أبحاث

نقد النقد الماركسي للدين – كوستي بندلي

نقد النقد الماركسي للدين – كوستي بندلي

نقد النقد الماركسي للدين
نقد النقد الماركسي للدين

نقد النقد الماركسي للدين – كوستي بندلي

هذا النقد الماركسي للدين قد يبدو لأول وهلة متماسكاً ومقنعاً ولكن إذا تفحصناه عن كثب اتضحت لنا نواحي الضعف فيه، تلك النواحي التي سنجتهد أولاً بأن نبينها منتقلين بعد ذلك إلى إظهار التناقضات والمآزق التي قاد الماركسية إليها رفضها لله، مبينين أخيراً عجزها عن حل مشكلة الإنسان بمعزل عن الله:

1 – نواحي الضعف في النقد الماركسي للدين:

لنا مأخذان أساسيان على النقد الماركسي للدين:

أ – لم يتوصل ماركس إلى تعليل الموقف الديني تعليلاً وافياً:

 لأول وهلة يبدو التفسير الماركسي لنشوء فكرة الله تفسيراً مرضياً. ذلك لأنه سهل وواضح. ولكن هل هو تفسير بالفعل؟ لقد بين لنا ماركس بأية مناسبة، بأية ظروف تنشأ في الإنسان فكرة الله. ولكن المناسبة شيء والسبب شيء آخر. لا شك أن الرجاء بالله مرتبط إلى حد ما بخبرة الإنسان لشقائه.

إنه في أغلب الأحيان يتجه إلى الله لأنه اختبر عجزه وفقره (مع أن هذا ليس دائماً صحيحاً، فقد يندفع الإنسان نحو الله في غمرة من الفرح أو الحماس…). هذا أمر طبيعي: فلو كان الإنسان حاصلاً على كل ما يتمناه، لما كان ترجى شيئاً. يتجه الإنسان إلى الآخر من خلال اختبار حاجته إليه، يكتشف الطفل أمه تدريجياً من خلال حاجته إليها. هكذا يكتشف الإنسان الله من خلال فقره إليه.

ولكن ماركس إذ بين لنا المناسبة التي تنشأ فيها فكرة الله لم يبين لنا سبب هذه الفكرة. لقد أجاب على سؤال هام ألا وهو: كيف تنشأ فكرة الله؟ ولكنه لم يجب على السؤال الأهم ألا وهو: لماذا تظهر هذه الفكرة في الإنسان؟ الإنسان يختبر شقاءه وعبوديته ويجد نفسه غير راض عن حاله: هذه نقطة الانطلاق. في وضع كهذا ينتظر من الإنسان أن تكون له ردود فعل بشرية، طبيعية: مثلاً أن يثور على الظالم، أو أن يرضخ لواقعه ويحاول التكيف معه للتحرر أو مناسبة لتحسين حاله. ولكن الأمر الغريب هو أن الإنسان يضيف حلاً رابعاً إلى الحلول البشرية المبينة أعلاه: إنه يتجه نحو الله.

فما هو مصدر هذا الحل الغريب؟ ما هو سر قفزة الإنسان هذه فوق كل اختبار بشري باتجاه عالم الله؟ هذا السؤال لا يجيب عليه ماركس وليس من إلحاد يستطيع الإجابة عليه. يقول الأب دو لوباك: “يقال لنا أن الإنسان قد أله السماء. فليكن! ولكن من أين أخذ الإنسان فكرة الألوهة ليطلقها على السماء؟ لماذا هذه الحركة العقوبة التي تلاحظ في النوع البشري في كل مكان؟ لماذا حركة التأليه هذه؟ أكان تأليه السماء أو تأليه أي شيء آخر؟”

قد يرتعد الإنسان البدائي أمام العاصفة الهوجاء فيؤله الرعد والريح. ولكن عالم الأديان الشهير Mircea Eliade أظهر أن الوثنين عندما كانوا يتعبدون لعناصر الطبيعة كالشمس والعاصفة لم يكونوا في كثير من الأحيان يتعبدون لقوى مادية بل كانوا يعتبرونها ظهورات لقوى سرية تتجلى من خلالها، ولهذه القوة كانوا يتعبدون من خلال ظهوراتها.

إن حوادث الطبيعة كان إذاً بالنسبة إليهم، على الأقل جزئياً، كشفاً للألوهة. وهذا ما يعيدنا إلى السؤال الذي طرحناه آنفاً: من أين أتتهم فكرة الألوهة؟

فكرة الألوهة هي مرادفة لفكرة المطلق. فمن أين للإنسان فكرة كهذه؟ لماذا لا يكتفي الإنسان بما هو ناقص ونسبي فيه وحوله بل يتجه إلى كائن كامل ومطلق؟ إن ماركس يبين لنا المناسبة التي تتبلور فيها هذه الفكرة في الإنسان وتصبح عنده واعية ولكنه لم يبين لنا هو أو غيره من الملحدين ما هو مصدرها العميق في الكيان البشري.

الجواب على هذا السؤال هو أن الله موجود بالفعل وأنه خلق الإنسان متجهاً إليه في الصميم وجعل فيه هذا الشوق الذي لا يرتوي إلا بلقاء الإله الذي يناديه من خلال ظروف الحياة وحوادث الكون، حسبما كتب أوغسطينوس المغبوط: “يا رب لقد خلقتنا متجهين إليك، ولذلك لن تجد قلوبنا راحة إلا إذا استقرت فيك”.

لقد بين Mircea Eliade أن فكرة الله ليس مرجعها الظروف التي تظهر فيها هذه الفكرة إلى حيز الوجود، منطلقاً من التشبيه الآتي: لقد ظهر علم الهندسة تاريخياً بمناسبة الأعمال التي قام بها المصريون لحفر أقنية في دلتا النيل. ولكن لا ينكر أحد صحة القواعد الهندسية متعللاً بأن اكتشافها نتج عن حاجة المصريين إلى أقنية.

هكذا يكتشف الإنسان الله – كما يبين ماركس – من خلال شقائه ولكن الله ليس وليد هذا الشقاء. لقد كتب المستشرق الكبير ماسينيون بحق: “الله اكتشاف وليس اختراع”. يدعي ماركس بأن الإنسان خلق الله على صورة أمانيه. ولكنه لم يوضح لنا من أين للإنسان المحدود هذه الأماني اللامحدودة؟

من أين له مثلاً – وهذه ناحية يطمسها ماركس بنوع خاص – هذا العطش إلى الأبدية والخلود وهو الكائن الذي يتآكله الزمن ويرى حوله كل حي يموت؟ هل نقول إن غريزة الإنسان تجعله يصبو إلى بقاء لاحد له؟ ولكن الغرائز التي نراها في الطبيعة لها كلها غاية معقولة تصبو إليها. فالغريزة التي يسعى بموجبها الحيوان إلى الطعام أو إلى المأوى أو إلى التناسل لها ما يفي بغرضها.

فكيف يمكن للغريزة أن تسعى إلى خلود لا نرى له أثراً في الطبيعة؟ ألا يعني ذلك أننا هنا تجاوزنا صعيد الغرائز التي تسعى إلى النسبي والمحدود ودخلنا في عالم المطلق الذي يستقطب الإنسان دون سائر الخليقة؟ كلا لم يخلق الإنسان الله على صورة أمانيه ولكن أماني الإنسان اللامحدودة هي في الإنسان صورة الله غير المحدود الذي يدعه إلى مشاركته حياته.

يردد انغلز بعد فوورباخ: “إن الجوهر الذي يعبده الإنسان ويؤلهه كجوهر غريب هو بالحقيقة جوهره الخاص”. ولكن السؤال الأساسي هو هذا: لماذا هذا التفاوت الدائم بين الإنسان وجوهره، بين الإنسان ونفسه؟ أقول إن هذا التفاوت دائم وليس عرضياً، عائداً للظروف وحسب. ذلك لأن الإنسان كلما تقدم في الكمال ازداد شعوره بنقصه.

فنصف المتعلم قد يرضى عن معلومات ويتباهى بها أما العالم الحقيقي فإنه يدرك أكثر من أي شخص آخر محدودية علمه. كذلك قد يرى الإنسان الاعتيادي في تحفة فنية آية الفن والجمال، أما الفنان نفسه منتج هذه التحفة، فإنه لشعوره المرهف بالجمال يدرك بألم تقصيره عما كان يصبو إلى تحقيقه. الإنسان الذي لم يزل على عتبة الفضيلة قد ينتفخ بصلاحه، أما الذي سار شوطاً بعيداً في طريق الخير، فيزداد شعوره بإثمه وخطيئته.

وهكذا فالأمر الغريب الذي يبدو أن ماركس وأنغلز، وفوورباخ من قبلهما، لم يفطنوا إليه هو أن الإنسان كلما اغتنى ازداد شعوره بالفقر. ولكن هذا الشعور بالفقر لا مجال لوجوده إلا بالقياس إلى ذلك الملء الذي يصبو الإنسان إليه. الإنسان لا يدرك ذاته محدوداً إلا بالنسبة للامحدود الذي يستقطب سعيه. لذا فشقاء الإنسان يشير إلى العظمة التي دعي إليها، إنه “شقاء سيد كبير” على حد تعبير باسكال.

هكذا فاغتناء الإنسان يشعره بفقره ولكنه لا يشعر بفقره إلا بالنسبة إلى هذا الغنى الذي يتوق إليه. هذا هو التناقض الإنساني العميق الذي أهمله ماركس والذي جعل باسكال يقول عن الإنسان إنه كائن غريب لا يفهم هذا التناقض الذي هو في آن واحد مصدر جزع الإنسان وحافز له على الخلق لا يمكن أن يفسر بصورة نهائية على الصعيد الطبيعي البحت الذي شاءت الماركسية أن تكتفي به.

السر الإيماني وحده يلقي ضوءً عليه، ذلك السر الذي قيل إنه لا يدرك ولكنه يتيح لنا أن ندرك الأشياء كلها. لا بد لنا، كما قال الكاتب الملحد كامو، أن نختار بين اللا معنى والسر. إن المسيحي يختار السر ويعلم على ضوء إيمانه أن الإنسان على صورة الله وأنه يتحرك دائماً نحو الله المطلق واللامحدود بالطاقة التي وضعتها هذه الصورة فيه (وهذا هو سر عطشه العميق إلى اللامتناهي) ولكنه ليس الله بل هو متغرب عن الله (وهذا هو سر فقره ونقصه).

هذه الحقائق يمكننا التوصل إليها انطلاقاً من النظرة الماركسية إلى التاريخ ذاتها. في تلك النظرة يبدو الإنسان متجاوزاً أبداً لذاته نحو أوضاع أفضل. ولكن هلا تساءلنا لماذا لا يمكن للإنسان أن يكتفي بوضع تاريخي معين؟ أليس ذلك لأنه يقيسه بمطلق يسعى دائماً إليه؟ ولكن من أين له هذا المطلق وهو في وضع تاريخي ناقص ومحدود؟

ألا يعني ذلك أن في الإنسان حضوراً يفوق التاريخ ويمكنه بالتالي من صنع التاريخ، وهو حضور الله نفسه الذي يدعو الإنسان إلى تحقيق ملء وجوده؟ هذا ما قاله لاهوتيون مسيحيون كالأب راهتر والأب ماس والأب كوتيه لمفكرين ماركسيين دخلوا معهم في حوار، وقد كتب الأب كوتيه مثلاً في مقال له بعنوان “الماركسية والدين”: “أليس وعي الإنسان لعدم اكتماله… علامة انفتاحه إلى لا نهاية كيانية متعالية؟”.

