أبحاث

التعليم العام والخاص في الكتاب المقدس – التعرف على الأشخاص المقصودين بالرسالة

التعرف على الأشخاص المقصودين بالرسالة

التعليم العام والخاص في الكتاب المقدس – التعرف على الأشخاص المقصودين بالرسالة

التعليم العام والخاص في الكتاب المقدس - التعرف على الأشخاص المقصودين بالرسالة
التعليم العام والخاص في الكتاب المقدس – التعرف على الأشخاص المقصودين بالرسالة

التعليم العام والخاص في الكتاب المقدس – التعرف على الأشخاص المقصودين بالرسالة

المبدأ الإرشادي: كل تعليم في الكتاب المقدس يجب أن نقبله بصورة عامة، إلا إذا قام الكتاب المقدس نفسه بتحديد الأشخاص الموجه لهم هذا التعليم، سواء في سياق المقطع نفسه أو في تعليم كتابي آخر.

بعد التأكد من معنى مقطع ما، يجب أن يتم تطبيقه على الحياة. وفي الفصل الأخير سنقوم بدراسة الإرشادات الخاصة بتطبيق الكتاب المقدس. لكن قبل أن نستطيع القيام بذلك، يجب الإجابة على سؤال أساسي، وهو: “هل الرسالة الموجودة في هذا المقطع موجهة للناس في كل الأزمنة، أم أنها موجهة لشخص معين أو لجماعة معينة من الناس لا تشملني؟”

للإجابة على هذا السؤال الجوهري، سنتجه الآن إلى المعايير المبنية على الافتراض المسبق بأن الكتاب المقدس وحده هو السلطة المطلقة والنهائية للإيمان والحياة. ولذلك فإننا يجب أن نتجه إلى الكتاب المقدس نفسه لكي نقرر من هم المتلقين الذين كان الله يقصدهم في أي مقطع من المقاطع الكتابية. توجد عدة طرق لتحديد الأشخاص الموجهة لهم الرسالة، وهي: السياق، الأشخاص الذين حددهم مؤلف السفر نفسه، التاريخ، والأجزاء الكتابية الأخرى.

السياق

قد يوضح السياق المباشر للمقطع أشخاصاً محددين. فقد يذكر المؤلف بوضوح المتلقي المقصود للرسالة التي يقولها، أو قد يكون من الممكن فهم ذلك ضمنياً من السياق.

الأشخاص الذين عينهم مؤلف السفر الكتابي

حدد إنجيل متى الأشخاص المتلقين لرسالته عندما سجل كلمات يسوع: “طوبى للمساكين بالروح” (مت 5: 3). فكل من هم مساكين بالروح مؤهلون لنوال البركة. وعندما سجل إنجيل لوقا كلمات يسوع، “طوباكم إيها المساكين لأن لكم ملكوت الله” (لو 6: 20)، كان يحدد المتلقين من بين كل المساكين مادياً في العالم، فهؤلاء الناس الذين كان يسوع يخاطبهم كانوا مباركين. لكن بالتأكيد ليس كل الفقراء والمساكين مباركين، وقد نشأ ارتباك كبير من تفنيد هذين المقطعين، الذين تم فيهما بوضوح تحديد المتلقين.

كان كل من يسوع وبولس أعزباً، وقد علما أسباباً لتفوق هذه الحالة من العزوبية (مت 19: 12؛ 1كور 7: 8). لكن كل من يسوع وبولس، في سياقي هذين المقطعين، قد قصر تطبيق ذلك التعليم على فئة معينة. فقد قال يسوع، في إجابته على ملاحظة التلاميذ بأنه من الأفضل أن يظل المرء عازباً (حيث أن خيار الطلاق قد تم استبعاده)، “ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطي لهم”.

كما قال بولس أنه رغم أنه سيكون جيداً لو كان الجميع غير متزوجين مثله، إلا أنه ليس كل إنسان لديه القدرة على أن يظل عازباً. وهكذا فإن هذا التعليم ليس موجهاً لجميع المسيحيين، بل فقط لمن أعطيت لهم هذه القدرة. لذلك من المهم أن نحدد من السياق نفسه، وليس بحسب تفضيل المرء اللاهوتي أو الثقافي أو الشخصي، الأشخاص الذين قصدهم المؤلف، سواء كانوا الناس كلهم أم المؤمنين فقط؛ مسيحيي القرن الأول أم جميع المسيحيين؛ الأشخاص الموجه لهم الكلام فقط أم الآخرين أيضاً.

التاريخ كإعلان

هناك سجل موحى به لتاريخ الفداء، وهو مدون كمثال لنا ولأجل إنذارنا (1كور 10: 11). فكل ما يدونه الكتاب المقدس هو حق وصحيح؛ والتاريخ قد حدث بالطريقة المذكورة فعلاً في الكتاب المقدس. لكن يكون التاريخ سلطوياً كنموذج للسلوك – باعتباره معياراً معطى من الله لجميع الناس في كل الأزمنة – فإن أي حدث تاريخي يجب أن يتم تعيينه بهذا الاعتبار بواسطة شخص مخول بسلطة التحدث باسم الله. فمجرد تدوين حدث ما وقع بالفعل، لا يجعل منه بالضرورة اعلاناً لمشيئة الله العامة الشاملة.

غالباً ما يتم تدوين الأحداث التاريخية بدون تعليق عن رضى الله أو عدم رضاه عنها، كما في حالة بنات لوط والأمر المحرم الذي فعلتاه (تك 19: 34). فحتى عندما يتم عمل تقييم أخلاقي – بإدانة فعل ما أو مدحه – فإن السبب في ذلك التقييم قد لا يكون مدوناً. لهذا السبب، ربما لا تشير الكتب المقدسة في أي مكان فيها لأي حدث، بسبب وجوده في الكتاب المقدس، أنه قد أصبح معيارياً لجميع الناس في كل الأزمنة.

فكم بالحري تكون الدلائل أقل، على أن الأنشطة غير المدونة فيه يجب أن تكون محظورة. ومع ذلك فالدارسين المتحمسين للكتاب المقدس يقومون باستمرار بوضع معايير للسلوك من سفر الأعمال مثلاً. فمبادئ النشاط الارسالي الأصيل، التي تشمل ما يجب فعله وما لا يجب فعله، يتم استنتاجها مما كان الرسل يفعلونه أو لا يفعلونه.

فالمعمودية الفورية للمنضمين إلى المسيحية، وحظ الآلات الموسيقية في أبنية الكنيسة، والكثير من الأمور المحددة غير ذلك، قد أصبحت معيارية على أساس كونها موجودة أو غير موجودة في الكنيسة الرسولية. كثيرون من الناس يستخدمون سفر أعمال الرسل بهذه الطريقة مثلاً لبناء عقيدة أن التكلم بألسنة هي علامة ضرورية للملء بالروح القدس.

