أبحاث

قيامة المسيح – دكتور نصحى عبد الشهيد

قيامة المسيح – دكتور نصحى عبد الشهيد

قيامة المسيح - دكتور نصحى عبد الشهيد
قيامة المسيح – دكتور نصحى عبد الشهيد

قيامة المسيح – دكتور نصحى عبد الشهيد

قيامة المسيح حقيقة تعلو فوق إدراك العقل البشري، وذلك لأن قيامة المسيح هي قوة ألوهيته غير المنظورة التي صارت ظاهرة في جسده الذى اتخذه من العذراء، أو هي لاهوته محسوسًا في جسم بشري، وبنوع خاص معلنًا في مواجهة موت الجسد.

 

1 ـ المسيح هو القيامة لأنه هو الحياة بطبيعته:

          ذكر المسيح كلمة “القيامة” في حديثه عن نفسه بقوله ” أنا هو القيامة والحياة” كإضافة إلى حقيقته الأصلية لكونه هو الحياة وذلك بسبب  اتخاذه جسدًا، ولكنه أصلاً هو “الحياة” بل هو خالق الحياة وأصل كل حياة كما قال ” أنا هو الحياة” (يو6:14)، فهو الحياة بألوهيته أزليًا مع الآب، فكما أن ” الآب له الحياة في ذاته” هكذا أيضًا فإن ” الابن له أيضًا الحياة في ذاته” (انظر يو26:5)، فهو الوحيد الذي له حياة في ذاته مع الآب، وهو الحياة الحقيقية والخالق لكل حياة ووجود، إذ ” به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ مما كان” (يو3:1).

          المسيح هو ينبوع الحياة ومصدرها قبل أن يوجد موت. فالحديث عن القيامة جاء نتيجة دخول الموت إلى الطبيعة البشرية، فهو الحياة في ذاته أزليًا ولكنه عندما جاء إلى بيت عنيا ليواجه موت لعازر، تحدث عن نفسه بقوله ” أنا هو القيامة والحياة” (يو25:11). ولكنه قبل ذلك صرّح بأنه هو الحياة، وأنه الخبز الحيّ وأنه خبز الحياة (انظر يو35:6 و48و51)، وأنه الخبز النازل من السماء الواهب حياة للعالم (انظر يو33:6)، فهو الذي له الحياة في ذاته. وعبارة له الحياة في ذاته تعنى أنه هو ذاك الذي له القدرة بطبيعته أن يعطى الحياة لغيره ولا يكتسبها من غيره. وإن حدث موت فهو وحده الذي له القدرة في ذاته أن يلاشى هذا الموت. يقول القديس أثناسيوس في كتابه “تجسد الكلمة”: [ المسيح كلمة الله هو الذي خلق منذ البدء كل شئ من العدم وهو وحده الذي يستطيع أن يجعل الإنسان المائت غير مائت لأنه هو الحياة ذاتها][1].

وكلمة “لأنه هو الحياة ذاتها” تعنى تمامًا ما قاله الرب عن نفسه: ” الابن له الحياة في ذاته” (يو26:5). “فالحياة ذاتها” أو “له الحياة في ذاته” لا تعنى فقط أنه مجرد شخص حيّ، فالإنسان كائن حيّ ومع ذلك يوجد موت في حياته رغم ما يُقال عن الإنسان إنه حيّ، إذ يأتى عليه وقت لابد أن يموت فيه لأنه يحمل بذرة الموت في داخله كأحد عناصر وجوده البشري المائت. أما الله فليس كذلك إذ يقول الرسول عن الله:   ” الذي وحده له عدم الموت ساكنًا في نور لا يُدنى منه” (1تي16:6). ونقول في صلاة التقديسات الثلاث ” قدوس الحيّ الذي لا يموت”، فهذا الحيّ الذي لا يموت، هو الذي تجسد من العذراء، الذي هو الحياة بطبيعته.

          فالمسيح هو الحياة وهو نبع الحياة، قبل أن يكون هناك موت وبالتالى قبل أن يكون هناك احتياج لإقامة موتى (كما في حالة لعازر). وهنا ينبغي أن نفهم معنى الحياة أنها ليست أى حياة بل هي حياة إلهية، أى لا يوجد بها موت بالمرة، وهي ما يسميّها المسيح في الإنجيل “الحياة الأبدية”. وهذه الحياة تُوصف بأنها أبدية، لأنها حياة الله الأبدي الذي لا يموت، وليس بمعنى أنها استمرار حياة الإنسان بدون موت جسدى. والرسول يوحنا قال في رسالته الأولى عن المسيح إنه:         ” الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا” (1يو2:1).

