أبحاث

التسليم الرسولي للإيمان المسلم مرة للقديسين – القمص عبد المسيح بسيط

التسليم الرسولي للإيمان المسلم مرة للقديسين – القمص عبد المسيح بسيط

التسليم الرسولي للإيمان المسلم مرة للقديسين - القمص عبد المسيح بسيط
التسليم الرسولي للإيمان المسلم مرة للقديسين – القمص عبد المسيح بسيط 

التسليم الرسولي للإيمان المسلم مرة للقديسين – القمص عبد المسيح بسيط

كشف الرب يسوع المسيح، كما بينّأ في الفصل السابق، لتلاميذه ورسله ولليهود عن حقيقة لاهوته وكونه ابن الله الذي من ذات الله وفي ذات الله والواحد مع الآب في الجوهر، وعن كونه الآتي من السماء وأنه ليس من هذا العالم بل أنه من فوق، وأنه برغم نزوله من السماء إلا أنه موجود في السماء وعلى الأرض بلاهوته في آن واحد، وأنه الموجود في كل مكان وزمان والقادر على كل شيء، والديان، وأنه رب داود وإبراهيم ومرسل الرسل والأنبياء، ونسب لنفسه كل ما لله من صفات وأعمال وألقاب.

كما آمن تلاميذه بلاهوته وبكونه الإله القدير وأنه الله الذي ظهر في الجسد والذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً وكلمة الله الذي من ذات الله وصورة الله غير المنظور، بهاء مجده ورسم جوهره، وهو الله الكائن على الكل والإله الأبدي والإله الحق ورب العرش وخالق الكون وما فيه ما يرى وما لا يرى … الخ.

وقد آمن الآباء الرسوليون، تلاميذ الرسل وخلفاؤهم، ومن بعدهم تلاميذهم وأيضا خلفاؤهم الذين لُقّبوا بآباء الكنيسة، خاصة المدافعين عن الإيمان القويم (الأرثوذكسي) والعقيدة المسلمة مرة، بنفس ما آمن به وسلمه لهم الرسل، سواء من خلال الكلمة المكتوبة بالروح القدس، العهد الجديد إلى جانب العهد القديم، أو ما سلموه لهم شفاهه، أي بالتقليد المسلم مرة للقديسين كما يقول القديس يهوذا أخو يعقوب بن حلفي بالروح القدس: ” الإيمان المسلم مرة للقديسين ” (يه3)، والذي سلمه الرسل لتلاميذهم وخلفائهم بكل دقة وأمانة، ومن ثم فقد كان مصدر تعليمهم:

(1) ما سبق أن أعلنه وتنبأ به وكتبه في أسفارهم أنبياء العهد القديم. فقد كان العهد القديم هو كتاب الكنيسة الأول الذي جاء المسيح ليتمم ما كتب عنه فيه من نبوات ورموز تتعلق بكل تفاصيل تجسده وخاصة ما يختص بعمله الفدائي للتكفير عن خطايا البشرية وخلاصها بآلامه وصلبه وموته وقيامته، وتحويل الناموس والشريعة، من شريعة الحرف والناموس الذي به نعرف الخطية ” لأن بالناموس معرفة الخطية ” (رو3 :20)، إلى شريعة الحب والكمال ” وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضا. كما أحببتكم أنا تحبون انتم أيضا بعضكم بعضا ” (يو13 :34)، ” فكونوا انتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل ” (مت5 :48).

(2) ما سلمه الرب يسوع المسيح لتلاميذه ورسله، شهود العيان الذين عينهم كرسل وأنبياء بالروح لحمل إنجيله، ورسالته، للعالم أجمع. هؤلاء الرسل الذين وصفهم الآباء الأولون بخزانة الكنيسة، لأنهم عاشوا مع المسيح وشاهدوا شخصه وأعماله وحفظوا كلامه بالروح القدس، وحملوا إنجيله لجميع الشعوب والأمم والألسنة، وشهدوا له كشهود عيان عاشوا ما يكرزون به بأنفسهم.