لكن هذا استخدام غير سليم للتاريخ المدون في الكتاب المقدس. (يوجد استخدام سليم للتاريخ، والذي سندرسه فيما بعد). فكر مثلاً في نوعين من التعاليم المرتبطة بالتاريخ: الأحداث التاريخية والتعاليم الموجهة إلى شخص معين أو إلى جماعة معينة.

الأحداث التاريخية. حديث أليهو إلى أيوب مثلاً، قد يكون له معنى أو قد لا يكون، إذ ليست له سلطة كحق معلن. فالوحي المعطى في سفر أيوب يقصد به فقط أن تدوين حديث أليهو صحيح ودقيق.

إننا نقوم باستمرار باعتبار رد بولس على السجان معيارياً “آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك” (أع 16: 31)، ولكننا نرفض بإصرار أن نجعل رد المسيح على سؤال مماثل من الشاب الغني معيارياً، “اذهب وبع أموالك وأعط الفقراء وتعال اتبعني”. ونحن نرفض ذلك رغم أن المسيح يكرره في لوقا 12: 33 كعبارة معيارية.

ولماذا نميل لاعتبار أن سلوك بولس هو نموذجي دائماً، بينما سلوك بطرس (في معظم الأحيان) هو عكس ذلك دائماً؟ ربما كان بعض مما فعله بولس سيئاً، وربما كان بعض ما فعله بطرس جيداً!

وهكذا فأي حدث أو سلوك معين يجب ألا يتم اعتباره معيارياً بالنسبة لنا اليوم، فقط لأنه مدون في الكتاب المقدس، إذ يجب أن يتم تقييمه في ضوء التعليم الكتابي المباشر.

التعاليم الموجهة إلى شخص معين أو جماعة معينة. توجد العديد من المقاطع في الكتاب المقدس موجهة لفرد أو لجماعة معينة. فعندما تتفق هذه الأوامر والتعاليم الموجهة إلى شخص أو جماعة معينة وتتوازى مع التعاليم العامة الموجودة في مكان آخر. يمكن عندئذ اعتبارها معيارية، ولكن لا يجوز القيام بهذا الأمر على أساسها هي وحدها.

فعندما قال الله لموسى “اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة” (خر 3: 5)، أو عندما قال المسيح للتلميذين “تجدان أتان مربوطة وجحشاً معها فحلاهما وأتياني بهما” (مت 21: 2)، يتفق الجميع على أن هذه الأوامر كان أموراً تاريخية معينة، وليس يجب أن يتم تطبقها على أي إنسان غير موسى أو التلميذين. لكن هذا المبدأ يمكن أن يساء استخدامه، بحيث أن كل تعاليم المسيح أو تلك التعاليم الموجودة في الرسائل يعتبرها البعض معينة تاريخياً، وليس معيارية.

فالبعض يعتقد أن المسيح كان يتحدث إلى تلاميذه فقط أو لأناس معينين، وبالتالي فإن مثل هذه التعاليم لا تنطبق بالضرورة علينا اليوم. كما يسعى البعض للتمييز بين الرسائل، فيعتبرون بعض الرسائل أقل سلطوية من غيرها، لأنها كانت مكتوبة لمواقف محددة ولم تكن موجهة للكنيسة عامة، ولهذا السبب لا يعتبرها البعض أنها سلطوية بالنسبة لنا اليوم.

هناك سؤال مشابه يثار بخصوص مزامير اللعنات، والسؤال هو، هل نموذج كاتب المزمور هذه صحيح أم خاطئ؟[1] فتلك المزامير تدعو الله لكي يلعن أعداء كاتبي هذه المزامير. لكن الحقيقة أن هذه المزامير هي كشف أصيل عن مشاعر واختبارات مؤلفيها. لكن البعض يتساءلون إن كان أمراً سليماً أن نمنح هذه الأجزاء مكانة الشهادة الموحى به أم لا.

إلا أننا مرة أخرى يجب أن نصر على أن أي اتجاه نحو الكتاب المقدس لا بد أن يكون هو الاتجاه الذي يأخذه الكتاب المقدس عن نفسه، وإلا لن يكون الكتاب المقدس هو السلطة النهائية المطلقة. وقد تعامل الرسل مع تعاليم المسيح باعتبار أن لها سلطة مطلقة. والأكثر من ذلك، لا يوجد شيء داخل الكتاب المقدس يفترض أن هناك تمييز بين الرسائل وبعضها البعض أو بين شهادة كاتب المزمور وإعلان إرادة الله.

فالعهد الجديد يتعامل مع المزامير باستمرار باعتبارها إعلانات عن إرادة الله. كما يتعامل بطرس مع كتابات بولس بنفس الطريقة (2بط 3: 15-16).

يجب أن نتعامل مع المزامير، ومع تعاليم المسيح، ومع تعاليم الرسائل باعتبارها شاملة وعامة في تطبيقها ومعيارية بالنسبة لنا اليوم لأنه هذه هي الطريقة التي تعامل بها الرسل الأوائل مع تلك التعاليم. ويجب أن يظل هذا الأمر صحيحاً إلا إذا أظهر السياق نفسه قصراً تاريخياً واضحاً على الشخص أو الجماعة التي يخاطبها.

فمثلاً، عندما يقدم بولس قائمة بالتحيات والتعليمات الخاص في نهاية كل رسالة، فإن يكون من الواضح أن السياق يقصر تطبيق هذا الأمر على شخص ومناسبة معينة. وفي الحالات التي يكون من الصعب فيها التمييز، فلأجل الحفاظ على السلطة المستقلة للكتاب المقدس، يجب أن نفترض الطبيعة المعيارية لتعاليم الكتاب المقدس بدلاً من الاستغناء عنها بمنتهى السهولة.

إذ أن توسيع مجال هذا المبدأ سيكلفنا الكثير فيما يختص بالسلطة المستقلة للكتاب المقدس.

باختصار، يمكن للكتاب المقدس نفسه أن يقوم بتحديد الأشخاص الموجه لهم الكلام في السياق المباشر من خلال عبارة معينة يقولها المؤلف أو من خلال مطلب واضح للخلفية التاريخية.

الإعلان اللاحق

يمكن للإعلان اللاحق أن يقوم بتوضيح الأشخاص المتلقين لأي تعليم ما. فعلى سبيل المثال، لا تنطبق جميع تعاليم العهد القديم على المسيحيين في العهد الجديد.

