أبحاث

المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس
المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

لا يسمح المتعصبون من أنصار المنهج الطبيعي بأي شيء فوق طبيعي في الكتاب المقدس، أو في أي مكان آخر. يأخذ بعض المفسرين هذا الاتجاه بينما يكون الآخرون أقل تصلباً، ويدركون وجود بعض العناصر فوق الطبيعية في الكتاب المقدس. إن من يتعاملون مع الكتاب المقدس بالمنهج الطبيعي يعتقدون أنهم يجب أن يقللوا أو يبعدوا من العناصر غير المقبولة بالنسبة لمنطقهم، لأن الكتاب المقدس كتبه بشر. وعلى الرغم من أن هناك الكثير من المناهج الطبيعية، إلا أننا سوف نناقش أكثر ثلاثة مؤثرين منها:

1 – العقلانية، التي أصبحت سائدة في القرن السابع عشر.

2 – النقد الأدبي، الذي أصبح سائداً في القرن التاسع عشر.

3 – النسبية الثقافية، والتي أصبحت مؤثرة بصورة متزايدة في النصف الأخير من القرن العشرين.

1 – العقلانية

الكتاب المقدس عقلاني لأنه يخاطب العقل. فالواقع “تجديد” الذهن وتغييره عن الأفكار السائدة في العالم (رومية 12: 2). والكتاب المقدس عقلاني من ناحية أنه حق صرف، ولا يناقض نفسه مطلقاً. وهكذا يتعامل المسيحي مع الكتاب المقدس بعقلانية وليس بدون عقلانية. لكن العقلانية يستدل عليها بنظام للتفسير ينبع من نظرة طبيعية للعالم. فالعقلاني يعتمد على منطقه الشخصي باعتبار أنه السلطة النهائية المطلقة.

وتنعكس تلك النظرة في الافتراضات المسبقة لدى العقلاني: وهي أن ما لا يمكن التحقق منه بواسطة الخبرة المعاصرة أو الفكر المنطقي، لا يمكن قبوله على أنه حقيقي، وبالتالي لا يمكن أن يكون كلمة الله. فالمعيار النهائي للعقلاني لتحديد ما إذا كان تعليم ما أهل للثقة، هو المنطق الفردي المستقل ذاتياً.

بالنسبة للعقلاني، توجد ثلاثة أحجار عثرة في الكتاب المقدس لكي يقبله على أنه جدير بالثقة، وبالتالي ككلام له سلطان من الله. الأولى، بعض تعاليم الكتاب المقدس تم اعتبارها تعاليم لا تليق بالله أخلاقياً. فصلوات دواد لأجل الانتقام من أعدائه (مزامير اللعنات)، والأوامر بإهلاك شعب كنان هي أمثلة لمثل تلك العناصر غير المقبولة. لا يسعى العقلاني لتوفيق هذه العناصر مع تعاليم الكتاب المقدس الأكثر قبولاً (بالنسبة له)، ولكنه يؤكد ببساطة على أنها ليست كلمة الله. وفي السنوات الأخيرة تم إدراج الكثير من تعاليم الكتاب المقدس الأخرى تحت نفس التصنيف بواسطة العقلانيين. فتعاليم الكتاب المقدس عن الطلاق، ودور المرأة في الزواج، وقبول السلطة المدنية، والكثير غيرها قد تم رفضها بسبب ما يطلقون عليه الأسس الاجتماعية.

كما أن هناك عنصران آخران في الكتاب المقدس تم رفضهما بواسطة العقلانيين، وهما: المعجزات، وعبارات الكتاب المقدس التي يبدو أنها تناقض عبارات أخرى فيه (مثل الشواهد التاريخية التي لا تتفق معاً).