وكما قال أحد العلماء أن تلاميذ المسيح ورسله هم الأنبياء الوحيدون عبر التاريخ الذين شاهدوا ربهم الذي أرسلهم، فقد عاشوا معه وتلامسوا معه، أو كما يقول القديس بطرس ” نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته ” (أع10 :41)، أو كما يقول القديس يوحنا الإنجيلي بالروح: ” الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فان الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا.

الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضا شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح … ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملا ” (1يو1:1-4)، ويقول أيضاً: ” ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلّصا للعالم ” (1يو4 :14). ويختم الإنجيل الرابع بقوله: ” هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا. ونعلم أن شهادته حق ” (يو21 :24).

وكما يقول القديس بطرس بالروح: ” لأننا لم نتبع خرافات مصنعة إذ عرّفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه بل قد كنا معاينين عظمته ” (2بط16:1). وأيضاً: ” وأوصانا أن نكرز للشعب ونشهد بان هذا هو المعين من الله ديانا للأحياء والأموات ” (أع10 :43)، كما يصف نفسه بـ ” الشاهد لآلام المسيح وشريك المجد العتيد أن يعلن ” (1بط5 :1).

(3) ما سلمه الرسل للعالم أجمع وخاصة لخلفائهم الآباء الرسوليين بالروح القدس الذي كان يعمل فيهم وبهم ويقودهم ويرشدهم ويوجههم ويعصمهم، والذي سلموه بدورهم لخلفائهم من جيل إلى جيل. فقد سلم الرسل ما تسلموه من الرب يسوع المسيح بالتقليد أو التسليم الرسولي لتلاميذهم وخلفائهم والذين سلموه بدورهم لمن خلفوهم، من جيل إلى جيل.

فقد كان تلاميذ المسيح ورسله الذين حملوا وصاياه وتعاليمه، وحل عليهم الروح القدس، هم المستودع الأمين للتسليم الرسولي، حيث تساوت وصاياهم وتعاليمهم مع تعاليم أنبياء العهد القديم ومع وصايا الرب نفسه لأن وصيتهم هي وصيته وتعاليمهم هي تعاليمه؛ يقول القديس بطرس بالروح ” لتذكروا الأقوال التي قالها سابقا الأنبياء والقديسون ووصيتنا نحن الرسل وصية الرب والمخلص ” (2بط2:3)، ويقول القديس يهوذا الرسول ” أخو يعقوب ” (أع1: 17)، ” وأما أنتم أيها الأحباء فاذكروا الأقوال التي قالها سابقاً رسل ربنا يسوع المسيح ” (يه 17).

يقول القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس عن هذا التسليم الرسولي:

U ” وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناسا أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضا ” (2تي2:2)، ويحذره من الفكر الهرطوقي الذي ” يقاوم التعليم الصحيح حسب إنجيل مجد الله المبارك ” (1تي10:1)، ويقول له ” أن كان أحد يعلم تعليما آخر ولا يوافق كلمات ربنا يسوع المسيح الصحيحة والتعليم الذي هو حسب التقوى فقد تصلف ” (1تي3:6)، ” لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم (يَقُولُونَ لَهُمْ كَلاَماً يُدَاعِبُ الآذَانَ ) ” (2تي 3:4). ويقول له أيضا، مشدداً ” يا تيموثاوس أحفظ الوديعة معرضا عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات العلم الكاذب الاسم ” (1تي20:6)، ” أحفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا ” (2تي 14:1).

U ويقول لأهل كورنثوس: ” أمدحكم أيها الأخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم ” (1كو2:11).

U ويقول لأهل فيلبي: ” وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا واله السلام يكون معكم ” (في9:4).

