إلحادمُترجَم

التركيب البلاغي في أصل الأنواع لداروين – جون أنجوس كامبل – جامعة ممفيس

التركيب البلاغي في أصل الأنواع لداروين – جون أنجوس كامبل – جامعة ممفيس

 
التركيب البلاغي في أصل الأنواع لداروين – جون أنجوس كامبل – جامعة ممفيس

 

واجه داروين تحدياً عميقا مُقْنِع في عمله الأساسي اصل الأنواع. وكما توضح مذكراته الشخصية (١٨٣٧–١٨٣٩) منذ المراحل المبكرة من بداية تنظيره فقد فكر داروين كثيراً وبشدة في مشكلة الإقناع. الأصل يمكن تجزئته إلي خمسة أجزاء: ١) توضح المقدمة كيف توصل إلي نظريته وتصوره لتركيبها، ٢) الفصول الأربعة الأولي تشرح عناصر نظريته: الإنتقاء و التنوع و التنافس والناتج تبنى بقاء الميزة الفضلي البقاء للأصلح و ٣) وفصل خامس يشرح الوراثة ٤) الفصول من ٦–١٣ تشكل كتلة الكتاب وهي ترد علي الإعتراضات وتؤكد حالة داروين في نفس الوقت و٥) الفصل الرابع عشر يلخص برهانه. مع تفاوت بسيط في الفصل الخامس فأن كتاب اصل الأنواع يتسق مع نسق الخمسة اجزاء للبلاغة الكلاسيكة مع ميل لوضع الحكم في حالة عقلية في صالح القضية. قصة لإعطاء الخلفية اللازمة عن القضية و تأكيد ورفض للإعتراضات مصمم علي وجه الخصوص لدعم فرضيات المرء وللرد علي معارضيه (ترتيب تلك العناصر في كونه متنوعاً ومتقاطعاً كما تتطلب الظروف) ثم خاتمة لتلخيص القضية والوصول للبرهان.

أم .ج.أس. هودج قد دفع بأن علي الرغم من أن النسق أوضح في كتاب داروين ١٨٤٢ سكتش و ١٨٤٤ مقالات – فإن الأول يعمل كمسودة لما أصبح بعد ذلك كتاب أصل الأنواع – رائعة داروين والتي تتبع العلاقة السببية المنشئة (وسنشير إليها هنا وفيما بعد ذلك بالحرفين VC ) المنطق الذي أسسه نيوتن واعاد تأكيده جون هيرسشيل في كتابه الخطاب التمهيدى (١٨٣٠). وطبقا لمبادى VC لتأسيس “قضية منطقية حقيقة”- وهذا ما تمنى داروين فعله مع الإنتقاء الطبيعي – فيجب علي المرء أن يوضح ثلاثة أشياء. وهي: ١) أن السبب يوجد مستقلاً عن الظاهرة التي نحن بصددها . ٢) أن السبب كفؤ أن ينتج الأثر. ٣) أن السبب مسؤل عن الأثر. وعلي الرغم من أن العناصر ليست مخططة بدقة فأن بإستطاعة المرء رؤية نسق VC في تقسيم الفصول في كتاب اصل الأنواع . فالفصل الأول ” التنوع تحت الظروف المحيطة ” يؤسس وجود الإنتقاء بصورة منفصلة عن الطبيعة في ممارسات المربى المنزلي. والفصل الثاني والثالث يؤسسان الإختلاف والصراع من أجل البقاء كنشاط طبيعي. والفصل الرابع بمساعدة مادة الوراثة في الفصل الخامس يدفع بأن السبب قادر علي انتاج أفرع معدلة من أصولها. وبقية الكتاب تدفع بأنه من الكثر معقولية قبول الإنتقاء الطبيعي علي انها السبب الحقيقى لتنوع الأنواع وإختلافها وتحولها عن النظرية المتواترة التي لا تقدم اى مادة ملائمة للتفسير.

