أبحاث

حيث يلتقي العلم بالإيمان – لي ستروبل

حيث يلتقي العلم بالإيمان - لي ستروبل

حيث يلتقي العلم بالإيمان – لي ستروبل

حيث يلتقي العلم بالإيمان - لي ستروبل
حيث يلتقي العلم بالإيمان – لي ستروبل

حيث يلتقي العلم بالإيمان – لي ستروبل

أؤيد تماماً حواراً بين العلم والدين، ولكن ليس حواراً استدلالياً. فأحد أعظم إنجازات العلم، إن لم يكن أنه قد جعل من المستحيل على إنسان ذكي أن يكون متديناً، فعلى الأقل أنه جعل من الممكن بالنسبة لهم أن لا يكونوا متدينين. ونحن لا يجب أن نتراجع عن هذا الإنجاز.

عالم الطبيعة ستينفن وينبرج[1]

العلم والدين… صديقان لا عدوان، في البحث المشترك عن المعرفة. قد يجد البعض هذا أمراً مدهشاً، لأن هناك شعوراً منتشراً في مجتمعنا أن العقيدة الدينية مهجورة، أو مستحيلة تماماً، في عصر علمي. وأنا لا أوافق على هذا. في الحقيقة، أقول إنه إذا عرف الناس في العصر العلمي” قدراً أكبر عن العلم أكثر مما يعرفه كثيرون منهم، سيجدون أنه من السهل عليهم أن يشاركوني رؤيتي.

عالم الطبيعة واللاهوتي جون بولكنجورن[2]

آلان ركس سانداج – أعظم عالم كونيات في العالم، والذي فك شفرات أسرار النجوم، وفحص غوامض أشباه النجوم، وكشف عمر المجموعات ذات الكرات، وحدد مسافات المجرات البعيدة، وحدد اتساع الكون من خلال عمله في مرصدي جبل ويلسون وبالومار – استعد للتقدم إلى المنصة في مؤتمر في دالاس.

علماء قليلون مقدرين على نطاق واسع مثل هذا التلميذ السابق للفلكي الأسطوري إدوين هوبل. حصل سانداج على درجات علمية شرفية كثيرة من الجمعية الفلكية الأمريكية، والجمعية الفيزيائية السويسرية، والجمعية الفلكية الملكية والأكاديمية السويدية للعلوم، وتلقى المقابل الفلكي لجائزة نوبل. وأطلقت عليه صحيفة نيويورك تايمز لقب “عجوز الكونيات”.

بينما اقترب إلى المنصة في مؤتمر العام 1985 هذا عن العلم والدين، بدا أن هناك بعض الشكوك بخصوص أين سيجلس. كانت المناقشة عن أصل الكون، وكانت لوحة المؤتمر ستوزع بين علماء يؤمنون بالله، وآخرين لا يؤمنون به، وكان كل فريق سيجلس في أحد الجانبين.

كان من المحتمل أن كثيراً من الحضور كانوا يعرفون أن سانداج اليهودي عرقياً كان ملحداً بالفعل حتى في طفولته. وكان كثيرون آخرون يعتقدون دون شك أن عالماً في مثل مكانته لا بد وأن يكون متشككاً عن الله. وكما قالت مجلة نيوزويك: “كلما تعمق العلماء في أسرار الكون، تتوقع أنه كلما خبا الله من قلوبهم وعقولهم”[3]. ولهذا كان مقعد سانداج بين المتشككين جاهزاً.

ثم حدث غير المتوقع. فقد أذهل سانداج الحضور بأخذ مقعده بين المؤمنين. والأكثر ذهولاً، في سياق حديثه عن الانفجار العظيم وتضميناته الفلسفية، أعلن أمام الجميع أنه قرر أن يصير مسيحياً وهو في الخمسين من عمره.

قال للجمهور المندهش إن الانفجار العظيم كان حدث فائق للطبيعة لا يمكن تفسيره في نطاق علم الطبيعة كما نعرفه. لقد أخذنا العلم إلى الحدث الأول، لكنه لا يمكنه أن يأخذنا أكثر إلى العلة الأولى. فالظهور المفاجئ للمادة، والفضاء، والزمن، والطاقة أشار إلى الحاجة إلى نوع ما من السمو.

وقال فيما بعد لمراسل صحفي: “إن علمي هو الذي قادني إلى استنتاج أن العالم أكثر تعقيداً مما يمكن تفسيره بالعلم. فمن خلال ما هو فوق الطبيعة فقط يمكنني فهم سر الوجود”[4].

كان يجلس بين جمهور مؤتمر دالاس في ذلك اليوم، مندهشاً بما كان يسمعه من سانداج، جيوفيزيائي شاب حضر إلى المؤتمر غالباً بمحض الصدفة. صار ستيفن مير مسيحياً من خلال سعي فلسفي عن معنى الحياة، لكنه لم يكتشف حقاً قضية ما إذا كان العلم يمكنه أن يقدم الدعم البرهاني لإيمانه.

لم يكن هناك سانداج وحده، بل أيضاً الفيزيائي الفلكي البارز في جامعة هارفارد أوين جنجريتش، يستنتج أن الانفجار العظيم بدا أنه يناسب بأفضل صورة وجهة نظر عالمية إيمانية. بعد ذلك عقدت جلسة عن موضع أصل الحياة، كان فيها دين كينيون، عالم فيزياء حيوية من جامعة ولاية سان فرانسيسكو، الذي شارك في تأليف كتاب مؤثر يؤكد أن ظهور الحياة ربما كان “مقدراً من الناحية الكيميائية الحيوية” بسبب وجود تجاذب فطري بين الأحماض الأمينية[5]. وقد بدا ان هذا هو أفضل تفسير واعد للغز كيف أن الخلية الحية الأولى استطاعت بشكل ما أن تتجمع ذاتياً من مادة غير حية.

اندهش مير بينما صعد كينيون إلى المنصة وهو يستنكر استنتاجات كتابه الخاص، ويصرح بأنه وصل لمرحلة انتقاده لكي النظريات الطبيعية عن الأصول. وبسبب التعقيد الجزيئي الرهيب للخلية، وخواص ال DNA الحاملة للمعلومات، آمن كينيون أن أفضل دليل أشار إلى وجود مصمم للحياة.

وبدلاً من أن يكون العلم والدين متعارضان، أصغى مير إلى متخصصين على أعلى مستويات الإنجاز قالوا إنهم كانوا مؤمنون – لا بالرغم من الدليل العلمي، بل بفضل الدليل العلمي. وقال سانداج: “كثير من العلماء ينطلقون للإيمان بفضل عملهم”[6].

لقد خُدع مير. بدا له أن المؤمنين كانت لديهم المبادرة العقلانية في كل من القضايا الثلاث التي نوقشت في المؤتمر: أصل الكون، وأصل الحياة، وطبيعة الوعي الإنساني. وحتى المتشككين اعترفوا بنقاط ضعف التفسيرات الطبيعية. وكانت استجابتهم الرئيسية هي تحدي المؤمنين ليقدموا “إجابات علمية” بدلاً من مجرد الاستشهاد بفكرة التصميم الذكي. وهذا الاعتراض لم يشكل معنى بالنسبة لمير الذي قال متأملاً: “قد يبدو العالم مصمماً، لأنه بالحقيقة مصمماً!”

وبعدما غادر المؤتمر، كان مير في قمة الدهشة إزاء كل ما اختبره. ورغم من خلفيته العلمية، لم يكن ببساطة واعياً للاكتشافات العلمية القوية التي كانت تؤيد الإيمان بالله. وقد قرر أن هذا كله يستحق المزيد من البحث.

لم يكن يعرف هذا في ذاك الوقت، لكن ارسالية حياته قد تبلورت حالاً.

 

 

اللقاء الثاني: ستيفن مير، دكتوراه

بعد حصوله على درجات علمية في الطبيعة والجيولوجيا، واصل مير دراساته للحصول على درجة الماجستير في تاريخ وفلسفة العلم من جامعة كامبردج العريقة في إنجلترا، حيث ركز على تاريخ علم الأحياء الجزيئية، وتاريخ علم الطبيعة، ونظرية التطور. ثم حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج، حيث حللت رسالته الموضوعات العلمية والمنهجية في علم أحياء أصل الحياة؛ وهو مجال اهتم به للمرة الأولى عندما سمع كينيون في مؤتمر دالاس.

في الخمسة عشر سنة الأخيرة، أصبح مير واحد من أكثر الأصوات معرفة وتأثيراً في ازدهار حركة التصميم الذكية. وساهم في كتابة عدة كتب، منها:

  • الدارونية، التصميم والتعليم العام Darwinism, Design and Public Education
  • مجرد الخلق: العلم، الإيمان والتصميم الذكي Mere Creation: Science, Faith,  and Intelligent Design
  • علامات الذكاء: التصميم الذكي المتفاهم Signs of Intelligence: Understanding Intelligent Design
  • العلم والمسيحية: أربع وجهات نظر Science and Christianity: Four Views
  • فرضية الخلق: الدليل العلمي لخالق ذكي The Creation Hypothesis: Scientific Evidence for and Intelligent Creator
  • العلم والدليل للتصميم في الكون Science and Evidence for design in the Universe
  • تاريخ العلم والدين في التقليد الغربي The History of Science and Religion in the Western Tradition
  • حيوانات الباندا والناس: السؤال المركزي للأصول الحيوية Of Pandas and People: The Central Question of Biological Origins
  • الدارونية: علم أم فلسفة Darwinism: Science or Philosophy
  • سطوح الإيمان والعلم Facets of Faith and Science“، وينهي حالياً كتب عن الـ DNA، وانفجار العصر الكمبري.