U ويقول لتلميذه تيطس أنه يجب أن يكون الأسقف: ” ملازما للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم لكي يكون قادرا أن يعظ بالتعليم الصحيح ويوبخ المناقضين ” (تي1:9)، ويقول له ” وأما أنت فتكلم بما يليق بالتعليم الصحيح ” (تي1:2)، ثم يحذره من الهراطقة قائلا ” الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين اعرض عنه، عالما أن مثل هذا قد انحرف وهو يخطئ محكوما عليه من نفسه ” (تي10:3 ،11).

وهذا ما تعلمه وعلمه أيضا الآباء الرسوليين تلاميذ الرسل الذين تتلمذوا على أيديهم واستلموا منهم الأخبار السارة:

يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي تلميذ بطرس الرسول: ” أثبتوا إذاً على تعاليم الرب والرسل “(1). ” ثابروا على الاتحاد بإلهنا يسوع المسيح وبالأسقف وبوصايا الرسل “(2).

ويقول أكليمندس الروماني تلميذ بولس الرسول والذي يقول عنه القديس إيريناؤس أنه ” رأى الرسل القديسين وتشاور معهم “(3): ” من أجلنا استلم الرسل الإنجيل من الرب يسوع المسيح ويسوع المسيح أرسل من الله (الآب) “(4).

ويقول بوليكاربوس الذي رافق الرسل خاصة القديس يوحنا الحبيب ” فلنخدمه (المسيح) بخوف وتقوى كما يأمرنا هو والرسل الذين بشرونا بالإنجيل والأنبياء الذين أعلنوا لنا عن مجيء الرب “(5).

ويقول بابياس أسقف هيرابوليس بفرجية في آسيا الصغرى (60 – 130م) والذي يقول عنه القديس إيريناؤس أسقف ليون(6)، وكذلك القديس جيروم(7)، أنه كان تلميذا للقديس يوحنا ورفيقا لبوليكاربوس، ويقول يوسابيوس القيصري، نقلا عن إيريناؤس ” هو أحد الأقدمين، أستمع ليوحنا، وكان زميلا لبوليكاربوس … وأنه تلقى تعاليم الإيمان عن أصدقائهم (أي أصدقاء الرسل).

يقول عن كيفية استلامه للتقليد: ” ولكنني لا أتردد أيضا أن أضع أمامكم مع تفسيري كل ما تعلمته بحرص من الشيوخ ( أي آباء الكنيسة ) … وكلما أتى أحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم، عما قاله أندراوس أو بطرس، عما قاله فيلبس أو توما أو يعقوب أو يوحنا أو متى، أو أي أحد آخر من تلاميذ الرب أو عما قاله اريستون أو القس يوحنا أو تلاميذ الرب. لأنني أعتقد أن ما تحصل عليه

من الكتب يفيدني بقدر ما يصل إلى من الصوت الحي من الصوت الحي الدائم “(8).

ويقول القديس إيريناؤس أسقف ليون (120-202م) ” إذ أن الرسل وضعوا في أيدي الكنيسة كل الأمور التي تخص الحق بغزارة بلا حدود، مثل رجل غنى (أكتنز ماله) في بنك، لذلك فكل إنسان أيا كان يستطيع أن يسحب منها ماء الحياة “(9).

ويقول أيضاً:

المعرفة الحقيقية قائمة في تعليم الرسل وقيام الكنيسة في العالم كله، وفي امتياز إستعلان جسد المسيح بواسطة تتابع الأساقفة الذين أعطوا الكنيسة القائمة في كل مكان أن تكون محروسة ومصانة دون أي تزييف أو ابتداع في الأسفار بسبب طريقة التعليم الكاملة والمتقنة التي لم تستهدف لأي أضافه أو حذف، وذلك بقراءتها بغير تزوير مع مواظبة شرحها باجتهاد بطريقة قانونية تلتزم بالأسفار دون أي خطورة من جهة التجديف، وبواسطة المحبة الفائقة التي هي أكثر قيمة من المعرفة وأعظم من النبوّة والتي تفوق كل ما عداها من المواهب “(10).