وحتى كما يوضح هذا التخطيط المختصر فأن مهمة داروين ليست فقط إقناع القاريء بما نسميه نحن “التطور”. فقد أسمى داروين المفهوم “النسل المعدل” قد عرف منذ القدم ، وقد تم تبناه جده ايراسموس في كتابه زونوميا عالم الحيوان (١٧٩٤–٩٦) والعالم الفرنسي لامارك في كتابه الفلسفة الحيوانية (١٨٠٩) واشتهر للعامة جزئياً من خلال رفض شارلز ليلالز لهذا المبدأ في الجزء الثانى في كتابه مبادىء الجيولوجيا (١٨٣١–٣٣). ومعظم المثقفين في العصر الفيكتورى ( ويتضمنون فلورانس نيتينجل وأبراهام لينكولن ) عرفوا عن التطور ولكن ليس من خلال تلك المصادر الفنية انما من خلال اوجه التاريخ الطبيعي للخلق وهو كتاب مثير نشر عام ١٨٤٤ للناشر الاسكتلندى روبرت شامبرز لمؤلف مجهول إلا أن داروين علي إية حال لم يكن يدفع بأن الأنواع فقط تغيرت عبر الزمن بل أن الإنتقاء الطبيعي والإنتقاء الجنسي – بجرعات مختلفة من عوامل اخري مثل الوراثة للخصائص المكتسبة – قدمت تفسيراً علميا لكيفية حدوث هذا.

ومع التفكير في هذا مرتبطاً مع توقعاتنا العادية لما تعرضنا له من العلم فمن الجلي أن كتاب اصل الأنواع حتي في أفضل اجزائه (علي سبيل المثال منتصف الفصل الرابع ) هو بلاغي من وجهة ما أكثر من كونه حرفيا. بالنسبة للمبتدئين فأن الكتاب قد كتب بلغة عامية وبه تجريد في مناسبات متباعدة ولكنه غالباً مجازى وبالكاد يخلو من القيم. فلنفكر في العنوان فى اصل الأنواع عن طريق الإنتقاء الطبيعى او البقاء للجنس الأفضل في الصراع علي الحياة. المصطلح ذاته “إنتقاء” يوحي في حد ذاته ان الوعي هو تشخيص . “الأنواع الافضل” لها وقع غير لطيف علي الاذن قريب من وقع العنصرية علي الاذن المعاصرة . و”الصراع علي الحياة” لها وقع الحرب علي الاذن او رياضة تنافسية او كلاهما. ويجب ان يضع المرء نصب ذهنه أن في تلك الفترة في عصر داروين كان هناك قلة من العلماء المحترفين بالنسبة إلي مقاييس يومنا هذا فأن داروين نفسه يعتبر هاو وكلمة “عالم” في حد ذاتها قد قد نحتها معلم داروين في جامعة كامبريدج ويليام ويويل في عام ١٨٤٠ (فلسفة العلوم الإستدلالية الجزء الأول صفحة ١١٣)

ولا يمكن التأكيد بقوة علي ان خلفية كتاب اصل الأنواع هو اللاهوت الطبيعى – وهو الإعتقاد بأن الكون يفصح عن نوع من النظام الذى يتوقعه المرء من الإكتفاء الذاتى العقلى وليس المادى. وقد كان كتاب اصل الأنواع أول من إعتمد ذلك التقليد فى إفتتاحيته في نص لويليام ويويل (إتفاقية بريدجواتر ١٨٣٣ ) ونص آخر من فرانسيس باكون يحث فيه القراء علي أن يكونوا مُضْطَلِعِين في كلا من الكتاب المقدس والفلسفة. ونص آخر من بتلر (تحليل مقارن للدين ١٧٣٦) ويفرق فيه بين القانون الطبيعي وبين المعجزة علي أساس السرعة ومدى إنتظام معدل الحدوث. وهذا النص الأخير قد تمت إضافته الى الإصدار الثالث من كتاب اصل الأنواع كما أُضيفت أيضاً ملحوظة عن نشرة آسا جراي بعد جدول محتويات الكتاب والذى قام داروين بِدَعْمِهِ مادياً مُوَفِّقاً بذلك بين الإنتقاء الطبيعي واللاهوت الطبيعى. في تلك الأمثلة الأفتتاحية كما في الكتاب بأكمله يبذل داروين مجهوداً كبيراً للإقناع بأن الشرح عبر الأسباب “الثانوية” ليس بأقل ورعاً في البيولوجي عنه في الفيزياء أو الجيولوجيا أو الكيمياء.