تحدث مير في ندوات في جامعات كامبردج، وأكسفورد، وبيل، وبيلور، وتكساس، وغيرها. وأجرى مناظرات مع متشككين مثل مايكل شيرمر، محرر مجلة The Skeptical Inquirer، وكتب لمجلات منها Origins and Design (التي يعمل بها محرراً مساعداً)، وThe Journal of Interdisciplinary Studies، وNational Review. وظهرت بعض كتاباته في Wall Street Journal، وWashington Times، وChicago Tribune، وكثير من الصحف الأخرى. وتواجه مع دارونيين في National Public Radio، PBS، وشبكات تليفزيونية.

عندما طرت إلى سبوكين الثلجية في واشطن للقاء مير في كلية ويتوورث، حيث كان استاذاً مساعداً للفلسفة، لم أكن أعلم أنه في ذروة قوله لزملائه إنه سيرحل قريباً ليكون مديراً وزميلاً أكبر في مركز العلم والثقافة في معهد الاكتشاف في سياتل. كان رحيله الوشيك وقتاً عصيباً بالنسبة لمير، لأنه كان قد قضى أكثر من عقد كواحد من أشهر الأساتذة في الكلية.

للانفراد معاُ، جلسنا في مكتب غريب خارج الحرم الجامعي، حيث خطر الديكور على بالنا فيما بعد، وجلسنا في مقاعد متواجهة لما يمكن أن يسفر عنه حقاً يوماً كاملاً من الحديث الحيوي سريع الطلقات. في الواقع، كانت النسخة الكاملة لحوارنا تربو على 30 ألف كلمة – كتاباً صغيراً لوحدها!

قال مير: “ذات مرة اختبروا نشاطي الزائد عندما كنت طفلاً. هل تتخيل ذلك؟” نعم. كان مير يرتدي بذلة زرقاء داكنة، ورباط عنق ملون، وجورب صوف رمادي، وحذاء بني اللون من طراز Doc Martin، كان لانكي طويل القامة مفعم بالحيوية، وهو يطلق بحماس طلقات سريعة من الكلمات. انساب شعره البني الهش على جبهته، مضفياً عليه مظهراً شبابياً، لكن حاجبيه كانا مجعدان في حدة.

كان تلاميذه يعاتبونه أحياناً لافتقاده تنظيم الفصل الدراسي بسبب شروده الذهني، لكنه كان يعوض هذه بعاطفته الجياشة، وإخلاصه الملطف. عندما أجاب على أسئلتي، أجاب بطريقة متكاملة منظمة مرتبة، كما لو كان يقرأ كروت واضحة. وظهر أنه لامعاً ذكياً، وواضحاً، ومتحمساً.

بعدما حكى بعض القصص الشخصية، بدأنا التركيز على قضية العلم والإيمان. ولم يكن من المثير أن منظوره مختلف بشدة عن منظوري أنا عندما بدأت أدرس الدارونية في المدرسة.

“دفاع قوي عن الإيمان”

قلت لمير “نحن نعيش في ثقافة تكنولوجية حيث يؤمن كثيرون بأن العلم يدوس كل أشكال المعرفة الأخرى. فمثلاً وصف الفيلسوف جي. بي. مورلاند لقائه بمهندس كان يُكمل دراسته للحصول على الدكتوراه في الطبيعة قائلاً “بالنسبة له، فإن العلم وحده عقلاني، العلم وحده يحقق الحق. وكل شيء آخر مجرد عقيدة ورأي. ووصل لحد القول إنه إذا كان هناك شيء لا يمكن قياسه أو اختباره بالطريقة العلمية… فلا يمكن أن يكون صحيحاً أو عقلاني”[7]. كما أن عالم الوراثة في هارفارد ريتشارد لينتون أكد أن العلم هو المصدر الوحيد للحقيقة”[8]. فهل توافق هذه الرؤى؟

فأجابني: “كلا، لا أوافق. من المفارقة أن القول بأن العلم هو المصدر الوحيد للحقيقة هو معارضة ذاتية، لأن هذه العبارة في حد ذاتها لا يمكن اختبارها بالطريقة العلمية. إنها افتراض فلسفي يضر أكثر مما ينفع.

واستطرد قائلاً: “الأبعد من ذلك، بينما أحترم العلم بكل تأكيد، لست أظن أن المعرفة العلمية تسبق بالضرورة الأشياء الأخرى التي نعرفها. فمثلاً، أكد مورلاند ان هناك بعض الأشياء نعرفها من خلال الاستبطان بيقين أكثر مما نعرفها من خلال العلوم. إنني أعلم أن لدي إرادة حرة على أساس استبطاني، ولن تستطيع أية دراسات في العلوم الاجتماعية أن تقنعني بغير هذا”.

أشار مير إلى مفتاح نور على الحائط، وقال فيما قام ليشعل النور: “أعرف أنه بإمكاني أن أدير هذا المفتاح، وأفند مزاعم من يقولون إنني كنت مصمم على ذلك. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتاريخ ان يخبرنا بالكثير، رغم إنه لا يمكننا أن نختبره بالتجربة المتكررة.

“والآن، لا جدال أن العلم يُعلمنا أشياء مهمة كثيرة عن العالم الطبيعي. لكن السؤال الحقيقي هو: “هل هذه الأشياء تشير إلى أي شيء آخر أبعد منها؟” أعتقد أن الإجابة: نعم. فالعلم يعلمنا أشياء حقيقية كثيرة، وبعض هذه الأشياء الحقيقية تشير إلى الله”.

فقاطعته بسرعة وقلت: “على العكس، فعندما تعلمت عن الدارونية وأنا طالب، كنت مقتنعاً بأن العلم والإيمان متعارضان، وأن العلم قد أحرز التقدم بالتأكيد بخصوص المصداقية. فماذا ستقول لمن يؤمن بأن العلم والمسيحية مقدر لهما أن يكونا في صراع؟”

فقال: “حسناً، هذه بالتأكيد إحدى الطرق التي حدد بها الناس العلاقة بين العلم والإيمان. فالبعض يؤكد أن العلم والإيمان متعارضان بشكل أساسي. وآخرون يقولون إن العلم والإيمان يمثلان مجالين منفصلين لا يتفاعلان، ولا يمكنهما أن يتفاعلا”.

ومع ذلك، فأنا شخصياً اتخذ مدخلاً ثالثاً؛ وهو أن الدليل العلمي يؤيد حقاً العقيدة الإيمانية. في الواقع، عبر مجال واسع من العلوم، ظهرت أدلة في السنوات الخمسين الأخيرة، إن جُمعت معاً، تقدم دفاعاً قوياً عن الإيمان. والإيمان فقط هو الذي يمكنه أن يقدم حلاً مرضياً من الناحية العقلية لكل هذه الأدلة”.

“مثلاً؟”

“مثلاً، إن كان صحيحاً أن هناك بداية للكون – كما يتفق علماء الكونيات المحدثين الآن – فهذا يتضمن وجود عله تفوق الكون. وإن كانت قوانين الطبيعة مُعدلة لتسمح بالحياة – كما يكتشف علماء الطبيعة المعاصرون – فربما يكون هناك مصمم قام بتعديلها. وإن كانت هناك معلومات في الخلية – كما توضح البيولوجيا الجزيئية – فهذا يثبت وجود التصميم الذكي. وللإبقاء على سير الحياة في المقام الأول يتطلب معلومات بيولوجية، والتضمينات تشير إلى ما وراء المملكة المادية إلى علة ذكية قبل ذلك.

واستنتج قائلاً: “هذه مجرد ثلاثة أمثلة، وهي البداية فقط”.

مشكلة نوما NOMA

قلت: “أليس من الخطر أن نخلط العلم بالإيمان هكذا؟ فكثير من العلماء يتبعون رؤية الراحل ستيفن جاي جولد في قولهم بأن العلم والإيمان يشغلان مجالات مختلفة تماماً.

فقال: “لقد دعا هذه الفلسفة باسم نوما NOMA؛ وهي اختصار nonoverlapping magisterial. وقال: “إن شبكة العلم تغطي الكون التجريبي…. [بينما] تمتد شبكة الدين إلى أسئلة المعنى والقيمة الأخلاقية”[9]. ما الخطأ في أن يكون لدينا مثل هذا الخط القوي الفاصل بين حقائق العلم الجامدة وإيمان الدين الرقيق؟”

قال مير: “أعتقد أن نوما حقيقية جزئياً – هو اعتراف أدهشني قليلاً. فهناك مجالات للعلم محايدة من الناحية الفوق طبيعية. وهي تجيب على أسئلة مثل: “كم عدد العناصر الموجودة في الجدول الدوري؟ ما هي المعادلة الرياضية التي تصف الجاذبية؟ أو كيف تسير الطبيعة بنظام وفق مجموعة معروفة من الشروط؟ إن أسئلة من هذا النوع لا تؤثر كثيراً على موضوعات الرؤية العالمية بطريقة أو بأخرى. بعض الناس يستخدمون القول المأثور القديم لجاليليو: “العلم يخبرك كيف تسير السماء، أما الكتاب المقدس فيخبرك كيف تسير أنت إلى السماء”.