يعرض المفكر الماركسي روجيه غارودي، وهو من أقطاب الحوار الماركسي – المسيحي، تلك الآراء باحترام واستقامة نادرين في كتابه “من الفرز إلى الحوار”.

ويبين الاختلاف بين التفسير الماركسي والتفسير المسيحي في هذا المجال. يقول إن الماركسية “لا تسقط في تجربة تأكيد وجود كائن وراء عمل تجاوز الإنسان لنفسه، كائن يكون مصدر هذا التجاوز. فعطشي لا يبرهن عن وجود الينبوع. اللانهاية هي في نظر الماركسي غياب وتطلب، ولكنها في نظر المسيحي وعد وحضور… التعالي هو بالنسبة للمسيحي عمل الله الذي يأتي إليه ويدعوه، إنه بالنسبة للماركسي بعد من أبعاد فعل الإنسان الذي يتجاوز نفسه نحو كيانه البعيد…

إذا كنا نرفض اسم الله، فذلك لأن هذه الاسم يفترض حضوراً، واقعاً، بينما لا نعيش إلا تطلباً، تطلباً لا يشبع أبداً للكامل والمطلق، لاقتدار كلي على الطبيعة وتداخل حبي كامل بين الوجدانات… إذا شئنا أن نطلق على هذا التطلب اسماً فلن يكون اسم الله، لأنه لا يمكن تصور إله في تكوين وولادة مستمرين. الاسم الأجمل والأعلى الذي يمكننا أن نطلق على هذا التطلب هو اسم الإنسان… لأن الإنسان هو بالضبط ذاك الذي ليس بموجود. هذا التطلب في الإنسان هو، على ما أعتقد، جسد إلهكم. إننا بلا شك نعيش، مسيحيين وماركسيين، نطلب اللامتناهي الواحد، ولكنه عندكم حضور وعندنا غياب”.

لا بد لنا من بعض التعليقات على هذا النص الجميل، الجدير بكل اهتما. يقول غارودي بأن في الإنسان “تطلباً لا يشبع أبداً للكمال والمطلق”. ولكن كيف يفسر وجود تطلب كهذا في كائن محدود؟ ألا يعني وجوده بأن الإنسان، من خلال خبرته، المحدودة والنسبية أبداً، يسمع نداء مطلق موجود؟

هذا النداء الذي يرتفع في أعماق كيان الإنسان يفسر وحده شعور هذا الأخير الدائم بعدم الارتياح واحساسه بأن “الحياة الحقيقية غائبة” على حد تعبير الشاعر رامبو. هكذا يبدو الغياب نفسه وكأنه الوجه السلبي لحضور يدعو الإنسان ويغذي فيه شعوراً لا ينقطع بعد الرضى. هذا ما عبر عنه الشاعر كلوديل بقوله مخاطباً الله: “لو لم يكن العالم يحدث عنك بهذا المقدار، لما كنت أعاني سأماً هذا مقداره”.

بهذا المعنى يمكننا أن نقول، خلافاً لرأي غارودي، إن العطش يبرهن بالفعل عن وجود الينبوع، لأن نداء هذا الينبوع الإلهي هو الذي يوجد عطش الإنسان ويغذيه. هذا ما عبر عنه باسكال مردداً بعد أوغسطينوس الغبوط: “لو لم تكن قد وجدتني لما كنت سعيت إليّ”. على كل، وإذا شئنا التمسك بتلك الصورة التي أعطاها غارودي عن العطش والينبوع، نرى أنه، على الصعيد الطبيعي نفسه، العطش البيولوجي لا يفهم إلا بالنسبة لوجود ماء في الطبيعة من جهة وماء في جسدي من جهة أخرى، وما العطش سوى تلك النزعة التي تدفعني إلى إتمام الماء الذي في جسدي بالماء الموجود في الطبيعة، فكل حاجة هي، كما بين الفيلسوف برادين، توق نحو الشيء المتمم. هكذا فالعطش البيولوجي يفترض الماء وهو صورة عن عطش الإنسان إلى المطلق الذي يفترض بدوره وجود هذا المطلق بحد ذاته ووجوداً جزئياً له فيّ.

ومن جهة أخرى ينبغي أن نتساءل كيف يفسر تجاوز الإنسان ذاته “نحو كيانه البعيد”، ذلك التجاوز الذي يتحدث عنه غارودي. فلو كان المطلق مجرد فراغ وغياب، فأنى للإنسان أن يستمد قوة تجاوز ذاته نحوه؟ لو كان الإنسان “ذاك الذي لي هو بموجود” وحسب، فمن أين له القدرة على أن يكتسب دوماً المزيد من الوجود؟ أباستطاعة الفراغ أن يوجد الملء واللاوجود أن ينشئ الوجود؟ إذا شئنا أن نرد المطلق إلى ذلك “الفعل” الذي به يتجاوز الإنسان نفسه نحوه، جعلنا هذا الفعل بالذات غير مفهوم. ما كان باستطاعة الإنسان أن يتحرك نحو “كيانه البعيد” لو لم يكن هذا الكيان معطى له، على نوع ما، كطاقة زاخرة بالإمكانات. ولكن هذا يعني أن الإنسان، رغم حدودهن يساهم منذ الآن في المطلق الذي يتجاوز من كل صوب، ويستمد من هذه المساهمة القوة المحركة التي تلزمه ليتجاوز ذاته دون انقطاع. لا يمكن للإنسان أن يتجه نحو المطلق إلا لأن المطلق حاضر منذ الآن فيه بصورة ما: “تأتي ساعة وهي الآن حاضرة”، يقول الرب في إنجيل يوحنا. ليس الإنسان إلهاً “في تكوين وولادة مستمرين” إلا لأنه يساهم في الله الكائن. “الإنسان يتجاوز الإنسان لا نهائياً” على حد تعبير باسكال، لأن كيانه المحدود متجذر في اللانهاية. التعالي الأفقي (أي تجاوز الإنسان لذاته) يفترض تعالياً عمودياً. إنما الأول رسم الثاني في التاريخ. بهذا المعنى نوافق قول غارودي بأن تطلب التجاوز الإنساني الدائم هو “جسد إلهنا”. لأنه بالفعل علامة حضور خاص في الإنسان المخلوق على صورة الله. للقوة الإلهية غير المخلوقة نفسها، لفيض الحياة الإلهية الذي يتدفق في البشر ليجعل منهم آلهة: “أن قلت: إنك آلهة…” (مزامير 82: 6 ويوحنا 10: 34). التجسد، في نظر المسيحي، حقق ملء اندماجنا بالمطلق، فأصبح الإنسان به حرفياً “جسد إلهنا”: “لأننا أعضاء جسده، من لحمه ومن عظامه” (افسس 5: 30).

ب – ليس الدين مجرد صورة عن الأوضاع التاريخية الراهنة:

وقد حاولت الماركسية أن تجعل من الدين وليداً للظروف التاريخية يتغير بتغير أشكالها. ولكنها بذلك أخذت بعين الاعتبار أبعاد الدين التاريخية وأهملت جوهره. مما لا شك فيه أن ما يتصوره الإنسان عن الله نسبي دائماً ينطبع بطابع العصر ويتأثر بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. هذا صحيح خاصة خارج خط الوحي الإلهي وحتى في هذا الخط: ألم يقل الرسول بولس نفسه أن رؤيتنا لله في هذه الحياة نسبية وناقصة “الآن أرى في مرآة، في لغز… الآن أعرف بعض المعرفة”. في تدين الإنسان عنصران ميزهما الفيلسوف المعاصر جان لاكروا: الاتجاه نحو المطلق هو عنصر ثابت، دائم في الإنسان، وتصوره لها المطلق هو دائماً نسبي يتأثر بأوضاع الإنسان المختلفة. أما الماركسيون فقد حجبت عنهم نسبية التصورات الدينية أصالة الاتجاه الإنساني إلى المطلق، فنتج عن ذلك عجزهم عن تفسير وقائع هامة جداً في تاريخ الأديان. أذكر منها واقع الدين اليهودي ونشوء الدين الإسلامي.

الدين اليهودي:

فلو كان الله مجرد صورة للأوضاع الاجتماعية التي يمر بها الإنسان، كيف يفسر كون الشعب اليهودي، وقد كان شعباً ذا حضارة بدائية إذا قسناها بحضارات الشعوب الأخرى المعاصرة والمجاورة، وقد توصل إلى تكوين فكرة عن الله أنقى وأسمى من كل التصورات الدينية السائدة؟ كيف أمكن هذا الشعب الذي لم تكن له فلسفة ولم تكن له ثقافة تجاري حتى من بعيد ثقافة المصريين أن يتوصل إلى أرفع فكرة عن تعالي الله وعلاقته بالكون؟ ثم كيف أمكن لهذا الشعب الصغير أن يعتقد بإله واحد سيد الكون قاطبة والأمم بأسرها بينما كان الامبراطوريات الكبيرة حوله من أشورية ومصرية وغيرها تدين بتعدد الآلهة، وأن يحافظ على هذا الاعتقاد في مراحل تاريخه المختلفة، في البداوة والحضر، في أسره في مصر ونفيه إلى بابل، في ظل حكم ملوكه وتحت نير الاستعمار الروماني، دون أن تحوله عن إيمانه هذا الاعتقادات الوثنية السائدة عند جيرانه الذي كان يتأثر بهم؟

ثم هل يقال عنه أنه اخترع السماء لينجو من الأرض، ليعوض عن الذل والشقاء اللذين طالما صادفهما في تاريخه؟ هذا غير وارد لأن الشعب اليهودي لم يؤمن بالحياة الأخرى قبل القرن الثاني قبل الميلاد. لقد بقي إيمانه بالله قرون دون أن يرجو ثواباً أبدياً. فكيف تنطبق على دين هذا الشعب الصورة الماركسية عن نشوء الدين؟

نشوء الدين الإسلامي: كذلك واقع نشوء الدين الإسلامي يعارض النظرية الماركسية في الأديان. فبموجب هذه النظرية ينتقل الناس من الاعتقاد بتعدد الآلهة إلى الاعتقاد بإله واحد عندما تتوحد القبائل والمدن، ويكون هكذا توحيد الألوهة مجرد صورة عن توحيد المجموعات البشرية. ولك العكس تماماً جرى عند نشوء الإسلام. لقد كانت قبائل الجزيرة العربية مبعثرة متفرقة، ولم تؤمن بالتوحيد عندما اجتمعت وإنما الإيمان بإله واحد وحدها وجمع شملها. فهل يكون الدين مجرد انعكاس للظروف التاريخية إذا كان فاعلاً في تلك الظروف بهذه القوة؟

2– التناقضات والمآزق الناتجة عن رفض الماركسية لله:

هكذا لم تتوصل الماركسية إلى إظهار بطلان فكرة الله. ولكنها بالإضافة إلى هذا انقادت، بدافع من رفضها لله، إلى تناقضات ومآزق سنجتهد الآن بأن نبينها.

