أبحاث

التوراة والنقد الحديث – القمص عبد المسيح بسيط

التوراة والنقد الحديث – القمص عبد المسيح بسيط

التوراة والنقد الحديث - القمص عبد المسيح بسيط
التوراة والنقد الحديث – القمص عبد المسيح بسيط

التوراة والنقد الحديث – القمص عبد المسيح بسيط

عن كتاب:  التوراة كيف كتبت وكيف وصلت إلينا؟ للقمص عبد المسيح بسيط

 

بدأت عملية نقد التوراة منذ القرون الأولى للمسيحية ولكنها كانت منصبة على آيات محددة أما النقد بصورته المادية الشاملة فقد أتخذ شكل كثيف فى القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديان. وقد أنصب معظم نقد علماء النقد الماديين على أسفار موسى الخمسة، التوراة، وركزوا عليها أكثر من بقية أسفار العهد القديم بكثير. للأسف فقد تأثر معظم هؤلاء النقاد بالفلسفات المادية الجدلية التى سادت القرنين 17،18م، مثل:

الحركة الإنسانية Humanism والمذهب التجريبى Empiricism والفلسفة الوضعية Positivism والتى تهتم، جميعاً بالإنسان وتضعه فى مركز الكون وتهتم بالتجربة والظواهر والوقائع اليقينية وترفض الإيمان وتهمل كل تفكير تجريدى فى الوقائع المطلقة، كما تحدت الدين واتخذت موقف عدائى من الوحى الإلهى، بدرجات متفاوتة، وأنكرت الغيبيات والإلهيات، ومن ثم تحول هؤلاء النقاد إلى هدامين للكتاب المقدس.

1- جذور النقد :

ناقش الربيون اليهود، منذ القدم، كيفية كتابة التوراة، واجمعوا على وحيها الإلهى وكتابة موسى النبى لها، ولكن مسألة “موت موسى” المذكورة فى آخر سفر التثنية(1) كانت موضع نقاشهم، فكان بعضهم يرى أن موسى كتبها بالوحى قبل موته، بروح النبوة، وكان البعض الآخر يرى أن يشوع هو الذى كتبها بعد موت موسى. ثم جاء اسحق بن ياسوس من توليدوا (1057م) وقال أن قائمة الملوك المذكورة فى سفر التكوين(2) كتبت فى عصر يهوشافاط وليس فى عصر موسى.

وعلق أبرا هام ابن عزرا (1167م) على تثنية 1:1 والتى تقول أن موسى تكلم إلى بنى إسرائيل “فى عبر الأردن”، ثم أشار إلى مجموعة آيات أخرى فى أسفار موسى الخمسة(3) وقال أنها كتبت بعد عصر موسى. وجاء اسحق ابرابانيل (1509م) بنظرية تقول أن الكتب بشكلها الحالى قد جمعت فى عصر متأخر من سجلات أقدم كانت محفوظة.

وهذه كانت مجرد أراء فردية لعدد يعد على أصابع اليد الواحدة وتخالف التقليد والإجماع المسيحى اليهودى كما تخالف البرهان الداخلى للكتاب المقدس. وذلك على الرغم من أن هؤلاء النقاد لم يشكوا فى موسوية التوراة بل أفترض بعضهم أن مدارس الأنبياء المتأخرة أضافت بعض العبارات التوضيحية، بين قوسين، وأفترض بعصا آخر أن نصوص التوراة جمعت من سجلاتها القديمة التى كانت محفوظة فيها وكتبت فى شكلها الحالى دون أى تغيير أو تبديل.

وقبلت الكنيسة المسيحية التوراة وبقية أسفار العهد القديم بناء على شهادة السيد المسيح وتلاميذه ورسله لوحيها وقانونيتها وصحة وسلامة نصوصها، مؤكدة  على أن موسى النبى هو كاتب الأسفار الخمسة الأولى، التوراة، بوحى الروح القدس(4) وكذلك كتب الأنبياء الملهمين بقية أسفار العهد القديم. وسارت الكنيسة على هذا الأساس طوال القرون الأولى للميلاد ولم يخرج عن ذلك سوى بعض الهراطقة من شيعة الناصريين والأبيونيين الذين رأوا فى النصوص التى تقول بموت موسى دليلاً على أن موسى لم يكتب أجزاء أو كل التوراة.