فاعترضته قائلاً: “هذا يبد سخيفاً، لكن به بعض المعنى”.

فقال: “بالطبع، هناك معنى في أن العلم والدين لديهما موضوعات مختلفة من حيث الاهتمام والتركيز؛ كطبيعة الثالوث من ناحية، والذرات الأولية الموجودة في الانفجار العظيم من ناحية أخرى”.

“ومع ذلك، هناك أسئلة علمية أخرى تناقش مباشرة قضايا عالمية كبيرة. وعلى سبيل المثال مسألة الأصول. فإن كانت النماذج الطبيعية صحيحة تماماً، يصبح الإيمان فرضية غير ضرورية. وفي هذه الحالات التي يتداخل فيها العلم والميتافيزيقا – وحين تكون الأسئلة العالمية في خطر – يستحيل هذا فرض مبداً نوما. وسبب هذا أن ما يكتشفه العلم ستكون له بالضرورة تضمينات لهذه الأسئلة العالمية الأكبر. والطريقة الحقيقة الوحيدة للإبقاء عليهما منفصلين هو أن تُسقط من ادعاءات أحدهما أو الآخر”.

“تقول نوما إن العلم هو عالم الحقائق، والدين هو عالم الأخلاق والإيمان. والمشكلة الأساسية هي أن الديانة الكتابية تقدم تأكيدات محددة جداً عن الحقائق. فهي تقدم تأكيدات بأن الكون له بداية، وأن الله قد اشترك في الخلق، وأن البشر لهم نوع معين من الطبيعة، وأن الأحداث التاريخية يُفهم منها أنها حدثت في الزمان والمكان”.

“دعنا نأخذ فقط قانون الإيمان المسيحي التاريخي: “أؤمن بالله، الأب القادر، خالق السماء والأرض، وبيسوع المسيح ابنه الوحيد، الذي حبل به بالروح القدس، وولد من مريم العذراء، وتألم على عهد بيلاطس البنطي، وصلب، ومات، ودفن، وفي اليوم الثالث قام من الأموات”.

“حسناً، إن بيلاطس البنطي هذا موجود تاريخياً في فلسطين في القرن الأول. وكان هناك ادعاء أن يسوع الناصري قد عاش في نفس الوقت. وكان هناك تأكيد أنه قام من الأموات. الله يُدعى خالق السماء والأرض. وها أنت ترى أنه لأمر فطري بالنسبة للإيمان المسيحي ان يؤكد على العالم الحقيقي. وطبقاً للكتاب المقدس، فقد كشف الله عن ذاته في الزمان والمكان، وهكذا فإن المسيحية ستشطر بعض التأكيدات الواقعية للتاريخ وللعلم. ومن هنا سيكون هناك إما نوع من الصراع أو الوفاق”.

ولإتمام مبدأ نوما، على أنصاره أن يُخففوا من تأثير العلم أو الإيمان، أو كليهما. وهذا ما فعله جولد حقاً؛ فقد قال إن الدين مجرد مسألة تعليم أخلاقي، وعزاء، أو معتقدات ميتافيزيقية عن المعنى. لكن المسيحية تنادي بالتأكيد أن تكون أكثر من ذلك”.

بدت هذه الجملة الخاصة عن جولد أنها غامضة. فأردت أن أواجهه بطلب أمور محددة. فسألته: “هل يمكنك أن تعطيني مثلاً ملموساً عن كيف خفف جولد من تأثير المسيحية لتفعيل مبدأ نوما؟”

قال مير: “بالطبع؛ في كتابه Rocks of Ages، يقلل جولد من ظهور يسوع لتوما الشكاك على أنه مجرد “قصة أخلاقية”[10]. وكان هذا ضرورياً بالنسبة لجولد تحت قواعد نوما، لأن كل ظهورات يسوع بعد القيامة تأتي من وثيقة دينية – الكتاب المقدس – بينما تقول نوما إن الدين لابد وأن يحصر تأكيداته في إطار الأخلاقيات والقيم. لكن الكتاب المقدس يرسم بوضوح ظهورات يسوع كأحداث تاريخية واقعية. والمسيحية تؤكد على الاقتناع بأن هذه الأحداث قد حدثت فعلاً”.

“قد تحاول نوما استبعاد هذه الإمكانية بحصر الدين إلى مجرد مسائل أخلاقيات، لكن كتاب الكتاب المقدس لم يروا أنه من المناسب أن يحصروا تأكيداتهم عن الله إلى المجال غير الواقعي الذي خصصته نوما للدين. والآن قد توجد بعض الديانات التي قد تتماشى مع نوما. لكن المسيحية الكتابية – لأنها ليست مبنية على مجرد الإيمان، بل وعلى الحقائق أيضاً – لا يمكنها ذلك ببساطة”.

كان أستاذ القانون فيليب جونسون أيضاً ناقداً لمبدأ نوما بشدة. فقد قال: “إن ستيفن جاي جولد يعرض متنازلاً أن يسمح للمتدينين أن يعبروا عن أفكارهم الشخصية عن الأخلاق، بشرط أن لا يتدخلوا في سلطة العلماء لتحديد “الحقائق”، وإحدى هذه الحقائق هي أن الله مجرد أسطورة معزية”[11].

فقلت لمير وأنا أُلخص الموضوع: “وهكذا بينما قدر كبير من العلم والعقيدة الكتابية مهتمان بأمور مختلفة، فمن الواضح أن لديهما نوع من الأرضية المتداخلة”.

“بالضبط. وعندما يحدث ذلك، فإما أن يتفقوا أو يختلفوا. إن محاكمة مؤرخي القرن التاسع عشر، الذين كانوا يكتبون أساساً من إطار حركة التنوير، كانت أنهم حين تداخلوا اختلفوا، ومن المجالين، كان العلم أكثر ضماناً من الدين. لقد آمنوا أن الصراع سينمو على الدوام بين العلم والعقيدة الكتابية”.

“وبماذا تؤمن أنت؟”

“إن حكمي مختلف تماماً. فأنا أؤمن أن شهادة العلم تؤيد الإيمان. وبينما تكون هناك دائماً نقاط توتر أو صراع غير محلول، فإن التطورات الكبرى في العلم في العقود الخمسة الأخيرة كانت تسير بقوة نحو اتجاه الإيمان.

صمت للحظات، ثم أطلق خاتمته: “إن العلم يشير إلى الله”.

الخلق من العدم CREATIO EX NIHILO

لم يكن منظور مير أكثر اختلافاً عن منظوري عندما كنت أدرس نظرية التطور بالمدرسة. فقد استنتجت أن نظريات دارون المقنعة والخاصة بعلم الطبيعة قد أزالت أية حاجة إلى الله. ومع ذلك، فقد كان مير مقتنعاً بأن العلم والإيمان يشيران إلى نفس الحق. قررت أن أضغط عليه لمعرفة مزيد من التفاصيل.

“هل يمكنك أن تذكر لي ستة أمثلة عن كيف تؤمن أن العلم يشير إلى الإيمان؟”

استرخى مير في مقعده، وقال: “سأبدأ بعلم الكونيات الجديد – نظرية الانفجار العظيم، وأساسها النظري الذي صاحبها في النسبية العامة. وهاتان النظريتان تشيران الآن إلى بداية محددة للكون. وحقيقة أن معظم العلماء يؤمنون الآن بأن الطاقة، والمادة، والفضاء، والزمن كانت لها بداية حقيقية غير مادية أساساً”.

“لا يمكنك أن تستشهد لا بالزمان او المكان أو المادة أو الطاقة أو قوانين الطبيعة لتفسر أصل الكون. فالنسبية العامة تشير إلى الحاجة إلى علة تفوق هذه المجالات. والإيمان يؤكد على وجود مثل هذا الكيان – الذي اسمه الله”.

وأضاف مير: “باختصار، فإن المذهب الطبيعي يجتاز وقتاً عصيباً في علم الكونيات، فكلما تعمقت فيه، كلما صعب التخلص من فرضية الله. وعندما تأخذهما معاً، فإن نظرية الانفجار العظيم، والنظرية النسبية العامة ستقدمان وصفاً علمياً لما يسميه المسيحيون الخلق من العدم creation ex nihilo. وكما قال أرنو بنزيا، الحائز على جائزة نوبل، عن الانفجار العظيم: “إن أفضل البيانات التي لدينا هي تماماً ما كان يمكن أن أتنباً بها ما لم يكن لدي ما أستمر فيه سوى أسفار موسى الخمسة، والمزامير، والكتاب المقدس ككل”[12].

انتظر مير ليرى ما إذا كانت لدي أسئلة أخرى، لكني أشرت له باستكمال أمثلته.

“الفئة الثانية من الأدلة ستكون عن الضبط المتعلق بعلم الإنسان”. وهذا يعنى القوانين والمعايير الأساسية للطبيعة لها قيم عددية محددة كان من الممكن أن تكون غير ذلك. وهذا معناه أنه لا يوجد سبب جوهري يفسر سبب وجود هذه القيم على ما هي عليه. ومع ذلك، فكل هذه القوانين والأنظمة تتعاون معاً بطريقة رياضية مذهلة كي تجعل الحياة في الكون ممكنة.”