لقد رفضت الماركسية الله ولكنها لم تذهب في رفضها هذا إلى أبعد حدوده، كما هي فلسفة سارتر مثلاً، إذ لم تجدر الكون عن كل عنصر إلهي ولم تعتبره لا معنى كلياً كما فعل سارتر، بل احتفظت بالعناصر الإلهية ونسبتها للكون نفسه، فألهت هكذا المادة والتاريخ، الذي هو بنظرها تاريخ المادة في الأساس، ووقعت بالتالي في تناقضات لا مفر منها وأوجدت أصناماً ارتدت على الإنسان لتسحقه.

أ – تأليه المادة:

لقد اعتبر الماركسيون المادة أصل كل شيء وسببه واعتبروا أنهم بذلك قد أوجدوا فلسفة موضوعية، علمية. ولكن هذا مادة التي ينادي بها الماركسيون هو نفس مادة العلماء؟ مادة العلماء عبارة عن قوة آلية، عمياء، غاشمة. ولكن مادة الماركسيين مادة “ديالكتيكية” كما يسمونها، أي أنها مادة قادرة بحد ذاتها أن تنقض أوضاعها السابقة وتتجاوزها إلى أوضاع أرقى فأرقى. صفة “الديالكتيكية” هذه أخذها ماركس عن هيغل ولكن هيغل كان ينسبها للفكر فنسبها ماركس للمادة. ولكن هذه المادة التي أعطيت صفة النشاط الخلاق والتطور الموجه لم تعد المادة بمعناها المعروف ولم تعد مادة العلم وإن أطلقت عليها، عن غير حق، التسمية ذاتها: “إن مادة العلماء ليست ديالكتيكية ولكنها آلية”. لذا فتصور الماركسيين للمادة ليس تصور علمياً كما يقولون لوكنه كما أظهر إتيان بورن نكوص إلى تصورات سبقت ظهور العلم الحديث وتقهقر إلى الوثنية.

لقد جردت المسيحية الكون المادي عن الصفات الإلهية التي نسبت إليه فمهدت هكذا الطريق للعمل الحديث، أما الماركسيون فباعتبارهم المادة “حيواناً إلهياً” على حد تعبير إتيان بورن، ضربوا بمكاسب الفكر الإنساني هذه عرض الحائط. وقد قال الفيلسوف نفسه متحدثاً عن المفهوم الماركسي للمادة: “إن مادة كهذه هي مطلق إلهي. وهكذا تصبح الماركسية أقل المذاهب اللاهوتية إقناعاً”. “عبارة (المادية الديالكتيكية) تشكل تناقضاً لفظياً” كما يقول الفيلسوف نقولا بردياييف ولكنها كما أظهر بردياييف الذي مر بالماركسية قبل أن يصبح من أقطاب الوجودية المسيحية وليب الذي أعتنق الماركسية مدة سنين طوال وعلم فلسفتها قبل أن يصبح كاهناً مسيحياً، عبارة ممتازة للدعاية لأن الناس يطمئنون للمادة وصلابتها وحقيقتها الراهنة ولا يرون في كثير من الأحيان أن العبارة يستعملها الماركسيون بعد أن أفرغت من معناها المعروف. وهكذا “فالمادة نفسها التي يستند عليها الماركسيون لم تعد مادية بالمعنى الصحيح”.

عن هذه المادة يصدر الفكر، يقول الماركسيون: إنهم من جهة يقرون بأصالة الفكر واختلافه النوعي عن الطبيعة المادية (وهذا ما يميزهم عن الماديين القدامى) ولكنهم إلى جانب ذلك يعتبرونه وليد المادة. ولكن كيف يخرج الأعلى من الأدنى، كيف يخرج الأكثر من الأقل؟ هذا لم يحاول الماركسيون ان يبينوه. كما كتب بردياييف “لم يحاولوا أبداً أن يفسروا كيف يمكن للوجود المادي أن يتحول إلى وجدان وتفكير”. إن عبارة أنغلز: “الفكر عذاب المادة”، كأن المادة تتمخض لتلد الفكر، عبارة شعرية جميلة ولكن لا قيمة لها على الصعيد المنطقي. لقد كتب الاختصاصي الشهير في الجهاز العصبي شيرينغتن سنة 1950: “كان أرسطو، منذ ألفي سنة، يتساءل كيف يرتبط الفكر بالجسد ولا نزال نحن نطرح هذا السؤال على أنفسنا”.

أما ماركس فقد حاول أن يجيب على هذا السؤال العويص بقوله: “أرى أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس الحركة الواقعية (أي المادية)، منقولة ومحولة في دماغ الإنسان”. ولكن – كما أوضح كامو – كل الصعوبة تكمن في تحديد هذا “التحول” وهذا ما لم يحاوله ماركس. وقد كتب الدكتور سليم عابو في محاضرة له: “كيف يستطيع الفكر أن يبرز من المادة؟ تلك هي، كما هو معلوم، “العظمة” التي لم تستطع نظرية ماركس أن تكسرها. ولكن ماركس كان يعتبر أن العمل والمهمة الراهنة ملحان بدرجة لا يجد معها الإنسان الوقت ليخوض في البحث عن مصدر الأشياء…”. ولكن التناقض هنا أن يدعي المرء اتخاذ موقف علمي من مصدر الأشياء فيما يكون موقفه بعيداً كل البعد عن التعليل العلمي.

الفكر انعكاس للمادة، تلك هي النظر الماركسية. ولكن هذا الفكر خلاق، كما يقر الماركسيون، يعمل في المادة ويطورها. ولكن كيف يعمل في المادة إن لم يكن سوى انعكاس لها؟ يقول المفكر المعاصر Igor Caruso: “إن الانعكاس لا يمكنه أن يعطي أكثر مما يعكسه. لو كان الوجدان انعكاساً لكان مجرد صورة فوتوغرافية عن الطبيعة، ولما كان والحالة هذه خميرتها…”. وقد كتب بردياييف بالمعنى نفسه: “إذا لم يكن الإنسان سوى نتاج البيئة الاجتماعية والطبيعة… إن لم يكن فيه أي عنصر يرفعه فوق الطبيعة والمجتمع، فلا يفقه من أين تأتيه القدرة الخلاقة التي تمكنه من السيطرة على القوى الطبيعية والاجتماعية ومن خلق الجديد… إن لم يكن الإنسان سوى جزء من المادة، إن لم يكن ما يجري فيه سوى تحولات لهذه المادة، فالخلق الحقيقي والحياة الجديدة يكونان مستحيلين”.

ولكن الماركسية فكر ثوري يؤمن بقدرة الإنسان على قلب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعلى خلق أوضاع أخرى جديدة، الإنسان بنظرها لا ينتظر مكتوف الأيدي تطور الأوضاع الذي يقود بصورة محتومة من الرأسمالية إلى الاشتراكية مثلاً، إنما يساهم في تعجيل هذا التطور بنشاطه الثوري. لا بل يستطيع الإنسان، بنظرها، أن يقيم الاشتراكية في أوضاع غير مؤآتية بحد ذاتها بالكلية لقيامها، متغلباً بفكره وإرادته على الحتمية الطبيعية نفسها. هذا ما أثبته تاريخ الشيوعية نفسه. فالناموس الطبيعي الذي أوضحه ماركس يقضي بأن لا تقوم الاشتراكية في بلد ما إذا لم يجتز هذا البلد المرحلة الرأسمالية ومتناقضاتها. بناء عليه كان يعتقد أن الثورة الاشتراكية ستقوم أولاً في البلاد المتصنعة تماماً وأولها بريطانيا. فكان أن انتصرت الشيوعية أولاً في روسيا فيما لم تكن روسيا إلا على عتبة المرحلة الرأسمالية والصناعية.

وقد تكرر الأمر نفسه عندما انتصرت الشيوعية في الصين. فإذا كان الإنسان فاعلاً هكذا في التاريخ إلى حد تجاوز الحتمية الاقتصادية بإرادته، فهل يعقل أن يكون وليد المادة وحسب إلا إذا جعلنا في المادة طاقة روحية فأصبحت هكذا اسماً لغير مسمى؟ هكذا فطابع الماركسية الثوري ينقلب ضد ماديتها لأن “المادية، كما يقول بردياييف، فلسفة غير خلاقة، سلبية، وفي النهاية رجعية”. ولذا نرى خلافاً في صفوف الماركسيين أنفسهم. فكلهم ينادون بالمادية الديالكتيكية ولكن البعض منهم يضعون النبرة على “المادية” فيما البعض الآخر وهم الذين يحاولون أن يتعقوا الماركسية من رواسب العصر الذي نشأت فيه، مثل فوجرولاس ولافايفر يضعون النبرة على “الديالكتيكية” التي وحدها تحفظ للإنسان طابعه الخلاق. هذا الخلاف يُظهر لنا التناقض القائم في الفكر الماركسي نفسه من جراء تأليه المادة.

ولكن هذا التناقض ليس خطأ منطقياً وحسب. إنه، كما بين إتيان بورن، طعن في الصميم للعنصر الإيجابي الذي أتت به الماركسية. لقد شاء ماركس، وهذا ما جعله أحد قادة العصور الحديثة، ابراز الإنسان، إيجاد فلسفة مركزة عليه، وبالفعل عظم الإنسان إذ أظهره متجاوزاً بعمله الطبيعة رغم تجذره فيها، متفوقاً عليها ومتحرراً من ضغطها. وإذا به من جهة أخرى يجعل من سيد الطبيعة هذا، من هذا البروميتيوس المتعالي على المادة، مجرد نتيجة وانعكاس للمادة. وإذا بتلك الفلسفة المركزة على الطبيعة تتنكر لما أراده ماركس من بناء فلسفة مركزة على الإنسان. لذا كتب بورن بحق: “إن البروز البروميتي للإنسان، الذي وصفه ماركس، والذي نجد فيه روح العصور الحديثة، لا يتفق ومذهب المادية الطبيعية الذي يقود لا محالة إلى ضياع بروميتيوس”.

ب – تأليه التاريخ:

وما يقال عن المادة يقال عن التاريخ الذي هو في جوهره، بنظر الماركسي، تاريخ مادي، جوهر تطور الأوضاع الاقتصادية التي توجد بدورها نظماً اجتماعية وسياسية وحقوقاً وفنوناً وفلسفات وأدياناً. وهذا ما يدعى بالمادية التاريخية. هذا التاريخ المادي، يقول الماركسيون أن له بحد ذاته معنى وأنه يسير في اتجاه يقوده من حالة إلى حالة أرقى في تقدم مستمر. ولكن من أين للتاريخ هذا المعنى وهذا الاتجاه إذا كان مجرد مجموعة تفاعلات مادية؟ فكرة معنى التاريخ فكرة ادخلتها إلى العالم اليهودية والمسيحية من بعدها وقد وصلت إلى ماركس من خلال هيغل الذي أعطى للتاريخ معنى بالنسبة إلى الفكر الذي يتحقق به تدريجياً. ولكن ماركس جعل هذا المعنى في الأشياء نفسها كأن هناك معنى خارج الفكر. في النظرة اليهودية والمسيحية إلى التاريخ، يتخذ التاريخ معنى لأنه تاريخ مقاصد الله، تاريخ نواياه الخلاصية بالنسبة للكون والإنسان.