وأوضح مثال على ذلك هو نظام الذبائح بأكمله الذي انتهى بمجيء المسيح (عب 9-10). لكن الكتاب المقدس نفسه هو الذي يجب أن يحدد أي تغيير في المتلقي يقصده المؤلف، وإلا يفقد الكتاب المقدس سلطته المستقلة، لصالح الشخص الذي يقوم باستبعاد أي تعليم دون الرجوع إلى السلطة الكتابية.

إلا أن البعض يقومون بعدم السماح باستخدام أي تعليم من العهد القديم باعتباره معيارياً، إذ يعتقدون أنه لا يوجد أي تعليم ملزم في العهد القديم بالنسبة للمسيحي إلا إذا تكرر في العهد الجديد. لكن الحاجة إلى تكرار العهد الجديد للتعاليم هو إلزام خطير لا ينص عليه العهد الجديد في أي موضع فيه. فقد تعامل مؤلفو العهد الجديد ويسوع نفسه مع العهد القديم (وكان هو الكتاب المقدس الوحيد الذي لديهم حينئذ) باعتباره كلمة الله السلطوية الجديرة بالثقة.

لذلك فليس من الصواب أن نستبعد أي تعليم من العهد القديم بدون تخويل الإعلان اللاحق في العهد الجديد. فالعديد من وصايا العهد القديم، مثل تلك الوصايا التي تناهض البهيمية والاغتصاب، لا يتم تكرارها في العهد الجديد، فهل لذلك لم تعد معيارية؟! لا بد أن نقوم بالتعامل مع الكتاب المقدس كما يتعامل هو مع نفسه، باعتباره كلمة الله التي لها السلطة المطلقة على حياة المسيحي.

بالطبع، يمكن للعهد الجديد أن يستبعد فئة كاملة من التعاليم، لأنه ليس من المعقول أن يتم استبعاد كل التفاصيل المحددة واحدة فواحدة. فمثلاً، جميع التعاليم التي تلخص طريقة الله في التواصل مع شعبه كمواطنين في الدولة (إسرائيل) يتم تعديلها بواسطة تعاليم العهد الجديد عن الكنيسة. فقد قال المسيح “إن مملكتي ليست من هذا العالم”، وهو أمر لا ينطبق بنفس الطريقة على زمن العهد القديم.

والتفاصيل داخل تلك الفئة من التعاليم يمكن رفضها، وكمثال على ذلك، أوامر المسيح الخاصة باستبعاد السيف، فالكنيسة يجب ألا تتقدم بالسيف، كما كان يحدث بالنسبة لإسرائيل القديمة. لكن هناك الكثير من التعاليم الأخرى في العهد القديم هي من نفس هذه الفئة، والتي لا نقوم باستبعادها بالتحديد في العهد الجديد، ولكن هذه التعاليم لم يعد لها فائدة لأن كل هذه الفئة من التعاليم قد تم تعديلها في العهد الجديد.

فمثلاً، القوانين الخاصة بتعاقب الملوك هي مقصورة في تطبيقها على إسرائيل، ولا تنطبق على الكنيسة أو على الحكومة المدنية اليوم، لأن مملكة المسيح “ليست من هذا العالم”.

وفي غلاطية، لم يقم بولس فقط بمنع الختان كعلامة ضرورية على عهد العلاقة مع الله، ولكنه استبعد النظام بأكمله بما فيه الختان. وأعيد تصنيف جميع أنواع الطعام باعتبارها صالحة ومحللة بالنسبة للمسيحيين (مر 7: 13؛ أع 10: 15)، ولذلك فإن القواعد الغذائية، رغم أنها قد تكون مفيدة، لم تعد معيارية بالنسبة للمسيحيين اليوم.

بهذه الطريقة، فإن مناطق معينة من تعاليم العهد القديم – مثل السمة الطقسية للناموس، وعلاقة العهد مع شعب معين من خلال الختان، والحكومة المدنية، والقوانين الغذائية – قد تم بالتحديد استبعادها في العهد الجديد.

إن ظاهرة التعديل اللاحق يتم رؤيتها أيضاً داخل العهد الجديد نفسه. ففي متى 10: 9-10، لم يكن المسيح يخبر المسيحيين في القرن العشرين أن يسافروا بلا نقود، ونحن نعرف ذلك فيما بعد قام المسيح بإلغاء هذا التعليم الأولي (لو 22: 36). لكن ضعف الحجة المعروف، فيما يختص بصمت الكتاب المقدس تجاه أمر كتابي ما، يجب ألا يكون له مكان هنا.

فعندما نعتقد أن التكلم بألسنة لم يعد قائماً، على أساس أن مؤلفي أسفار العهد الجديد توقفوا عن الحديث عنه بعد كتابة بولس لأهل كورنثوس، فهذا معناه أننا نفرض معايير خارجية خاصة بتغيير المتلقين لتعليم كتابي واضح.

لكن ماذا لو أن هناك مبدأ أو سلوك تم تعليمه في جزء معين من الكتاب المقدس كان يبدو أن يتناقض مع ما تم تعليمه في مكان آخر؟ كيف يمكن توجيه كل من التعليمين إلى الكنيسة المعاصرة؟ في عدة مرات، كان هناك مقطعان أو أكثر من الكتاب المقدس يبدو أنهم يقدمون عبارات متناقضة. لكن حيث أننا ملتزمون بالعقيدة الأساسية بأن كل الكتاب هو موحى به من الله، وبالتالي أنه حق وصادق كله، فإن التناقضات الظاهرية يجب أن يتم حسمها بقدر الإمكان.

قم باستخدام جميع مبادئ التفسير لكي تتأكد من المعنى المقصود، وافحص الغرض الذي قصده المؤلف، والأشخاص الموجه إليهم هذا الكلام، والنحويات والقواعد، والخلفيات التاريخية والثقافية للكتابة. فإن ظل المعنى أو المتلقي أو التطبيق غير أكيد، يمكن للمرء أن يطبق ما يطلق عليه “قياس الإيمان” (انظر الفصل 16 للتعرف على التفاصيل الخاصة بهذا المفهوم). يعرف سيليرير هذا المصطلح في دليله التقليدي عن التفسير بالقول:

إن وسيلة التفسير التي يطلق عليها “قياس الإيمان” تلجأ إلى السمة العامة للحق عند تفسير مقطع معين. وبرهانها وسلطتها تختلف بحسب عدد وإجماع ووضوح وتوزيع المقاطع التي تبنى عليها هذه الوسيلة.[2]

بكلمات أخرى، فإن التعليم الذي يجب قبوله للإيمان والطاعة، عندما يكون هناك تناقض ظاهري غير محسوم، هو التعليم الذي يحظى بتأكيد وتركيز ووضوح شديد.