طلبت منه مثالاً على ذلك، فقال: “خذ مثلاً اتساع الكون، الذي هو منضبط على جزء من تريليون، تريليون، تريليون، تريليون، تريليون. أي بمعنى إنه لو تغير بمقدار جزء واحد في أي من الاتجاهين – أسرع قليلاً أو أبطأ قليلاً  لما كان لدينا كوناً قادراً على منح حياة”.

“علّق السير فريد هويل قائلاً: “إن تفسيراً مقبولاً للحقائق يقول بأن عقلية فائقة قد تدخلت في الفيزياء والكيمياء والأحياء، وليست هناك قوى غامضة تستحق الحديث عنها في الطبيعة”[13].

“حسناً، ربما يبدو هذا منضبطاً لأنه فعلاً يوجد ضابط من وجهة نظر عالم الطبيعة بول ديفيز أن “انطباع التصميم يأسر الذهن”[14]. وأنا أوافقه تماماً على هذا. إنه دليل قوي على وجود تصميم ذكي.

“والمثل الثالث للعلم يشير إلى أن الله هو أصل الحياة، وأصل المعلومات الضرورية لجلب الحياة إلى الوجود. فالحياة في أصلها تتطلب معلومات، وهي مخزونة في الحامض النووي DNA، وجزيئات البروتين”.

“قال ريتشارد داوكنز من جامعة أكسفورد إن الشفرة الآلية للجينات شبيهة بشفرة الكمبيوتر بصورة غريبة”[15]. وإن فكرت في هذا، ستدرك أن أجهزة الكمبيوتر تعمل ببرامج سوفت وير ينتجها مهندسون أذكياء. وكل خبرة لدينا عن المعلومات – سواء كانت شفرة كمبيوتر، أو كتابة هيروغليفية، أو كتاب، أو رسم كهف – تشير إلى الذكاء. ونفس الشيء ينطبق على المعلومات داخل كل خلية في كل كائن حي”.

فتساءلتُ: “أليست هذه حجة ساذجة. فالعلماء ربما يكونوا عاجزين الآن عن إيجاد أي تفسير عن كيف بدأت الحياة، لكن هذا لا يشير بالضرورة لاستنتاج وجود قوة فوق الطبيعة”.

فأصر مير: “هذه ليست حجة ساذجة. فالعلماء ربما يكونوا عاجزين الآن عن إيجاد أي تفسير عن كيف بدأت الحياة، لكن هذا لا يشير بالضرورة لاستنتاج وجود قوة فوق طبيعية”.

فأصر مير: “هذه ليست ساذجة. فنحن لا نستدل على وجود مصمم لأن النظريات التطورية الطبيعية تفشل جميعاً في تفسير المعلومات. لكننا نشير إلى التصميم لأن كل تلك النظريات تفشل، ونحن نعرف وجود كيان آخر قادر على إنتاج المعلومات – ويدعى الذكاء. وأنا شخصياً أجد ذلك حجة قوية جداً بالفعل”.

مجموعة من الأدلة

واصل مير حديثه وأعطى المثال الرابع: “ثم هناك دليل التصميم في الماكينات الجزئية التي تتحدى تفسير دارون لفكرة الاختيار الطبيعي. إن هذه الأنظمة المتكاملة والمعقدة في الكائنات البيولوجية – التي يدعوها عالم الأحياء الدقيقة مايكل بيهي “معقدة بصورة يصعب إنقاصها” – تشمل دوائر محولات الطاقة، ومولدات الطاقة المعقدة، وكل أنواع الدوائر الكهربية الحيوية”.

“ما الحجة المبنية على هذا؟”

“هذه الماكينات الحيوية تحتاج إلى كل أجزائها المتعددة لكي تعمل. ولكن كيف يمكنك أن تبني مثل هذا النظام بعملية الاختيار الطبيعي الدارونية التي تعمل بأسلوب الاختلافات العشوائية؟ إن الاختيار الطبيعي يحافظ فقط على الأشياء التي تؤدي وظيفة، أو التي تساعد الكائن الحي على البقاء للجيل التالي. وهذا هو البقاء للأصلح”.

“ومشكلة هذه الأنظمة المعقدة هو أنها لا تؤدي وظائف إلا عندما توجد كل الأجزاء معاً، وتعمل معاً في تعاون تام مع بعضها البعض. ولهذا، فإن الاختيار الطبيعي لا يمكنه أن يساعدك على بناء مثل هذه الأنظمة، لكنه يمكنه فقط أن يحفظها حالما تُبنى. ومن المستحيل بالفعل على التطور أن يتخذ مثل هذه القفزة الهائلة من مجرد فرصة لخلق النظام بأكمله على الفور”.

“وبالطبع، فإن هذا يطرح السؤال: كيف نشأت الماكينة الكيميائية الحيوية؟ يقول بيهي إن هذه الأنظمة البيولوجية قد تبدو مصممة لأنها بالفعل مصممة. وباختصار، حينما نرى أنظمة معقدة يصعب إنقاصها، ونعرف كيف نشأت، فمن المؤكد أن مصمماً كان هو العلة”.

“ما مدى قوة هذه الحجة في رأيك؟”

فأجاب مبتسماً: “أعتقد أنها قوية للغاية. وأنت ترى ذلك في الاعتراضات الضعيفة التي يقدمها الدارونيون. وهذا مجرد مثال آخر. والمثال التالي سيكون انفجار العصر الكمبري؛ وهو دليل آخر مثير على وجود تصميم في تاريخ الحياة”.

فأخبرته أن جوناثان ويلز كان قد أوضح في مقابلة سابقة أساسيات الانفجار العظيم البيولوجي. وقلت له: “لقد تحدث عنه أساساً بمصطلحات تشير إلى أنه مجادلة ضد الدارونية”.

فأجاب مير: “في الحقيقة هو كذلك؛ فلديك ما بين 20 – 35 رسم لأجساد غريبة تماماً من العصر الكمبري. وهذه قفزة ضخمة في التعقيد. فهي فجائية، وليست لديك مراحل انتقالية متوسطة”.

“لكن هذا دليل تأكيدي آخر على وجود تصميم، لأنه في خبرتنا، تكون المعلومات نتيجة النشاط الواعي. وهنا لدينا الإدخال الفجائي جيولوجياً لقدر مكثف من المعلومات البيولوجية الجديدة المطلوبة لعمل رسومات الأجساد هذه، وهي أبعد كثيراً عما يمكن أن تقدمه أية تقنية دارونية. فالدارونية ببساطة لا يمكنها أن تفسر ذلك، فالتصميم إذاً تفسير أفضل”.

“فكر كيف ظهرت رسومات هذه الأجساد الجديدة فجأة. قال أحد علماء الباليونتولوجي: “ما أود معرفته من أصدقائي البيولوجيين هو ما مدى سرعة حدوث هذا التطور قبل أن يتوقفوا عن تسميته تطوراً؟ لقد قال دارون إن الطبيعة لا تحدث قفزات فجائية. ومع ذلك فلدينا هنا قفزة هائلة – وهي التي يسببها العوامل الذكية. ونتيجة لذلك، فإن انفجار العصر الكمبري لا يقدم لنا مجرد دفاع سلبي ضد التطورية الدارونية، بل أيضاً حجة إيجابية قوية مؤيدة للتصميم”.

“حسناً، لقد طلبت منك ستة أمثلة، فما هو المثال السادس؟”

ففكر مير للحظات، ثم قال: “أقول إن الوعي الإنساني يؤيد بالتأكيد وجهة نظر إيمانية للطبيعة البشرية. تُعلم اليهودية والمسيحية بكل وضوح أننا أكثر من مجرد مادة – فنحن لسنا “كمبيوتر مصنوع من اللحم” كما قال مارفن منسكي، لكننا مخلوقين على صورة الله”.

“ولدينا القدرة على فحص الذات، والإبداع الفني، وتعلم اللغة. والإنجاز. والعلم لا يمكنه أن يفسر هذا النوع من الوعي بمجرد تفاعل المادة الطبيعية في المخ. من أين جاء؟ مرة أخرى أعتقد أن الإيمان يقدم أفضل تفسير”.

اتجه مير إلى حافة مقعده. وقال: “ولهذا فإن ما لدينا هنا مجموعة من ستة أدلة تشير إلى علة فائقة ذكية. وهذا أمر مذهل! لم يكن العلماء وأعين بهذه الأشياء عندما قالوا إن المذهب الطبيعي يفسر كل شيء. وبفضل الاكتشافات في العقود الخمسة الأخيرة، فنحن اليوم نعرف أكثر”.

“فقلت: “بناءً على الدليل الذي ذكرته، كيف تكمل الدفاع عن الله؟”

“أولاً، الإيمان – بمفهومه عن وجود خالق فائق – يقدم تفسيراً كافياً أكثر قبولاً عن الانفجار العظيم أكثر مما يقدمه التفسير الطبيعي. فعلة الكون لا بد وأن تفوق المادة، والفضاء، والزمن، والتي وجدت مع الانفجار العظيم. والله الذي عبده اليهود والمسيحيون له نفس صفة السمو هذه. ومع ذلك، فإن المذهب الطبيعي ينكر وجود أي كيان آخر أبعد من نظام الطبيعة المغلق”.

