـ23 : ” وحدث أنه لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا ، وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة ، وكان صوت من السماء قائلاً : أنت ابني الحبيب بك سررت. ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة “.

هيا بنا أيضًا ، لكي نركز أذهاننا عن قصد على الكتب الإنجيلية ، وذلك لكي ننظر جمال الحق. تعالوا بنا ولنوجه عيون عقولنا الفاحصة المدققة نحو سر المسيح ، ولننظر بدهشة مهارة التدبير الإلهي العجيبة : فإننا بهذا سنري مجده. وعندما نعمل هذا فإنه يهبنا حياة لنفوسنا، كما أكد لنا هو نفسه حينما كان يتحدث إلى الآب السماوي بقوله ” هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ” (يو3:17).

إذن فكيف أُرسل ؟ وما هي طريقة مجيئه إلينا ؟ لأنه إذ هو بالطبيعة الله الذي يملأ الكل ، فكيف كما يقول المبارك يوحنا الإنجيلي ، ” إنه كان في العالم ” (يو10:1) ، وهو نفسه الرب ؟ وكيف أُرسل من الآب ، في حين أنه كإله هو خالق كل الأشياء وحافظها ؟ لأن الأشياء قد تأسست بواسطته.

إن الحكيم يوحنا الإنجيلي يعلمنا قائلاً : ” والكلمة صار جسدًا “. ولكن ربما يقول أحد “ماذا إذن ؟ هل كف عن أن يكون هو الكلمة؟ وهل تغير الجسد ؟ هل سقط من جلاله ؟ وهل جرى له تحول إلى شئ لم يكن عليه سابقًا ؟ “. إننا نقول ليس الأمر هكذا ، حاشا من ذلك. لأنه بالطبيعة غير قابل للتغير. لذلك فبقوله ” الكلمة صار جسدًا “(يو14:1) فإن الإنجيل يعنى أنه صار إنسانًا مثلنا.

لأننا نحن أنفسنا أيضًا كثيرًا ما ندعى جسدًا ، لأنه مكتوب ” ويبصر كل جسد خلاص الله ” (إش5:40س) ويعنى به أن كل إنسان سيبصر خلاص الله ، لذلك فبينما هو يحتفظ بما كان عليه بدون تغيير ، إلاّ أنه إذ صار في حالتنا فإنه أخذ شبهنا ، ولذلك يُقال أنه قد صار جسدًا.

أنظروه إذن كإنسان ، وهو يحتمل معنا الأمور التي تختص بحالة الإنسان ، أنظروه وهو يكمل كل بر ، لأجل خطة الخلاص. وهذا أنت تتعلمه مما يقوله الإنجيل : ” وحدث أنه لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا ، وصلى “. فهل كان هو أيضًا في احتياج إلى المعمودية المقدسة. وأية منفعة تحصّل له منها ؟ إن كلمة الله الوحيد هو قدوس من القدوس. وهكذا يدعونه السيرافيم في تسابيحهم ، وهكذا يدعوه الناموس في كل مكان ، ومحفل الأنبياء القديسين يتفقون في هذا مع كتابات موسى.

ما الذي نحصل عليه نحن من المعمودية المقدسة ؟ واضح أنه غفران خطايانا. ولكن يسوع لم يكن فيه شئ من الخطية ، ” لأنه لم يفعل خطية ولم يوجد في فمه غش ” (1بط22:2) كما يقول الكتاب. ” وهو قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات ” (عب26:7) بحسب كلمات بولس الإلهي.

ولكن ربما يقول أحد من غير المتدربين في الإيمان: “هل هو إذن كلمة الله الذي اعتمد؟. هل كان هو محتاجًا أن يصير مشتركًا في الروح القدس ؟ أبدًا بالمرة ـ لذلك فهذا هو ما نؤكده أن الإنسان الذي كان من نسل داود اتحد معه ” بالمصاحبة ” هو الذي اعتمد ونال الروح”[†].

إذن فأنتم قد قسمتم الغير منقسم إلى ابنين ، ولأنه اعتمد في سن الثلاثين سنة فقد صار مقدسًا بواسطة المعمودية كما تقولون. فهل هو إذن لم يكن مقدسًا إلى أن وصل إلى سن الثلاثين ؟ من الذي يوافقكم على هذا ، إذ أنتم تفسدون الإيمان المستقيم الذي بلا لوم ؟

لأنه يوجد ” رب واحد يسوع المسيح ” (1كو6:8) كما هو مكتوب ، ولكننا نؤكد هذا : أنه لم يكن منفصلاً عنه ، وكان هو نفسه حينما اعتمد وصار مشتركًا في الروح القدس، لأننا نعرف أنه الله ، وبلا عيب ، وقدوس من قدوس ، لأننا نعترف أننا ” من ملئه جميعًا أخذنا ” (يو16:1) لأن الروح القدس ينبثق حقًا من الله الآب ، ولكنه ” خاص بالابن أيضًا “. وكثيرًا ما يدعى ” روح المسيح ” ، رغم أنه منبثق من الآب.