بعد الإصلاح تصاعد انتشار التفسير العقلاني بسبب التقدم العلمي. وفجأة ظهرت أعداد أكبر كثيراً من المشاكل في الكتاب المقدس مما كانت تعتبر من قبل. فأية نظرية للعلوم الفيزيقية أو البيولوجية كان يمكن للعقلاني أن يقبلها باعتبار انها أقرب إلى الصدق والحقيقة من أي شيء يمكن للكتاب المقدس أن يقوله في هذا الموضوع. وقد عجل هذا الصراع العظيم بين نظرية التطور وتعاليم الكتاب المقدس الخاصة بالخلق. وبتقدم العلم أكثر، ظهر أن عدداً من التفسيرات الكتابية التي كانت مقبولة منذ زمان طويل تتناقض مع النظريات العلمية الناشئة حديثاً. وهكذا كان العقلاني يميل إلى اتخاذ جانب النظريات العلمية.

وحيث أن العالم المادي ليس هو المحور الرئيس لتركيز الإعلان الكتابي، فإن الصراع حول النظريات الفيزيقية والبيولوجية، رغم شدته، كان محدوداً. لكن بميلاد العلوم السلوكية في القرن التاسع عشر، ازداد بسرعة عدد التعاليم الكتابية التي أصبحت غير مقبولة للعقلانيين. فقد كان علم النفس وعلم الاجتماع يتجهان مباشرة إلى قلب الإعلان الكتابي، بالتعامل مع الموضوعات العامة، مثل الإنسان، وطبيعته، وعلاقاته، وما يجعله مكتملاً. واتسعت ساحة المعركة بسرعة لكي تشمل معظم الكتاب المقدس.

كان هؤلاء هم العقلانيون العلمانيون، ولكننا عندما نتحدث عن الافتراضات العقلانية المسبقة في التفسير، فإننا لا نشير أساساً إلى المواجهة بين المؤمن، الذي يرغب في فهم الكتاب المقدس، والعقلاني غير المؤمن، الذي يهاجم من الخارج. لكننا نتحدث عن أولئك الذين، في سعيهم لفهم الكتاب المقدس، يتبنون اتجاهاً عقلانياً في افتراضاتهم المسبقة. فيعتمدون بالكامل على العقل أو المنهج “العلمي” في التوصل إلى معنى النص ورسالة الله التي قد تكون هناك.

يعتبر العقلاني فهمه الشخصي (أو فهم شخص آخر) هو السلطة التي يقيم بها العناصر الموجودة في الكتاب المقدس. فإذا كان هناك خطأ ما في الكتاب المقدس، فيجب أن يقوم شخص ما بتحديد وجه الخطأ وما هو الصواب. وبحسب رأي العقلاني، يتم تحديد ذلك بواسطة التفكير البشري.

على هذا الأساس، لا يستطيع العقلاني أن يقبل المعجزات الموجودة في الكتاب المقدس لأنه لم يختبرها هو شخصياً، وأيضاً لأن الروايات المتعلقة بالمعجزات لا يمكن التحقق منها بواسطة التجربة. ولذلك يجب تفسير المعجزات إما على أنها سوء فهم للأحداث الطبيعية، أو على أنها أساطير تنمو حول نوع من الأحداث التاريخية او التخيلية.

على سبيل المثال، بحسب العقلانيين، كان عبور البحر الأحمر فعلياً هو عبور لبحر “ريد”، هو عبارة عن مستنقع ضحل، والذي استطاع الإسرائيليون السير عبره. نبوات دانيال أيضاً لم يكتبها دانيال نفسه، بل كتبها شخص آخر بعد وقوع الأحداث. بالإضافة إلى أن يسوع لم يطعم الخمسة آلاف نفس، بل أن يسوع استخدم سخاء الصبي الذي أعطاه غذاءه لتحفيز الباقين للمشاركة بغذائهم بسخاء أيضاً.

فالافتراض المسبق هو أن المعجزة أمر مستحيل. لذلك، فبدلاً من اللجوء إلى القواعد العادية التي يستخدمها المؤرخون للتحقق من الأحداث التاريخية، يقوم العقلاني ببساطة باستبعادها على أنها غير مقبولة. يُستخدم نفس هذا المنهج لاستبعاد ما يعتبر تعليم غير مقبول أخلاقياً، وللمقاطع التي تبدو أنها تناقض البراهين التاريخية الأخرى أو النظريات العلمية المعاصرة.