ولكن ماركس، وقد رفض الله، لم يعد بوسعه إلا أن يؤله التاريخ، أن يعطي هذا التاريخ المادي معنى بحد ذاته وأن يجعل له غاية ومقصداً، وهذا تناقض صارخ إذ أنى للمادة الغاشمة أن يكون لها بحد ذاتها غاية ومقصد. لقد كتب بردياييف: “إن تناقض الماركسية الأكبر قد يكون أنها تنسب للتاريخ غاية وطابعاً عقلياً ومعنى سوف يتحقق في المجتمع المستقبل. من الواضح أن هذا النظرية استمدت من هيغل ولكنها كان تبرر عنده باعتباره أن التاريخ مؤسس على فكر شامل، على عقل. ولكن لا يمكن تبريرها بأي شكل في تفسير مادي للتاريخ. لماذا يجب أن تقود المادة… إلى انتصار المعنى وليس إلى انتصار اللا معنى؟ على ما يستند هذا التفاؤل؟ إن نظرية كهذه لا تجد لها مكاناً في الماركسية إلى لأن هذه الأخيرة تنسب للمادة عقلاً ومعنى وحرية ونشاطاً خلاقاً. ولكن ذلك يعني أن الفلسفة الماركسية ليس مادية وأن تسميتها مادية هو بداهة اغتصاب للألفاظ…”.

ويقول الفيلسوف نفسه في مكان آخر: “إن التفاؤل التاريخي الماركسي هو شكل معلمن للإيمان المسياني”.

ولكن تأليه التاريخ في الماركسية لا يتجلى بإعطاء التاريخ معنى وغاية بحد ذاته وحسب ولكنه يتعدى ذلك إلى إضفاء صفة الإطلاق على التاريخ. فالتاريخ بنظر الماركسيين مطلق كالله بنظر المؤمن، ولذا فكل شيء يسخر له ويضحى على مذبحه، مما قد أدى إلى تناقضات ومآزق خطيرة.

تسخير الأخلاق للتاريخ:

في العالم القديم، إذا استثنينا الفلسفة الرواقية، كان المبادئ الأخلاقية تطبق ضمن مجتمع محصور ولا تتعداه إلى سائر العلاقات البشرية. هذا ما دعاه برغسون “الأخلاق المغلقة”. فقد كان أرسطو وأفلاطون أنفسهما يعتقدان مثلاً أن العبد يعامل غير معاملة الحر. ولكن المسيحية أعلنت في العالم شمول المبادئ الأخلاقية بتعليمها أن البشر كلهم أخوة في آب واحد وأن كل إنسان، أياً كانت قوميته أو فئته الاجتماعية أو عقيدته، يحمل في ذاته صورة الله: “لا يهودي ولا يوناني، لا عبد ولا حر، لا بربري ولا اسكيتي إلخ….” وأن محبة الأعداء أنفسهم واجبة. ومع أن المسيحيين كثيراً ما ناقضوا بتصرفهم هذه الأسس، فاضطهدوا من لم يشاركهم في العقيدة، إلا أن مبدأ الشمول الأخلاقي الذي نادت به المسيحية طبع الحضارة والفكر. لقد بين برغسون كيف نشأت هكذا فكرة “جمهورية شاملة تجمع الناس قاطبة عوض تلك التي كانت تقف عند حدود المدينة ولا تمتد في المدينة نفسها إلا إلى الرجال الأحرار” وأضاف قائلاً: “يبدو لنا أن… هذا الانتقال من المنغلق إلى المنفتح نتج عن المسيحية…”.

لقد بينت الماركسية بحف رياء البورجوازية الرأسمالية تجاه مبدأ الشمول الأخلاقي هذا. فمن جهة تنادي به ومن جهة أخرى لا تعمل به إلا ضمن حدود مصالحها الطبقية. فمثلاً تنصب نفسها مدافعة عن الحرية العامة ولكنها لا تتمسك بالفعل إلا بحرية استغلالها للكادحين. تنادي بشمول خلقي ولكنها تمارس أخلاقاً طبقية وهكذ1ا تستعمل مبدأ الشمول الخلقي كحيلة لتخدير الذين تستغلهم وتحويلهم عن النضال في سبيل حقوقهم. ترفض الماركسية هذا الرياء وتجاهر بما تمارسه البورجوازية دون مجاهرة به: إي يرفض الشمول الخلقي، في المرحلة الحاضرة من التاريخ، وتبني أخلاق طبقية.

ولكن رفض الماركسية هذا للشمول الخلقي مرتبط ارتباطاً وثيقاً برفضها لله. لم يعد الإنسان بنظرها كائناً على صورة الله بل أصبح وليد الظروف الاقتصادية والاجتماعية. لذا لم ترد أن ترى الإنسان وراء الطبقة فنادت بأخلاق طبقية. لقد أصبح العالم بنظرها وكأنه مقسوم إلى عالمين: عالم الشر وهو البورجوازية وعالم الخير وهو عالم الكادحين، لذا اعتبرت اخلاقياً كل ما يخدم الطبقة العاملة في نضالها ويؤول إلى تحطيم “الشيطان” البورجوازي: فالخداع والتعذيب و”الإرهاب الثوري”، مثلاً أسلحة يجب استعمالها في النضال. لقد كتب لينين صراحة في هذا الموضوع: “في نظر الشيوعي، يعتبر أخلاقياً كل ما هو في مصلحة الثورة العمالية، وغير أخلاقي كل ما يعارضها… إن أخلاقنا خاضعة تماماً لمصالح حرب الطبقات التي يخوضها البروليتاريا…”

وبعبارة أخرى، فالأخلاق هي ما يسير في مجرى التاريخ، هذا التاريخ الذي غايته بناء المجتمع الشيوعي. التاريخ وحده مقياس الأخلاق. لقد كتب لينين أيضاً: “يجب أن نكون مستعدين لكل التضحيات، يجب، إذا اقتضى الأمر، أن نستخدم كل الخداعات، والحيلة والوسائل غير الشرعية، يجب أن نكون مصممي على إخفاء الحقيقة، كل ذلك في سبيل التسريب إلى النفايات والبقاء فيها وتتميم المهمة الشيوعية فيها رغم كل شيء”.

إذا كان التاريخ هو المرجع المطلق لكل شيء، فالأخلاق نسبية أساساً ولا يحكم عليها إلا بمقدار مجاراتها للتاريخ الذي يقضي بزوال الرأسمالية وقيام الشيوعية. ولكن الماركسية، هنا أيضاً، لا تنجو من التناقض كما بين بردياييف. ذلك أن ماركس عندما يحكم على النظام الرأسمالي لا يحكم عليه فقط من وجهة نظر التاريخ، أي من جهة كونه نظاماً محكوماً عليه بالزوال. إنه يشجبه بشدة لأنه يستغل الإنسان ويحوله إلى شيء، لقد اعتبر ماركس أن استغلال الإنسان للإنسان وطبقة لطبقة هو الخطيئة الأصلية. وقد جاء الماركسيون من بعده فوبخوا الرأسمالية بشدة لاستغلالها للإنسان. ولكن ذلك إن عنى شيئاً فإنه يعني أن استغلال الإنسان شر خلقي بغض النظر عن التاريخ وسير التاريخ، وأن ماركس يعود من حيث لا يدري إلى الشمول الخلقي الذي أراد تصفيته.

تسخير الحقيقة العلمية للتاريخ:

تدعي الماركسية أنها نظرية علمية مئة بالمئة. ولكن العلم الصحيح يقتضي حرية البحث. أما الماركسية فلكونها جعلت التاريخ المرجع المطلق لكل شيء، فقد جعلته أيضاً مقياس الحقيقة العلمية نفسها. وبما أن الفلسفة الماركسية، والحزب الشيوعي المسؤول عن تفسيرها، يعينان مجرى التاريخ، وجب أن تخضع الحقيقة العلمية للفلسفة الماركسية ولتفسير الحزب لها، هذا التفسير الذي قد يتغير من آونة إلى أخرى. لذا اتخذ الماركسيون مواقف معادية لعدة نظريات علمة حديثة باسم مبادئهم الفلسفية: ففي الفيزياء عارضوا نظرية Max Planak quanta ونظريات أنشتاين في النسبية ونظرية هيزنبرغ في اللا حتمية وفي علم الفلك عارضوا نظرية تمدد الكون ونظريات فيزياء الفلك عن عمر النجوم لأنها قد تشير إلى ابتداء وانتهاء الكون، وفي علم البيولوجيا تجند ليسنكو ليعارض نظريات مندل في الوراثة لأنها حسب تعبيره “تجعل غير معقولة النظرية المادية في تطور الحياة”، فحاربها ليس بموجب وقائع علمية بل بموجب الخط العسكري الذي رسمه الحزب وبالاستناد إلى سلطة الحزب توصل إلى تصفية أخصامه من العلماء السوفياتيين مما يفسر ما قاله كامو: “…. من أجل جعل الماركسية علمية وتثبيت هذا الوهم الذي يفيدنا في عصر العلم، اقتضى أولاً جعل العلم ماركسياً، بالإرهاب”. وفي علم النفس رفضت الماركسية علم التحليل النفسي الذي وضعته عبقرية فرويد معتبرة إياه بورجوازياً ورجعياً لأنه يؤكد على ذاتية الإنسان.

تخير الإنسان للتاريخ:

ثم أن الماركسية بإضفائها صفة الاطلاق على التاريخ جعلت من الإنسان، فرداً وجماعة، أداة في سبيل تحقيق معنى التاريخ. طالما الإنسان وليد المادة وليس على صورة الله، فمن الطبيعي إذاً أن يعتبر مجرد أداة لتطور المادة الذي يكون التاريخ. هذا ما يتجلى صراحة في مواقف ماركسية مختلفة:

فمثلاً يعتقد الماركسيون أن من الطبيعي لا بل من المشروع أن يسحق التاريخ في تطوره جماعات بشرية بكاملها. لقد كتب أنغلز متوقعاً الحرب العالمية الأولى: “إن الحرب العالمية القادة سوف تزيل عن سطح الأرض لا طبقات وسلالات ملكية رجعية وحسب بل شعوباً رجعية بكاملها. هذا أيضاً جزء من التقدم”.

ولكن الماركسيين لا يبررون سحق التاريخ للرجعيين وحسب، أكانوا سادة أم شعوباً، بل وسحقه للعمال أيضاً. فقد برروا قيام النظام الرأسمالي رغم مظالمه لأنه بنظرهم مرحلة لا بد منها في سير التاريخ ونسبوا له “حقاً تاريخياً”. فقد دافع ماركس عن ريكاردو، الاقتصادي الرأسمالي الإنكليزي، ضد الذين اتهموه بأنه اتخذ الإنتاج غاية بحد ذاته دون الاكتراث بالبشر. وقال انه محق بموقفه هذا وإن هذا هو فضله. وكأنه يقول “ما الأهمية في أن يضحي البشر إذا كان هذا يفيد الإنسانية”. هذا هو القاسم المشترك بين ماركس هيغل: اهمال الإنسان الراهن الذي يحيا ويشقى ويموت في سبيل “الإنسانية”.

لذا برز ماركس باسم التاريخ استلام البورجوازية للحكم، وطلب من الماركسيين أن يساعدوها على الاستيلاء عليه كلما سنحت الفرصة. ولم يتردد ماركس نفسه سنة 1848 بأن يتحالف مع البورجوازية في مقاطعة رينانيا الألمانية ضد العمال والمفكرين اليساريين الذين كانوا يريدون استلام الحكم.