وهذا ما يشهد له بولس قائلاً: “فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله ، أما أنتم فلستم في الجسد ، بل في الروح إن كان روح الله ساكنًا فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس للمسيح ” (رو8:8،9) وأيضًا يقول : “بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا أيها الآب أبانا ” (غل6:4) لذلك فالروح القدس ينبثق حقًا من الله الآب كما قلت ، ولكن كلمته الوحيد ، ” لكونه بالطبيعة هو الابن حقًا ” ، وهو يلمع بأمجاد الآب ، فإنه يعطيه (الروح القدس) للخليقة ، ويمنحه لأولئك الذين يستحقون. لذلك فقد كان حقًا ما قاله : ” كل ما للآب هو لي “.

ولكننا نرد على أولئك الذين لا يقبلون الإيمان الصحيح ، بهذا السؤال : ” كيف يستطيع ذاك الذي نال الروح ، ـ إن كان هو حسب قولكم ـ إنسانًا منفصلاً ومستقلاً بنفسه ، كيف يستطيع أن يُعمد بالروح القدس ويعطي الروح القدس للذين يعتمدون ؟ “. لأن القدرة مع غيرها من الصفات الأخرى هي خاصية مميزة لله القدير وحده. ولكن ذلك الذي أعطى الروح كان إنسانًا ، لأن يوحنا الحكيم يقول: ” يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي.

هو سيعمدكم بالروح القدس ونار ” (يو3:1،لو16:3) فكما أنه غير لائق بالله الكلمة، بصفته الله الكلمة أن يقترب من المعمودية المقدسة ويصير مشتركًا في الروح، هكذا بنفس الطريقة فإنه لا يُصدق إطلاقًا ، بل بالحري أنه من المستحيل أن نؤمن بأن القدرة على تعميد الناس بالروح القدس هي من عمل مجرد إنسان لا يزيد عنا في أي شئ.

كيف إذن يكون السر حقيقيًا ؟ إنه لأجل مساعدتنا اتخذ نوعًا من التكيّف. فالكلمة الإلهي صار إنسانًا ، كما يقول بولس الحكيم جدًا: ” الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله ، لكنه أخذ صورة عبد صائرًا في شبه الناس ” ، ووضع نفسه إلى الفقر. فابحثوا إذن ، من هو ذلك الذي كان أولاً في صورة الله الآب ، وهو في الحقيقة مساوٍ له ، ولكنه أخذ صورة عبد ، وحينئذ صار إنسانًا.

وإلى جانب ذلك جعل نفسه فقيرًا. هل هو الذي من نسل داود كما يجادلون ، الذي يعتبرونه منفصلاً بنفسه كابن آخر ، مختلفًا عن كلمة الله الآب ؟ إن كان كذلك فدعهم يبينون متى كان مساويًا للآب ؟ دعهم يبينون كيف اتخذ صورة عبد ؟ أو ماذا سنقول عن ماهية صورة العبد تلك ؟ وكيف أخلى نفسه ؟ فهل يوجد ما هو أفقر من الطبيعة البشرية ؟

لذلك فالذي هو صورة الله الآب وشبهه والتعبير لواضح عن شخصه ، والذي يشع ببهاء في مساواة معه ، والذي هو بالطبيعة حر ، ونير ملكوته موضوع على كل الخليقة ـ هذا هو نفسه الذي اتخذ صورة عبد ، أي صار إنسانًا ، وجعل نفسه فقيرًا إذ رضى أن يحتمل هذه الأمور البشرية ماعدا الخطية.

إنهم يعارضون قائلين : ولكن كيف اعتمد ونال الروح أيضًا ؟ فنجيبهم ، إنه لم يكن محتاجًا لـ المعمودية المقدسة إذ هو كلي النقاوة وبلا عيب ، وقدوس من قدوس. كما أنه لم يكن محتاجًا للروح القدس ، لأن الروح المنبثق من الآب ومساوٍ له في الجوهر. ولذلك يجب أن نستمع الآن إلى شرح التدبير أي خطة الله : إن الله في محبته للإنسان زودنا بطريق للخلاص والحياة.