“كما أن ضبط قوانين الطبيعة وثوابت الكون، والأشكال الدقيقة لحالاته المبدئية، والتي ترجع في تاريخها إلى أصل الكون نفسه، كل هذا يوحي بالحاجة إلى علة تتسم بالذكاء. والإيمان يؤكد وجود كيان، لا فائق فقط، بل وذكي أيضاً – وهو الله. ولهذا، فالإيمان يمكنه أن يفسر كلاً من كوزمولوجيا الانفجار العظيم، والضبط الإنساني”.

“إن مذهب وحدة الوجود لا يمكنه تفسير أصل الكون؛ لأن أنصاره يؤمنون بإله مجهول متساو في الامتداد مع الكون الطبيعي. ومثل هذا الإله لا يمكنه أن يوجد الكون من لا شيء، لأنه غير موجود بصورة مستقلة عن الكون الطبيعي. فإن لم يوجد الكون الطبيعي، لما وجد هذا الإله أيضاً. وإن كان غير موجود، فلا يمكن أن يكون قد أوجد الكون”.

فقاطعته قائلاً: “ماذا عن الربوبية*، مشيراً إلى الاعتقاد بأن الله خلق العالم وتركه يدير نفسه. ألا يمكن لمذهب الربوبية أن يفسر أصل الكون أيضاً؟”

فقال مير: “نعم، وسأعطيك هذا التوضيح: إن مذهب الربوبية يمكنه أن يفعل نفس الشيء. لكني أؤمن بأن وجود التصميم بعد الانفجار العظيم يُقوض مذهب الربوبية كتفسير كاف”.

“مذهب الربوبية لا يمكنه أن يوضح الدليل على الإعمال المتفردة التصميم أو الخلق بعد خلق الكون. فإله الربوبية لا يتدخل في الطبيعة، ومع ذلك فنحن نرى دليل التصميم الذكي في تاريخ الحياة. فمثلاً، المحتوى الكبير للمعلومات يعطي دليلاً قوياً على عمل تصميم ذكي للحياة الأولى، بعد بداية الكون بكثير”.

“وبجمع كل هذا، فإن ما نعمله اليوم يعطينا ثقة قوية – من العلم – بأن الله موجود. إن ثقل الدليل مؤثر للغاية، وفي الحقيقة من وجهة نظري، يكفيني بشكل حاسم أن أقول إن الإيمان يقدم أفضل تفسير لمجموعة الأدلة العلمية التي كنا نناقشها”.

“العلم والإيمان لا يتصارعان. فعندما نفسر الأدلة العلمية والتعاليم الكتابية تفسيراً صحيحاً، فإنهما يؤيدان بعضهما البعض. وأقول لأي شخص يشك في هذا الأمر، تحقق بنفسك من الدليل”.

كانت جولة مير العاصفة منعشة. في البداية بدا الدفاع التراكمي عن الله، الذي بُني نقطة تلو الأخرى من اكتشافات العلم، دفاعاً مذهلاً. وبالطبع كان لدي قدر وافر من أسئلة المتابعة، قصدت أن أطرح بعضها على مير، وأبقي البعض الآخر للخبراء الآخرين الذين خططت اجراء مقابلات أخرى معهم في كل فئة من الأدلة التي ذكرها مير. قررت أن أبدأ بقضية كيف أن الدليل المؤيد لله مطلوب لترسيخ الدفاع عن خالق.

فرضية الله

في الساحة القضائية، فإن المحاكم المختلفة لديها معايير مختلفة من البراهين. ففي الحالات الجنائية، لا بد أن يُثبت المدعي أن المتهم مذنب بلا شك. وفي معظم القضايا المدنية، لا بد أن ينتصر جانب الادعاء بما يُسمى رجحان الأدلة. وفي بعض القضايا المدنية، هناك مستوى ثالث للبرهان يقع بين السابقين: أدلة واضحة وأدلة مقنعة[16].

عندما سألت مير عن أي مستوى من الأدلة يعتبره مناسباً في المجال اللاهوتي، أعطاني درساً مشوقاً في التاريخ في موضوع أدلة وجود الله. قررت أن أجلس صامتاً، وأدعوه يتكلم، وأحتفظ بأسئلة المتابعة حتى النهاية.

بدأ مير: “هناك مستوى متطرف ينكر وجود أية قاعدة دليلية على الاعتقاد المسيحي، والقول بدلاً من ذلك بأن كل ما نحتاجه هو الإيمان. وهذا ما يعرف باسم الإيمانية fideism [الإيمانية – الاعتماد على الإيمان بدلاً من العقل]. وقد جاء إلينا من حركة التنوير بعد فشل براهين إيمانية معينة على الإيمان بوجود الله.

“على وجه الخصوص، قدم الفيلسوف الفرني رينيه ديكارت بعض البراهين الجميلة لمحاولة تأكيد وجود الله بيقين شديد. واستخدم ما يسمى “براهين استدلالية”، حيث تكون لديك مقدمات منطقية رئيسية وفرعية، وإن اتضح أن هذه المقدمات المنطقية حقيقية، وأن منطق الحجة صحيح، سيكون الاستنتاج مؤكداً. فمثلاً:

“كل الناس سيموتون،

سقراط إنسان،

سقراط سيموت”.

لكن ديكارت وضع مقياساً عالياً وغير واقعي؛ فقد استخدم براهينه لمحاولة خلق تأكيد صارم بوجود الله، ولم يتمكن من توضيح ذلك. وليس بإمكانك أن تثبت بشكل مطلق – أو لا تثبت – وجود الله.

“ونتيجة هذا، سادت الفكرة التي تقول بأن حجج وجود الله لا تصلح، وأنه لا توجد أسس عقلية للإيمان. ثم جاء دارون، الذي أوضح أن ظهور التصميم يمكن تفسيره من خلال تقنيات طبيعية دون مصمم فعلي، وقد أسهم هذا في الاقتناع بعدم وجود أساس عقلية أو دليلية للإيمان بالله”.

“وفي ضوء هذا، كان لدى المؤمنين اختيار: إما أن يرفضوا الإيمان لأنه ليس له أساس عقلي، أو يرفضوا فكرة أنك بحاجة إلى أساس عقلي للإيمان. الذين ظلوا على إيمانهم أخذوا بالاختيار الثاني قائلين: “أنا أؤمن، وببساطة لست أملك ولا أحتاج أساساً عقليا لذلك”. ثم تبنوا استراتيجيات تقسم الإيمان والعقل، والتي قادت إلى الاستنتاج بأن الإيمان والعلم يشغلان مجالين مختلفين”.

“ولكن هناك اختيار ثالث يتضمن عمل دفاع مقنع عن الإيمان دون استخدام براهين استدلالية. وقد كتبت أنا وعالم الرياضيات ويليام ديمبسكي مقالة في العام 1998 نوضح فيها نموذج للإقناع نعتقد أنه يمكن أن يُستخدم لتأييد العقيدة التوحيدية. ويُدعى هذا “الرجوع للتفسير الأفضل”.

“هذه الصورة من صور العقلانية المنطقية نستخدمها في الحياة طوال الوقت. وتقول إنه إن أردنا تفسير ظاهرة أو حدث، علينا التفكير في مجموعة متكاملة من الفرضيات، ونرجع إلى الافتراض الذي يمدنا بأفضل تفسير إن كان صحيحاً. وبمعنى آخر، نُجري تحليلاً شاملاً للتفسيرات الممكنة، ونواصل إضافة معلومات حتى يبقى تفسير واحد يمكنه تفسير جميع البيانات”.

“والطريقة التي تُمير بها بين الفرضيات المتنافسة هي النظر إلى مدى قوتها على التفسير. غالباً ما تكون هناك أكثر من فرضية واحدة يمكنها تفسير نفس الدليل. فمثلاً، كما اتفقنا، فإن كلاً من مبدأ الربوبية، ومبدأ الإيمان بإله واحد، يمكنهما أن يفسرا بداية الكون. حسناً، ولكن إذا واصلت النظر إلى البيانات، ستجد أن مبدأ الإيمان بإله واحد هو فقط الذي يمكنه تفسير دليل وجود التصميم في الأحياء بعد أصل الكون. وبهذا يكون مبدأ الإيمان بإله واحد له قوة تفسيرية أعظم”.

“نحن نصل إلى استنتاجات بدرجة عالية من الثقة مستخدمين هذا الشكل من التفكير في حياتنا اليومية. وهذا ما يفعله المحققون. وهذا ما يفعله المحامون في المحاكم، وهذا ما يستخدمه العلماء وهذا النموذج يمكننا من تحقيق درجة عالية من اليقين العملي”.

“وعندما ننظر إلى الدليل الذي ذكرته أنا من علم الكونيات، والطبيعة، والأحياء، والوعي الإنساني، سنجد أن الإيمان بإله واحد له قوة تفسيرية مدهشة. فوجود الله يفسر هذا المدى الواسع من الأدلة بأكثر بساطة، وبطريقة كافية، وأشمل من أية نظرة عالمية أخرى، بما فيها المذهب الطبيعي، ومذهب وحدة الوجود. واكتشافات الأدلة البانية أو الداعمة يزداد سرعة”.