ويلخص لنا القمص تادرس يعقوب في كتابه التقليد الأرثوذكسي موقف إيريناؤس من التقليد كالآتي:

بقى التقليد المنحدر إلينا من الرسل محفوظًا خلال تتابع الشيوخ ” الكلمة اليونانية Presbyters تعنى كهنة ويقصد بها الأساقفة” في الكنيسة بغير انقطاع(11).

يحفظ التقليد في الكنيسة بواسطة الروح القدس الذي يجدد شباب الكنيسة(12).

التقليد الرسولي ليس بالأمر السري، بل يستطيع أن يتعرف عليه كل الراغبين في قبول الحق. إنه معلن في كل كنيسة من العالم كله(13).

أساء الهراطقة تفسير الكتاب المقدس إذ تمسكوا بعبارات عزلوها عن الكتاب وأعادوا

ترتيبها بما يناسب أفكارهم الخاصة(14)، متجاهلين وحدة الكتاب المقدس. لقد استخدموا نصوص الكتاب لكنهم لم يقرأوها خلال الكنيسة ولا بحسب تقليد الرسل. لهذا فإن الفهم الحقيقي للكتاب يوجد داخل الكنيسة حيث يحفظ التقليد المقدس وتعاليم الرسل. ” غرست الكنيسة كفردوس في هذا العالم، كما يقول الروح القدس: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً (تك16:2)، أي تأكل من جميع كتب الرب المقدسة، لكن لا تأكل بذهن متكبر ولا تلمس أي فكر هرطوقي مضاد. لقد أعترف هؤلاء ” الهراطقة ” أن لديهم معرفة الخير والشر، وارتفعوا بأذهانهم الشريرة فوق الله صانعهم “(15).

أقوال القديس إيريناؤس عن التقليد:

كما سبق أن أوضحت، الكنيسة وقد تقبلت هذه الكرازة وهذا الإيمان، بالرغم من انتشارها في العالم كله إلا أنها كمن تقطن في بيت واحد، تحافظ على هذه الأمور بكل عناية … وتتباين لغات العالم، لكن معنى التقليد واحد في كل موضع. فالكنائس التي قامت في ألمانيا لا تؤمن ولا تسلم أمرًا مغايرًا، وكذلك الكنائس التي في أسبانيا أو بلاد الغال أو التي في الشرق أو في مصر أو في ليبيا أو تلك التي قامت في مركز العالم “(16).

” إذ نشير ” للهراطقة ” عن التقليد المنحدر إلينا من الرسل والمحفوظ خلال تتابع الشيوخ “Presbyters أي رجال الكهنوت ” في الكنائس نقول أنهم يقاومون التقليد مدعين أنهم أكثر حكمة من الأساقفة ” الشيوخ ” بل ومن الرسل أنفسهم، وأنهم قد وجدوا الحق الأصيل، ” ويؤكدون ” أن الرسل قد خلطوا الأمور الخاصة بالشريعة بأقوال المخلص … من هذا يظهر أنهم لم يتفقوا لا مع الكتاب المقدس ولا مع التقليد …

أنه في قدرة الجميع، في كل كنيسة، أن يروا الراغبين في رؤية الحق وأن يتأملوا بوضوح تقليد الرسل معلنًا في العالم كله … بهذا الترتيب وخلال التتابع ” منذ الرسل “، وصل إلينا التقليد الكنسي من الرسل وأيضًا الكرازة بالحق. وهذا هو برهان قوى أنه يوجد إيمان واحد محيى، حفظ في الكنيسة منذ الرسل إلى يومنا هذا، وسلم بالحق.

إذ لدينا مثل هذه البراهين، لا نطلب الحق من الآخرين ” الخارجين عن الكنيسة ” إذ يسهل الحصول عليه من الكنيسة. لأنه في الكنيسة أستودع الرسل وديعتهم كما يصنع الرجل الغنى ” مودعًا أمواله ” في مصرف، إذ سلموا كل ما يتعلق بالحق. بهذا يستطيع كل إنسان يريد أن يشرب مياه الحياة (رؤ17:22). أنها مدخل الحياة! وكل الآخرين هم سراق ولصوص. لهذا يلزمنا أن نجتنبهم، وأن نسعى بكل غيرة واجتهاد في التمسك بما يخص الكنيسة، متمسكين بتقليد الحق.