لأننا بالإيمان بالآب والابن والروح القدس وباعترافنا بهذا الإقرار أمام شهود كثيرين ، فإننا نغسل كل وسخ الخطية ونغتني بالحصول على الروح القدس ” ونصير شركاء الطبيعة الإلهية ” (2بط4:1) ، وننال نعمة التبني. لقد كان ضروريًا إذن أن كلمة الآب حينما وضع نفسه إلى الإخلاء وتنازل ليتخذ شكلنا ، كان ضروريًا أن يصير من أجلنا نموذجًا وطريقًا لكل عمل صالح. فالذي هو الأول في كل شئ ينبغي أيضًا أن يضع نفسه مثالاً في هذا.

لذلك فلكي نعرف قوة المعمودية المقدسة نفسها والنعمة العظيمة التي نحصل عليها بالإقبال إليها، فإنه يبدأ هذا العمل (المعمودية) بنفسه ، وحينما اعتمد صلي لكي تتعلموا أنتم يا أحبائي أن ” الصلاة بلا انقطاع ”  هي أمر مناسب جدًا لأولئك الذين حُسبوا أهلاً لـ المعمودية المقدسة.

ويقول الإنجيلي أن السماء قد انفتحت كما لو كانت مغلقة طويلاً. وقد قال المسيح : “من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان” (يو51:1) لأن الجمهور الذي فوق والجمهور الذي تحت قد صار الآن واحدًا ، وصار رئيس رعاة واحد للكل ، والسماء قد انفتحت والإنسان على الأرض جُعل قريبًا من الملائكة القديسين.

والروح أيضًا نزل ، إذ ” كبداية ثانية لجنسنا ”  جاء على المسيح أولاً الذي ناله ليس لأجل نفسه ، بل لأجلنا ، لأننا بواسطته (المسيح) وفيه نغتنى بكل الأشياء. لذلك فإنه من المناسب جدًا لتدبير النعمة أن يحتمل معنا الأمور الخاصة بحالة الإنسان، وفي أي وضع آخر سنراه في إخلاء ، ذلك الذي بطبيعته الإلهية هو الملء نفسه؟، وكيف صار فقيرًا مثلنا إن لم يتطابق مع فقرنا ؟ وكيف أخلى نفسه إن كان يرفض أن يحمل مقاييس صغر الإنسان ؟.

لذلك ، فإذ قد اتخذنا المسيح كمثال لنا ، فلنقترب من نعمة المعمودية المقدسة ، لكيما نحصل على دالة الصلاة بلا انقطاع، ونرفع أيادي مقدسة إلى الله الآب ، لكي يفتح السماء علينا نحن أيضًا ، ويرسل علينا الروح القدس ، ولكي يقبلنا كأبناء. لأنه تحدث إلى المسيح في وقت المعمودية المقدسة، كما لو كان قد قبل الإنسان بواسطته وفيه البنوة قائلاً ” هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت “.

فالذي هو الابن بالطبيعة والحق ، وهو الوحيد الجنس ، فإنه حينما صار مثلنا أعلن خاصة أنه ابن الله ، لا كأنه ينال هذا لنفسه ـ لأنه كما قلت أنه كان ولا يزال دائمًا هو الإله الحقيقى ـ ولكن يعطى المجد لنا نحن ـ لأنه قد جُعل ” باكورتنا ” (¢parc¾)، “والبكر” (prwtÒtokoj)، “وآدم الثاني ”  ، ولهذا السبب كتب أن ” كل الأشياء قد صارت جديدة فيه ” (2كو15:5). لأننا إذ قد خلعنا القِدم الذي كان في آدم ، فقد حصلنا على الجدة التي في المسيح ، الذي به ومعه ، لله الآب المجد والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

[*] العظة (11) على تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الأسكندرى. وقام بالترجمة دكتور نصحى عبد الشهيد عن الإنجليزية من كتاب :

 Commentary on the Gospel of Saint Lucke by Saint Cyrill, Patriarch of Alexandria, U.S.A. 1983

[†] يُلاحظ هنا أن القديس كيرلس الأسكندرى يشير إلى تعاليم نسطور وأتباعه الذين أرادوا التمييز والفصل بين الطبيعتين الكاملتين المتحدتين فى المسيح بدون انفصال أو تغيير أو اختلاط ، لذلك كان يرفض عملية الاتحاد بين الطبيعتين واستخدم لذلك التعبير ” suv£feia ” والذى يعنى الاتصال أو المصاحبة ، ولذلك أراد (أى نسطور) أن يلقب العذراء مريم بأنها ” أم المسيح ” أو “أم الإنسان ” ، حيث كان يُعلِّم بأن العذراء مريم لم تلد الله بل ولدت الإنسان الذى حل فيه الكلمة ، وهنا نلاحظ فصل تام بين الطبيعتين.

المعمودية وظهور الرب – للقديس كيرلس الأسكندري

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)