كل هذه المناهج سليمة عند السعي لحسم التناقضات الظاهرية بين تعاليم الكتاب المقدس. ومن المناهج السليمة لتوفيق التعاليم المتناقضة هو أن نرى إن كان كل من هذه التعاليم موجه لنفس الأشخاص أم لا. فمثلاً، يبدو أن بولس يشير إلى أن الشعر الطويل للرجال هو منافي للطبيعة (1كو 11: 4).

لكن الشعر غير المقصوص كان من علامات القداسة بالنسبة للنذير في العهد القديم (قض 13: 5؛ اصم 1: 11). لكن الأشخاص الموجه لهم الكلام في العهد القديم يختلفون عن أولئك الموجه لهم الكلام في العهد الجديد، وهذا الأمر يساعد على تخفيف التوتر والتناقض بين هذين التعليمين. لكن هذا بالطبع لا يحسم مسألة أي من هذين الأمرين، إن كان، ينطبق علينا اليوم.

إذ يجب أن نقوم بتطبيق العديد من الإرشادات التي درسناها في السعي للإجابة على هذا السؤال. لكن المقارنة ستكون مفيدة، إذ تشير إلى أن الشعر الطويل ليس مسألة أخلاقية في جوهرها بالنسبة لكل الرجال في كل الأزمان.

لاحظ أن تطبيق أي من التعاليم التي لم يتم حسمها يجب أن يكون مؤقتاً، وليس بسلطة العقيدة. إن موضوع هذا الفصل واضح، وهو: يجب أن نقبل كل الكتاب المقدس باعتباره معيارياً لكل إنسان في كل المجتمعات وفي كل الأزمنة، إلا إذا قام الكتاب المقدس نفسه بتحديد الأشخاص الموجه لهم الكلام وهذا التحديد يمكن أن يحدث إما في السياق المباشر أو في أجزاء أخرى من الكتاب المقدس.

لكن هناك الكثيرون من الناس الذين يقومون بقصر الأشخاص المتلقين للكلام على الأشخاص الذين كانوا في زمن الكتاب المقدس فقط، بحسب أسس أخرى. لكن إذا كان المرء يقبل السلطة المطلقة والنهائية للكتاب المقدس، فإن أي منهج مثل ذلك لن يكون صائباً. لذلك، قبل المواصلة في دراسة الإرشادات الخاصة بتطبيق التعاليم الموجهة لنا اليوم، دعونا ندرس بعضاً من هذه المناهج، غير الصائبة.

مناهج خاطئة

لتحديد الأشخاص المقصودين بالكلام، وتعيين التطبيق

يعتقد البعض أنه إذا كان الكتاب المقدس صحيحاً، فلا بد أن نؤمن به ونطيعه، لكنه حيث يخطئ لا يكون معيارياً. فعندما تكلم الكتاب المقدس عن خلق الزوجين الأوائل، وعندما تعامل المسيح مع الشياطين باعتبارها موجودة، وعندما أعطى بولس دوراً مميزاً للزوج في الزواج، فإن هذه التعاليم كانت خاطئة، ولذلك فإنها غير ملزمة لنا في الإيمان والسلوك.

أما النظرة الأكثر تطرفاً، فينتهجها اللاهوتيون المتحررون، الذين يقومون بدراسة اللاهوت بالبدء بما يفعله الله في العالم اليوم، ويقولون إن عمل الله في التاريخ، في الثورة الاجتماعية مثلاً، هو إعلان إرادته. وبذلك يستخدم الكتاب المقدس فقط كمصدر لأمثلة أخرى عن عمل الله في التاريخ. وعلى الرغم من أن هذه المناهج تستبعد سلطة الكتاب المقدس، فقد نادى بكل منها أناس يدعون أنفسهم إنجيليين.

كما توجد مناهج أخرى لا تبدو أنها غير كتابية بمثل هذا الوضوح الشديد، ولكننا لا نستطيع أن ندرسها جميعاً، بل سنقوم بالتعرف على المناهج التي لها أكبر تأثير بين من يؤمنون بالكتاب المقدس. سنقوم باختصار بفحص منهجين يستخدمان عوامل ثقافية لتحديد المعنى أو الأشخاص الموجه لهم الكلام أو لتحديد التطبيق. ثم نقوم بعد ذلك بدراسة منهجين يستخدمان مبادئ معينة لتحديد المعنى أو الأشخاص الموجه لهم الكلام أو لتحديد التطبيق.

استخدام الثقافة لتحديد المعنى، أو الأشخاص المعنيين بالكلام، أو لتحديد التطبيق

الاستجابة التي يرغب فيها الله اليوم. يقوم هذا المنهج بفحص كلمات الكتاب المقدس لتحديد المعنى. والهدف من ذلك هو الوصول إلى ما وراء معنى المقطع، لكي نميز ما الاستجابة التي كان يرغب فيها المؤلف من سامعيه الأصليين.

وعندما يتم التعرف على هذه الاستجابة، من خلال عملية يطلق عليها “تفسير المكافئ الديناميكي”، يقوم المفسر المعاصر بطرح السؤال التالي، “كيف يمكنني انتاج هذه الاستجابة في سامعي اليوم؟” الإجابة على هذا السؤال ستكون هي الإعلان عن مشيئة الله، وستكون هي الرسالة السلطوية اليوم.

بالنسبة لمن يتبعون هذا المنهج، فإن المفاهيم هي، كما يقولون، مرتبطة بالثقافة. ومهمة المفسر هي أن يميز الثقافة العامة في البيانات الكتابية، وينتج التأثير الذي كان يرغب فيه الله في المجتمع المعاصر.

في هذا المنهج، يعكس الكتاب المقدس كله – مثل كل الكتابات البشرية الأخرى – ثقافة الكاتب. لذلك، تكون مهمة دارس الكتاب المقدس هي أن يحرر من ثقافته التي تغلفه، بحيث يمكن تطبيقه على الحياة المعاصرة. ولكي يقوم بذلك فإنه يستخدم كل أدوات علم دراسة الإنسان وثقافته. وعندما يكون واضحاً ما قصد المؤلف أن يحدثه في خلفيته الثقافية من خلال كتاباته، عندها نكون مهيئين لأن نطلب نفس الاستجابة في سامعينا اليوم بالطريقة التي تناسب ثقافتنا.

فمثلاً، علم بولس أن القادة الروحيين يجب أن يكون لهم زوجة واحدة فقط (1تيمو 3: 2؛ تي 1: 6). هذا هو ما قاله بولس، ولكنه في الحقيقة ما يبدو أنه كان يعنيه. لكن، ترى إلام كان يرمي؟ قد يقول أحد المفسرين أنه يحاول أن يضمن أن الكنيسة سيكون بها قادة مؤهلين للقيادة، في عيني رفاقهم المؤمنين، إذ كان يضع معايير لقيادة كانت مرتبطة ثقافياً بمجتمعهم.