وقد عارض الماركسيون لأول وهلة في روسيا سنة 1917 أن يستلم العمال الحكم، إلى أن بدل لينين رأيه واعتقد ان المرحلة الرأسمالية يمكن تجاوزها في السير نحو الشيوعية. أما في سنة 1905 فكان قد كتب: “إنه رأي رجعي أن يُسعى إلى خلاص الطبقة العاملة عن غير طريق نمو ضخم للرأسمالية”.

وبالمنظار نفسه، لا يعتبر الماركسيون أن التحسن المباشر لأوضاع الطبقة العاملة أمر يستحق الاهتمام بحد ذاته، ذلك “لأن صراع البروليتاريا، بنظرهم، مرحلة في نمو التاريخ الشامل، غايته إقامة شكل جديد وأرقى للمجتمع”. ويعتبرون شراً أن ينال العمال – كما هو حاصل في البلاد السكندينافية مثلاً – شروط حياة مرضية، لأن ذلك يوقف مجرة التطور التاريخي الذي هو بنظرهم القيمة المطلقة.

هذا هو تسخير الإنسان للتاريخ في المرحلة التي تسبق استلام الشيوعيين زمام الحكم. ولكن هذا التسخير يبلغ أوجه في فترة الحكم الشيوعي، في الفترة التي يدعوها الماركسيون “ديكتاتورية البروليتاريا”، ذلك أن الحزب الشيوعي هو بنظر الماركسيين تجسيم معنى التاريخ. لذلك فباسم التاريخ يقرر الحزب ما هو صالح، وما هو حقيقي، ويفرض مفاهيمه في الخير والحق بشتى الوسائل. فإذا استلم هذا الحزب الحكم أصبح الإنسان كلياً تحت رحمته، يتصرف به كما يشاء باسم التاريخ وباسم “الإنسانية”. فالإنسان، وقد نزعت عنه صورة الله، لم يعد له، في نظر الماركسيين، كرامة بحد ذاته. إنما كرامته تأتيه من انسجامه مع خط الحزب الذي هو خط التاريخ. فالمنضون تحت لواء الحزب يستحقون الاحترام اللائق بالإنسان. “أما الذين عن مصلحة أو عن جهل، أو بحكم التاريخ، أو لأسباب فلسفية ودينية، لم ينضموا إلى معسكر الثورة الماركسية”، هؤلاء لا يجوز لهم أن يطالبوا بكرامتهم الإنسانية إذا حوكموا أمام “محكمة الشعب”. فالوسائل الإرهابية التي تعتبر شرً إذا استعملها النازيون أو الفاشيون تعتبر مشروعة إذا اقتضاها بناء أو تدعيم المجتمع الاشتراكي. لقد كتب بيغو في هذا الموضوع: “حسبما تكون في خط الحزب أو لا تكون، أنت مجرم أو بريء، تستحق الحكم عليك أو لا تستحقه. الإنسان الذي هو خصم الحزب، الإنسان الذي لم يضع نفسه في خط الحزب المعين، هذا الإنسان ليس له أي حق من الحقوق. إنه شيء وليس ذات”.

لقد كتب المفكر الفرنسي البير بيفين: “إن الإرهاب المفروض باسم الإنسان هو الأقسى. إنه الإرهاب الحقيقي، ذاك الذي يضحي بالحياة من أجل فكرة مجردة، وبعد أن يعطي تحديداً للإنسان، أياً كان هذا التحديد (تحديد غوبلز مثلاً أو تحديد ماركس)، ينكر على البشر الذين لا ينطبق عليهم تحديده الصفة الإنسانية”.

ولكن تسخير الإنسان هذا من قبيل الحزب الحاكم لا يشمل فقط أعداء الشيوعية، أياً كانت نواياهم، إنما يشمل أيضاً جماهير الكادحين وأعضاء الحزب أنفسهم.

فمن جهة جماهير الكادحين، لا يتراجع الحزب الحاكم عن اخضاع هؤلاء لشروط حياة جائرة من أجل تعجيل بناء الاشتراكية. إنه يضحي بعمال اليوم من أجل الاشتراكية الغد. هذا ما جرى مثلاً عندما أراد الحزب الشيوعي في روسيا أن يبني الاشتراكية في بلاد لم تزل زراعية في الأساس: “لقد أوجدت هذه الضرورة التاريخية أمراً لا يفقه على الصعيد النظري ألا وهو أن دولة شيوعية وجدت ذاتها مضطرة إلى أن تخضع العمال، وهو نظرياً سادة المجتمع الوحيدون” إلى نظام استغلال ومجاعة واشغال شاقة اضطرارية لا يقل بشيء عن أسوأ ظلم رأسمالي في بداية القرن التاسع عشر”. والحزب يفرض على العمال، لأنه يجسم معنى التاريخ، ما يجب أن يسعوا إليه، حسب قول ماركس: “ما يتصوره هذا أو ذاك من العمال، وحتى البروليتاريا قاطبة، إنه هدفه، لا أهمية له”.

أم عضو الحزب فعليه أن يخضع خضوعاً أعمى للحزب لأن الحزب يجسم معنى التاريخ. هذا يعني أن عليه أن يرضخ دون اعتراض للتفسير الرسمي الذي يعطيه الحزب للماركسية مع أن هذا التفسير يتغير من زمن إلى آخر، فقد كان مثلاً ماركسياً – لينينياً ثم أصبح ماركسياً – لينينياً – ستالينياً – ثم عاد بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي ماركسياً – لينيناً فقط وهي في الصين ماركسي – لينين – ماوتسي تونغي. ويقبل الماركسي عادة أن يتخلى عن تفكيره الخاص وأن يسكت احتجاج عقله وضميره ليخضع كلياً لخط الحزب. وإن أبى إلا أن يبدي معارضته، اعتبر منحرفاً وأقصي عن الحزب، كما جرى لـ Lefebore وهو من ألمع المفكرين الشيوعيين المعاصرين، وفي العهد الستاليني لم يكن يكتفي بإقصائه بل كان يحاكم كخائن وعميل ويعدم، مهما كان اخلاصه للشيوعية، لأنه “موضوعياً” خائن بانحرافه عن خط الحزب.

وكان يطلب منه عند ذاك أن يقر بخيانته ويعترف ليس فقط بأعماله بل وحتى بأفكاره المعتبرة مجرمة. وكان الكثيرون ينزلون عند هذا الطلب بتأثير الضغط البوليسي عليهم من جهة ومن جهة أخرى لاقتناعهم أنهم مجرمون “موضوعياً” لمخالفتهم خط الحزب. هكذا صفى ستالين، من سنة 1936 إلى سنة 1938 خاصة، مؤسسي الشيوعية الروسية ورفاق لينين كزينوفييف وكامينتف والمارشال توكاتشيفسكي قائد الجيش الأحمر وريكوف وبوخارين وغيرهم وأرسل من اغتال تروتسكي بعدما نفاه من روسيا، إلى أن أظهر المؤتمر العشرون تعسفه ومظالمه، فبدل الشيوعيون موقفهم منه بقرار من الحزب واعتبروه طاغية بعد أن كان المؤتمر الثامن عشر قد حيا باقتراح من جدانوف “عبقرية ودماغ وقلب الحزب البولشفيكي والشعب السوفياتي قاطبة ولك الإنسانية التقدمية، ستاليننا”. وبعد أن كان بتوجيه الحزب يسمى “أبا الشعوب العبقري” ويعتبر قطباً ليس في السياسة وحسب بل وفي شؤون الحرب وفي الفلسفة وحتى في علم اللغات.

لدينا شهادة سوفياتية مؤثرة عن ذلك العهد الرهيب نشرت ترجمتها مؤخرً باللغة الفرنسية، وهي لعضوة في الحزب الشيوعي أعيد لها الاعتبار في عهد خروتشوف بعد ما عانت بسبب “حملات التطهير الستالينية سبعة عشر عاماً من السجون الرهيبة والأشغال الشاقة في سبيريا.

ورب قائل يقول إن تلك الأوضاع اللاإنسانية نشأت عن الظروف الدقيقة التي كان يمر بها الاتحاد السوفياتي، على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولكن هذا الاعتبار، فضلاً عن أنه لا يكفي اطلاقاً لتبرير ما حدث يصطدم بواقع اشتداد الدكتاتورية الستالينية بعد الانتصار على النازية. ويقال أيضاً أن تلك الدكتاتورية كان مجرد انحراف وقتي، وهذا صحيح إلى حد ما، غير أن انحرافاً كهذا كان نتيجة قصوى، ولكنها منطقية، لنظرية لا تقيم وزناً للشخص الإنساني إلا بقدر انسجامه مع الحزب، مفسر سير التاريخ وقائده، وبالتالي مع من يدعي تمثيل ذلك الحزب.

وهكذا “فكل اختلاف في الرأي، في أي المجالات، بين عضو الحزب ونظرية الحزب الرسمية، يعتبر خيانة حقيقية”. زد على ذلك أن فشل عضو الحزب في مهمة ما يعتبر ذنباً: “إذا فشل ماركسي في السياسة أو التقنية أو الفن، فهذا يعني…. إنه مذنب. لقد اتهم أحد كبار الضباط في الاتحاد السوفيتي بالانحراف المنشفي وحكم عليه، فقط لأنه كان قد أبدى رأيه لصالح نوع من الطائرات ظهر عند التجربة أدنى من نوع آخر”. وهكذا أصبح الحزب الذي وجد في الأساس لخدمة الإنسان صنماً يسحق الإنسان باسم التاريخ. لقد تناست الماركسية حسب قول الكاتب اندره مالرو: “إن الأحزاب وجدت من أجل الناس، لا الناس من أجل الأحزاب”.

لقد ادعى ماركس أنه يريد تحرير الإنسان من عبودية الله. ولكن الماركسية بطردها الله “أعطت ذاتها سيداً أقسى من سيد التاريخ وهو التاريخ نفسه”. لم يعد الإنسان في هذا المنظار “سوى فحم يلقى في قاطرة التاريخ”، سوى حلقة في الصيرورة التاريخية وأداة لها. لقد ضاعت حرية الإنسان في عبودية التاريخ.

إن الحرية كتعبير عن استقلال الإنسان تجاه تسلط المجتمع والدولة لم تكن قد اكتشفت بكل عمقها في العالم الاغريقي والروماني. فالناس كانوا عند ذاك على دين قبيلتهم أو أمتهم أو دولتهم. “إن حرية الفكر هي في الأساس مكسب يدين به العالم للشهداء المسيحيين الذي رفضوا أن يقدموا الاكرام الإلهي لقيصر”. ولذا كان الإعلان حق الإنسان بحرية الفكر عند الثورة الفرنسية مصدر مسيحي.

فضل المسيحية هذا في إطلاق حرية الإنسان من قيود مجتمع وكون كان يؤلهما الأقدمون، بينه أيضاً المفكر الماركسي الفرنسي المعاصر غارودي إذ كتب:

“في المفهوم الاغريقي الكلاسيكي للإنسان كان…. الإنسان مندمجاً في الطبيعة والمجتمع كأنه أحد أعضائهما أو أجزائهما. بالمسيحية… ظهر موقف جديد للإنسان تجاه الكون، موقفاً يختلف جذرياً عن الموقف الاغريقي: وجود الإنسان لم يعد يعني أن يتخذ مكانه في الكون كأنه أحد أجزائه، إنه بالعكس، أن يتحرر الإنسان من طبيعته ومن ماضيه بالنعمة الإلهية المعلنة بالمسيح، أن يتحرر من أجل حياة مكونة من قرارات حرة….”.