          فالمسيح هو الحياة الأبدية، ولذلك فهو يحيى الكل سواء كانوا ملائكة أو بشر أو غيرهم من المخلوقات، فكل الكون وكل المخلوقات تستمد وجودها وحياتها منه، كما يقول الرسول “به نحيا ونتحرك ونُوجد” (أع28:17). وهكذا فإن استمرارنا في الحياة وفي الوجود لحظة بلحظة إنما يعتمد على إرادة ذاك الذي هو الحياة ذاتها والذى نستمد منه الحياة بصفة دائمة. ولهذا يقول عنه الرسول بولس ” الذي هو قبل كل شئ وفيه يقوم الكل” (كو17:1). بمعنى أن كل المخلوقات تستمر في الوجود وتُحفظ قائمة وموجودة فيه، وبدون إرادته لا تستمر في الوجود بل تتلاشى. وهنا ينبغي أن نذكر أنه لا يوجد كائن أيًا كان ـ حتى الملائكة ـ غير قابل للاضمحلال والتلاشة إلاّ الله وحده، لأنه هو الكائن بذاته، هو وحده الحياة والحيّ الذي لا يموت، هو الذي ” له وحده عدم الموت“. وقد يتساءل أحد، وهل الملائكة أيضًا يمكن أن يموتوا؟ نقول نعم يمكن أن يموتوا، فلو أن الله أراد أن لا يستمروا في الوجود فإنهم في هذه الحالة سيتلاشون. وهذا ينطبق أيضًا على النفس البشرية.

فالنفس ليست خالدة بطبيعتها ولكنها تستمد الحياة وهي في الجسد، بل وبعد موت الجسد من مصدر الحياة الذي لا يموت، وهو المسيح الذي يحيى الكل، كما قال في الإنجيل: ” من يؤمن بي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير“، و” من يأكل جسدى ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (انظر يو54،40:6)، وأيضًا كما قال الرب قبل إقامة لعازر مباشرة: “.. وكل من كان حيًا وهو يؤمن بي فلن يموت إلى الأبد” (انظر يو26،25:11). أى أن نفس الإنسان تستمد عدم الموت والخلود من إيمانها بالمسيح الذي يعطى حياة أبدية للنفس منذ الآن وتستمر هذه الحياة إلى الأبد، كما أنه يعطى الخلود لأجساد المؤمنين به المتناولين من جسده ودمه بإقامتها ” إلى قيامة الحياة” (انظر يو29:5). فالمسيح ابن الله الحيّ هو وحده الحياة بطبيعته، هو “الحياة ذاتها”، هو الحيّ الذي لا يموت.

 

2 ـ القيامة والصليب متلازمان:

          في عبادة الكنيسة الأرثوذكسية وتقليدها يُنظر إلى القيامة على أنها لا تنفصل بالمرة عن صليب المسيح. تذكر الرسالة إلى العبرانيين أن ذبيحة المسيح على الصليب تعلن عن بداية تمجيده فالمسيح: ” بعدما قدَّم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله” (عب12:10)، وأيضًا ” من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي فجلس في يمين عرش الله” (عب2:12). وفي الحقيقية فإن موت المسيح على الصليب مرتبط بلا انفصال بقيامته، ولا يمكن التفكير في موته بدون التفكير في قيامته، بل إن موته شرط لازم لقيامته، كما أن موته هو الطريق إلى قيامته. وأبسط توضيح للارتباط الوثيق بين الصليب والقيامة هو ما تسبح به الكنيسة في مديح القيامة “تنّاف” ” ننظر قيامة المسيح” الذي نقول فيه: ” تعالوا يا جميع المؤمنين لنسجد لقيامة المسيح لأنه من قِبل صليبه دخل الفرح إلى العالم كله”.

فالكنيسة لا تفصل ـ في العبادة والصلاة ـ بين الصليب والقيامة، فالفرح هو من قِبل الصليب، ومعروف طبعًا أن الفرح هو من القيامة. إذن قيامة المسيح وصلبه هما وجهان لعملة واحدة. فلا يمكن أبدًا أن تكون حقيقة الصلب موجودة ولا تكون معها حقيقة القيامة في نفس الوقت، رغم وجود فارق زمنى بين الصليب والقيامة.