ولكن كيف لداروين ان يضع بطريقة جيدة دعواه أن القانون الطبيعي يمكن أن ينتج “التنوعات” التى نربطها نحن بالعنصر الذكي؟ القديس أوغسطينوس الذي ليس خطيباً في حد ذاته قد لاحظ أن لا يوجد شخص يؤمن بشىء قبل أن يفكر فيه أولا علي أنه يُمْكِنُ الإيمان به. ومتال رائع علي هذا المبدأ تقدمه الفصول الأربعة الأولي في كتاب اصل الأنواع: ١) ” التنوع تحت الظروف المحيطة” ٢) التنوع تحت الطبيعية ٣) الصراع من أجل البقاء و ٤) الإنتقاء الطبيعى.” وتلك الفصول الأربعة تقدم درج سحري يقود من المألوف إلي اللامألوف من الذي لا نقاش فيه إلي الذى يقبل الجدل. والمفتاح النفسي لمجهود داروين المقنع هو أن يُمَكِّن قارئه ، قبل أن تبدأ الأجزاء الفنية حقيقةً في مسألته ، من أن يضع يديه علي إحتمال قبول وجهة نظره من خلال سلسلة من المعطيات المألوفة والغير قابلة للنقاش نسبياً. بينما كان يستطيع داروين تزيين الفصل الأول بالرسوم التوضيحية لنباتات وحيوانات غريبة، بالفعل فأنه يأخذ القارىء إلي مزرعة بريطانية. ويخلط الإحتفالات الغيورة بمهارة مربي الحيوانات والعاملين بالمشاتل مع اعطاء امثلة مفصلة عن أعمالهم فأن داروين يوضح أن الحيوانات والنباتات المحلية غالبا ما تنجرف بعيدا أو لايكون لها نظائر قريبة في الطبيعة. وهو يؤكد أن الفرق يعزى إلي مهارة هولاء المربيين ،والممارسة المنهاجية عبر الأجيال. وملاحظته أن ما قام أبناء وطنه والأوروبيين الآخرين بإعلائه كفن رفيع كانت تتم ممارسته بلا وعي من العصور الغابرة بواسطة “الهمج” والذين كانوا يفضلون افضل حيواناتهم ونباتاتهم بدون تفكير كثير وبذلك يكون داروين قد جعل نفسه فى الوضع المناسب لشرح كيف أن العمليات عديمة العقل يمكنها أن تنتج مُتَرَتِّبات قد تبدو أنها مصممة.

والفصل الثاني يدفع بأنه حتى ما اذا كان التهجين المحلي مبنى علي تنوع يحدث طبيعياً فأن التنوعات في الطبيعة بالمثل واسعة الإنتشار. ويلاحظ داروين أن إنتشار التنوع في الطبيعة واسع جداً لدرجة أن علماء تصنيف الأحياء فى أحيان كثيرة لايستطيعون التمييز بين إنتهاء نوع و بداية نوع جديد. و يدفع داروين مستخدماً مقارنة صناعية بـ حيث أن الفئة الأكبر تحتوى على أكثر الأنواع فيمكن إعتبارالفئة الكبيرة “مَصْنَعَاً” (ص ٥٦) للأنواع. ويغير أيضا معنى “النوعية” و “الصنف” عن طريق تعريف “الصنف” بأنه ” نوعية مُستدامة على نحو ما” وتعريف النوع بأنه “صنف بادىء” (صفحات من ٥١–٥٤).

والفصل الثالث “الصراع من أجل البقاء” يقدم تعرض داروين لمالثوس وهو واحد من أصعب أجزاء الكتاب إقناعاً. على نجاح داروين في أن يضع نظريته في ذخيرة القارىء التجريبية تعتمد امكانية جعل القارىء يقوم بالانتقال من رؤية الكائنات العضوية كنتاج عقل واعي مدبر الى رؤيتها كنتيجة لعمليات مادية غير موجهة. بعد استضافة العديد من الأمثلة المثيرة للأهتمام من الطبيعة والمحليات ينهى داروين فصله بسؤال القارىء أن يتخيل أى نوعية ستكون مطلوبة لمد نبات ماوراء نطاقه. وبعد التمرن علي عدد من المقترحات من الفصل يختتم داروين أن نتيجة تلك التجربة يجب أن تعلمنا عن مدى ضألة معلوماتنا عن التنوع والوراثة. واعتراف داروين بالجهل يمكن أن يقرأ بطريقة مساوية كتلخيص لنظريته. ومع الكم المعطي من أمثلة داروين وغض القول عن عَرْضِهِ الساحر ، فإن أى قارىء قد بدأ الفصل بدون أى فكرة عن كيفية نشأة الإبتكار البيولوجى ينتهي إلى توجيهات وافية.