فانه ماذا يكون الموقف لو ثار نزاع فيما يخص أمرًا هامًا حدث بيننا؟ أما كنا نلجأ إلى أكثر الكنائس قدمًا، التي أودع فيها الرسل حديثهم الدائم، ونتعلم منها ما هو أكيد وواضح في ذلك الأمر؟! فإنه ماذا لو أن الرسل لم يتركوا لنا كتبًا مكتوبة؟ أما كان يلزمنا أن نتبع ” قانون التقليد ” الذي سلموه إلى الذين استأمنوهم على رعاية الكنائس؟!

إلى أي شئ يلتجئ كثير من البرابرة ” الذين لم يترجم الكتاب المقدس إلى لغتهم حتى ذلك الحين” الذين يؤمنون بالسيد المسيح، وقد كتب الخلاص في قلوبهم بالروح وليس على ورق وبحبر، حافظين التقليد القديم بكل حرص.

ما دام التقليد المنحدر إلينا من الرسل موجودًا في الكنيسة وهو دائمًا بيننا، فلنرجع إلى البرهان الكتابي الذي أقامه الرسل، الذين كتبوا الإنجيل، وسجلوا فيه التعليم الخاص بالله، مشيرين إلى ربنا يسوع المسيح على أنه الحق (يو6:14) وليس فيه كذب.

لقد وهبت عطية الله هذه ” أي الأيمان بالمسيح الذي قبلناه خلال التقليد ” للكنيسة، وكأنها النسمة التي أعطيت للإنسان الأول، لكي يتمتع الأعضاء جميعهم بالحياة بقبولهم هذه العطية وينالوا “وسائط الشركة مع المسيح” التي هي: الروح القدس، لنوال عدم الفساد، وسائط الثبوت في الإيمان، السلم المرتفع نحو الله. فقد قيل إن الله أقام في الكنيسة رسلاً وأنبياء ومعلمين “1كو28:12”. وقدم كل الوسائط الأخرى التي من خلالها يعمل الروح. أما الذين ليست لهم شركة في الكنيسة ولا هم منتمين إليها فيحرمون أنفسهم من الحياة بآرائهم المضادة وسلوكهم المشين. لأنه حيث توجد الكنيسة، ونجد كل نوع من النعمة، لأن الروح هو الحق(17).

ويقول القديس أكليمندس الإسكندري (150 – 215م)، الذي كان مديراً لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية والذي كان، كما يصفه المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري (264 – 340م ) والمعاصر لمجمع نيقية سنة 325م: ” متمرساً في الأسفار المقدسة “(18).

وينقل يوسابيوس عن كتابه وصف المناظر أنه أستلم التقليد بكل دقة من الذين تسلموه من الرسل ” التقاليد التي سمعها من الشيوخ الأقدمين “، فقد كان هو نفسه خليفة تلاميذ الرسل أو كما يقول هو عن نفسه إنه ” التالي لخلفاء الرسل “(19)، ” ويعترف بأن أصدقاءه قد طلبوا منه بإلحاح أن يكتب من أجل – الأجيال المتعاقبة – التقاليد التي سمعها من الشيوخ الأقدمين “(20)، وذلك باعتباره أحد خلفائهم.

ومن ثم فقد سجل التقليد الشفوي الذي سمعه ورآه وتعلمه وعاشه وحوله إلى تقليد مكتوب، كما شرحه ودافع عنه. وينقل عنه يوسابيوس، أيضاً، قوله عن معلميه الذين أستلم منهم التقليد ” وقد حافظ هؤلاء الأشخاص على التقليد الحقيقي للتعليم المبارك، المسلم مباشرة من الرسل القديسين بطرس ويعقوب ويوحنا وبولس، إذ كان الابن يتسلمه عن أبيه … حتى وصل إلينا بإرادة الله لنحافظ على هذه البذار الرسولية “(21).