فبسبب خبرتنا البشرية بالزمن نحتاج لعمل فاصل بين وقت الصلب ووقت القيامة، ولكن كما نعرف من تسبحة دورة القيامة أن المسيح داس الموت بالموت: ” بالموت داس الموت والذين في القبور أنعم عليهم بالحياة الأبدية”. فالمسيح داس الموت بموته على الصليب قبل أن يقوم في اليوم الثالث. إذن فقيامة المسيح كانت حاضرة ومختفية في جسده منذ أن غلب الموت بالصليب وانتصر على الشيطان بالصليب. ونعرف أن هذه التسبحة مأخوذة من الرسالة إلى العبرانيين في قول الرسول عن المسيح إنه: ” اشترك في اللحم والدم لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أى إبليس” (عب14:2). فالمسيح أباد الموت بصليبه أو اباد الشيطان صاحب سلطان الموت، وأنعم بالحياة الأبدية لنفوس أبرار العهد القديم بذهابه إليهم في عالم الأموات السفلى قبل أن تحدث القيامة، ونقلهم إلى الفردوس مع اللص حسب قول الرب له: ” اليوم تكون معى فى الفردوس” (لو43:23)، أي في يوم الصلب. وهكذا بصليب المسيح دخل الفرح إلى عالم ما فوق الأرض وأيضًا إلى عالم ما تحت الأرض.

وفي عبادة الكنيسة نلاحظ أن تكريم الصليب مرتبط بلا انفصال مع تمجيد القيامة. وهذا الارتباط نجده في مرد دورة عيد الصليب: ” من قِبل صليبه وقيامته المقدسة رد الإنسان مرة أخرى إلى الفردوس”، وأيضًا في صلاة رفع البخور: ” يسوع المسيح… اصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة.. من قِبل صليبه وقيامته المقدسة رد الإنسان مرة أخرى إلى الفردوس”. وايضًا في القداس الإلهي نصلى قائلين: ” آمين، آمين، آمين بموتك يارب نبشر وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السموات نعترف، نسبحك، نباركك…”.

          إذن فالصليب والقيامة مرتبطان بشكل وثيق، ولا يجب التفكير في أحدهما بدون الآخر، ولكن يحدث أحيانًا بسبب عجز عقلنا البشري أن نركز مثلاً على الصليب وننسى القيامة أو العكس نركز على القيامة وننسى الصليب. ولكن بدون القيامة لا يكون هناك غفران، لأن عمل الفداء لم يكتمل بالصليب وحده. وفي الاختبار المسيحي لا توجد قيامة وتمجيد بدون صليب وألم كما يقول الرسول: ” إننا وارثون مع المسيح، إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضًا معه” (رو17:8).

 

          وخلاصة الأمر، أن عمل المسيح الخلاصي وانتصاره على الخطية والموت يظهران بقوة فعّالة وببرهان واضح في القيامة. وهذا هو ما نخاطب به المسيح في صلاة الساعة التاسعة قائلين: ” أبطلت الموت بموتك وأظهرت القيامة بقيامتك”. إذن، فقوة القيامة كانت موجودة في جسد المسيح منذ أن غلب الموت بالصليب، ولكنها كانت خفية وغير ظاهرة إلى أن أُظهرت هذه القيامة المجيدة في اليوم الثالث بقيامته من بين الأموات. لذلك فإن قيامة المسيح هي كمال العمل الخلاصى وأعلى مرحلة في هذا العمل الذي عمله الرب الكلمة المتجسد. هذا العمل الخلاصي، أو كما يسميه الآباء “تدبير الخلاص” يبدأ بالتجسد ويصل ذروته في صعود المسيح بعد صلبه وقيامته وجلوسه في يمين الآب، كما يقول الرسول: “.. بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس (أي يمين عرش العظمة) فوجد فداءً أبديًا” (عب12:9).

 

3 ـ القيامة محور كرازة الرسل:

          ولهذا السبب صارت قيامة المسيح هي محور ومركز وأساس بشارة الرسل بالمسيح. فكانوا يبشرون الناس بأن يسوع قام من بين الأموات. وقد يتساءل أحد لماذا لم يكونوا يبشرون بصلب المسيح بدل التبشير بقيامته؟

 

          والجواب هو أن كل الناس في أورشليم واليهودية كانوا يعرفون أن يسوع صُلب ومات، ولا يوجد أمر معجزى في كونه صُلب. فالجميع يقولون قد صلبنا هذا الإنسان المدعو يسوع وتخلّصنا منه، ولكن لم يكن هناك أحد يقول إن يسوع الذي صلبه رؤساء اليهود قد قام، لأنه لم يكن أحد يصدق بالمرة أنه قام بعدما رأوه يُصلب علنًا ويموت أمام الجميع.

