الردود على الشبهات

فأقول لهم أنا لا الرب (1 كو 7 : 12) | هل هذا دليل أن بولس الرسول لا يوحى إليه؟


“وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَأَقُولُ لَهُمْ أَنَا لاَ الرَّبُّ”
(1 كو 7 : 12)
 


وصلتنى رسالة بريدية تحتوى شرح ليوحنا ذهبى الفم لهذا النص، مأخوذة عن مقالة “فى البتولية”، فى أحدالمجموعات البريدية. حاولت البحث عن هذه المقالة فى موسوعة آباء ما بعد نيقية، و لكن لم أجدها (و منها تفسيره للرسالة، الذى يقع فى المجلد الثانى عشر، من السلسلة الثانية، من موسوعة آباء ما بعد نيقية). ربما تكون موجودة و لم أستطع الوصول لها، و ربما تكون غير مُترجمة فى الموسوعة المذكورة.

إليك النص:

“من أين نبدأ يحسن بنا الشروع في خطابنا؟ من كلمات الرب نفسها التي قالها بفم بولس المغبوط، إذ إن إرشادات هذا الأخير إنما إرشادات الرب، ولنتيقن من ذلك. فعندما يقول لنا: “أما المتزجون فأوصيهم لا أنا بل الرب” وبعدها “أما الباقون فأقول لهم أنا لا الرب”، لا يزعم في ذلك أن أقواله مباينة في فحواها لأقوال الرب. إذ أن من كان لديه المسيح ناطقاً في أعماقه، ومن لم يكن ليهتم بالحياة نفسها حتى يحيا المسيح فيه (غلا 20:2)، ومن كان المُلك والحياة والملائكة والقوات وكل خليقة أخرى – بل وكل شيء – يأتي بعد حبه للمسيح، هذا كيف يقبل بالتكلم، لا بل بالتفكر في شأن لم يوافق المسيح عليه ولا سيما إذن شرعه؟

ماذا تعني إذن هاتان العبارتان: “أنا” و”لا أنا”؟ لقد أعطانا المسيح النواميس والعقائد، بعضاً منه مباشرة وبعضاً من خلال رسله، ولكنه لم يسنّها كلها بنفسه. إسمع ما يقوله: “عندي أشياء كثيرة أقولها لكم، غير أنكم لا تطيقون الآن حملها” (يو16: 12). وعليه فالوصية بأن “لا تفارق المرأة رجلها” قد سبق فأصدرها هو بشخصه لما كان على الأرض، وأما فيما يتعلق بغير المؤمنين فلم يتفوه الرب بشيء، بل في إلهامه نفس بولس في هذا الإتجاه اشترع قائلاً: “إن كان أحد له امرأة غير مؤمنة وهي ترتضي أن تقيم معه فلا يتركها والمرأة التي لها رجل غير مؤمن وهو يرتضي أن يساكنها فلا تترك رجلها”. ولأجل هذا السبب يقول بولس “أنا لا الرب”.

هو لا يريد الدلالة على أن كلامه من مصدر بشري – وكيف يكون ذلك؟ – بل على أن الرب إن لم يُعطِ هذه الوصية لتلاميذه لما كان فيما بينهم، فلكي يعطيها الآن من خلاله. وكما أن عبارة “لا أنا بل الرب” لا تعارض وصايا المسيح، كذلك عبارة “أنا لا الرب” لا تعني رأياً شخصياً مناهضاً للمشيئة الإلهية، بل تُظهر ببساطة أن الوصية قد أعطيت الآن بواسطته.

فعندما يتكلم بشأن الأرملة مثلاً يقول:”إنها تكون أكثر غبطة على ما أرى إن بقيت على ما هي عليه، لكن لئلا تُفهم عبارة “على ما أرى” على أنها كلام بشري يُضيف قاطعاً المجال أمام هذا الإفتراض بقوله: “وأظن أنني أنا أيضاً فيَّ روح الله”، وما يعرضه من قبل الروح يدعوه من ثم رأيه، دون أن يكون في استطاعتنا من ذلك الإدعاء بأن إبلاغه بشري. كذلك هي الحال الآن عندما يقول “أنا الذي يقول لا الرب”، وحيث لا ينبغي الإستنتاج بأن الكلام لبولس، وذلك لأن لديه المسيح ناطقاً فيه، ولأنه لم يكن ليجرؤ البتة على أن يصوغ اعتقاداً صريحاً كهذا لو لم يُعطنا هذا الناموس بإلهام من الرب.