“في العام 1992، قال مؤرخ العلوم فريدريك بيرنهام إن فرضية الله “هي الآن فرضية محترمة أكثر من أي وقت مضى في المئة سنة الأخيرة”[17]. وسأقول ما هو أكثر من هذا: فأكثر من كونها “محترمة”، فإن فرضية الله فعالة بدرجة كافية لتضمن حكماً أن الله حي”.

دوافع العلماء

طرأت على ذهني العديد من الأسئلة وأنا أستمع إلى تحليل مير. فقلت له: “لقد أعطيتك الفرصة لتقدم ستة أمثلة من الأدلة العلمية المؤيدة للإيمان بالله، وسوفت أتابع باعتراضات معينة حينما أناقشها بالتفصيل مع خبراء آخرين. ولكن لا أود أن أغادرك دون أن أواجهك على الأقل بأربعة تحديات”.

وبينما كان مير يصغي إلى كلماتي، خلع نظارته ذات الإطار الذهبي، وبدأ ينظفها بمنديل. تطلع إليّ قائلاً: “هذا يبدو عادلاً. هيا انطلق. ما هو سؤالك الأول؟”

فالتفت إلى مذكراتي قبل التكلم، وبدأت قائلاً: “إن كان الدليل العلمي على الإيمان بإله واحد مقنع للغاية، فلماذا لا يؤمن بالله علماء أكثر؟ فقد أوضحت دراسة في العام 1966 أن 60% من العلماء إنا لا يؤمنون بالله أو كانوا متشككين، وهذه النسبة تتزايد إن نظرت على علماء الصفوة”[18].

فضيق مير شفتيه بينما كان يتأمل السؤال، ثم قال: “سأقول مبدئياً إن الاكتشافات الحديثة تأخذ وقتاً حتى تنتشر، ويتم التفكير الشامل في تضميناتها، كما أن بعض أفضل الأدلة على الإيمان بإله واحد أدلة جديدة جداً. والعلماء الذين يركزون على مجال واحد معين قد لا ينتبهون للاكتشافات في المجالات الأخرى التي تشير إلى الإيمان بإله واحد.

“وكما أن وجهة النظر العالمية المادية قد مارست نوعاً من السيطرة على الحياة العقلية في الثقافة الغربية لمدة 150 عاماً. وقد أصبحت وجهة النظر العالمية المخطئة في العلم، والفلسفة، والدراسة الأكاديمية بوجه عام. وبعض الناس الذين ينشقون عنها اجتازوا عدوانية شديدة، بل واضطهاد أحياناً. وهذا ما أحبط آخرين عن اكتشاف هذه المجال، أو التصريح بشأنه بشكل جيد”.

ذكرتني هذه النقطة باقتباس لسانداج، الذي قال مرة لمراسل صحفي إن المجتمع العلمي يحتقر الإيمان جداً حتى “إن هناك نفور من أن تكشف نفسك كمؤمن، فالازدراء قاسي جداً”[19].

واصل مير قائلاً: “وأخيراً، داخل الثقافة العلمية، توجد أنظمة معتقدات مشكوك فيها جداً من الناحية الفلسفية. فمثلاً، كثيرون يؤمنون أن لا بد عليه فقط أن يقدم التفسيرات الطبيعية التي تستبعد من اعتباراتها فرضية التصميم. ويرفض علماء كثير الاعتراف بهذا الدليل، ومن ثم ينمو نوع من “التفكير الجماعي”.

بدت إجابته مقبولة، لكنها أثارت سؤالاً من نوع آخر، فقلت: “هناك ملامح مختلفة لهذا الموضوع. فالمتشكك مايكل شيرمر قال إن أغلبية الناس الذين يراهم في حركة “التصميم الذكي” مسيحيون[20]. ألا يقوض هذا شرعية علمهم؟ فربما هم يبحثون فقط عما يريدون أن يجدوه، وليسوا منفتحين على تفسيرات المذهب الطبيعي التي قد تكون كافية”.

بدا ان هذا التحدي قد أثار مير، فقال بحزم: “كل عالم له دوافع، لكن الدوافع لا علاقة لها بتقدير صلاحية النظريات العلمية، أو قضية في محكمة، أو حجة في الفلسفة. عليك أن تستجيب للدليل أو الحجة المقدمة، بغض النظر عمن يقدمها أو لماذا. وإن كان كل شخص في حركة التصميم الذكي متشدداً ويحضر الكنيسة المعمدانية، فهذا لي مهماً. فحججهم يجب أن تُقيّم على أساس استحقاقها”.

فسألته: “ولكن هل هي حركة مسيحية خالصة؟”

فأجاب: “كلا، فهناك علماء من أنصار التصميم الذكي، وهم لا أدريين أو يهود، لكنني ما زلت لا أعتقد أن هذا له صلة بالموضوع. فالغالبية العظمى من الناس المؤيدين للدارونية من أتباع المذهب الطبيعي أو المادي، لهذا يمكنك أن تلعب على دور الدوافع في كلا الاتجاهين”.

“بالإضافة إلى هذا، انظر إلى الأمر بهذه الطريقة: إن اقتنع عالم بالدليل القائل بأن الإيمان بالله حقيقي، وأصبح تابعاً لله، فهل يصبح عندئـذ غير مؤهـل للعمل بالعـلم في هذا المجال؟ بالطبع لا. أقول دعنا نتجاوز هذا الموضوع الجانبي، ونترك الدليل يتحدث عن نفسه. هل التصميم أفضل تفسير أم لا؟”

فقلت له: “هذا يقودني إلى السؤال الثالث. إن كان العلماء يسمحون بإمكانية العمل الإعجازي كتفسير، ألا يمنع هذا البحث المستقبلي؟ لقد اقترح عالم الأحياء كينيث ميلر أن الرجوع إلى وجود مصمم ذكي سينتج عنه طريق مسدود[21]. فلماذا تستمر في اكتشاف مجال ما علمياً، بينما قد تركت مهمتك وقلت: “إن الله فعل هذا؟”

فأجابني مير على الفور قائلاً: “أعتقد أن الوضع قد اختلف الآن”.

“كيف؟”

“لنأخذ موضوع الأصول على سبيل المثال. السؤال المطروح هو: كيف نشأت الخلية على الأرض؟ إن قلت: سوف ندعك تفكر في الإجابات التي تتضمن العمليات المادية، فإن هذا سيوقف أي استفسار، لأن أحد التفسيرات الممكنة لموضوع أصل الحياة هو أن الذكاء ربما يكون قد لعب دوراً في هذا الأمر”.

فقلت: “إذاً فأنت تعتقد أن استبعاد إمكانية التصميم الذكي يعرقل البحث العلمي والعقلاني”.

فأجابني: “هذا صحيح تماماً، وقد رأيته يحدث كثيراً”.

أشرت إليه قائلاً: “تريد أن تغير قوانين اللعبة، أليس كذلك؟”

فقال: “نعم، إلى حد ما. ولا أعتقد أنه من الصواب أن أستشهد بقاعدة ذاتية تقول بأن التفسيرات الطبيعية فقط يمكن أن يقرها العلم. فلتكن لنا فترة جديدة في تاريخ العلم حيث تكون لدينا قواعد منهجية ترعى فعلاً البحث المتحرر عن الحقيقة. يجب أن يُسمح للعلماء أن يتتبعوا الدليل حيثما يأخذهم، حتى وإن قادهم لاستنتاج قد لا يُريح البعض.

مشاركة نفس الأفكار

كان اعتراضي الرابع يختص بموضوع يسمى بـ “الغائية disteleology”؛ وهو يشير إلى تصميم ضعيف بوضوح في العالم البيولوجي والطبيعي. كتب ميلر: “لتبني تفسير التصميم، نحن مجبرون أن ننسب العديد من النقائص إلى المصمم”[22]. وتضمين هذا يقول بأن تصميماً ناقصاً لا يثبت وجود إله كامل.

استشهد ميلر بمثل عين الفقاريات. فقد كتب: “ربما علينا أن نتساءل لماذا وضع المصمم الذكي عصب الشبكية في الجانب الذي يواجه الضوء الداخل إلى العين. فهذا الترتيب يبدد الضوء، ويجعل رؤيتنا أقل تفصيلاً مما يجب أن تكون عليه، بل وتنتج عن ذلك بقعة مصمتة لو شد العصب من خلال الشبكية الحساسة للضوء لكي ينتج العصب البصري الذي يحمل الصور المرئية إلى المخ.[23]”

كما أن دارونيين آخرين، بمن فيهم ريتشارد داوكنز من أكسفورد، انتقدوا التركيب الضعيف للعين. أما جورج ويليامز فقد انطلق ليعلن أن العين قد صممت “بغباء” لأن ” الشبكية موجودة في وضع معكوس”[24].

فتحفز مير للرد: “هناك سبب نفسي مهم يفسر لماذا الشبكية مقلوبة في العين. فداخل التصميم الكلي للنظام، يمثل توازن يسمح للعين أن تعمل الكمية الكبيرة من الأوكسيجين التي تحتاجها في الفقاريات. نعم، هذا يخلق بقعة مصمتة طفيفة، لكن هذه ليست مشكلة لأن للناس عينان، والبقعتان السوداوان المصمتان لا تتداخلان. في الحقيقة تصميم مذهل”.

بعدما قال هذه الكلمات، وقف مير واتجه إلى الجانب الآخر من الغرفة، حيث كانت حقيبته تستند على مكتب. قلب بعض الأوراق، وأخرج في النهاية نسخة مصورة من مقال.