          فالبشارة هي بالمسيح الحيّ الذي قام من بين الأموات. وهذه هي البشارة الأبدية التي لا تزال الكنيسة تعلنها للعالم كله مقتفية آثار الرسل، بأن يسوع المسيح غلب الموت وهو لا يزال حيًا بمجد عظيم وله كل السلطان وكل القوة في السماء وعلى الأرض وفي حياة كنيسته وفي الحياة الخاصة للمؤمنين به، وكذلك له السلطان في الحياة العامة والسيادة على كل الأمم والرئاسات والسلاطين وفي جميع الأكوان، وفوق جميع السماوات. فيسوع حيّ وله كل السلطان والمُلك والربوبية في كل الخليقة كما يقول معلمنا بولس الرسول عن العمل العظيم الذي عمله الآب في المسيح: ” إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضًا” (أف19:1ـ21). أى له كل الرياسة والسيادة فوق كل ملك أو رئيس في هذا العالم أو ملاك أو شيطان في العالم غير المنظور. فهو فوق كل سلطان في كل الوجود في السماوات وعلى الأرض.

          ويخبرنا سفر الأعمال أن الرسل عندما أرادوا أن يختاروا واحدًا بدلاً من يهوذا الخائن قالوا ما يفيد بأن مهمة الرسل الأساسية هي أن يكونوا شهود لقيامة المسيح “.. يصير واحدًا منهم شاهدًا معنا بقيامته” (انظر أع22:1). كما يخبرنا سفر الأعمال أيضًا  بأن الرسول بولس عندما كرز في أثينا، كان يبشر للفلاسفة اليونانيين ” بيسوع والقيامة” (انظر أع18:17). لذلك فالكرازة هي بقيامة المسيح، وبأن المسيح قهر الموت والجحيم والخطية، فهو الذي أبطل سلطان الشيطان العامل في الموت والخطية والجحيم.

          فالمسيح أبطل الخطية بذبيحة صليبه، ثم أبطل الموت بموته، وأبطل سلطان الشيطان بالصليب. هذه الأعداء الثلاثة: الخطية والموت والشيطان أبطلها المسيح بقيامته ظافرًا بعد صلبه.

          إذن، فالإيمان هو بقيامة المسيح الذي أكمل هذه الغلبة المثلّثة لأجل خلاصنا. هذا الإيمان بالقيامة هو الأمر الأساسي والجوهرى جدًا في المسيحية، حتى أنه بدون هذا الإيمان بالقيامة لا تكون المسيحية سوى وهم لا جدوى منه، كما يقول الرسول بولس: ” وإن لم يكن المسيح قد قام فباطلة كرازتنا وباطل أيضًا إيمانكم أنتم بعد في خطاياكم” (1كو17،14:15). أى بدون الإيمان بقيامة المسيح أنتم لا تزالون في خطاياكم وهي لم تُغفر لكم بسبب عدم الإيمان  بقيامة المسيح، فالمسيح قام لأجل تبريرنا بعد أن أُسلِمَ لأجل خطايانا (انظر رو25:4).

 

4 ـ جسد المسيح في القيامة:

          لابد من الاعتراف أن طبيعة جسد القيامة تفوق الفهم والإدراك البشري، ولكن مما أخبرنا به الإنجيل يمكن أن نستمد نورًا وإلهامًا من قيامة المسيح عن طريق استيعابنا بقدر الإمكان لإعلانات الوحي في الإنجيل بقدر ما يساعدنا الروح القدس:

 

أ ـ الأكفان والقبر الفارغ:

          في الحقيقة إن قيامة المسيح حدثت بشكل سرى، فلم يرها أحد في العالم ـ لا المريمات ولا التلاميذ ولا حُرّاس القبر: فقبل الفجر وقبل أن تذهب المريمات لتطييب الجسد كان المسيح قد قام وانسحب من الأكفان، وترك الأكفان فارغة. فقد كانت الأكفان على شكل قالب يحيط بجسم المسيح منذ أن أنزلوه على الصليب ولفوه بالأكفان مع صب كميات ضخمة من الأطياب اللزجة التى تجعل من شرائط الأكفان المحيطة بالجسم كله، باستثناء الرأس، على شكل قالب صلب (مثل قالب الجبس)، أما الرأس فكما يقول القديس يوحنا في إنجيله فكان يوضع عليه منديل منفصل عن الأكفان. عندما قام المسيح وسرت حياته الإلهية في جسده، سَحَبَ الجسد من داخل الأكفان فترك الأكفان فارغة على شكل قالب مجوف وطُرِحَ المنديل الذي كان على الرأس بحركة الانسحاب، بعيدًا عن الأكفان. وهذا ما يمكن أن نفهمه من الإنجيل للقديس يوحنا عندما يقول: ” كان التلميذان يركضان معًا فسبق التلميذ الآخر (أي يوحنا نفسه) بطرس وجاء أولاً إلى القبر وانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل. ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودحل القبر ونظر الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعًا مع الأكفان بل ملفوفًا في موضع وحده. فحينئذٍ دخل أيضًا التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلى القبر ورأى فآمن” (يو4:20ـ8).

فما الذي رآه يوحنا فآمن؟ إنه لم ير يسوع نفسه ولكنه رأى منظر الأكفان فارغة والمنديل مطروحًا بعيدًا عن الأكفان، فأدرك بحسه الروحانى أن يسوع قام، وآمن من شكل الأكفان أنه قام قبل أن يراه. وهذا ما يقول عنه القديس كيرلس في شرحه لهذا الإصحاح من إنجيل يوحنا: [ ورغم أن التلميذين لم يكونا قد ألتقيا بعد بالمسيح قائمًا من بين الأموات، إلاّ أنهما استدلا على قيامته من وضع الأكفان][2].

 

          ووضع الأكفان بهذه الصورة التى جعلت يوحنا يؤمن هو أنه من المستحيل أن يخرج الجسد من قالب الأكفان، والأكفان باقية موضوعة كما هي إلاّ إذا كان هذا الجسد قد قام بسلطان وقوة صاحبه… ولا يستطيع أي لصوص أو سُرّاق أن يسرقوا هذا الجسد مع بقاء الأكفان بهذا الشكل، أي دون أن تُفك شرائط الأكفان المحيطة بالجسم بحركة لف عكسية تمامًا. فمنظر الأكفان هو وحده أول إشارة موّحية بالإيمان بأن المسيح هو الذي أخرج جسده من الأكفان بالانسحاب من داخلها، وأزاح المنديل في موضع آخر بعيدًا عنها.

          وبعد أن خرج الجسد من الأكفان بقوة القيامة الإلهية فإن المسيح الحيّ بجسده الذي يفيض بالطاقات والقدرات الإلهية خرج من القبر، والقبر مغلق بالحجر والأختام الرومانية موضوعة عليه. وهذه اللحظة، لحظة قيامة المسيح وخروجه من القبر بمجد فائق لم يبصرها أحد كما ذكرت، ولا يعرف أحد أين ذهب المسيح بعد قيامته مباشرةً.

          وبعد أن قام المسيح وترك القبر، ” نزل ملاك الرب من السماء” ودحرج الحجر عن باب القبر وجلس عليه، وقال للمريمات: يسوع ” ليس هو هنا لأنه قام كما قال، هلم أنظرا الموضع الذي كان الرب مضجعًا فيه” (مت2:28ـ6). فالملاك لم يدحرج الحجر عن القبر ليسهل على المسيح الخروج من القبر، بل العكس، الملاك دحرج الحجر لكي يشهد للمريمات أن يسوع قام قبل أن يدحرج الحجر. وأصبح القبر فارغًا لأن يسوع كان قد تركه قبل نزول الملاك. ولذلك يقول الملاكان للنسوة: ” لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات، ليس هو ههنا لكنه قام” (لو5:24ـ6).

 

ب ـ ظهور المسيح للتلاميذ والأبواب مغلّقة:

          مساء أحد القيامة كان التلاميذ مجتمعين في العُلّية والأبواب مغلّقة لسبب الخوف من اليهود. فجاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم. ثم ظهر لهم مرة أخرى بنفس الطريقة في الأحد التالى (أحد توما) (انظر يو19:20ـ29). لم يذكر الإنجيل كيف دخل يسوع والأبواب مُغلّقة. ومغلّقة تعنى أنها مغلقة بالغلق، والغلق هو عمود ضخم من الخشب يوضع خلف الباب من الداخل مثل أبواب الأديرة القديمة. بحيث لا يستطيع أي أحد أو أي أعداء مهاجمون أن يقتحموا المكان بدفعهم للباب. وكل هذا ـ كما يذكر الإنجيلي ـ بسبب الخوف من اليهود. فكيف جاء يسوع “ووقف في وسطهم فجأةً دون أن يكونوا متوقعين ذلك” كما ذكر القديس كيرلس في شرحه لهذه الآية[3]. هذا هو سر جسد قيامة المسيح الذي يفوق إدراكنا، فالمسيح بقوة ألوهيته أعطى لجسد قيامته القدرة أن يفعل ما هو مستحيل بالنسبة للأجساد الطبيعية. فهو يوجد في المكان الذي يريد أن يوجد فيه دون أى احتياج لأي فتحة أو نافذة أو باب. ويُظهر نفسه للتلاميذ ويتحدث معهم ويريهم يديه وجنبه ويعطيهم السلام… الخ. ثم بعد ذلك لا يذكر الإنجيل أين ذهب؟ وهذا ما يعبر عنه القديس كيرلس بقوله إن المسيح [أظهر في قيامته أنه قادر أن يستغنى عن أى خطة ووسيلة لتحقيق عمله. إذ أنه بقوته الإلهية الخارقة ارتفع فوق سلسلة الأسباب والنتائج][4].

          إذن، فجسد قيامة المسيح غير خاضع للحواجز المادية [رغم أنه قام بجسد مادي صلب.. وقد فعل المسيح هذا لأنه هو بالطبيعة الحياة وهو الله][5].

 

ج ـ طبيعة جسد المسيح في القيامة:

          نستدل من ظهورات المسيح المتعددة التى رواها الإنجيل أن المسيح بعد القيامة لم يكن يُرى بالطريقة العادية التى تُرْى بها الأجسام المادية. فقد كانت رؤية المسيح بعد قيامته متوقفة على إرادة المسيح أن يُظهر نفسه للمريمات أو التلاميذ فرادى أو مجتمعين. وهذا نلاحظه في كل الظهورات تقريبًا. فمثلاً، عندما ظهر لمريم المجدلية ظنت أنه البستانى ولم تعرف أنه الرب يسوع إلاّ عندما ناداها باسمها وقال لها: ” يا مريم” (انظر يو14:20ـ18). وعندما ظهر لتلميذى عمواس سار معهما عدة ساعات وهما يظنانه مسافرًا غريبًا ولم يتعرفا عليه إلاّ عندما اتكأ معهما وأخذ خبزًا وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما (انظر يو13:24 ـ35). وهكذا أيضًا عندما ظهر لسبعة من التلاميذ على بحر طبرية عند الفجر وكان التلاميذ يصطادون في البحيرة، فوقف يسوع على الشاطئ ولكن التلاميذ لم يكونوا يعلمون أنه يسوع، وبعد أن تحدث إليهم من على الشاطئ وأرشدهم أن يلقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن ليجدوا سمكًا، فإنهم لم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك، وعند ذلك اكتشف يوحنا أن الشخص الذي يتحدث معهم من على شاطئ البحيرة هو يسوع، فقال لبطرس ” هو الرب“. وبعد أن جذبوا السفينة إلى الشاطئ والشبكة ممتلئة بالسمك، دعاهم المسيح أن يقدموا من السمك الذي أمسكوه… ولم يجسر أحد من التلاميذ أن يسأله من أنت؟.. (انظر يو1:21ـ14).

          ويصف القديس يوحنا هذا الظهور بقوله: ” بعد هذا أظهر أيضًا يسوع نفسه للتلاميذ على بحر طبرية. ظهر هكذا” (يو1:21). وبعد ذلك يصف تفاصيل الظهور الذي أشرنا إليه. ونلاحظ أن القديس يوحنا يقول عن هذا الظهور: ليس أن التلاميذ هم الذين رأوا يسوع بطريقة الرؤية العادية بل أن يسوع هو الذي أظهر نفسه لهم. وهذا هو تحقيق ما سبق الرب أن وعدهم به في ليلة آلامه، ففي تلك الليلة قال لهم: “عندكم الآن حزن ولكنى سآراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو26:16). فهو لم يقل لهم ” إنكم ستروننى بعد قيامتى” ولكنه قال “سآراكم“، أي أنه هو الذي سيظهر لهم ويُريهم نفسه، وهذا ما حدث فعلاً. وهو نفس التعبير الذي استعمله القديس لوقا في سفر الأعمال عن المسيح بعد القيامة إذ قال عن الرسل ” الذين آراهم أيضًا نفسه حيًا ببراهين كثيرة بعدما تألم وهو يظهر لهم أربعين يومًا..” (أع3:1). فالمسيح هو الذي أراهم نفسه حيًا، ولم يروه هم من أنفسهم.