النتيجة النهائية للمنهج العقلاني في الكتاب المقدس هي ببساطة أنه: لا توجد كلمة أكيدة من الله، بمعنى أن الكتاب المقدس ليست له سلطة مستقلة في ذاته، لأن التفكير البشري هو السلطة النهائية في الحكم على كل ما يعبر عن نفسه بأنه كلام من الله.

2 – نقد الكتاب المقدس (النقد الأدبي)

واحدة من السمات المميزة للإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر كان إصرار قادته على “الكتاب المقدس وحده”. فرفض المصلحين لتساوي سلطة الكتاب المقدس بسلطة التقليد قد تأثر باكتشاف أن وضع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كان مؤسساً على وثائق مزورة. وبالتالي أصبح البروتستانت مهتمين للغاية بالمسائل المتعلقة بالسمة الأدبية للوثائق الدينية، وخاصة الكتاب المقدس.

وهكذا كان هناك احتياج للحكم النقدي لتمييز الصواب من الخطأ. و”نقد الكتاب المقدس” هو مصطلح فني لا يتضمن معناه الجلوس في موضع الحكم على الكتاب المقدس، كما يحدث عندما يقوم الناقد الفني بتقييم عمل فني، أو النزعة السلبية التي يقوم بها شخص ذو “روح ناقدة”. لكن هذا المصطلح يشير إلى التقييم الدقيق للبيانات لتقرير الحقيقة بشأن الكتاب المقدس.

يأخذ النقد الكتابي شكلين. أولاً، النقد النصي أو “الأدنى”، إذ سعى النقاد النصيون لتقرير ما هو النص الأصلي للكتاب المقدس. فالكثير من النسخ القديمة من الكتاب المقدس تم حفظها في أجزاء أو بأكملها، وهذه تمثل درجات مختلفة من الاتفاق. فالنقد النصي هو علم مقارنة النص بالنص الآخر لتحديد النص الأصلي. ورغم أنه لا يوجد لدينا أي من المخطوطات الأصلية اليوم، إلا أنه بسبب الأعداد الضخمة من النسخ والترجمات القديمة المتاحة (أكثر من 5000)، يمكننا أن نتيقن تقريباً من النص الأصلي.

وفي الحالات الضئيلة التي يظل بها نوع من الأسئلة، لا يشكل هذا أي مخاطرة بمبدأ عقائدي مهم. فكل نقاد النصوص الأوائل تقريباً كان يدفعهم الاقتناع بأن النص الأصلي هو الموحى به من الله، ولهذا كان للنص الدقيق أهمية عظمى. وهكذا يسعى النقد النصي لإظهار النص الأصلي بأكثر دقة ممكنة.

أما النوع الثاني من نقد الكتاب المقدس، فهو أمر يطلق عليه النقد “الأعلى”، ويقوم بفحص النص التاريخي للوثيقة والسمات الأدبية للسفر نفسه. هذا النوع من التحليل يحاول أن يجيب على أسئلة مثل: تاريخ كتابة السفر، ومن هو كاتبه، والأسلوب الأدبي في أي مقطع. مثل هذه الدراسة ليست عقلانية في الأصل. فمعرفة الاختلاف بين نصوص الشريعة والأمثال، أو بين الشعر والرسالة، يساعد على فهم ما يقصده الكاتب بطريقة سليمة.

كما أن ملاحظة الهدف اللاهوتي لأي ممن قاموا بكتابة الكتاب المقدس له قيمته وأهميته أيضاً. لكن على يدي العقلانيين، أصبحت الوسيلة النقدية التاريخية هي تماماً ما يطلق عليه “النقد الأعلى الهدام” – وهو النقد الذي تكون نتيجته النهائية، إن لم يكن هدفه، هو هدم الثقة في مصداقية الكتاب المقدس، أو في أنه ذو سلطة على الإطلاق.