كان من الممكن في الواقع التوجه إليه بهذا الكلام:”إني لا أستطيع تحمل العيش أنا المؤمن مع امرأة غير مؤمنة وأنا النقي، مع امرأة ليست نقية (بعد). لقد صرحت أنت نفسك بأنك أنت الذي قال ذلك، لا الرب، فما الذي يضمن ويؤكد لي ما تقول؟ فيجيبه بولس قائلاً: “لا تخف. قلت بأن لدي المسيح ناطقاً فيَّ وأنّي أظن بأن فيَّ روح الله، فهذا لئلا تشتبه أنت بأي فكر بشري في هذه الأقوال، وإلا لما كنت قد نسبت إلى أفكاري الخاصة سلطاناً كهذا، فإن أفكار المائتين قاصرة وخواطرهم غير راسخة (حك 14:9).

زد على أن الكنيسة المسكونية برمتها تُثبت هي أيضاً قوة هذا الناموس في تقيّدها به بعد التدقيق، وهذا ما لم تكن لتفعله لو لم تكن متيقنة بدقة من أن هذه الأقوال وصيّة من المسيح”. إنتهى.

إنتهى شرح ذهبى الفم، و هناك فكرة رئيسية نستخلصها من الشرح: أننا لسنا أمام سلطتين أو مصدرين للتعليم فى الإيمان المسيحى. نحن لسنا أمام سلطة الوحى و سلطة بولس، بل أمام كلام المسيح و كلام بولس. المبدأ الذى يعتمده النص يتضح فى السياق أكثر، خاصةً مع المقارنة بالعدد العاشر. فيه يقول بولس:”وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُونَ فَأُوصِيهِمْ لاَ أَنَا بَلِ الرَّبُّ أَنْ لاَ تُفَارِقَ الْمَرْأَةُ رَجُلَهَا”. لقد أكد العلماء أن بولس هنا لا يقصد بحديث الرب الوحى، و إنما بتقليد المسيح و هو على الأرض. يبرز هذا بالأكثر، حينما نرى كم أكد المسيح على ضرورة فردية الزوجة (أنظر كمثال: مت 19 : 6؛ مر 10 : 8). لذلك لا يجب فهم النص على أنه مقابلة بين سلطة وحى السماء و سلطة بولس الإنسان الأرضى، بل هو تمييز أو تفريق بين تعليم المسيح و هو على الأرض، و بين ما يكتبه بولس الآن. هذا يظهر بوضوح حينما نرى أن أمر الرب فى ع 10 مرتبط بالمؤمنين، أما بولس فى ع 12 فيخاطب الوثنيين، الذين لم يُوجِه لهم الرب حديثاً و هو على الأرض. سواء كان ما يكتبه بولس هو وحى من الله أم لا، فهذا موضوع آخر، ولا علاقة لهذا النص به. لقد دافع العالم جوردون فى عن هذا التمييز ببراعة، و أكمله العالم الكاثوليكى جوزيف فيتزمير.

تلخيصاً لمعنى النص: بولس يقابل بين ما قاله المسيح على الأرض فى موقف معين، و بين ما يقوله هو الآن بعد صعود الرب عن موقف آخر مختلف. سواء كان ما يقوله بولس هو وحى أو لا، فأريد التأكيد على أنه أمر آخر غير مرتبط بهذا النص، ولا يجب ربط مسألة ماهية كتابات بولس بهذا النص.

للتفاصيل أكثر، أنظر المراجع التالية و التى استفاض فيها العلماء فى شرح النص نقدياً:

Anthony C. Thiselton, The First Epistle To The Corinthians: A Commentary on The Greek Text, The New International Greek Testament Commentary, Eerdmans 2000, P. 525

Archibald Robertson & Alfred Plummer, A Critical and Exegetical Commentary on The First Epistle of St. Paul To The Corinthians, reprint: T & T Clark 1999, P. 141

David E. Garland, First Corinthians, Baker Exegetical Commentary on The New Testament, Baker Academic 2003, P. 285

Gordon D. Fee, The First Epistle To The Corinthians, The New International Commentary On The New Testament, Eerdmans 1987, P. 291-292

Hans Conzelmann, A Commentary on The First Epistle to The Corinthians, Hermeneia Series, English Translation By James W. Dunkly, Edited By W. MaRae; Fortress Press 1975, P. 121

Joseph A. Fitzmyer, First Corinthians: A New Translation with Introduction & Commentary, The Anchor Yale Bible, Vol 32, Yale University Press 2008, P. 298