قال وهو يسلمها لي: “في الحقيقة، كتب عالم الأحياء جورج أيوب هذه المقالة لتفنيد الادعاء بأن العين قد أسيئ خلقها”. نظرت إلى المقال الذي يستنتج فيه أيوب؛ أستاذ متخصص في الفيزيولوجيا الخلوية للشبكية، ما يلي:

“إن شبكية الفقاريات تقدم مثالاً ممتازاً للتصميم الوظيفي غير الحدسي. فتصميم الشبكية مسؤول عن حدتها وحساسيتها العالية. وليس حقيقياً ببساطة أن الشبكية عضو ضعيف، وليس من السهل أن نتخيل كيف يمكن أن تُعدل دون إنقاص وظيفتها”[25].

شعرت ببعض الكدر، فوضعت المقالة وقلت: “ربما لا يكون هذا مثالاً جيداً لرداءة التصميم، لكن هناك أمثلة أخرى كثيرة”.

فقاطعني مير: “لا تنتقل بسرعة كبيرة. هناك درس جيد ههنا. فالناس يقدمون ادعاءات كثيرة عن تصميم بيولوجي سيء، ولكن في بعض الأحيان تتغير الصورة كلها عندما تسمع بقية القصة. فمثلاً، يطلق الناس على تصميم معين أنه سيء لأنهم ينظرون إلى عامل واحد فقط، ويدعون أنه كان من الممكن أن يكون قد صمم بشكل أفضل. ومع ذلك، يعرف المهندسون أن كل التصميمات تتطلب جمع كل العوامل، ومن هنا فإن التوازنات لا يمكن تجنبها لخلق النتيجة الكلية الأفضل”.

كانت هذه جملة طويلة تتطلب توضيح، فقلت له: “أعطني مثالاً”.

فأشار إلى كمبيوتر آبل في الحقيبة المفتوحة، عند قدميّ. وقال: “أحياناً ما يُقدم مثال الكمبيوتر المحمول. يمكنك أن تنظر إلى الشاشة وتقول: “تصميم سيء، كان يجب أن يكون أكبر حجماً”. ويمكنك أن تنظر إلى الذاكرة وتقول: “تصميم سيء؛ كان يجب أن يكون أكثر سعة”، ويمكنك أن تنظر إلى لوحة المفاتيح وتقول: “تصميم سيء”؛ كان يجب أن تكون أكثر سهولة في الاستعمال”.

“لكن المهندس ليس مفروضاً عليه أن يصنع أفضل شاشة، وأفضل ذاكرة، وأفضل لوحة مفاتيح – لكن من المفروض أن ينتج أفضل كمبيوتر بحجم، ووزن، وثمن معين، ومتطلبات نقله. هل كان من الممكن أن تكون الشاشة أكبر؟ نعم، ولكنها ستكون أثقل وزناً. هل كان من الممكن أن تكون الذاكرة أكثر سعة؟ بالطبع لكن التكلفة ستكون أكثر”.

“لذلك هناك توازنات لا يمكن تجنبها. يمكنك انتقاد كل جزء على حدة، ولكن ليست هذه هي القضية. فالقضية الحقيقية هي كيف يعمل الكمبيوتر المحمول جيداً. هذا هو الفكر الهندسي الجيد. وهذا يفسر بعض الأمثلة التي ذكرناها”.

بينما كان هذا الكلام يشكل معنى، إلا أنه لم يجب على كل الاستفسارات، فقلت له: “عليك أن تعترف بأن هناك بعض الأمثلة التوضيحية لـ “رداءة التصميم” يصعب تفسيرها للغاية”.

فأجابني: “لست أنكر هذا. فبعضها سخيف، والبعض الآخر أكثر مدعاة للتفكر والاهتمام؛ فهي تتطلب مجهود التفكير العميق. مثلاً، إدعى جولد أن إبهام حيوان الباندا يبدو أن به نوع من الضعف jerry-rigged، وغير مصمم. أما الخبراء المتخصصون في الباندا فيقولون إن تصميمه هكذا فعال جداً لأنه يساعد في نزع لحاء البامبو. ففي ظل غياب معيار تحديد التصميم الجيد، الذي لا يمكن لجولد أن يقدمه، يصعب أن نقول ما إذا كان تصميماً جيداً أو رديئاً. فهو يبدو أنه يؤدي وظيفته بطريقة رائعة.

“التوضيحات الأخرى لـ “الغائية” تدخل في موضوعات ثيوقراطية، أو قبول الإيمان بالله وبالشر الطبيعي. فمثلاً، ماذا عن الفيروسات والبكتيريا التي تؤذي الناس؟ هل الله هو الذي خلقها؟ آمن اللاهوتيون الطبيعيون في القرن التاسع عشر أنه إذا كان الله الكامل قد خلق العالم، عندئذ سيكون العالم كاملاً، ولهذا لم يكونوا مؤهلين جيداً للتعامل مع حجج دارون المتعلقة بالغائية”.

“ومع ذلك، فمن وجهة نظر كتابية، لا يوجد توقع بأن الطبيعة ستكون كاملة. فالكتاب المقدس يقول إنه كان هناك فساد او تدهور لأن الشر قد دخل العالم وأفسد التصميم الأصلي. ولم نُعطي كل التفاصيل لكيفية حدوث هذا، لكن رسالة بولس إلى أهل رومية تؤكد ان العالم الطبيعي يئن للفداء، لأنه حدث خطأ في الخليقة الأصلية[26]. وبناء على القول الكتابي، يمكننا أن نتوقع أن نرى في الطبيعة كلاً من دليل التصميم، وأيضاً دليل التدهور والفساد – وهذا ما نراه فعلاً”.

حان الوقت كي ننتقل إلى شيء آخر، لكنني نظرت إلى الكمبيوتر المحمول في حقيبتي. وكان عليّ أن أصرح بأن تفسيرات مير الأساسية عن رداءة التصميم كانت تحمل معان واضحة.

خريطة المستقبل

بينما كنا نستجمع حديثنا، شعرت قليلاً بنفس شعور مير عندما حضر مؤتمر دالاس في العام 1985: متحمساً للدفاع العلمي التأكيدي لوجود الله. وحتى الآن، كان الدليل من التلسكوب إلى الميكروسكوب يشير بقوة في إتجاه خالق – وهذه حالة لم أكن أحلم بتحقيقها على الأطلاق عندما كنت طالباً. فتولدت في داخلي رغبة ملحة لمواصلة بحثي.

كنت لا أزال أختبر في داخلي تشككاً كامناً. هل سيعلق الدفاع عن خالق بينما كان يُفحص بعناية أكثر، وبينما كنت أحاور خبراء بكل الأسئلة التي انتابتني؟ ما التفاصيل الجديدة الجذابة التي يمكن أن يقدمها أولئك الذي قضوا سنوات في دراسة فئات متنوعة من الأدلة التي وصفها مير؟ هل سيخرج دفاعه قوياً أم ضعيفاً أم محطماً؟

كصحفي مختص بالشؤون القانونية، شاهدت الكثير من المحاكمات حيث يقدم المدعي وجهة نظر مقنعة للدليل أثناء دفاعه الافتتاحي لهيئة المحلفين. لكن القاضي يوجه هيئة المحلفين دائماً بأن كلمات المدعي ليست هي الدليل. إنها مجرد خريطة تساعده على تقديم الشهادة اللاحقة من خلال الشهود.

وبنفس المعنى، هذا ما أتاحه لي مير: ملخص الدليل العلمي للإيمان. والآن حان الوقت بالنسبة لي لمحاورة خبراء الكونيات، والطبيعة، والفلك، وعلم الأحياء المجهري، والمعلومات البيولوجية، والوعي كي أرى ما إذا كان الدفاع قوياً جداً كما قال مير. كانت خطتي أن أبدأ من البداية – أصل الكون، الذي حدث في انفجار للطاقة كان في منتهى القوة حتى إن صداه ما زال يُسمع بعد مرور بلايين السنين. لم أسع انتظار لحظة البداية!

ابتسامة الله الساخرة

ومع ذلك، لم أرد أن أغادر قبل قضاء عدة لحظات للتأمل في انطباعاتي عن مير. لقد أعجبت بشكل خاص بمزيجه المحبب من العمق الأكاديمي للأستاذ الجامعي، وذكاء المحامي، والجدية الساحرة للمتحمس. ولكن بينما كنا نتحدث كثيراً عن العلم، وقليلاً عن الفلسفة، وأقل عن اللاهوت، أدركت أننا لم نتطرق إلى تأملات مير الخاصة. فرحلته من كونه عالم إلى مدافع عن التصميم الذكي كانت شيقة بالنسبة لن، وشعرت بنوع من الفضول كي أعرف شيئاً عن حياة ستيفن مير الروحية.

فسألته: “عبر السنوات التي درست فيها الأدلة العلمية التي تؤيد الإيمان بالله، كيف أثر ذلك على إيمانك؟”

فأجابني: “لا جدال انه قد شدد إيماني، كان إتجاهي بالتحديد نحو اكتشافات أكثر تشير إلى الله، وهذا ما يثيرني. هناك أناس أكثر وأكثر يجدون أنفسهم منفتحين على الله نتيجة للاكتشافات الحديثة التي تجعل الإيمان بالله أفضل تفسير لدليل الطبيعية”.