ويؤكد العلامة أوريجانوس (185-253)؛ أن التقليد الكنسي قد أنحدر إلينا من الرسل خلال تتابع بغير انقطاع، ولا يزال التقليد باقيًا إلى اليوم في الكنائس! “(22).

كما يؤكد العلامة كبريانوس (205-258)؛ أنه لا خلاص خارج الكنيسة، سواء للهراطقة أو للمنشقين. ” فلا يقدر أحد أن يأخذ الله أبًا له ما لم يأخذ الكنيسة أمًا له “(23). لهذا فإن التفسير السليم للكتاب المقدس والتعاليم الأرثوذكسية توجد فقط داخل الكنيسة الحقيقية. تقليد الكنيسة الحقيقية هو الحارس للإيمان المسيحي.

أما القديس باسيليوس الكبير (329-379) فيتحدث أيضًا عن التقليد الشفهي ” اجرافوس ” كحافظ للتفسير السليم للكتاب المقدس، الأمر الذي يحاول الهراطقة تحطيمه. إذ يقول: ” الإيمان هو موضوع الهجوم. فإن الهدف الوحيد لكل جماعة المقاومين، أعداء “التعليم السليم، (1تى10:1) هو تحطيم أساس إيمان المسيح بهدمهم التقليد الكنسي حتى النهاية وإزالته كلية … يطلبون البرهان الكتابي محتقرين تقليد الآباء غير المكتوب كأنه أمر ليس بذي قيمة “(24).

ويشير إلى التقليد كمرشد في الأسرار والطقوس، قائلاً: ” من جهة التعاليم والممارسات المحفوظة في الكنيسة والمقبولة بصفة عامة أو موصى بها علانية، فقد جاء بعضها عن تعليم كتابي بينما تسلمنا الآخر ” في سر” (1كو7:2) خلال تقليد الرسل وكلاهما يحمل ذات القوة.

ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص (339-394م): ” يكفينا للبرهنة على عبارتنا ذلك التقليد المنحدر إلينا من الآباء، بكونه الميراث الذي تناقلناه بالتتابع منذ الرسل خلال القديسين الذين تبعوهم “(25).

ويؤكد القديس أثناسيوس الرسولي والذي لعب الدور الأكبر في هزيمة الأريوسية(26)، أنه لم يستحدث، لا هو ولا بقية آباء نيقية، شيئًا مما وضعه المجمع من صيغ لاهوتية في قانون الإيمان، بل يقول في الكثير من كتاباته ودفاعاته أنه يقدم الإيمان الرسولي كما تسلمته الكنيسة عبر التسليم الرسولي:

دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها وإيمانها، الذي هو من البداية والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء. وعلى هذا الأساس تأسَّست الكنيسة، ومَنْ يسقط منه فلن يكون مسيحيًا، ولا ينبغي أن يُدعَى كذلك فيما بعد “(27).

وبحسب الإيمان الرسولي المُسلَّم لنا بالتقليد من الآباء، فإني قد سلَّمت التقليد بدون ابتداع أي شيء خارجًا عنه. فما تعلَّمته فذلك قد رسمته مُطابِقًا للكتب المقدسة “(28).

لأن ما سلَّمه آباؤنا هو عقيدة حقيقية، وهذه هي سِمَة المُعلِّمين اللاهوتيين، أن يعترف كل واحد منهم بما هو عند الأخر، وأن لا يختلفوا لا عن بعضهم البعض ولا عن آبائهم. أما هؤلاء الذين ليس لهم هذه السِمَة، فيجب ألا يُدعَوا معلِّمين لاهوتيين حقيقيين بل أشرارًا “(29).