وعلق القديس جيروم (400م) على بعض العبارات التى يتخذ البعض منها دليلاً على أن كاتب التوراة ليس هو موسى مثل عبارة “حتى اليوم(5)” المتكررة فى الأسفار الخمسة، قائلاً : يجب أن تأخذ هذه العبارة بكل تأكيد على أنها تشير إلى الزمن الذى كلمت فيه سواء كان كاتبها هو موسى كاتب التوراة الأصلى أو عزرا الكاتب الذى أستعاد التوراة ونقحها، كما كان يؤمن بذلك.

2- حركة التنوير الفلسفية (ق17،18م) ونقد التوراة :

تأثرت عملية نقد التوراة، خاصة فى القرنين 17،18م، كثيراً ببداية تطور علوم الإنسان فى هذين القرنين. فقد بدأت الفلسفة الحديثة مع ديكارت فى فرنسا ونهض المذهب التجريبى فتى بريطانيا ووضعت الحركة التنويرية الكائن البشرى مركزا لكل شئ، أى كانت محاولة إنسانية لفهم هذا العالم من وجهات نظر ترفض الإيمان وتؤكد على قوية الإنسان وقدرته على تحقيق الذات عن طريق العقل.

وكذلك الوضعية التى تهمل كل تفكير تجريدى فى الوقائع المطلقة (فلسفة كنت)، والتى تحت الدين المعلن وما وراء الطبيعة وأيدت ديانة العقل. وأتجه اتباع حركة التنوير إلى افتراض أن القترة الحالية، من الزمن، نسخت فترات الماضى البربرية للجنس البشرى واعتبروا أن كل الشعوب والتواريخ الماضية أقل من العصر الحالى. ومعنى هذا أن أسفار الكتاب المقدس جاءت فى عصور بربرية متخلفة وأنها بدائية متخلفة لا ترقى، من وجهة نظرهم، إلى مستوى الحضارة المعاصرة لهم. ولكن الكشوف الأثرية قلبت أفكار هؤلاء رأسا على عقب.

واتخذت هذه الفلسفات موقف عدائى من الكتاب المقدس، بدرجات متفاوتة، وحاول كثيرون من النقاد المتأثرين بهذه الفلسفات دراسة التوراة من وجهات نظرهم الفلسفية وبحسب روح ذلك العصر. وإن كان بعضهم لم ينكر أن موسى كتب أجزاء محددة من التوراة تؤكد عليها التوراة ذاتها. وأعتقد البعض الآخر أن التوراة كتبت كتاريخ يحكى عن موسى وأنكر سبينوزا Spinoza (1632-1677م)، والذى انطلق بمثالية ديكارت إلى نهايتها المنطقية، كتابة موسى للتوراة فى كتابه “مقالة فى السياسة والدين” وقال أن عزرا هو الذى كتبها مستخدما مواد أقدم ما جاء بعضها من موسى ذاته.

ثم جاء بعده كثيرون تنوعت أفكارهم وتحديداتهم للتاريخ الذى ظن كل واحد منهم أن التوراة كتبت فيه.

3- تطور النظريات النقدية :

وقد تطورت النظريات والافتراضات النقدية بعد ذلك واتخذت أبعاداً عديدة ومختلفة وافترضت افتراضات نظرية عديدة مجردة.

أ- افتراض المصادر القديمة :

أفترض فيترجا C. Vitringa (1689م) أن موسى استخدم مصادر اقدم منه قد يكون بعضها جاءه من إبراهيم الذى أتى به بدوره من ما بين النهرين (العراق). ولاحظ سيمون  R. Simon (1682م) تنوعا فى أسلوب التوراة وافترض تاريخا متأخراً للتوراة.

وقال ويتر H. B. Witter (1711م) أن سبب الازدواج فى قصة الخليقة يرجع إلى استخدام اسمين مختلفين لله فى التوراة، هما الوهيم ويهوه. وهذا الافتراض اتخذه طبيب البلاط الفرنسى الكيميائى جين استروك Jean Astiuc (1753م) كمعيار للتمييز بين مصدرين (أ،ب)، وقسم أستروك المصادر إلى الوهيمى ويهوى، ثم أفترض أيضا مصادر أخرى إلى جانب هذين المصدرين وقال أن موسى استخدمها فى كتابته للتوراة، وأفترض أن موسى رتب هذه المصادر فى أعمدة منظمة ثم اختلطت هذه الأعمدة ونشأ الشكل الحالى للنص.