وبقوله هذا توقف. لقد كانت إجابة آمنة، لكني خمنت أنه كان يحسب ما إذا كان عليه أن يخاطر أكثر من ذلك. شعرت أنه إنسان يشعر بارتياح وهو يطري فضائل الأحياء المجهرية أكثر مما يتطرق إلى موضوع شخصي كعلاقته الخاصة مع الله. ولكن فيما جلست بهدوء مصغياً، كان على وشك أن يبرهن خطأ إحساسي.

واصل كلامه: “هناك شيء واحد لم أخبرك إياه عن رحلتي الروحية؛ وهو أنه لمدة سنتين من حياتي، كنت منجذباً جداً لرؤية نيتشه عن الوجودية. فقد كان نيتشه لديه اعتراض مختلف عن تلك التي كنا نتحدث عنها. لقد تساءل: لماذا يجب أن يحكم الله وأخدم أنا؟ واقتنعت بهذا السؤال. فلماذا يكون شرط سعادتي خاضعاً لإرادة الله؟ شعرت أنه لا يمكنني أن أكون سعيداً بدونه، وكنت أعلم أن أسلوب حياتي الرديء قد جلب لي البؤس. وانتهى بي الأمر بأنني كما لو كنت أتحدى الله وأنا في حقل قمح في ولاية واشطن”.

“ما أقصده هو أن الثورة الذهنية التي يتحدث عنها الرسول بولس حقيقية تماماً في حياتي الخاصة. وحتى اليوم في تفكيري المسيحي، أجد في نفسي ميلاً للاتجاه إلى ما يشير إليه بولس كالذهن الطبيعي. وإليك كيف يفيدني الدليل العلمي المؤيد لله: إنه يغيرني. إنه يساعدني في إدراك أنه رغم ميلي الطبيعي نحو التركيز الذاتي والاستيعاب الذاتي، لا يمكنني أن أتجاهل ما حققه الله في هذا العالم كي يجعل كل إنسان يعرف أنه حقيقي، وأنه الخالق، وأننا بحاجة لأن نتصالح معه”.

“لا أرى ذلك في علم الكونيات والطبيعة والأحياء فقط، بل أيضاً في الرؤيا التاريخية للكتاب المقدس، وأساساً في رؤيا يسوع المسيح نفسه. إنه مؤثر للغاية! كان أينشتين يؤمن بهذا. وكان نابليون يؤمن بهذا. لقد أسر هذا الناصري ألبابهم، وما زال يأسر لبي أنا أيضاً”.

“أتذكر أنني فكرت ذات مرة أنه إن لم يكن يسوع الكتاب المقدس حقيقياً، لكنت بحاجة لعبادة من خلقه. إن يسوع أسمى تماماً من تفكيري! ودليل وجود الله في الطبيعة يقودني باستمرار إلى شركة أعمق وأكمل معه. ودراستي للأدلة العلمية ليست منفصلة عن حياتي كمسيحي، لكنها مشكلة من خلال ذاك الاختبار”.

“أتذكر عندما بدأت لأول مرة تدريس منهج جامعي عن أدلة وجود الله، انتقدني بعض الناس الذي ادعوا أن مثل هذه الحجج يمكنها أن تجعل من العقل صنماً. أو من العلم إلهاً. شعرت بالقليل من التحفظ لفترة، لكني لم أستمر في هذا التحفظ. لقد توصلت حتى إلى اقتناع أقوى بأن هذا هو الدليل الذي استخدمه الله كي يكشف لنا ذاته”.

“انظر إلى النجوم في سماء الليل، وأتأمل في تركيبة وخواص جزيء الـ DNA الحاملة للمعلومات، وتكون هذه فرص كي أعبد الخالق الذي أتى بها إلى الوجود. أفكر في الابتسامة الساخرة التي قد تظهر على شفتي الله بينما ظهرت في السنوات القليلة الماضية كل أنواع الأدلة على صحة الكتاب المقدس، وخلق الله للكون والحياة. أؤمن أنه سمح أن ينكشف لنا كل هذا بعنايته السماوية، وأنه يُسر عندما نكتشف بصمات أصابعه في الكون الواسع، وفي بقايا علم الباليونتولوجي الغبارية، وفي تعقيد الخلية”.

“ولهذا فإن اكتشاف الأدلة العلمية والتاريخية على وجود الله ليس مجرد اختبار معرفي، بل أيضاً نوع من العبادة بالنسبة لي. إنه وسيلة لإعطاء الخالق الفضل، والاحترام، والمجد الذي يستحقه. وأن ننسب الخلق لمجرد عملية طبيعية بمثابة نوع من الحب الأعمى الذي نميل إليه جميعاً. لست أدين زملائي أنصار المذهب الطبيعي لميلهم إلى ذلك. فقد كنت أنا كذلك. وكل منا لديه ميلاً للتقليل من قدر الله، وأن نفكر ونتصرف كما لو لم نكن عمدنا حقاً في خليقته، وأننا لسنا بأنفسنا نتاج قوته الخالقة الجبارة.

“إن النظر إلى الأدلة – في الطبيعة وفي الكتاب المقدس – يذكرني باستمرار من هو الله. ويذكرني من أنا أيضاً – إنسان يحتاج إليه”.

 

 

 

 

لمزيد من الأدلة

مصادر أخرى حول هذا الموضوع

Dembski, William. The Design Revolution: Answering thd toughest Question about Intelligent Desgin.

Downer’s Grove,III., Intervarsity 2004.

McGrath. Alister. The Face of God. Grand Rapids, Mich.;Eerdmans. 2002.

Meyer. Stephen C. Evidence for Design in Pysics and Biology. “In Science and Evidence for Design in the Universe, eds. Michael J. Behe, William A. Demski, and Stephen C. Meyer. San Francisco;. Ignatius. 1999.

– “Modern Science and Return of God Hypothesis. “In Science and Christianity: Four Views, ed. Richard F. Carlson. Downer’s Grover, III.: InterVarsity, 2000.

Moreland, J. P. Christianity and Nature of Science.

Grand Rapids, Mich.: Baker. 1989.

Witham. Larry. By Design: Science and Search for God. San Francisco;. Encounter. 2003.

[1] Steven Weinberg, “ADesigner Universe?” The New York Review of Books (October 21, 1999), adapted from a talk given at the Conference on Cosmic Design of the American Association for the Advancement of Science. Washington, D.C., April 1999 (emphasis added).

[2] John Plokinghorne, Quarks, Chaos, and Christianity (New York: Crossroad, 1994), xii.

[3] Sharon Begley, “Science Finds God,” Newsweek (July 20, 1998).

[4] Ibid.

[5] See: Dean H. Kenyon and Gary Steinman, Biochemical Predestination (New York: McGraw-Hill, 1969).

[6]Allan Sandage, “A Scientist Reflects on Religious Belief,” available at: www. Leaderu. Con/truth/ltruth5.html (January 7, 2003).

[7] J. P. Moreland, Christianity and the Nature of Science, 103.

[8] Review of Carl Sagan, The Demon-Haunted World: Science as a Candle in the Dark (New York: Ballantine, 1997) in the New York Review of Books (January 9, 1997).

[9] Stephen Jay Gould “Nonoverlapping Magisterial,” Natural History 106 (March 1997). See also: Stephen Jay Gould Rocks of Ages (New York: Ballantine, 1999).

[10] Stephen Jay Gould, Rocks of Ages, 14.

[11] Phillip E. Johnson, “The Church of Darwin,” Wall Street Journal (August 16, 1999).

[12] See: Malcolm W. Browne, “Clues To Universe Origin Expected,” New York Times (March 12, 1978).

[13]Fred Hoyle, “The Universe: Past and Present Reflections,” Annual Review of Astronomy and Astrophyics 20(1982).

[14] Paul Davies, The Comsmic Blueprint (New York: Simon & Schuster, 1988), 203.

[15] Richard Dawkins, River Out Eden (New York: Basic Books, 1995), 10.  

* الإيمان بالله بغير الاعتقاد بديانات منزلة.

[16] Stevern HGifis, Law Dictionary (Woodbary, N.Y.: Barren’s Educational series, 1975), 33-34.

[17] David Briggs, “Science, Religion Are Discovering Commenality in Big Bang Theory,” Los Angeles Times (May 2, 1992).

[18] See: Michael Shermer, How We Believe (New York: W. H. Freeman, 2000, 72-73, 251.

[19] Sharon Begley, “Science Fends God,” Newsweek (July 20, 1998).

[20] Michael Shermer, How We Believe, xxix.        

[21] Kenneth R. Miller, Fending Darwin’s God (New York: Cliff Street Books, paperback edition, 2000), 28.

[22] Ibid., 101.

[23] Ibid.,

[24] G. C. Williams, Natural Selection: Domainns, Levels and Challenges (Oxford: Oxford University Pess, 1992), 73, 72.

[25] Goerge Ayoub, “On the Design of the Vertebrate Retina,” Origins & Design 17:1, Winter, 19%.

[26] Romans 8:22 “We Know that the whole creation has been groaning as in the pains of childbirth right up to the present time.”

حيث يلتقي العلم بالإيمان – لي ستروبل

تقييم المستخدمون: 3.75 ( 1 أصوات)