والفصل الرابع ” الإنتقاء الطبيعي ” الذي اسماه داروين “حجر الأساس في معبدى” يطور المبدأ أن أى ما كان الأنسان قادر علي فعله فأن الطبيعة قادرة علي فعله بشكل أفضل. والفقرة المفتاحية وهي أكثر الفقرات زخرفة وشهرة في كتاب اصل الأنواع هي تشخيص داروين الشهير “الإنتقاء الطبيعي يتفحص العالم يومياً وكل ساعة في كل النوعيات حتى اقلها ويرفض تلك السيئة ويحافظ ويضيف علي كل ماهو جيد..” في هذا الوصف فأن الإنتقاء الطبيعي يمكن قراءته بطريقتين . أذا ما قرأ المرء تشخيصه علي انه مجازى بصورة محضه فأن المرء يمكنه أن يرى ان داروين يصف عملية غير موجهة تعتمد جزئياً علي التنوعات التى تحدث طبيعياً والتغيير في الظروف البيئية وقانون مالثوس للسكان والوراثة ووقت لاتخيلى. والقراءة الأخري فأن مجاز داروين يقترح كما فسره بعض القراء علي سبيل الخطأ ، قوة (يد ألهية) ترشد العملية بواسطة حكمة أكبر من البشر. وكيفما يقوم الشخص بقراءتها فأن المجاز المعقد يجمع سويا ما بين ما تعلمه القارىء من مربى الحيوانات الذى يعمل تحت الظروف المحلية وما عرف من القوانين الطبيعية . وفي فقرات عديدة فأن داروين يحاول أن يحول الإرتباط التقليدي للعلم باللاهوت الطبيعى لمصلحته الخاصة. وفي الفصل الخامس فإن داروين يصف الخلق الخاص بأنه يجعل “من اعمال الإله مجرد خداع وسخرية ” (ص.١٦٧) وفي الفصل الأخير فأنه يؤكد “أن هناك عظمة فى تلك الرؤية للحياة وقواتها المتعددة التى قد نُفِثَت أصلاً في عدد قليل من الصور أو في صورة واحدة…….” (ص ٤٩٠) وفي الطبعة الثالثة اضاف ” نُفِثَت بواسطة الخالق” وعلي الرغم من أن داروين يعترف بأنه “خضع” إلي ” لغة بلاغية موحية” في الجزء الخير بجانب ابتسامة قط تشيسشاير المترقب التى تحوم حول فقرة في مناسبات متفرقة فقد إختفت مسألة التصميم من عالم داروين.

وعلي الرغم من أن المجال يحول دون ايضاحات اكثر من هذا إلا أن العناصر الرئيسية لعريضة داروين المُقْنِعَة قد إتخذت مكانها مع نهاية الصفحات الإفتتاحية من الفصل الرابع لكتاب اصل الأنواع. في منتصف العمل حينما يصبح الآستمرار صعباً وايفاء لداروين بما يستحقه فإنه عمله يتضمن كل الإعتراضات التى أمْكَنَهُ التفكير بها – وتمييزاً فإن داروين يلجأ إلي امثلة مربى الحيوانات لإقناع قارئه أن العمل الذي يتطلبه الإنتقاء الطبيعي محتمل و ممكن أو جائز. ومع معطيات الإنجازات العظيمة للمُهَجِّنين – في خلال عد مئات من السنوات – وتخيل المجال اللامتناهي للطبيعة والوقت الخرافي الذي لديها – فإن داروين يحث قارئه مجدداً أن يفكر ماذا الذى إستحال على الطبيعة تحقيقه بمفردها؟ حسناً قبل نهاية كتاب اصل الأنواع فإن القراء إن لم يكن جميعهم ، فعلي الأقل بالنسبة للأقلية التى سوف تحمل إرث داروين – فأن السؤال لم يعد بعد بلاغياً.

———————

تعريف الكاتب:

جون انجوس كامبل هو استاذ مشارك في كلية الآداب بجامعة ممفيس. وقبيل تقاعده القريب كان أستاذ ومدير برنامج الباحثين بالدراسات العليا في إدارة الإتصالات. وهو الرئيس الأسبق ونائب الرئيس الثاني للإتحاد الأمريكى للبلاغة العلمية والتكنولوجية وهو واحد من مؤسسي البلاغة العلمية كدراسة اكاديمية فرعية. ومع ستيفين سى ماير فهو منقح مشارك ومؤلف لكتاب داروين و التصميم والتعليم الأمريكى العام التى نشرته مطبعة جامعة ولاية ميتشيجان. وقد كتب عدد كبير من المقالات وفصول من كتب عن استراتيجية وتركيب كتاب اصل الأنواع لداروين.