النقد التاريخي من هذا النوع قد أصبح بديل شديد الفائدة بالنسبة لأولئك الذين استبعدوا فكرة الكتاب الموحى به من الله، ولكنهم لا يزالون يرون نوعاً من القيمة في الكتاب المقدس كسجل للسعي الديني. فسعي إسرائيل، إذ يعاد بناؤه بواسطة الناقد، تم جعله يتفق، وفي معظم الأحيان يتم تفسيره بالكامل، بالحياة الدينية للشعوب حوله. وهذه نظرة طبيعية لأنها ترفض أي احتمال أن يكون الله قد اختار وأفرز شعب إسرائيل لتحقيق أغراضه الخاصة، وأنه استطاع أن يوحي للكتاب لكي يسجلوا بدقة رحلتهم الروحية.

كانت نظرية JEDP التي كان هناك الكثير من الجدل بشأنها، هي المثال النموذجي لاستخدام الوسيلة النقدية التاريخية بطريقة تهدم الثقة في سلطة ومصداقية الكتاب المقدس. تعتقد هذه النظرية أن التوراة، أي أسفار موسى الخمس، كان في الحقيقة تجميع لمواد أربعة مؤلفين مختلفين على مدى عدة قرون. باستخدام تقنية مشابهة، جادل آخرون بأن سفر إشعياء كتبه اثنان أو ثلاثة “إشعياء”، وأن بولس لا يمكن أن يكون قد كتب الرسائل الرعوية التي يزعم أنه كتبها.

يؤكد هذا المنهج كبداية على وجود أخطاء في الكتاب المقدس، كما يقوض سلطة الكتاب المقدس في النهاية، جاعلاً من السهل “تفسير” النص بطرق تتفق مع منطق الفرد الشخصي بالنسبة لما هو ممكن أو مقبول. ولذلك فإن العناصر فوق الطبيعية في الكتاب المقدس أو التعاليم، والتي لا تتفق مع منطق الفرد الشخصي بالنسبة لما هو ممكن أو مقبول. ولذلك فإن العناصر فوق الطبيعية في الكتاب المقدس أو التعاليم، والتي لا تتفق مع الأسس الحديثة التي يتبناها الشخص، لا تعد حقيقية أو ذات سلطة.

جميع نقاد الكتاب المقدس، لو قاموا بواجباتهم الدراسية، يعملون من منطلق نفس البرهان. فإذا بدا هذا البرهان أنه يقوض مصداقية الكتاب المقدس، تبدأ افتراضات الشخص المسبقة في العمل. أولئك الذين يؤمنون أن النص حق وصادق، سيبحثون عن حلول تدعم ثقتهم في مصداقية الكتاب المقدس – وقد نجح العلماء المؤمنون بصورة ملحوظة في حل تلك المشاكل. لكن الذين يعتقدون أن الكتاب المقدس، مثل أي كتاب ألفة البشر، قد يخطئ، لا يحتاجون أن يسعوا للمزيد من التحليلات، إذ أنهم يحلون المشكلة باستنتاج أن عبارات الكتاب المقدس على خطأ. هكذا نرى أن افتراضات الشخص المسبقة بشأن طبيعة الكتاب المقدس تسبق التفسير، وتتحكم فيه.

فعلى سبيل المثال، المفسر الذي يعتنق افتراضات طبيعية مسبقة قد يجادل ضد السلطة المزعومة لسفر ما، مثل أسفار موسى أو بولس، لمجرد أن محتوى السفر لا يتفق مع الافتراضات الخاصة بالمفردات والأسلوب. وهذا يقوض سلطة أجزاء رئيسية من الكتاب المقدس.