إلا أن الحرية التي كشفتها المسيحية للإنسان “لقد اشتريتم بثمن، فلا تصيروا عبيداً للناس” لها بعد أخوي، جماعي، لأنها حرية الحب: “يجب ألا يسعى الإنسان إلى الحرية من أجل ذاته وحسب. الحرية من أجل الذات، أحبها كل طغاة العالم. على الإنسان أن يسعى إلى الحرية من أجل الآخرين، من أجل اخوته البشر”.

إن المجتمع الرأسمالي خان المفهوم المسيحي للحرية إذ أعطاها معنى فردياً وطبقياً. فقد نادى بالحرية ولكنها بالفعل حرية طبقة دون أخرى. فما معنى الحرية بالنسبة للعامل إذا كان تحت رحمة المستثمر ولم يكن بمأمن من العوز والجوع، في ظرف كهذا “العامل حر ولكنه لا يستطيع أن يحقق حريته، أن يستفيد منها، فتبقى شكلية… في الديموقراطيات الرأسمالية، تكون الحرية أحياناً وهمية بالنسبة لطبقة كاملة من المجتمع”.

المشكلة كما رآها بردياييف هي مشكلة “جمع الخبز والحرية. كيف يمكن اطعام الناس دون انتزاع الحرية منهم؟ في النظام الرأسمالي، تؤكد الديموقراطيات حرية شكلية ولكنها لا تعطي خبزاً. ومن جهة أخرى نجد تجربة المفتش الأكبر عند دوستويفسكي: إعطاء الخبز للإنسان مع انتزاع الحرية منه”.

لقد تصدى الشيوعيون بحق للحرية الزائفة التي وجدوها في العالم الرأسمالي ولكنهم سقطوا في التجربة المعاكسة محققين نبوءة دوستويفسكي. لأنه نزعوا عن الإنسان صورة الله واستعبدوه للتاريخ، اعتقدوا أنه بوسعهم أن ينتزعوا في الحاضر من الإنسان حريته لكي يحققوا فيما بعد حرية الإنسانية. لقد كتب كامو بهذا الخصوص أن الشيوعية “في أعمق مبادئها تهدف إلى تحرير كل البشر باستعبادهم كلهم وقتياً”. وأيضاً: “يجب قتل كل حرية لامتلاك التسلط وهذا التسلط سيصبح يوماً الحرية”. “قتل كل حرية”: هذا هو الأمر الخطير. إن الحريات السياسية والاقتصادية ثانوية وقد شوهت في المجتمعات الرأسمالية، لذا قد يقضي الأمر ايقافها أحياناً من أجل بناء مجتمع عادل، ولكن حرية الفكر جوهرية لأنها من العناصر الأساسية في إنسانية الإنسان المخلوق على صورة الله. يقول بردياييف: “إن دكتاتورية سياسية وخاصة اقتصادية، هي أحياناً أهون الشرين وقد تصبح لا بد منها. ولكن مالا يمكن تبريره في حال من الأحوال، هو ديكتاتورية روحية وفكرية، دكتاتورية على الفكر والمعتقدات….”.

هذه الدكتاتورية تشكل كما بين أتيان بورن، نكوصاً إلى الأوضاع القديمة التي تجاوزها التاريخ بتأثير الخميرة المسيحية، تلك الأوضاع الذي كان فيها الإنسان الفرد مستعبداً لمجتمع مؤله. إنها باستعبادها الضمائر لعقيدة معينة، هي عقيدة الحزب، تشكل تراجعاً عن مبداً علمنة الدولة، هذا المكسب الحضاري الذي أوجدته المسيحية بتمييزها بين ملكوت الله وملكوت قيصر، بنزعها عن المجتمع صفة المقياس المطلق للحقيقة لتجعلها في الله وحده.

رأينا الماركسية تستوحي في الأساس دعوة بروميتوس التحررية. ولكن ماذا كان مصير بروميتيوس الجديد هذا؟ إن كامو يوضح لنا بصور معبرة في كتابه “الإنسان المتمرد”. يقول: “حول بروميتيوس وجهه بازدراء عن زفس، هاتفاً بحقده على الآلهة وحبه للإنسان، ثم اتى نحو البشر ليقودهم إلى غزو السماء.  ولكن البشر ضعفاء وجبناء، يقتضي تنظيمهم…. وهكذا أصبح بروميتيوس بدوره سيداً فعلم أولاً ثم أمر. ولكن الصراع طال أمده وأصبح مرهقاً. فشك البشر بأن يصلوا إلى مدينة الشمس وحتى بوجود هذه المدينة.

فاقتضى انقاذهم من أنفسهم. فقال لهم البطل عند ذاك أنه يعرف المدينة، وأنه يعرفها وحده. فالذين شكوا بذلك أُلقوا في الصحراء، سُمروا على صخرة، قُدموا طعاماً للطيور الكاسرة. أما الباقون فقد ساروا في الظلمات وراء السيد المنفرد، السابح في أفكاره. لقد أصبح بروميتيوس وحده ألهاً يملك على عزلة الناس. ولكنه لم يأخذ من زفس سوى عزلته وقسوته، لم يعد بروميتيوس، إنما هو قيصر”. لقد كتب بردياييف بهذا الموضوع: “لقد خنق الإنسان باسم الإنسان وحصرت إمكاناته الحيوية… هذا يعود لكون الحاضر يعتبر فقط وسيلة لخلق المستقبل. القيمة الذاتية للحياة الإنسانية الحاضرة أنكرت”.

كيف استعبد هكذا الإنسان باسم الإنسان؟ من الجائز أن تنسب مسؤولية ذلك إلى الماركسية وحدها. لقد كتب كامو: “إن نبتة كهذه لم يكن ممكناً أن تبرز إلى على أديم كثيف من المظالم المتراكمة. لقد نشأت الماركسية من مشهد جرائم الرأسمالية، من إذلالها للإنسان، من الشقاء المرير الذي أوجدته، من الأزمات والحروب التي قادت إليها، من عنفها المتستر وراء الشرعية. لقد كتب الشيوعي الفرنسي غارودي بحق: “الرأسمالية هي مصدر العنف، بشقاء البطالة وظلم الأزمات التي تنشئها الفوضى الاقتصادية، بالفاشية التي تهيؤها والحروب التي تثيرها”. مما لا شك فيه أن الرأسمالية شوهت صورة الإنسان. لقد كتب بردياييف بهذا المعنى: “إن الرأسمالية، بواسطة قوة المال الهائلة والمغفلة، تسحق الإنسان وتتخذ منه وسيلة لغايات لا إنسانية. إنها لا تسحق الطبقات الكادحة وحسب بل الطبقات السائدة أيضاً لأنها تشوه فيها صورة الإنسان”.

لقد وجدت الماركسية لتعيد إلى الإنسان إنسانيته. فكيف إذاً، إلى جانب مكاسب إنسانية حققتها بلا ريب، شوهت من جهة أخرى صورة الإنسان؟ لماذا هذا القاسم المشترك بينها وبين الرأسمالية رغم نيتها الشريفة بمحاربة الرأسمالية لتحرير الإنسان؟ السبب العميق لهذا القاسم المشترك هو في نظري موقفهما كليهما من الله. فالرأسمالية نبذت الله فعلياً، وإن لم تجاهر بذلك، لأنها ألّهت المال والإنتاج. أم الماركسية فقد أرادت بدورها أن تبني الإنسان ضد الله، على حد تعبير ماركس: “إن الإلحاد هو إبراز الإنسان بواسطة إلغاء الدين…”. ولكن رفض الله هذا انقلب على الإنسان، إذ أقيم عوض الله صنم هو التاريخ سحق الإنسان سحقاً باسم الدين. هذه مأساة الماركسية خاصة، والعلم الحديث عامة. لقد نادى نيتشه بموت الله، ولكن الكاتب الملحد أندره مالرو بين أن موت الله تبعه موت الإنسان، لقد قال بردياييف بحق: “إن كرامة الإنسان تفترض وجود الله” وأيضاً “إن إنكار الله يجر معه إنكار الإنسان”.

إن إرادة الإنسان الحديث الاكتفاء بذاته دون الله، تنقلب عليه. ولذا كتب بورن بحق: “إن الماركسية تتمم، إذا شئتم، مركزية الإنسان الحديثة بجعلها من الإنسانية نوعاً من الجسد السري بدون الله يبرر التضحيات كلها، ولكنها عكس مركزية الإنسان لأنها تحدر الشخص إلى منزلة أداة ووسيلة”.

3 – الماركسية عاجزة عن حل مشكلة الإنسان بمعزل عن الله:

ولكن إن تغاضينا عن استهتار الماركسية بالإنسان الحاضر ونظرنا إلى إنسان المستقبل الذي تتجه الماركسية بكل أبصارها وبك قواها إليه، فهل يا ترى نراها تؤمن له هذا التحقيق الكلية لذاته الذي جعلت الماركسية رفض الله شرطاً من شروط الوصول إليه؟ هذا التحقيق الكلي للذات الذي يقول عنه ماركس أنه “الاستملاك الحقيقي للجوهر الإنساني من قبل الإنسان ومن أجل الإنسان”.

لقد بين بردياييف أن النظام الاجتماعي الأمثل الذي تسعى إليه الماركسية قادر أن يزيل العناصر الخارجية من المأساة الإنسانية لا أن يزيل عناصرها الداخلية لا بل إنه يزيد هذه العناصر حدة: “ليست الماركسية مثالية خيالية على الصعيد الاجتماعي، لأن خبرة تحقيق الماركسية في الحياة الاجتماعية ممكنة. ولكن الماركسية مثالية خيالية على الصعيد الروحي… تدعي أنها تلبي حاجات النفس البشرية لأنها تعتقد أن بوسعها أن تتغلب على مأساة الحياة الإنسانية… بالتنظيم الاجتماعي الخارجي…

“ولكن الواقع أن عكس ما يؤكده الماركسيون وما ينتظرونه هو الصحيح. إن نظاماً اجتماعياً أعدل وأكمل من شانه أن يزيد من حدة مأساة الحياة الإنسانية، لا على الصعيد الخارجي بل على الصعيد الداخلي. في الماضي كان أزمات مأساوية تنتج عن الفقر وفقدان موارد العيش، عن الأهواء الطبقية، عن النظام الاجتماعي الظالم والذل، عن فقدان الحرية…. إن المصادر الخارجية للمآسي يمكن أن تزال بفضل زوال الأهواء الاجتماعية السالفة. ولكن الإنسان سوف يكتشف، عند ذاك بالضبط، مأساة الحياة بشكلها الخالص”، تلك المأساة الداخلية الملازمة لوجود الإنسان التي كانت العوامل الخارجية تخفيها حتى ذلك الحين. إننا نرى بوادر ذلك في بلاد عم فيها الرخاء كل طبقات الشعب وهي البلاد السكندنافية.

أن السأم واليأس منتشران في تلك البلاد الي كان المفروض فيها أن تكون فردوساً أرضياً. منذ أمد غير بعيد نشرة الصحف خبراً مفاده أن الشبان في السويد أخذوا يستعملون بعض المواد الصيدلية كمخدرات، حتى أنه اقتضى حظر بيعها. والمعروف أن مدينة كوبنهاغن تبلغ رقماً قياسياً في الانتحارات. بنظر بردياييف “سوف يشتد كثيراً، في ظل نظام اشتراكي، طابع المأساة الذي تتصف به الحياة الإنسانية” ذلك لأن الصراع الاجتماعي الذي يحول الإنسان عن التفكير في مصيره وفي معنى وجوده يكون قد خمد، فلا بد عند ذاك للإنسان أن يجابه مأساة الموت، مأساة محدودية كل شيء في هذا الوجود”.