وبرغم اعتقاده أن موسى هو كاتب التوراة إلا أنه لم يفهم طبيعة أدب الشرق الأدنى القديم. فقد كتب موسى التوراة بالوحى، مسوقا من الروح القدس، ولكنه أستخدم أسلوب عصره فى الكتابة. وهذا ما لم يفهمه جيداً أصحاب افتراضات المصادر المتعددة لقلة درايتهم، وقتئذ، بأدب وفكر الشرق الأدنى القديم، خاصة وأن معظمهم من الغرب.

ب- افتراض الجزيئات أو المصادر غير الكاملة:

تأثر النقاد بافتراضات أستروك، بالرغم من أنه تحدث فقط عن سفر التكوين وتوقف بعد خروج ص6، وأضافوا إلى افتراضاته وعدلوها. ثم افترض القس الاسكتلندى اليكسندر جدس Geddes (92-1797م) عدد كبير جدا من الجزيئات أو المصادر غير الكاملة، وزعم أن أسفار موسى الخمسة مع سفر يشوع كتبت بعد موسى، ربما فى أورشليم، ولكن ليس قبل داود ولا بعد حزقيا، ورجح إنها كتبت أيام سليمان الحكيم من هذه المصادر الكثيرة.

ثم أدخل هذه الافتراضات إلى ألمانيا فاتير J. Vater (1802-1805م) وأثر عمله هذا فى دى ويت De Wette  (1806-1807م) الذى تخيل أن هناك وثيقة الوهيمية جوهرية فى سفر التكوين امتدت بإضافة مصادر أخرى عليها غير كاملة. هذه الوثيقة الجوهرية استمرت وسط الأسفار الخمسة “ملحمة الثيؤقراطية العبرية” وأدخلت عليها مجموعات القوانين وغيرها فى زمن متأخر.

جـ- افتراضات التكميل :

دعيت هكذا لأنها تفترض أن عدة وثائق ألحقت بوثيقة رئيسية وقد اتبعها مجموعة من العلماء وعدلوها وأضافوا إليها فصارت المحصلة الرئيسية لهذه المصادر هى : الوهيم، يهوه، التثنية، الكهنوت. ورموزها هى E. J. D. P.  وملحقاتها من الوثائق الأخرى الصغيرة.

4- تطور الافتراضات :

زعم بعض النقاد أن ديانة إسرائيل قد تطورت تدريجيا وأن شريعة اللاويين كتبت بعد السبى، بعد أن تطورت وتأثرت بالحياة فى بابل. فقد تأثر رواد هذه النظرية إلى حد بعيد بفلسفة هيجل للتاريخ بأنماطها الفرضية والتضادية والتركيبية. فجاء ولهازون  Walhausen (1885م) بنظرية تطور التاريخ الدينى لإسرائيل متبعا فى ذلك النمط الهيجلى، وأفترض مراحل تاريخ إسرائيل الدينى كالآتى :

 فرضية Thesis  : أفترض أن المصدرين يهوه الوهيم يتفقان مع فترة الاستقرار الملكية فى عصر شاول وداود وسليمان فكانت توجد مقادس محلية كثيرة كانت تقدم عليها الذبائح بواسطة الكهنة.

 تضادية Antithesis : وهى المرحلة التالية، وزعم أن الأنبياء أثناء هذه المرحلة التضادية هاجموا مؤسسة المقدس والذبيحة لأنهما كانا عقبة فى طريق الدين الأخلاقى الصحيح.

 تأليفية Synthesis : أى تأليف الوظائف الطقسية والنبوية.

فقد اقتضت شريعة ناموس التثنية قبل السبى تركيز العبادة القومية فى مقدس واحد فقط، حسب زعمه، فقد كان على الكهنة اللاويين الذين خدموا المقادس المحلية أن ينضموا إلى جماعة المقدس المركزى.