 

          وهذا يأتى بنا إلى حقيقة هامة عن رؤية المسيح بعد قيامته. فهو لم يظهر بعد قيامته لجميع الناس كما كانوا يرونه في شوارع اليهودية والجليل قبل صلبه، بل ظهر فقط للرسل وغيرهم من الشهود المختارين، لكي يشهدوا ويكرزوا للعالم بأن يسوع الذي صُلب عن خطايا العالم قام وأنه حي وقد ظهر لهم، وهذا ما قاله بطرس الرسول بكل وضوح في بيت كرنيليوس ” يسوع هذا أقامه الله في اليوم الثالث وأعطى أن يصير ظاهرًا ليس لجميع الشعب بل لشهودٍ سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات” (أع40:10ـ41).

 

+ التعرف على شخص يسوع بعد القيامة:

          نلاحظ في عدة ظهورات أنه كانت هناك صعوبة في التعرف على شخص المسيح بعد قيامته، بمجرد ظهوره، فمريم المجدلية مثلاً ظنت في البداية عندما ظهر لها أنه البستانى، وما الذي جعلها تظن هذا، ولا تعرف أن الشخص الذي أمامها هو الرب يسوع الذي كانت تعرفه قبل صلبه. لا نستطيع أن نجزم بشيء أكيد من جهة شكل المسيح بعد القيامة، لكن بلا شك أن بهاء لاهوته كان يفيض بمهابة غير مألوفة على وجهه مما جعل مريم لا تعرفه إلاّ عندما ناداها باسمها فعرفته من الصوت بمبادرة منه. وهكذا أيضًا في حالة تلميذي عمواس، فقد ظناه مسافرًا غريبًا رغم أنه مشى معهما عدة ساعات في الطريق، و” لكن أُمسكت أعينهما عن معرفته” (لو16:24). هذا الإمساك عن المعرفة هو متصل بطبيعة جسد قيامة المسيح. ونحن نعجز عن شرح كيفية حدوثه. ولم يعرفاه إلاّ بعد أن ” انفتحت أعينهما عند كسر الخبز فاختفى عنهما” (لو31:24).

          وفي ظهور المسيح للتلاميذ مساء الأحد حسب رواية القديس لوقا يقول: ” وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم“، فلما رأوه في وسطهم ” جزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحًا. فقال لهم ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يدي ورجليَّ إني أنا هو. جسونى وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما تروننى. وحين قال هذا أراهم يديه وجليه” (لو36:24ـ40).

          فما الذي جعل الرسل يجزعون ويظنون أنهم رأوا روحًا؟ وما الذي جعل يسوع يقول لهم ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ بلا شك كان هناك نوع من الجلال والمهابة الإلهية تشع من وجه يسوع حتى أنهم ظنوا أن الشخص الذي أمامهم ليس له جسد حقيقي. بل ظنوا أنه خيال أو شبح. وهذه هي التصورات والأفكار التي خطرت في قلوبهم التي يشير إليها الرب. لذلك قال لهم: ” جسونى” أي امسكوا يدي ورجلي لكي تتأكدوا إني قُمت بجسد حقيقي له لحم وعظام وليس مجرد روح فأنا لست خيالاً بل إن لى جسد حقيقي.

 

+ التغييرات في جسد القيامة:

          فالمسيح قام بجسد حقيقي مادى صلب وبدون هذا فلا تكون هناك قيامة حقيقية. وهذا الجسد الذي قام هو نفس الجسد الذي تألم به ولكن حدثت فيه تغييرات بقوة القيامة لا نستطيع أن نحصرها ونحددها بعقولنا، ولكن بلا شك أن شكل جسد القيامة والجمال الفائق المناسب له يفوق بما لا يُقاس كل ما أظهره المسيح خلال الأربعين يومًا. ولكن الرب كان مهتمًا بأن يخفى هذا المجد العظيم لسببين كما يقول القديس كيرلس: السبب الأول هو [ أنه رغم أن الوقت كان مناسبًا جدًا أن يغير المسيح جسده إلى شكل وجمال فائق يناسب القيامة، إلاّ أنه قرر بتدبيره وعنايته أن يظهر جسده بشكله كما كان منذ البداية، لكي لا يتصور أحد أنه يلبس شكلاً آخر غير ذلك الشكل الذي صُلِبَ به][6].