لكن ماذا عن اليوم؟ في إحدى القبائل الأفريقية المعينة، نجد أن متطلبات القيادة لديهم هي عكس ذلك تماماً، إذ لا يكون الرجل مؤهلاً للقيادة إلا إذا استطاع أن يتزوج على الأقل بامرأة ثانية ويعولها. والآن كيف يمكن للمرء أن يتفق مع أمر بولس لتيموثاوس وتيطس؟ في هذه القبيلة، لا بد للرجل لكي يخدم كشيخ أو شماس في الكنيسة أن يكون لديه زوجتين على الأقل. لا يهم إذا كان ذلك عكس ما قاله بولس، إذ أنه لا بد من اكتشاف الهدف من الوصية من خلال التحليل الثقافي وتطبيقه اليوم بطريقة تتفق مع الثقافة الحالية في مكان معين.

من خلال هذا المنهج في دراسة الكتاب المقدس، يكون الفهم الثقافي الحالي قد حل محل الرسول كسلطة في حياة الكنيسة. وهكذا تكون النتيجة النهائية ليس مجرد أن تكون الكنيسة حرة في أن تعمد أم لا، بحسب ما تتطلبه الثقافة، أو أن يتم تنظيم حكم الكنيسة بما يتفق مع معايير الثقافة المحلية، بل أن التعاليم اللاهوتية الأساسية كذلك يتم تعديلها من خلال الفهم الثقافي.

فمثلاً، يتم تعليم أن الناس يمكن أن يخلصوا بدون معرفة يسوع المسيح، من خلال الإيمان بما يعرفوه بالفعل عن الله، وبما تسمح ثقافتهم أن يقبلوه.

النمط الثقافي العام. التعليم الكتابي الذي يعكس نمط ثقافي عام هو فقط التعليم المعياري بالنسبة لجميع البشر في كل المجتمعات. هذا الاتجاه يقبل أن يتم تطبيق اليوم فقط تلك التعاليم الموجودة في الكتاب المقدس (بسلطان باعتبارها مشيئة الله الأكيدة) التي تعكس معاييراً ثقافية عامة. كمثال على ذلك، الوصية القائلة “لا تسرق” (خر 20: 15). أما بقية التعاليم الكتابية فهي مرتبطة بالثقافة، وتتحدث عن أمور خاصة بثقافة معينة فقط.

مهمة المفسر إذاً هي تحرير التعليم من قيوده الثقافية لأجل تقرير حق أو مبدأ عام وشامل. وبحسب رأي المفسر، فإن تعاليم المسيح ضد الطلاق، وتعاليم بولس ضد الجنس المثلي، والمعايير الكتابية لدور المرأة في الزواج، هي جميعها تعاليم مرتبطة بالثقافة، وغير معيارية. ولذلك، فهي لا تتطلب الطاعة في كل الثقافات وفي كل الأزمنة.

يشبه هذا الاتجاه الاتجاه السابق، فيما عدا أن المفسر لا يحاول أن يذهب إلى ما وراء معنى المقطع، لكي يكتشف التأثير الذي يقصد المؤلف أن يحدثه. بل بدلاً من ذلك، إنه يسعى للمبدأ الثابت الباقي في المعنى نفسه. في هذا الاتجاه، يكون المعنى نفسه سليماً، ولكنه يكون معيارياً (أي يمكن تطبيقه بصورة عامة) فقط عندما يتم تعليم حق عام ثقافياً.

جلست في إحدى المرات على مائدة غداء مقابل أحد الرواد اللغويين في الكتاب المقدس. وكنا نناقش مسألة أي من تعاليم الكتاب المقدس معيارية.

فسألته، “ماذا في رأيك الأمور التي يجب أن تُطلب من جميع الناس في كل قبيلة وثقافة؟”

فأجاب على الفور، “تلك التعاليم التي تكون عامة ثقافياً”.

فقلت له، “هل يمكن أن تعطيني مثالاً؟”

فقال بتردد، “حسناً… لست متأكداً تماماً.”

فاقترحت قائلاً، “هل شيء مثلاُ مثل حظر القتل؟”

فقال، “نعم، هذا أمر عام ثقافياً.”

فأجبته، “إني مندهش لسماع هذا الأمر، كنت أعتقد أن القتل، وربما أكل الضحية أيضاً، هو فضيلة في بعض المجتمعات”.

فقال، “نعم، أعتقد أنك على حق.”

واستمر الحوار في نفس المسار، بقدر كبير من عدم اليقين مما إذا كانت هناك أية معايير ثقافية عامة على الإطلاق. وحيث أن الكتاب المقدس نفسه لا يضع أي تمييز بين الأمور العامة ثقافياً والأمور الخاصة بثقافات ما، فإننا عندما نسعى نحن لعمل ذلك التمييز، ونقوم بالمهمة الضخمة لتعريف الأمور العامة ثقافياً، فإن هذا أمر يقترب من المستحيل.

وعندما نحاول القيام بهذا التمييز فإن هذا سيؤدي إلى جعل التعليم النسبي ثقافياً لا يتفق مع معظم الكتاب المقدس، وبذلك نستبعد السلطة المستقلة للكتاب المقدس.

في الفصل الثامن ناقشنا استخدام السياق الثقافي في فهم المعنى الذي يقصده المؤلف، وفي مقدمة هذا الفصل افترضنا منهجاً يحدد الأشخاص الموجه لهم الكلام بواسطة التعرف على الخلفية التاريخية. فكيف تختلف هذه المناهج عن النسبية الثقافية التي انتقدناها للتو؟

الاستخدامات المشروعة وغير المشروعة للثقافة

واحد من المناهج الأخرى غير السليمة في تحديد المستمعين والتطبيق هو الاستخدام الخاطئ للثقافة فدعونا نفكر في التمييز بين الاستخدام المشروع وغير المشروع للثقافة.

التاريخ والثقافة. هل هناك تمييز سليم بين التاريخ والثقافة؟ أليس التاريخ هو تسجيل للسلوك كما للأحداث أيضاً؟ أليست الثقافة جزءًا من التاريخ؟ إن كلاً منهما يتداخل مع الآخر، ويظهر تفاعلاً كبيراً معه، حتى أنه في بعض الأحيان يكون من الصعب التمييز بينهما. ولكني أعتقد أن التمييز هو أمر جوهري لأجل التوصل إلى التفسير الكتابي السليم.

ما هي الثقافة؟ رغم وجود العديد من التعريفات، إلا أن المفسرين المعاصرين يستخدمون مصطلح الثقافة بالمعنى الفني للتعبير عن اللغة والسلوك والأخلاقيات والقيم وطرق القيام بالأشياء، لدى أية جماعة معينة من البشر.