عملت شريعة الناموس الكهنوتية، بعد السبى، تنظيمات طقسية متطورة للمقدس المركزى الواحد. وقد أنحصر الكهنوت فى عائلة هرون.

وقد أثبتت الأبحاث والاكتشافات الأثرية، خاصة بعد أن حلت رموز نصوص اللغة الأوغاريتية منذ سنة 1929 م فصاعدا، أن هذه النظرية وغيرها من نظريات وافتراضات المصادر قد بنيت على أساس نظرى لا أساس له من الصحة. وقد حدثت ثورة ألقت بهذه النظرية وغيرها وأثبتت بطلانها بأدلة كثيرة جدا ظهرت ومازالت تظهر، فقد جاءت دراسات هذه الأبحاث والاكتشافات الأثرية بمعلومات غنية جداً عن الحياة والدين والعقيدة فى كنعان حطمت بناء ولهازون لما ظن انه تاريخ إسرائيل الدينى.

5- النقد التاريخى التقليدى :

رفض العديد من النقاد نظرية ولهازون فى حينها، واتجه علماء النقد من سنة 1880 إلى 1925م إلى العودة إلى التاريخ القديم للتوراة، وهاجم بعضهم النظريات التطورية وأكدوا على أن موسى النبى هو كاتب التوراة ودافعوا عن وحدة التوراة، وقالت مدرسة أوبسالا Uppsala (1945م) والتى تأسست فى اسكندنافيا ببطلان هذه النظريات والافتراضات خاصة وأنه لا أثر لها فى التوراة.

6- المدرسة المحافظة :

بدأ علماء المدرسة المحافظة فى بداية القرن 19م يثبتون ويؤكدون بطرق متنوعة صحة كتابة موسى للتوراة، فكل كلمة سواء كانت شفوية أو مكتوبة جاءت من موسى نفسه. وركزوا على التقليد الكتابى الذى يؤكد ذلك فهناك نصوص عديدة تؤكد بشكل حاسم أن موسى هو كاتب التوراة(6)، كما تؤكد نصوص أخرى أيضا على أن موسى نشر شفويا ما كتبه(7).

فقد كان موسى موهوبا جدا وذا علم وثقافة وإلمام واسع بحضارات ولغات عصره (خاصة المصرية والآراميون والعبرية) فقد تعلم بكل فنون وحكمة المصريين إلى جانب المدة التى قضاها فى البرية فى سيناء قبل دعوته والمدة الطويلة التى قضاها كنبى يتكلم مع الله فما لفم وكقائد ومشرع للشعب. كان موسى يكتب ألوان كثيرة من الأدب كالشعر والتاريخ والتشريع والروايات النثرية.

وأكد العلماء على وحدة التوراة ومصداقيتها وأثبتوا أن الكتب التالية للتوراة، الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى تبرهن على أن كاتب التوراة هو موسى وان الناموس جاء إلى الوجود، توا، على يد موسى.

وقدموا حلولاً قديرة لكل ما أثير حول التوراة دون اللجوء إلى النظريات والافتراضات التى تشق الحق الإلهى والتاريخى للأسفار المقدسة. ودافعوا عن التوراة بحماس وغيرة مستخدمين براهين داخلية وخارجية قاطعة وقد ساعدهم فى ذلك ما كشفت عنه الاكتشافات الأثرية التى ألقت الضوء على حضارات الشرق الأدنى القديم فكشفت عن جو وبيئة وزمن الأسفار المقدسة.

وأدركوا أن كتابة الأسفار موحى بها والعلاقة بين الكتاب والكتب التى دونوا فيها كلمة الله الموحى بها لا تأخذ بالأسلوب الذى أتبعه النقاد الماديين، وإنما تحتاج إلى فهم أسلوب وأشكال الشرق الأدنى القديم فى الكتابة وعمل الكتب. وقد حدث تقدم منذ عام 1960م فى فهم كيفية كتابة الأسفار المقدسة إذ بينت دراسات الشرق الأدنى القديم كيف كانت تكتب وتوضع معا. كما تحتاج إلى دراسة التقليد سواء المكتوب أو الشفوي. وأدركوا أن سلطان الكتاب المقدس تحدده براهينه ومقولاته الداخلية والخارجية.