على أن المفسر الذي يقبل تصريحات الكتاب المقدس الخاصة بالتأليف، سيجادل من ناحية أخرى، بشأن إمكانية أن يستخدم المؤلف أساليب مختلفة في فترات مختلفة من حياته عندما يتعامل مع موضوعات مختلفة أو عندما يقتبس من مؤلفين مختلفين. وبالمثل، فإن المفسر صاحب المنهج الطبيعي قد يجادل ضد وحدة سفر إشعياء لأن العناصر الموجودة في جزء من السفر تزعج افتراضه المسبق بشأن استحالة تنبؤ أي شخص بالمستقبل. في كلتا الحالتين، يتم حرمان الكتاب المقدس مسبقاً من ممارسة أي سلطة مستقلة.

إلا أن التصميم الكامل للكتاب المقدس مبني على أن يتحدى الافتراضات المسبقة، وليس أن يحكم بها. وإن لم يكن الكتاب المقدس فوق طبيعي، لأن يفقد منه فقط المعجزات، بل يُزال منه كذلك مفهوم الإعلان الإلهي السلطوي بأكمله. لذلك يختار النقد التاريخي الهدام أن يعترف فقط بالسلطة البشرية في الكتاب المقدس. لكن لكي نكون صادقين فيما يؤكده الكتاب المقدس عن نفسه، يجب أن يعمل كل من النقد التحليلي والنصي والتاريخي والأدبي على أساس افتراضات مسبقة يكون مصدرها بشري وإلهي معاً.

3 – النسبية الثقافية

إن مهمة عبور الفجوة بين العالم البعيد لكتاب الكتاب المقدس والعالم المعاصر ليس جديدة. فدراسة السياق الذي كتب فيه الكتاب المقدس كانت دائماً أمراً مهماً لأي شخص لكي يفهم معاني الكتاب المقدس. باستثناء الكثيرين الذين يسعون لفهم “روحي” آخر غير المعنى الطبيعي للنص، يسعى جميع المفسرين للحصول على فهم واضح للكتاب المقدس بدراسة المحيط التاريخي والثقافي والديني للمؤلف.

على هذا الجانب من الفجوة بين القديم والحديث، يسعى المفسرون الأصليون الحقيقيون للكتاب المقدس لتطبيق المعنى على الوضع الحاضر. ولكي يقوموا بذلك بفاعلية، يجب على المفسرين أن يفهموا محيط وبيئة القارئ أو السامع. لأن الشخص الذي يسعى لتوصيل حق الكتاب المقدس للناس في ثقافة مختلفة عن ثقافته، يكون من أكثر الأمور أهمية بالنسبة له هو أن يدرس سياق ثقافة المتلقي. إن عملية “وضع حق الله في سياق المتلقي” أو السامع، هو ما يعنيه التجسد كله. فقد قام يسوع المسيح بترجمة حق السماء إلى كلمات وأفعال يمكن للبشر أن يفهموها. وأتبع الرسل ذلك بتطبيق حق الله بطريقة مختلفة تماماً بما يتناسب مع كل من سامعيهم من اليهود ومن الأمم.

هذان السياقان أو المحيطان، محيط المؤلف ومحيط القراء المعاصرين، مهمان للغاية لفهم وتطبيق حق الكتاب المقدس حتى أن عدة فصول في هذا الكتاب سوف تتعامل مع تطوير المهارات في هاتين المنطقتين. لكن يجب أولاً حسم الافتراضات المسبقة. ماذا يعني المرس إذاً “بتكييف السياق”؟ عملياً، يتراوح من يقومون بتكييف السياق ما بين أولئك الذين يقومون بدراسة السياق الثقافي للنص ببساطة كوسيلة لتوضيح معنى النص، وبين الذين يركزون كثيراً على “السياق” حتى أنهم يصبحون طبيعيين في منهجهم.