سيجد الإنسان نفسه أمام الموت، هذا ما كان يراود فكر أندره مالرو في المرحلة التي كان فيها متحمساً للشيوعية متعاوناً معها إلى أبعد الحدود. ففي تصريح له لمجلة Monde في 18 تشرين الأول 1930، قال: “طبيعي أنه يجب الانتصار أولاً. ولكن يبقى هذا التساؤل: ألن يجد الإنسان نفسه بعد النصر أمام موته وما هو ربما أشد خطورة، أمام الموت الذين يحبهم”. والموت عدو الإنسان الأكبر لأنه إذا عنى الفناء – كما يعني للماركسيين – فإنه لا يضع حداً لحياة الإنسان وحسب بل يحكم عليها كلها باللا معنى.

لأن كل لحظة من لحظات حياتي، حتى أكثفها وأغناها، إنا هي “ظل ومنام” إن كان محكوماً عليها أن تصب في العدم. هذا ما أدركه الفكر الحديث بحدة وخاصة الوجودي منه. فقد حدد الفيلسوف الوجودي هيدجر الوجود الإنساني بأنه “وجود من أجل الموت”. وقد كتبت سيمون دي بوفوار: “لكي تكون الحياة جديرة بالاهتمام، ينبغي كل عتبة موجودة فقط لتقود إلى العتبة التالية… أما إذا انهار كل شيء عندما يصل المرء إلى القمة، فيصبح الكل لا معنى له منذ المنطلق”.

وكتب غبريال مارسيل في الموضوع عينه:

“الزمن كمنفذ إلى الموت – إلى موتي – إلى هلاكي.

الزمن – الهاوية؛ دوار يعتريني أمام هذا الزمن الذي يجثم موتي في أعماقه ويجذبني إليه”.

وهناك خبرة قد تكون أعمق وأقسى من الجزع أما فكرة الموت الشخصي (الذي لا يمكن للإنسان أن يتصوره حقيقة)، ألا وهي خبرة موت المحبوب، تلك الخبرة التي تناقض في الصميم جوهر الحب الذي أوضحه غبريال مارسيل بقوله: “أن نحب كائناً هو أن نقول: أنت لن تموت”. لذا كتب هذا الفيلسوف: “كيف يمكن أن نجابه عثرة موت الكائن المحبوب؟ إلا إذا بنينا عالماً تسوده التقنية وتنفى منه العلاقات بين شخص وشخص”.

ولنا في احدى رسائل ماركس شهادة بأنه عانى هذه الخبرة بألم مرير: “عندما فقد ماركس، في الثلاث سنين الأولى التي قضاها في لندن، ثلاثة من أولاده كتب لانغلز ضابطاً مشاعره:

“يقول باكون أن الناس المهمين بالفعل لهم مع الطبيعة والكون علاقات كثيرة بهذا المقدار…. حتى أنهم يتعزون بسهولة عن أية خسارة اعترتهم. لست من هؤلاء الناس المهمين. إن موت ولدي ألم بي عميقاً بهذا المقدار حتى إنني لا أزال أشعر بمرارة فقده كما في اليوم الأول”.

مشكلة الموت هي في صميم جزع الإنسان الحديث وما التهافت النهم على أحاسيس الجسد سوى وسيلة فاشلة في الصميم لدره هذا الجزع وابعاد شبح الموت.

بالطبع لقد وجدت هذه المشكلة مع وجود الإنسان. إلا انها اتخذت في عصرنا حدة خاصة. هذا يعود أولاً لكون الإنسان الحديث اثبت انتصاره على الطبيعة ولذا يبدو له الموت ناقضاً لا يحتمل لهذا الانتصار: “لقد قهرنا الفضاء وبدت مملكتنا لا حدود لها. بقي الضياع في الزمن، لا يطاق بمقدار ما هو باق وحده”.

أما السبب الثاني فهو أن الإنسان الحديث، بقدر رفضه لله، أصبح وحيداً لا رجاء له أمام الموت، كما كتب مالرو: “من أجل افناء الله وبعد افنائه، أباد الفكر الأوروبي كل ما كان من شأنه أن يعارض الإنسان. ولكنه في غاية جهوده… لم يجد سوى الموت”.

أما الماركسية فإنها تتجاهل المشكلة. بنظرها يكفي لإعطاء حياة الإنسان معنى كونه يعمل من أجل الإنسانية. ولكن “الإنسانية” بحد ذاتها فكرة مجردة. لا وجود “للإنسانية” خارج البشر الإفراد. “الإنسانية” يحملها الإنسان الراهن ويحققها فيه. لا خلاص “للإنسانية” إذا كان البشر الذين يؤلفونها يموتون كلهم. في كل إنسان تموت “الإنسانية”. هذا ما تعبر عنه بشكل مؤثر رسالة كتبها فيزيائي شاب غير مسيحي في أيار 1963 قال: “سوف يخيل إنني طيلة حيات جاهدت من أجل “خلاص العالم”. ولكنني أكون بالواقع قد شغلت نفسي وحاولت أن أملأ الفراغ. لا خلاص للعالم بدون خلاص الفرد، لا خلاص للفرد دون التغلب على الموت”.

لم يتعرض ماركس لمشكلة الموت إلا مرة واحده في انتاجه الضخم، فكتب: “يبدو الموت انتصاراً قاسياً للنوع على الفرد، فكأنه يناقض الوحدة بينهما، ولكن فرداً معيناً ليس سوى جزء معين من النوع وبهذه الصفة هو مائت”. إن الخفة الغريبة التي يعالج بها ماركس هذا الموضوع الأساسي تخفي ارتباكاً أمام هذه المشكلة التي لا قدرة للماركسية على حلها. لقد بشر ماركس بمصالحة الإنسان والطبيعة. لكن الموت ينفي كل مصالحة من هذا النوع. الموت يعني سحق الطبيعة للإنسان، يعني أن الانحلال العضوي قد قضى على فكر الإنسان وقدرته. إنه يعني في النهاية أن الماركسية ليست تمجيداً للإنسان بل للطبيعة التي توجد الإنسان ثم تبيد بإفنائه زهرتها الفضلى، على حد تعبير أنغلز. هذا يعني أن الماركسية ليس في النهاية فلسفة إنسانية كما أرادها ماركس بل فلسفة طبيعية.

هذا ما يقر به بعض الماركسيين، Naville مثلاً الذي يقول إن الماركسيين في الأساس لا يهتمون بالإنسان على قدر اهتمامهم “بالطبيعة الشاملة” وأنهم “يعيدون دمج الإنسان بالطبيعة”. بهذا المعنى يقول نافيل “الماركسية فلسفة طبيعية أكثر مما هي فلسفة إنسانية”. بعبارة أخرى “لا يهمهم الإنسان من حيث هو بل من حيث هو مرحلة معينة من مراحل النمو الشامل”.

هكذا فهذه الفلسفة التي أرادت ابراز الإنسان أضاعت الإنسان وأغرقته في الطبيعة، ذلك أن الإنسان لا يتعالى عن الطبيعة إلا بارتباطه برب الطبيعة ذاك الذي رفضته الماركسية بحجة تحرير الإنسان. ولكن تجاهل الماركسية لمشكلة الموت لا يمكنه أن يدوم، ذلك لأن معنى الموت يعين إلى حد بعيد معنى الحياة. ولذلك اخذت التساؤلات حول هذا الموضوع الشائك تبرز في الأوساط الماركسية نفسها وفي صميم البلاد ذات النظام الشيوعي. فقد كتب جان اونيموس: “في روسيا، من المعلوم منذ زمن بعيد أن “فكرة الموت رجعية” لأنها ترد الفرد إلى ذاته… لكن هنا أيضاً، كان الموت أقوى، ففي المجلة الماركسية الفكر، في كانون الثاني – شباط 1962، لاحظ معلق عودة الجزع الشخصي والأسئلة المحرمة عند الشباب”.

ومن أبرز الدلائل على هذا التحول ما جرى في اللقاء الذي جمع مدة أربعة أيام نحن مائتين مفكر من ماركسيين ومسيحيين في أيار 1967 في مدينة مارينباد في تشيكوسلوفاكيا. فقد خصص أحد الماركسيين التشيكوسلوفاكيين جزءاً كبيراً من كلمته لبحث مشكلة الموت واعترف بأن التفاسير التي تعطي عنها في الماركسية غير مرضية.

وفي حديث أجرته مجلة “الإنباء الكاثوليكية العالمية” مع بعض الشخصيات المسيحية. أدل فرنسوا هوتار بالشهادة التالية: “عندما يتاج للمرء أن تكون له أحاديث شخصية مع غير مؤمنين، مع ماركسيين، فالسؤال المطروح دائماً في النهاية هو قضية معنى الحياة والموت”.

وليس الموت المظهر الوحيد للمأساة الداخلية الملازمة لوجود الإنسان. لو افترضنا أن البشر توصلوا أخيراً إلى التغلب على الموت (هذا مثلاً موضوع مسرحية للمفكر الفرنسي غوستاف تيبون بعنوان “ستصيرون آلهة”)، فمشكلة الإنسان تبقى مع ذلك غير محلولة. ذلك أن “الأبدية” التي يتوق إليها الإنسان ليست استمراراً زمنياً لا نهاية له، إنها التحقيق الكامل لإنسانية الإنسان والتلبية الشافية لتوقه إلى المطلق. لا بل إذا استمرت حياة الإنسان بلا نهاية بما هي عليه من النقص الكياني، تعقدت المشكلة بشكل رهيب عوض أن تحل، لأن الإنسان يبقى، والحالة هذه، في فراغ لا ينتهي يولد فيه سأماً لا يحتمل.

هذا ما بينه المفكر الأرثوذكسي المعاصر بول أفدوكيموف، مستشهداً بأقوال وجودية ملحدة، سيمون دي بوفوار، ووجودي مسحيي، بردياييف: “إن سيمون دي بوفوار، في كتابها كل البشر مائتون، تلتقي ببردياييف وتعبر عن حدس مصيب إذ ترى أن امتداد الحياة البيولوجية إلى ما لا نهاية له لا بد له أن يقود إلى سأم لا متناهي. يمكن الإضافة بأن فظاعة الجحيم كامنة بالضبط في سأم كهذا مخلد. ويرى آباء الكنيسة أن الحياة دون نهاية في الأوضاع الأرضية لا يمكن أن تكون سوى كابوس شيطاني، وإن محبة الله لخليقته تحول دون تخليد هذا الوضع الحياتي الذي ليس هو سوى موت مؤجل”.