ووصل العلماء، أيضا، إلى تقييم نهائي حاسم، وهو أن كل كتب العهد القديم وإيمان بنى إسرائيل وإيمان الكنيسة المسيحية المبنى على شهادة السيد المسيح ورسله تشهد على صحة التوراة وتعطيها قانونيتها. وأكدوا على أن من يستخدم الطرق النقدية الحديثة يجب أن يضع فى الاعتبار الكمال اللاهوتى والتاريخى للنص المقدس إذ أن التوراة هى وثيقة لاهوتية تاريخية.

7- دراسات الشرق الأدنى القديم والتوراة:

تطورت أنماط كثيرة للنقد الكتابى خلال القرن العشرين وبدأت الافتراضات النظرية فى الاختفاء إذ رفضها عدد كبير من الذين كانوا موالين لها وعاد للتقليد القديم اعتباره ووضعت فيه الثقة الكاملة، كما اجمع العديد من النقاد على وحدة التوراة الموضوعية.

وبظهور نتائج دراسات الاكتشافات الأثرية الحديثة تحطمت افتراضات ونظريات النقاد الماديين خاصة القول بأن التوراة تدعو إلى عالم غير موجود. وبقدوم 1930م وضح للجميع أن التوراة ليست مجرد عمل أدبى بل أنها تؤرخ لعالم وجد حقيقة كما أنها تقدم إطار الإيمان الذى عاش خلاله بنى إسرائيل فى القديم. فقد عاشوا حقا وتحركوا وماتوا حقا. لقد انفتح عالم الشرق الأدنى القديم نتيجة للتطورات الأثرية التى بدأت فى القرن الثامن عشر فى مصر وبابل وآشور وسوريا وفلسطين وأسيا الصغرى.

وأصبح القرن العشرين ثريا جدا بنتائج هذه الاكتشافات الأثرية بالإضافة إلى أن المواد الأثرية كانت فى متناول العلماء منذ القرن التاسع عشر. فقد حلت رموز النقش المسمارى منذ 1857م ونشر جورج سميث سنة 1876م النصوص البابلية مثل التكوين البابلى وجزء من قصة الخليقة والطوفان السومرمة التى وجدت فى نيبور. وأثبتت هذه الدراسات الأثرية واقعية أسفار الكتاب المقدس التاريخية.

وكتشف شيل V. Sheil عمود فى سوسة، العاصمة القديمة لعيلام عليه قوانين حمورابى التى ترجع إلى سنة 1750 ق.م. والتى تسبق موسى بحوالى 250 سنة، كما بينت الحفريات أن التعليم فى مدينة أور القديمة (1854ق.م.) كان موجوداً ومتطوراً بدرجة عالية وأن زمن أور الثالث (1960-2070ق.م.) والذى كان هو زمن إبراهيم المحتمل كان عهد حضارة عظيمة. وقد وجدت الكتابة هناك قبل ذلك بحوالى ألف سنة (أى حوالى 3000ق.م.)

ومعنى هذا أن إبراهيم كان قادراً على الكتابة وربما يكون قد كتب إعلانات الله له وأنه كان لديه تقاليد قديمة من أسلافه ومن نوح ذاته. كما وجدت “المدارس الأمريكية للبحث الشرقى” العديد من ألواح الطمى والتى ترجع إلى سنة 1500 ق.م. فى منازل خاصة فى موقع نوزى جنوب شرق نينوى، وما جاء بها من عادات وتقاليد وبيئة اجتماعية يوازى ما جاء فى روايات سفر التكوين عن عصر الآباء البطاركة مثل بيع البكورية والبركة الشفوية ومعاملة المحظيات والتبنى … الخ. كما كشفت النصوص البالية والتى ترجع إلى (حوالى 2000-1600ق.م.) عن عادات وتقاليد توازى ما ذكر فى التوراة.