الأسئلة الجوهرية هنا هي: هل تعتمد صحة مقطع كتابي على الفهم الحالي للثقافة القديمة؟ وهل تعتمد سلطة الكتاب المقدس على توافقها مع المقاييس الثقافية في عصرنا الحاضر؟

“الثقافة” هي الطريقة التي ترى بها جماعة من الناس الأمور المختلفة، أو التي تفعل بها الأشياء. تؤمن النسبية الثقافية بأن قيمة أو حقيقة أية فكرة تعتمد على الثقافة التي وجدت فيها. وحيث أن العقلاني يرى الثقافة على أنها متعادلة أخلاقياً، فإن ما يأتي بنتائج مقبولة في ثقافة ما قد لا ينجح في ثقافات أخرى، وبالتالي فإنه لا يكون صالحاً للثقافات الأخرى. هذا المنهج مشروع في القضايا المتعادلة أخلاقياً. لكن أن نجعل هذا المنهج ينطبق على كل شيء في الثقافة، فإن هذا يزعزع مكانة الكتاب المقدس كسلطة مستقلة تحكم على جميع أفكار وطرق السلوك البشري. في الحقيقة أنه ليس كثير أن نقول أن الكتاب المقدس قد أعطي تحديداً لكي يغير الثقافة البشرية ويخلق أسلوباً إلهياً في التفكير والسلوك. وهذا هدف أساسي من أهداف الكتاب المقدس.

فكر في مضامين النسبية الثقافية على كلا طرفي “فجوة الفهم” بين النص القديم والمؤمن في عصرنا اليوم. ماذا تفعل النسبية الثقافية للمعنى الذي يقصده المؤلف من ناحية، ولتطبيق الكتاب المقدس على إيمان وحياة العصر الحالي، من ناحية أخرى؟

عندما تختلف النظرة الحالية لسياق الكتابة الأصلية عن المعنى الواضح للنص، فأي تفسير هو الذي يسود؟ إذا تم السماح لفهم العصر الحالي للثقافة القديمة – الذي يكون غير دقيق في أفضل حالاته – بأن يغير من المعنى الواضح للنص، فقد أصبح هذا المنهج عندها منهجاً طبيعياً.

كثير من تعاليم الكتاب المقدس تعتبر مصدر إزعاج ومشاكل بالنسبة للثقافة المعاصرة. عدد من المفسرين الذين يعتبرون أنفسهم إنجيليين يتعاملون مع هذه المشاكل من خلال عملية يطلق عليها عدة أسماء مختلفة مثل، “تكييف السياق”، “التفسير الديناميكي المعادل”، أو “علم اللغويات العرقي”. وهذا العلم يقول أن التصريح الكتابي هو مجرد “هيكل” ثقافي مؤقت، فقد كانت له سلطة فقط بالنسبة لسامعيه الأصليين، ويمكن أن يتم استبعاده على أنه غير ملزم لشعوب أخرى ذات ثقافات مختلفة. لكن “جوهر” الحق المخفي في هيكل هذه الثقافة هو المبدأ والعقيدة الثابتة الباقية، والتي هي مشيئة الله لجميع الشعوب وفي كل العصور.

إلى أي حد يصبح هذا المنهج طبيعياً؟ إنه يصبح كذلك عندما يتم وصف أي تعليم من الكتاب المقدس بأنه هيكل ثقافي يمكن الاستغناء عنه في سبيل الجوهر، أو المبدأ العقائدي الباقي المفترض أنه يحويه – إلا إذا قدم الكتاب المقدس نفسه الأساس لمثل هذا التمييز.

لا يقر الكتاب المقدس في أي جزء منه بوجود تمييز بين الهيكل والجوهر. فعلى أي أساس إذاً يتم هذا التمييز؟ ومن الذي يحكم فيه؟ على سبيل المثال، أي من الوصايا التالية هيكل ثقافي يمكن الاستغناء عنه؟

“أيتها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب” (أفسس 5: 22).

“أيها الأولاد أطيعوا والديكم في الرب لأن هذا حق”. (أفسس 6: 1).

“ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس” (أعمال 5: 29).