دعونا نتفق في البداية على أن العناصر الثقافية التي لم يتم تقييمها أو تفسيرها في الكتاب المقدس قد لا تكون معيارية مثلها مثل الأحداث التاريخية التي لم يتم تقييمها أو تفسيرها، لكن الاختلاف بينهما عظيم. فالكثير من تاريخ الكتاب المقدس لم يتم تقييمه وتفسيره، وبالتالي، يجب ألا يكون معيارياً بالنسبة لأناس آخرين في أزمنة أو أماكن أخرى.

ومع ذلك، فكل تعاليم الكتاب المقدس تقريباً تقدم تقييماً ثقافياً. فيتم باستمرار تقييم السلوك البشري والأخلاقيات والقيم وطرق القيام بالأمور، سواء باستهجانها أو بمدحها. لذلك فليس كثيراً أن نقول إن هدف الإعلان الإلهي هو خلق ثقافة، وشعب مميز لله. يعمل الله على تغيير الثقافة، ولكنه يعمل في نفس الوقت على استخدام الثقافة البشرية كأداة لإعلان نفسه وحقه.

إن تعاليم الكتاب المقدس في معظم الأحيان لا تكون تاريخاً “نسعى إليه”. ورغم أنه يتم إظهار أحداث التاريخ في كثير من الأحيان باعتبارها أعمال الله، لكن الإعلان يقوم ببساطة بتدوين الخلفية. أما معظم التعاليم الكتابية فهي ثقافية “نسعى إليها” مباشرة، وهذا لأن السلوك البشري هو موضوع وهدف الإعلان.

إنني أعتقد أن السياق التاريخي للتعاليم يكون معيارياً فقط إذا تعامل معه الكتاب المقدس هكذا، بينما السياق الثقافي لا يكون معيارياً إلا إذا تعامل معه الكتاب المقدس باعتباره محدداً. فكما رأينا، أن التاريخ غالباً ما يتم تدوينه بدون أي تقييم لما إذا السلوك جيداً أم سيئاً، فيجب على الله أن يأخذ المبادرة من خلال الإعلان لكي يجعله معيارياً.

فتعدد زوجات داود، والذي لم يدنه الكتاب المقدس، يجب ألا يتم اعتباره نموذجاً معيارياً اليوم. لكن رد الرسل بالقول، “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس” (أع 5: 29)، رغم أنه لم يتم تقييمه في السياق المباشر، فإنه من الواضح أنه يعتبر نموذجاً يجب اتباعه بسبب التعاليم الكثيرة التي تتفق معه في أجزاء أخرى من الكتاب المقدس.

كما أنه من الصحيح كذلك أن الثقافة يمكن أيضاً أن تدون بدون تقييم ما إذا كانت تؤخذ باعتبارها معيارية أم لا. في مثل هذه الحالات، لا تعتبر الثقافة معيارية مثلها مثل السجل التاريخي. فهل سلوك السيد في جعل عبيده يعدون المائدة بعد العمل في الحقول طوال النهار – دون تقديم الشكر لهم – هو نموذج معياري يجب اتباعه في العلاقة بين العامل والمدير (لو 17)؟ لا يمكننا أن نستنتج ذلك.

لكن السلوك الثقافي الذي لم يتم تقييمه هو أقل شيوعاً بكثير من الأحداث التاريخية التي لم يتم تقييمها، وهذا لأن الغرض من الإعلان هو خلق نمط للسلوك، وثقافة جديدة. ولذلك فإن السجلات النسبية ثقافياً للسلوك ليست نموذجية، بل أن التغيير الثقافي هو هدف الإعلان، ولا بد أن يأخذ الله المبادرة من خلال الإعلان لكي يجعل التعليم الثقافي غير معياري.

ولذلك تعاليم الله الخاصة بالسلوك البشري هي نهائية في سلطتها، ولا يجب أن يتم استبعادها إلا إذا قام الكتاب المقدس نفسه بتحديد الأشخاص الموجه لهم الكلام أو الاستجابة التي يرغب فيها الله. فإن قام أي شخص آخر بوضع مثل هذه التعاليم “الثقافية” جانباً واستبعادها، فإن يصبح بذلك هو السلطة التي تفرض حكمها على الكتاب المقدس.

قد يتفق معظمنا على أن غسل قدمي شخص آخر عند العشاء، وترك شعر النساء بدون قص، وغيرها من الوصايا الأخرى، هي تفاصيل ثقافية وبالتالي لا يجب تطبيقها بصورة عامة، فهي بالتحديد، لا تنطبق علينا! ومع ذلك، فقد اكتشفنا أن نفس المبدأ يمكن أن ينطبق تقريباً على أي تعليم من تعاليم الكتاب المقدس.

لكن أن نقوم باستبعاد أي جزء من الكتاب المقدس، فقط على أساس أنه ثقافي، وبالتالي فهو ينطبق فقط على خلفية ثقافية واحدة محددة، فهذا معناه تأسيس مبدأ يمكن استخدامه لاستبعاد أي تعليم أو حتى كل التعاليم الكتابية. بمثل هذه النظرة تصبح سلطة المفسر فوق سلطة الكتاب المقدس. فيقوم باعتبار أن الأمور المعيارية للإيمان والسلوك البشري هي فقط عناصر التعليم الكتابي أو تلك المبادئ التي تم استنتاجها من التعليم الكتابي، والتي يثبت أنها سليمة على وجه العموم بحسب نوع من المعايير الثقافية.

 وبسبب الاختلاف بين السجل التاريخي والتعليم المؤسس على الثقافة، يمكننا أن نقول إن الأحداث التاريخية التي لا يقيمها الكتاب المقدس، يجب ألا تكون معيارية. لكننا نقول بالنسبة للسلوك الإنساني (ما يجب أن يحدث، بتمييزه عما حدث بالفعل) أننا يجب أن نخلص إلى أن السلوك المطلوب معياري، إلا إذا قام الكتاب المقدس بتحديد المتلقي أو التطبيق.

فالكتاب المقدس ليس سجيناً للثقافة، بل أن الثقافة بلغة مؤلفي الكتاب المقدس، والسياق الذي كتبوا فيه، هي أداة ووسيلة للإعلان، وفي نفس الوقت، فإن نفس هذه الثقافة هي هدف التغيير الذي يسعى إليه الكتاب المقدس. فعندما نرفض أي تعليم كتابي لأنه ثقافي، فهذا معناه أننا نجعل الكتاب المقدس كله مهدداً بهذا المنهج النسبي.