كما وجدت فى اكتشافات تل الحريرى (بمدينة مارى) على نهر الفرات (1933-1939م) نصوص بها أسماء مثيلة بالأسماء المذكورة فى سفر التكوين 16:11،23،24 مثل “فالج وسروج وناحور”، كما اكتشفت اكتشافات أخرى فى مدينة مارى لها صلة وثيقة بالدراسات التوراتية وتعكس نصوصها الممارسات الكهنوتية ومواد البناء مثل “اللبن المشوى والحمر(8)”، وتذكر هذه النصوص “العابيرو” و”البنيامينيين” مما يدل على العلاقة التى كانت لهم مع عبرانيين العهد القديم، وأيضا “الاراموا” أى الآراميين فى التوراة(9).

كما تكشف لنا ألواح الالاك، التى اكتشفت فى شمال سوريا والتى ترجع إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، عن حضارة ودين ولغة ذلك العصر، كما تكشف لنا عن أسلوب المعاهدات وعقود الزواج وأنشطة الكتبة (النساخ) ومسائل أخرى كثيرة ومتنوعة.

كما زودتنا اكتشافات رأس شمرا فى موقع أوغاريت القديم بألف باء اللغة الأوغاريتية المسمارية بفهم جديد للغة العبرية والنصوص الكتابية فهما مشتقان من أصل سامى واحد وهناك وثيقة بين كليهما. كما أمدتنا أيضا بالكثير جدا من الأدب الأوغاريتى الذى يرجع إلى القرن 15ق.م. الذى يتوازى مع كتابة الكتاب المقدس العبرى.

كما زودتنا النقوش والآثار المصرية القديمة، بعد أن فك رموزها العالم الفرنسى شامبليون فى فترة تزيد عن 14 سنة (1808-1822م) بإثبات غير مباشر لمصداقية الصورة المصرية لقصة يوسف فى سفر التكوين وقصة خروج بنى إسرائيل من مصر فى سفر الخروج، كما عكست ألواح تل العمارنة التى اكتشفت أولا سنة 1887م الأحوال الاجتماعية والسياسية فى فلسطين ومصر أثناء عصر البطاركة المتأخر وإقامة بنى إسرائيل فى مصر.

وتقترض حفريات تانيس وكانتير أن السجل الكتابى  B يظهر أن تاريخ خروج بنى إسرائيل من مصر تم فى عهد الأسرة التاسعة عشر تحت حكم رمسيس الثانى (1304-1290ق.م.). ويذكر “عمود إسرائيل” لمرنبتاح (حوالى 1220ق.م.) شعب فى كنعان يحمل اسم إسرائيل. كما زودتنا الاكتشافات الحيثية بعد أن حل هرونزى  Hronzy رموزها سنة 1915م بمعلومات كثيرة عن معاهدات تمت فى الألف الثانى قبل الميلاد تعكس ما جاء فى خروج ص 20 ويشوع ص 24 وكثيرا مما جاء فى سفر التثنية … الخ.

وهكذا بعد بحث وجهد استمر بلا كلل لعدة أجيال من علماء دراسات الشرق الأدنى القديم وعلماء العهد القديم لبيان الطريقة التى توضح وتشرح وتثبت المواد الكتابية للعهد القديم، ثبت ببساطة تاريخية ومصداقية التوراة بل وانكشفت الخلفية التاريخية والحضارية والبيئة الاجتماعية للعهد القديم. وقد تبين لكثيرين من العلماء سواء الليبراليين أو المحافظين أن المعطيات التى قدمتها نتيجة هذا النشاط الأثرى للقرن العشرين تتفق مع تاريخية العهد القديم ومصداقية الرسالة التى يحملها.

 

فهرس الكتاب:

 

(1) تث 5:34-12

(2) تك 3:36-5

(3) تك 6:12؛ 14:22؛ حز 4:24؛ عدد 33؛ تث 11:3؛ 9:31،22،34 أنظر هذه الآيات وتفسيرنا لها فى الفصول التالية.

(4) 2تى 16:3؛ 2بط 20:1،21

(5) أنظر تك 20:35؛ تث 6:34

(6) أنظر حز 14:17؛ 21:20=23؛ 4:24-8؛ عد 1:33،2؛ تث 6:1؛ 40:4؛ 5-26

(7) أنظر تث 9:31-11،19،30،32

(8) تك 3:11

(9) تث 5:26

التوراة والنقد الحديث – القمص عبد المسيح بسيط

تقييم المستخدمون: 5 ( 2 أصوات)