إن الشخص الذي يقيم أية تعاليم هي التي يتعامل معها كمبدأ ثابت، وأيها يتعامل معه كثقافة يمكن الاستغناء عنها، قد أصبح هو نفسه سلطة فوق سلطة الكتاب المقدس. فإذا حكم على الزواج “بالموت” في عيني مشير الزواج، يخبروننا بأنه يجب أن ينصح بالطلاق. لكن ماذا عن أمر المسيح ضد الطلاق؟ حسناً، سيقولون أن المسيح قد أعطى هذه الأوامر في محيط الثقافة اليهودية في القرن الأول الميلادي، وهكذا فإن المبدأ وراء هذا الأمر هو الذي يجب أن يطاع، وليس الأمر نفسه. فالمبدأ هو اهتمام المحبة من الشريكين تجاه بعضهما البعض. لكن في بعض الأحيان يعتقد الناس أن اهتمام المحبة يعفي الطرف الآخر من الروابط الشرعية للزواج. وهكذا يقول أنصار تكييف السياق في معظم الأحيان أنه يجب على المفسر ألا يلتزم بالشرعية الحرفية البسيطة.

فكر مثلاً في تعليم الكتاب المقدس عن سلوك الجنس المثلي. إن حظر ممارسة علاقات الجنس المثلي في الكتاب المقدس قد تم بسبب السمعة السيئة للأشخاص الذين يمارسون الجنس المثلي في العالم الروماني، السمعة التي كانت ستجلب العار على الكنيسة لو أن المسيحيين قبلوا بهذه الممارسة. وهكذا فإن المبدأ خلف هذا الحظر كان الإخلاص الزوجي، وهكذا يتم التعليم بأن علاقة الجنس المثلي تصبح مدانة فقط لو أنها صارت مختلطة. في النهاية، يصبح فهم المفسر للثقافة القديمة هو السلطة لقبول أو رفض التعليم الكتابي. وحيث أن كل الكتاب المقدس قد أعطي في سياق حضارة ما، فإن أي تعليم فيه تقريباً يخضع لهذا النوع من الاستغلال السيء للسياق.

افتراضات أنصار النسبية الثقافية هي نفس افتراضات العقلانيين: وهي افتراضات المنهج الطبيعي. فبالنسبة لأصحاب المنهج الطبيعي، عندما يكون هناك تعليم واضح في الكتاب المقدس يتعارض مع أسلوب التفكير البشري بشكل ما، يجب أن يبتعد الإعلان ويفسح الطريق للفكر البشري. وبالنسبة لأنصار النسبية الثقافية، إذا كان فهم الشخص لخلفية المؤلف الثقافية أو للخلفية الثقافية المعاصرة يجعل التفسير مخالفاً للمعنى الطبيعي للنص نفسه، فإن الافتراض هو أن من يقوم بتكييف السياق له سلطة أعظم في تقرير الحق من الكتاب المقدس نفسه، وهذا يعتبر منهجاً طبيعياً. (تعتبر مسألة تكييف السياق هي القضية الجوهرية بين المفسرين الإنجيليين. لذلك سنقوم بمعالجة هذا الموضوع بصورة أدق في الفصول التالية).

مراجع مختارة للمزيد من الدراسة

آلاند كيرت، وبارباراد ألاند. The Text of the New Testament: An Introduction to the Critical Edition s and to the Theory and Practice of Modern Textual Criticism. ترجمة إيرول إف رودس Grand Rapids: Eerdmans 1989.

بروس إف إف. The New Testament Documents: Are Thwy Reliable? Downers Grove, 111.: InterVarsity, 1973.

جرينلي، جي هارولد. Introduction to New Testament Textual Criticism. Grand Rapids: Eermans, 1964.

كرتنر، إدجار. The Historical – Critical Method. Philadephia: Fortress, 975.

سولين، ريتشارد إن. Handbook of Biblical Criticcism. Atlanta: John Knox, 1981.

ستين، روبرت إتش. The Synoptic Problem: An Introduction. Grand Rapids: Baker, 1987.

ستولماكر، بيتر. Historical Criticism and Theological Interpretation of Scripture: Toward a Hermeneutic of Consent.  ترجمة روي أيه هاريسفيل. Philadelphia: Fortress 1997.

المنهج الطبيعي في تفسير الكتاب المقدس

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)