البرهان الثقافي السليم. هل السياق الثقافي إذاً ليس له قيمة على الإطلاق؟ ألا يمكن أن تستخدم الثقافة على الإطلاق لتحديد المتلقي أو الاستجابة التي يرغبها الله؟ ربما تكون الثقافة مهمة عندما يعطي الكتاب المقدس نفسه سبباً مبنياً على الثقافة لتعليم معين. فمثلاً، استخدم بولس برهان ثقافي لتأييد حثه على أن يعمل المرء بيديه (1تس 1: 11).

فقد لا يعطي الكتاب المقدس سبباً لتعليم ما، لكنه عندما يعطي، فإن هذا السبب يصبح جزءًا من التعليم. وهنا، السبب الذي يقدمه بولس ليس نوعاً من المبدأ الأخلاقي الأبدي، ولكن برهان ثقافي، “لكي تسلكوا بلياقة عند الذين هم من خارج ولا تكون لكم حاجة إلى أحد” (1تس 4: 12). بكلمات أخرى، يتم إعطاء المبدأ الثابت وهو أن المسيحي يجب أن يكسب قوته بعمله كشهادة لغير المسيحيين. وهذا يعكس النمط الثقافي “بلياقة”، والذي بالنسبة للمسيحيين في تسالونيكي كان يعني العمل اليدوي.

فحيث أن البرهان مبني على الثقافة، فإن لم يكن هذا الموقف الثقافي موجوداً، فإن المبدأ فقط (وليس الوصية أو الأمر) هو الذي يجب أن يكون معيارياً. وفي هذه الحالة، لا يكون العامل الثقافي مفروضاً من الخارج، ولكنه يكون جزءًا من برهان بولس. لم يقم بولس بجعل السياق الثقافي للأمر معيارً عاماً، ونحن كذلك غير ملزمين بأن نقوم بعمل نسخة مطابقة من السياق الثقافي للوصية الخاصة بالعمل.

توجد حالة أخرى يمكن فيها وضع العامل الثقافي في الاعتبار عند تحديد المتلقي، دون التعدي على سلطة الكتاب المقدس. يمكن للكتاب المقدس أن يخاطب الناس من خلفيات ثقافية أو مواقف تاريخية ليست موجودة في ثقافات أخرى. فإذا عبر الكتاب المقدس عن عدم وجود أمر أخلاقي بتكرار الموقف من جديد، فإن المبدأ العام الذي يكمن خلف الأمر الكتابي، وليس الأمر الثقافي أو التاريخي المحدود نفسه، هو الذي يجب تطبيقه على المواقف الأخرى.

وهذا مبدأ إرشادي من السليم أن نتبعه إلا إذا تعامل الكتاب المقدس نفسه مع الشكل الثقافي باعتبار أن له أهمية ثابتة. مثال على ذلك، الأوامر الكتابية التي تحث على المعاملة الرفيقة للحيوانات أو للعبيد، لا تتطلب أن يكون لدى الشخص حيوانات أو عبيد، بل أن مبدأ العطف والترفق يجب تطبيقه على أي إنسان أو مخلوق يحس، ممن يكون معتمداً على مؤمن القرن العشرين. فليس عليه أن يكون مزارعاً أو سيداً لديه عبيد، لكي يطيع هذه الوصية.

تمييز المعنى الذي قصده المؤلف. قد يفيد فهم العوامل الثقافية التي تقدم خلفية للمقطع الكتابي في توضيح معنى المقطع إن لم يكن واضحاً أو أكيداً، أو يحوي عدم توافق ظاهري مع تعليم كتابي أوضح (انظر الفصلين 8، 15 لمناقشة هذا الأمر). لكن الفهم الثقافي يجب ألا يستخدم لتعديل المعنى الواضح الذي قصده المؤلف؛ أو أن يستخدم لتحديد متلقي المقطع الذي كان الله يقصده. إذ يجب أن تتحكم البيانات الكتابية في هذه القرارات، لأن الكتاب المقدس نفسه هو سلطتنا.

الثقافة الحالية. يفيد فهم أنماط الثقافة الحالية بطريقتين:

أولاً، أن الحقائق الحالية تتحدى دارس الكتاب المقدس لكي يعيد فحص التفسيرات المقبولة. فمثلاً، دفعتنا النظرية العلمية لكي نلقي نظرة أدق على التفسيرات التقليدية لسفر التكوين. كما أجبرتنا الحركة الاجتماعية على إعادة دراسة دور المرأة، كما أجبرت إحدى الحركات أسلافنا على إعادة تقييم مشيئة الله بشأن العبودية.

ثانياً، إن الفهم الدقيق لعوامل الثقافة الحالية هو أمر أساسي إن كان المرء يريد أن يصنع تطبيقاً سليماً في ثقافته للحق الأبدي. لكن العادات المعاصرة ونظريات الدارسة الإنسانية يجب ألا يتم استخدامها كالمعيار الذي يجبر المعنى الواضح للكتاب المقدس على أن يتكيف معه. فمثلاً، الأمر بأن يحب الزوج زوجته ويرعاها (أف 5: 25، 28-29) يجب تطبيقه بطرق متنوعة بحسب الثقافات المختلفة.

ففي أمريكا، إذا لم يمدح الزوج زوجته أمام الآخرين ورفض أن يعانقها عندما يودعها قبل أن يغادر صالة المطار، فإنه ربما يكون بذلك مخالفاً للأمر الرسولي. لكن بالنسبة للزوج الياباني، فإن فعل هذه الأمور قد لا يكون تعبير عن الحب قدر كونه فضيحة عامة تجلب العار على اسم العائلة. لذلك يجب أن يتم تطبيق الحق بطريقة أصيلة بحسب كل سياق ثقافي معين، بحيث أنه بفعل ذلك لا يتم تجاهل التعاليم الواضحة للكتاب المقدس.

أخيراً، لا بد أن نمارس الاتضاع في استخدام الأدوات الثقافية، حيث أننا بعيدون للغاية عن لغة وتاريخ وثقافة وجغرافية الخلفية التي جاء منها الإعلان الأصلي. لذلك يجب أن نستخدم نحن هذه الأدوات، لكن نرفض أن تقوم هي باستخدامنا أو استغلالنا.

استخدام مبادئ معينة لتعريف المعنى، أو لتحديد المتلقي، أو لتقرير المعنى

المبادئ فقط هي التي تسري. فالمبادئ فقط هي التي تسري، وليس التعليم المحدد نفسه. هذا الاتجاه هو عكس الرأي السائد بأن الأوامر والوصايا المباشرة فقط هي التي تكون سلطوية بالنسبة لسلوك المسيحي المعاصر، وبالطبع فإن ذلك الزعم الأخير غير سليم، حيث أن الكتاب المقدس مليء بالتعاليم التي تكون في شكل مبادئ عامة، وليست أوامر محددة.