أما مُعلنو الحق القديسون الحقيقيون فيتفقون معًا ولا يختلفون، فبالرغم من أنهم عاشوا في أزمنة مختلفة، إلا أنهم جميعًا يتَّبعون نفس الطريق، لكونهم أنبياء لإله واحد ويُبشِّرون بنفس الكلمة في هارمونية واتفاق “(30).

” أما إيماننا نحن فمستقيم ونابع من تعليم الرسل، وتقليد الآباء، ومشهود له من العهدين الجديد والقديم كليهما “(31).

لأنه (مجمع نيقية) لم يكتب عقائدنا بل كتب تلك العقائد التي سلَّمها إلينا من البداية هؤلاء الذين كانوا شهود عيان وخُدَّامًا للكلمة. لأن الإيمان الذي اعترف به المجمع كتابةً هو إيمان الكنيسة الجامعة “(32).

ويقول للهراطقة: ” ها نحن نُثبِت أن هذا الفكر قد سُلّم من أب إلى أب. أما أنتم أيها اليهود الجُدد وتلاميذ قيافا، كم عدد الآباء الذين يمكن أن تنسبوهم لتعبيراتكم؟ ليس ولا واحد ذا فهم وحكمة، لأن الجميع يمقتونكم، إلا الشيطان وحده، فليس أحد غيره أباكم في هذا الأرتداد “(33).

” دعهم يخبروننا من أي مُعَّلم أو من أي تقليد جاءوا بهذه المفاهيم عن المخلص “(34).

 

(1) رسالته إلى ماجنسيا 1:13

(2) إلى تراليس 1:7

(3) الآباء الرسوليين للبطريرك إلياس الرابع معوض 16.

(4) رسالته الأولى 1:42

(5) رسالته إلى فيلبى 3:6

(6) Adv. Hear. B 5;33.

(7) مشاهير الرجال ف 18.

(8) يوسابيوس ك3:39.

(9) N. T. Apoc رؤ 17:22 

(10) Adv. Hear. B 5;33.

(11) Irenaeus: Against heresies 3:2:2, 3:3:1, 3:4:1.

(12)Ibid 3:24:1.

(13) Ibid 3:3:1.

(14) Ibid 1:8:1.

(15) Ibid 5:20:2.

(16) Probably referring to the in Palestine(Ante Nicene Frs, vol1, p 331).

(17) Irenarus: Against Heresies 1:10:2;3:2,2:3, 3L:3:1; 3:3:3; 3:4:1, 2; 3:5:1;3:24:1. Ante-Nicene Fathers, vol 1. j. Stevenson: A new Eusebius, London, 1974,p 115 – 117.

(18) يوسابيوس ك 5 ف1.

(19) يوسابيوس ك 6 ف 13.

(20) ك 6 ف 13 : 8.

(21) ك 5 ف 11 : 5.

(22) Origen: De Principus: Praef. 2.

(23) St. Cyprian: Epistle 74:11, Unity of the Church 6.

(24) St. Basil: O the Spirit, ch. 10 (25).

(25) St. Gregory of Nyssa: Contra Eunomuim 4 PG 45: 653.

(26) أنظر أيضاً ” لاهوت المسيح عند آباء ما قبل نيقية ” ك مار جرجس سبورتنج ص 10 – 12. والقمص تادرس يعقوب ” شفرة دافنشي رواية بوليسية خيالية أم بحث علمي؟ ” ص 128 و129.

(27) الروح القدس، الرسالة الأولى، فقرة 28.

(28) الروح القدس، الرسالة الأولى، فقرة 33.

(29) NPNF, 2nd ser. , Vol. IV, p. 153.

(30) NPNF, 2nd ser. , Vol. IV, p. 153.

(31) NPNF, 2nd ser. , Vol. IV, p. 576.

(32) NPNF, 2nd ser. , Vol. IV, p. 169.

(33) NPNF, 2nd ser. , Vol. IV, p. 168.

(34) NPNF, 2nd ser. , Vol. IV, p. 158.

 

التسليم الرسولي للإيمان المسلم مرة للقديسين – القمص عبد المسيح بسيط

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)