فهناك أيضاً مأساة العزلة. إذا ازيلت الحواجز الاجتماعية المصطنعة التي تفصل بين البشر، حينئذ سيكشف الإنسان أن الحاجز الأساسي الفاصل بينه وبين الآخر قائم في قلبه وأن الحواجز الخارجية كانت، إلى حد بعيد، تعبيراً عن هذا الحاجز الروحي. عند ذاك ستنكشف مثلاً، كما بين بردياييف، مأساة الحب بوجهها الخالص. إن الحواجز الاجتماعية قضت على حب روميو وجوليت. هذه الحواجز يمكن إزالتها ويجب أن تزول، ولكن الصراع سوف ينتقل عند ذاك إلى صميم الحب نفسه، إلى الازدواجية الممزقة القائمة فيه بين الانعطاف والهوى، بين التملك والعطاء. ولكم رأينا هذا الصراع يقضي على اتحاد بين رجل وامرأة قام على حب ملتهب كان يبدو لأول وهلة أنه سوف يكون أبدياً. مأساة العزلة هذه يجابهها الإنسان وسوف يجابهها ليس في الحب وحده بل في علاقاته الإنسانية كلها وحتى في علاقاته مع أقرب الناس إليه. وهذا مثل على ذلك.

في تشرين الثاني سنة 1963، قدم أحد أقطاب الحزب الشيوعي الروسي وهو اليتشيف تقريراً شهيراً عرف باسمه يطالب فيه بمضاعفة محاربة الدين ويرسم خطوطاً جديدة لهذه المحاربة. وقد لفت نظري عند قراءتي للتقرير المذكور حدث ذو معنى يرويه اليتشيف، يقول: “إن الذي بنى سابقاً مدينة ليتكارينو قرب موسكو، كتب لاصدقائه الذين شاركوه العمل: لقد تقاعدت منذ ثلاث سنوات. عندما كانت صحتي لم تزل جيدة وكنت أستطيع المشي، كنت اتردد على الشركة Trust… ولكنني منذ بضعة أشهر، انقطعت عن المجيء إليكم ولم يتساءل أحدكم لماذا انقطعت عن المجيء، لم يكترث أحدكم لمعرفة ما أصابني. هذا رغم كوننا عملنا معاً نحو ربع قرن… إنه أمر مرير أن ينسى الإنسان رفاقه في أيام شيخوخته. لقد أفضيت بأفكاري لشيوخ آخرين فأجابوني: الله وحده لا يترك الإنسان ولا يخونه. تعال معنا إلى الكنيسة ولن تبقى وحيداً…”.

هذا الحدث أن عنى شيئاً فإنه يعنى أن تغيير النظم لا يكفي وحده لتغيير قلت الإنسان وإزالة سر الشر منه، هذا السر الذي هو عنه، في الأساس سر الأنانية المنغلقة على ذاتها الرافضة للآخر، المتغربة الطامعة في استعباده. إن استعباد الإنسان لأخيه ممكن حدوثه في ظل أي نظام اجتماعي (وإن شجب الماركسيين للطغيان الستاليني يعني اعترافهم الضمني بأن ذلك الاستعباد يمكن أن يقوم في المجتمع الشيوعي نفسه). ذلك أن ضياع الجوهر الإنساني في الإنسان المستعبِد والمستعَبد، ذلك الضياع الذي شهره ماركس، لا يمكن رده إلى الظروف الاقتصادية وحسب، ولكنه يتجذر في صلب الكيان الإنساني: “الإنسان هو ذاك الكائن المنقسم على نفسه… إن الرغبة التي تدفعه نحو الآخر تحوي دون تمييز الاستعباد وعطاء الذات. هذه الحقيقة المأساوية… تلقي ضوءً…. على الأشكال المتعددة التي يتخذها ضياع الجوهر الإنساني في الإنسان وتشملها”.

النظام الاجتماعي، ولم كان مثالياً، لا يكفي وحده لمنع الإنسان من أن يكون ذئباً للإنسان. ولنا في هذا المجال حادثة ذكرتها الصحف وقد جرت في السنوات الأخيرة في بل من أرقى البلدان اجتماعياً في العالم، ألا وهو أسوج. وهذه هي الحادثة التي روتها جريدة “الأوريان” اللبنانية: “كان جمهور ثائر، في ستوكهولم، يصرخ: “اقفز، اقفز، اقفز” لشاب يائس كان عازماً على القاء نفسه من على جسر للسكة الحديدية يبلغ ارتفاعه 38 متراً. قال الشاب للرجال الشرطة الذي اقبلوا لنجدته: “لا أستطيع الآن أن أتراجع. اصغوا إليهم. إنهم يريدون أن أقفز”. استطاع أحد رجال الإطفائية أن يقترب من اليائس وأن يمسك به. إلا أنه استطاع التملص منه وقفز على سطح دكان بائع للأزهار. وقد نقل إلى المستشفى مصاباً بجراح بالغة الخطورة”.

إن الله وحده – ذلك الذي ترفضه الماركسية – قادر أن يشفي عزلة الإنسان وأن يوحد بين الإنسان والإنسان.

لقد كتب بردياييف: “إن ماركس لم يشأ أن يرى مأساة الإنسان الداخلية، لأنه كان منشغلاً بالكلية لا بمشكلة الإنسان بل بمشكلة المجتمع. لم يكن ملتفتاً إلى حياة الإنسان الداخلية بل إلى حياة الجماهير البشرية”.

قد ينشغل الإنسان عن مأساته الداخلية لانهماكه بالسعي وراء اللقمة أو لنضاله في سبيل مجتمع أفضل، ولكن إذا حققت في المجتمع – ويجب أن تحقق – شروط حياة كريمة واطمأن الإنسان على الخبز والعدالة له ولغيره، فعند ذاك لا مفر له م مجابهة ذاته. في ذلك الحين يحشر بين حلين لا ثالث لهما: فإما يخدر وجدانه الذاتي يغرقه في ترف العيش او اندماجه الكلي في الآلة الاجتماعية. هذا كان هدف “المفتش الأكبر” الذي رمز به دوستويفسكي، فيما رمز، إلى الاشتراكية الملحدة، ألا وهو “قيادة البشر… نحو الموت والفناء وخداعهم طول الطريق حتى يكون هؤلاء العميان الذين يستحقون الرثاء سعداء في الطريق على الأقل”. ولكن هذا الحل مرادف لانتحال روحي.

أما الحل الثاني، فهو الجزع، ذلك الجزع الذي لا جواب للماركسية عليه لأنها رفضت العنصر الوحيد للجواب. في تصريح مالرو سنة 1930 المذكور آنفاً، قال: “إذا كان الشعور بالعزلة الإنسانية والمأساة مطموساً عند الشيوعيين الروس، فذلك عائد لكون روسيا، منذ سنة 1918، بلد مجند يدافع عن نفسه”. ولكنه كان يعرف أن مجابهة المأساة لا بد لها بعد النصر وأن “الثورة لا يمكنها أن تنجي الإنسان من جزع الحياة والموت”. وبالفعل، الآن إذ بلغت روسيا قسطاً كبيراً من الاستقرار ومن التحقيقات الاشتراكية، ألا نرى بوادر الجزع تبدو فيها، تتسرب إلى تقرير ايليتشيف وتتجلى في تساؤلات الشباب التي يشبهها الزوار الأجانب بتساؤلات أبطال دوستويفسكي ذلك الكاتب القلق الذي صور مأساة الإنسان في كل اعماقها وأعطاها أبعادها الروحية كلها؟ أليس حدثاً ذا معنى أن تكون “أول طبعة كاملة لمؤلفات دوستويفسكي بعد الثورة قد نفدت في فترة بعد ظهر يوم واحد”.

ضرورة مجابهة جزع الحياة والموت بدت تظهر الآن لبعض المفكرين الماركسيين. هذا تجلى مثلاً في لقاء مارينباد المذكور آنفاً حيث تحدث الأستاذ ماشوفيك من جامعة براغ، ومما قاله: “إن الماركسية، كما هي اليوم لم تحل قضية معنى الحياة الإنسانية”. “وأخذ على الماركسيين استغراقهم في “الأساليب الاقتصادية الصرف” وتقيدهم “بكلمات السر السياسية”. وتابع كلامه يقول: إن مشكلة معنى الحياة الإنسانية لهي المشكلة الرئيسية في ماركسية المستقبل… الماركسية، بعد أن تركها الله، سوف تتقبل، آجلاً أم عاجلاً، ميراث السر الإنساني”.

ولا يزول الجزع في الحالة الأولى التي افترضناها ألا وهي تخدير الحاسة المصيرية عن الإنسان. كل ما هنالك أنه يتحول عن موضوعه الحقيقي، ألا وهو عزلة الإنسان والعدم الذي يتأكل وجوده، فيتبعثر في اهتمامات شتى غير جوهرية. هذا ما صوره باسكال عندما وصف حركة الهروب التي بها يحاول الإنسان أن يغرق ذاته في هموم تلهيه عن مجابهة مأساته الكيانية، وهذا ما صوره هيدغر في عصرنا عندما بين كيف يستعيض الإنسان عن الجزع الأصيل النابع عن عزلته في الكون بمبالغة في القلق حول أمور عرضية، سطحية، فيضيع وجوده الشخصي في وجود مغفل، رتيب، وما أكثر الوسائل التي يجدها الإنسان في العالم الحديث ليهرب من القلق العميق إلى القلق الزائف، فقد يتحرق مثلاً إلى اقتناء سيارة ثم إلى استبدالها بسيارة من نمط أرفع، وقد يقض مضجعه – إذا كان يسكن مدينة كبرى – أمر تدبير مكان يصف فيه سيارته.

لقد صور لنا غبريال مارسيل في كتابه L’Homme problematique الأشكال التي يتخذها هذا الهرب الفاشل من الجزع في كل من الحضارتين الأمريكية والماركسية. ففي الأولى يرتمي الإنسان في حركة دائمة يحاول بها أن ينسى نفسه، وفي الموسيقا الصاخبة وفي تسليم ذاته للمحلل النفسي كما يسلم سيارته للميكانيكي. (ويمكن أن نضيف: في ادمان المخدرات التي تحدثنا الصحف في تلك الآونة عن انتشاره الرهيب في الولايات المتحدة، وفي أعمال العنف التي يقلق انفجارها المسؤولين والمفكرين). وفي الثانية يتحول المرء إلى سلسلة وظائف وكأن قلقه ينحصر في النقد الذاتي الذي يمارسه حول تأديته لدوره كدولاب في آلة التصميم. لقد اتهمت الماركسية الدين بأنه هرب الإنسان أمام مجابهة صعوبات الحياة. هذا صحيح إلى حد ما بالنسبة لبعض الأشكال التي يتخذها التدين. ولكن أليست محاولة طمس الجزع المصيري الذي هو – كما بينت الوجودية المعاصرة – بعد أساسي من أبعاد الإنسان، هي بدورها هرباً وتخديراً؟

هذا الجزع الذي فيه يتجلى في آن واحد شقاء الإنسان وعظمته يعود في النهاية إلى ذلك الصراع في الإنسان بين محدوديته وتوقه إلى اللامحدود. الماركسية بتحقيقاتها الزمنية حرية بأن تبلور هذا الجزع عوض أن تزيله، وليس لإلحادها جواب عليه. الجواب الوحيد كما يقول بردياييف هو بالإيمان المسيحي بالقيامة، ذلك الإيمان بالله وبالقيامة هو قبول السر، ولكن السر وحده يعطي للحياة الإنسانية معنى. هنا نعود إلى رأي الكاتب الملحد البير كامو الذي ذكرناه آنفاً بأن الإنسان لا يسعه إلا أن يختار بين السر واللا معنى.

نقد النقد الماركسي للدين – كوستي بندلي

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)