فالحقيقة أن الكتاب المقدس يعتبر كتاب مبادئ أكثر منه مجموعة من الحكم والقواعد المحددة. إلا أن الزعم المضاد يبدو أنه يحظى بمؤيدين، وهو أن التعليم المحدد والأوامر المباشرة لا يتم تطبيقها بطريقة عامة، لكن الذي يطبق فقط هو المبادئ التي تكمن خلف التعليم المباشر.

هذا المنهج مغري للغاية، ليس فقط لأنه يجعل الحياة أسهل، من ناحية، لكن لأن هناك عنصر قوي في المنهج يتفق مع سلطة الكتاب المقدس. إن منهج قصر التعليم المعياري على المبادئ المستقاة من التفاصيل الكتابية لا يجب أن يكون محاولة للإفساد أو للالتفاف حول الكتاب المقدس، لكنه يمكن أن يعمل على تحقيق سلطة الكتاب المقدس.

لكن، أين يتم تعليم مثل هذا المنهج في الكتاب المقدس؟ أين يخبرنا الكتاب المقدس أن الإعلانات المحددة لحق الله ومشيئته للإنسان ليس معيارية، لكن فقط المبادئ التي تكمن خلفها؟ إن الإعلانات الواضحة للكتاب المقدس يتم التعامل معها باعتبارها معيارية سواء في العهد القديم أو الجديد.

لذلك فإن رفض سلطة العبارات الواضحة على هذا الأساس معناه ألا نسمح للكتاب المقدس بأن يقوم بالاختبار، إذ أن الكتاب المقدس يقدم كل من المبادئ المحددة والعامة.

من الصواب أن نشتق مبادئ عامة من تعليم معين، لكن المبدأ يجب ألا يرجع عندئذ إلى التعليم المعين لكي يعدله أو يمنع تطبيقه اليوم. فعملية استبعاد أي تعليم معين من الكتاب المقدس، والسماح فقط للمبدأ الذي تم استنتاجه أن يكون معيارياً، معناه فرض مفهوم غير كتابي والتعدي على سلطة الكتاب المقدس.

التعاليم التي تكون مؤسسة على طبيعة الله هي فقط المعيارية. فقط التعاليم المؤسسة على طبيعة الله أو على نظام الخلق هي المعيارية للجميع. فالتعاليم الأخرى قد تكون عابرة أو مؤقتة، بمعنى أنها لا تنطبق على المؤمن اليوم. لكن المشكلة هنا هي نفس مشكلة الحالة السابقة: أن الكتاب المقدس نفسه لا ينص على مثل هذا المبدأ للتمييز بين تعاليمه، ولذلك فإن المفسر يصبح هو السلطة التي تحكم على تعاليم الكتاب المقدس التي لا يراها قائمة على طبيعة الله أو على نظام الخليقة.

الأكثر من ذلك، توجد مشكلة في تطبيق هذا المبدأ، وهي: هل سقوط الإنسان مبني على طبيعة الله أم على نظام الخليقة؟ يبدو أنه غير مبني على أي منهما، رغم أنه بطبيعته لاهوتي. وهل التعليم الخاص بالعشاء الرباني واتباعه مؤسس على أي شيء إلا على كلام المسيح السلطوي؟ إنه غير مؤسس بالطبع لا على طبيعة الله ولا على نظام الخليقة، بل هو نمط ثقافي جعله المسيح معيارياً.

وماذا عن الوصية التي تنادي بخضوع الزوجة لسلطة زوجها، أو بأن الجنس المثلي خاطئ؟ إن كانت كل التعاليم الواضحة التي لم يقصرها الكتاب المقدس نفسه على فئة معينة يتم اعتبارها معيارية، فإن تلك التعاليم معيارية. ومع ذلك، لو أن تلك التعاليم التي يمكن أن تظهر أنها لاهوتية في طبيعتها أو تكون مبنية بالتأكيد على طبيعة الله أو على نظام الخليقة هي فقط التي يتم اعتبارها معيارية، فإن تلك التعاليم والوصايا السابق ذكرها، بجانب الكثير غيرها، تصبح قضايا مشروعة خاضعة للمناقشة.

إن السعي نحو الأسس اللاهوتية لأي تعليم أو البحث عن أساسه في طبيعة الله أو في نظام الخليقة مفيد جداً من عدة نواح. فإظهار هذا النوع من الأسس يمكنه أن يدعم أو يوضح تعليم معين، كما أنه يساعد على التمييز بين المبادئ العامة التي تكمن خلف تعليم معين.

يمكن استخدام هذا المنهج بجانب مؤشرات أخرى في النص نفسه لكشف تلك الأمور التي لم يقصد الكتاب المقدس أن تكون معيارً عاماً. لكن استبعاد أي تعليم محدد لمجرد أننا لا نستطيع اثبات طبيعته اللاهوتية، فهذا معناه ادخال مبدأ تفسيري غير كتابي، يتعدى على السلطة المستقلة للكتاب المقدس.

ملخص

الكتاب المقدس نفسه هو الذي يجب أن يقرر من الذي يريده الله أن يؤمن بتعليم معين ويطيعه. فإن لم يوضح السياق نفسه هذا الأمر، يمكن الرجوع إلى مقاطع أخرى. لكن في النهاية، يجب ألا يتم فرض معايير خارجية على الكتاب المقدس تقوم بمنع تطبيق تعاليمه على الحياة المعاصرة.

فالكتاب المقدس هو إعلان الله عن مشيئته لجميع البشر؛ ولذلك، أي تعليم في الكتاب المقدس يجب أن يتم التعامل معه باعتباره معيارياً للإيمان والحياة المعاصرة، إلا إذا أوضح الكتاب المقدس نفسه خلاف ذلك. ومع ذلك فالتعرف على المتلقي المقصود لتعليم معين لا يشير تلقائياً إلى آثار ذلك المحددة على التلمذة الأمينة. فما الاستجابة التي يرغب فيها الله؟ سيقوم الفصل العشرون بالإجابة على هذه السؤال.

مراجع مختارة لمزيد من الدراسة

– كارسون، دونالد إيه. Biblical Interpretation and the Church: Test and Context. Grand Rapids: Baker، 1988.

– لاركين، ويليام جي. Culture and Biblical Hermeneutics: Interpreting and Applying the Authoritative Word in a Relativistic Age. Grand Rapids: Baker، 1988.

[1] انظر تي نورتون ستيريت، How to Understand Your Bible (Downers Grove, 1III.: InterVarsity, 1974)، صفحة 176.

[2] إم سيلير، Biblical Hermeneutics (New York: Randolph, 1981) ترجمة تشارلز إليوت الصفحات 172-181.

التعليم العام والخاص في الكتاب المقدس – التعرف على الأشخاص المقصودين بالرسالة

تقييم المستخدمون: 5 ( 2 أصوات)