          والسبب الثاني كما يقول القديس كيرلس: [ إن عيوننا نحن البشر لم تكن لتستطيع أن تحتمل مجد جسد القيامة لو أن المسيح أراد أن يعلن مجد القيامة للتلاميذ قبل أن يصعد إلى الآب][7].

          ولكي يؤكد أنه هو نفسه يسوع الذي عرفوه قبل الصلب، وأنه قام بجسد حقيقي، فإنه إضافة إلى قوله “جسونى” طلب منهم طعامًا ليأكل قائلاً: ” أعندكم ههنا طعام… فناولوه جزءً من سمك مشوى وشيئًا من شهد عسل فأخذ وأكل قدامهم” (لو41:24ـ42). فجسد المسيح في القيامة لا يحتاج للطعام أو الشراب إذ هو جسم روحاني سماوى لا يتغذى على الأطعمة الأرضية، لكنه طلب طعامًا ـ كما هو واضح من رواية الإنجيل ـ لكي يأكل أمام عيونهم لكي يؤكد لهم أنه قام بجسد حقيقي يمكن أن يتناول طعامًا .

          ويحدثنا القديس كيرلس عن التغييرات التي حدثت في جسد المسيح بالقيامة فيقول: [ وبعد القيامة كان له نفس الجسد الذي كان قد تألم، سوى أن الضعفات البشرية لم تعد موجودة فيه، لأنه لم يعد قابلاً للجوع أو التعب أو شئ آخر مثل هذه، ومن ثم غير قابل للفساد. وليس هذا فقط بل ايضًا صار معطيًا للحياة، لأنه جسد الحياة أى جسد الوحيد الجنس. وهو أيضًا جُعلَ يلمع بالمجد اللائق بلاهوته، ويعرف أنه جسدالله. لذلك حتى إن قال البعض إنه إلهي، كما أنه بالبديهة هو جسد بشرى لإنسان، فإنه لم يضل عن التفكير اللائق. ولذلك اظن أن بولس الحكيم جدًا قال: ” وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد” (2كو16:5). وحيث إنه جسد الله الخاص ـ كما قلت ـ فهو يتعالى على كل الأجساد البشرية ][8].

          ومن كلام القديس كيرلس نعرف أن جسد قيامة المسيح لم يعد قابلاً للجوع أو التعب أو أي شئ آخر من الضعفات البشرية (طبعًا يقصد الضعفات غير الخاطئة)، وهكذا صار جسد المسيح بالقيامة غير قابل للاضمحلال والموت بل العكس [ صار معطيًا للحياة لأنه جسد الحياة ]، ولهذا فإننا ننال حياة من جسد المسيح الذي نناله في الإفخارستيا.

 

وإن تساءل أحد ماذا حدث للسمك المشوى والعسل الذي أكله المسيح بعد القيامة، وجسده ليس كالأجساد التي تجوع وتأكل وتهضم؟ نجيبه قائلين إنه كما حوّل المسيح جسده في القيامة من الطبيعة الترابية القابلة للاضمحلال إلى جسد سماوى روحاني (ولكنه جسم حقيقي مادى صلب)، هكذا فإن الطعام الذي يأخذه بعد القيامة يستطيع أن يحوّله في لحظة من طعام أرضي إلى طبيعة الجسد السماوى بدخول هذا الطعام في جسد قيامته.

وهذا يمكن أن يعطينا مؤشرًا ـ وإن كان غير مفهوم لعقولنا ـ كيف يحوّل المسيح بروحه الخبز والخمر اللذين من نتاج الأرض إلى جسده ودمه الإلهيين المعطيين للحياة في الإفخارستيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش: 

[1] القديس أثناسيوس الرسولى: تجسد الكلمة، ترجمه عن اليونانية وتعليقات د. جوزيف موريس فلتس، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة، أغسطس= =2002م، فصل 1:20 ص 56

[2] قيامة المسيح (من شرح إنجيل يوحنا) للقديس كيرلس عمود الدين، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، القاهرة،أبريل 2003، ص6.

[3] المرجع السابق، ص 18.

[4] المرجع السابق، ص 18.

[5] المرجع السابق، ص 18و19و20.

[6] المرجع السابق، ص 20.

[7] المرجع السابق، ص20.

[8] رسائل القديس كيرلس الأسكندري، ترجمة د. موريس تاوضروس ود. نصحي عبد الشهيد، إصدار مركز دراسات الآباء، القاهرة 1995، الجزء الثالث، 12:45، ص 93.