أبحاث

الله المثلث الأقانيم في المسيحية – الله الواحد الثالوث

الله المثلث الأقانيم في المسيحية – الله الواحد الثالوث

الله المثلث الأقانيم في المسيحية - الله الواحد الثالوث
الله المثلث الأقانيم في المسيحية – الله الواحد الثالوث

الله المثلث الأقانيم في المسيحية – الله الواحد الثالوث

ما من دفاع فلسفي عن المسيحية يكتمل بمعزل عن شرح الأسباب وراء إيمان المسيحيين بالله إلههم. هذا ما سأعرضه الآن، ابتداء من عرض وصف لله الذي نتحدث عنه.

يعلن “التعليم المسيحي الأقصر وستمنستر”، وفي معرض إجابته عن السؤال الخامس: “هل هناك أكثر من الله الواحد؟” ما يلي: “يوجد فقط الله الواحد، الحي والحقيقي”. هذا “التعليم المسيحي” يستمد وصفه لله من إرميا 10: 10: “أما الرب الإله فحق. هو إله حي وملك أبدي”. هذا التصريح بوجود الله الواحد، يدعمه الكتاب المقدس، بل يفترضه في كل مكان من كلا عهديه القديم والجديد.

  • تثنية 6: 4: “اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد”.
  • إشعياء 45: 5 و6: “أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي… أنا الرب وليس آخر”.
  • زكريا 14: 9ب: “في ذلك اليوم يكون الرب وحده واسمه وحده”.
  • مرقص 12: 29: “اسمع يا إسرائيل، الرب الهنا رب واحد”.
  • رومية 3: 30: “لأن الله واحد، هو الذي سيبرر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان”.
  • 1كورنثوس 8: 4: “نعلم أن ليس وثن في العالم، وأن ليس إله آخر إلى واحد!”
  • 1تيموثاوس 2: 5: “لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح”.
  • يعقوب 2: 15: “أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون!”

كمالاته

الله الواحد، الحي والحقيقي هو “روح، ولا محدود، وأزلي، ولا تغير في كيانه، وحكمته، وقدرته، وقداسته، وعدله، وصلاحه، وحقه”. (“التعليم المسيحي الأقصر وستمنستر”، السؤال الرابع)[1]. عندما يتحدث “التعليم المسيحي الأقصر” كما يفعل هنا عن الله. فهو يذكر كمالاته التي تشمل ما تلخصه الأسفار المقدسة باللفظة “مجد”. بكلام آخر، مجد الله هو المجموع العام لكل كمالاته أو خصائصه، بمعنى أن مجد الله هو مجرد الثقل الذي لا مفر منه لـ “صلاح” الله المتأصل في ذاته.

أما كل محاولة يبذلها المخلوق – سواء أكان ملاكاً أو إنساناً – لانتحال لنفسه أي من خصائص الله، وذلك سعياً منه ليكون “مثل الله” كما فعل آدم (راجع تكوين 3: 5، 22) فهو بمثابة تهجم على مجد الله عينه من خلال محاولته جعل نفسه مساوياً لله. أو أي سعي للمخلوق للتنكر لواحدة من خصائصه، يعد أيضاً بمثابة التهجم على مجد الله لأنه بذلك يجرده من أمر من دونه لا يعود هو الله.

أو أن ينسب المخلوق إلى الله أية خاصة لم يعلن هو صراحة أنه يمتلكها، فإن هذا ينطوي أيضاً على تهجم على مجده لأنه بفعله هذا سيكون على الأرجح على خطأ، بما أنه يشير ضمناً من خلال تصرفه هذا إلى أن المخلوق يعرف الله تماماً كمعرفة الله بنفسه، كما أنه يعرفه بمعزل عن الإعلان، الأمر الذي يعد تصرفاً وثنياً، سخيفاً، ومستحيلاً.

لذا، من الضروري في المطلق – بل إنه لأمر حيوي وإلزامي لصحتنا الروحية – أن نستمر كمخلوقات نصغي دوماً وبعناية إلى الوصف الذي يعرضه الله عن نفسه في الأسفار المقدسة وحدها، وأن نخضع قلوبنا لهذا الوصف من دون أي تشك، محاولين العيش بموجبه، وأن نعبده بشكل يليق بكمالاته المعلنة، أي بوقار وخوف (عبرانيين 12: 28).

وبما أننا نتحدث عن العبادة، إن ظاهرة إقحام ضمن الكنيسة المعاصرة أنماط العبادة السطحية المنتشرة بكثرة اليوم، مع ما يرافق ذلك من تصفيق “لأداء النجوم” داخل الكنيسة ولموسيقاهم المعاصرة الصاخبة، ليست مجرد مسألة “تفضيل ثقافي، ولا ينبغي أبداً النظر إليها هكذا”. الأمر يتعلق بالحري بتسرب الثقافة الشعبية إلى داخل الكنيسة. إنه أحد الأعراض لآفة يصفها “أ. و. توزر” في كتابه “معرفة القدوس” على أنها:

بمثابة فقدان لمفهوم جلال [الله] من الذهن الديني الشعبي، لقد تخلت الكنيسة عن مفهومها السامي لله مستعيضة عنه بمفهوم منحط وحقير إلى أقصى الحدود، فلا يعود يليق بأناس يفكرون ويعبدون…

النظرة المنحطة إلى الله، والتي يراعيها المسيحيون [اليوم] على صعيد كوني تقريباً، تعد السبب وراء المئات من الشرور الدنيا المنتشرة في كل مكان بيننا. وهكذا نشأت فلسفة جديدة بالتمام للحياة المسيحية نتيجة هذا الخطأ الأساسي الواحد في تفكيرنا الديني.

مع فقداننا للإحساس بالجلال، فقدنا أيضاً شعورنا بالمهابة الإلهية ووعينا للحضور الإلهي. فقدنا بذلك أيضاً روح العبادة وقدرتنا على …. التقاء الله في عبادة صامتة. لا تنتج المسيحية الحديثة ببساطة ذلك الصنف من المسيحي الذي بوسعه تقدير أو اختبار,.. الحياة في الروح. الكلمات، “كفوا واعلموا أني أنا الله”، تخلو تقريباً من أي معنى في نظر العابد الواثق بنفسه، والمملوء نشاطاً في هذا…. العصر[2].

يا لها من حالة مروعة بشكل خطير، ذلك لأن عبادة الأوثان لا تنحصر فقط بمجرد الانحناء أمام صور من صنع الإنسان. فعبادة الأوثان في جوهرها، كما يذكرنا “توزر” تنطوي على مراعاة [أية] أفكار عن الله [بصفتها صحيحة]، إلا أنها لا تليق به[3].

وخلال قيامنا بمجهوداتنا الدفاعية، نحتاج باستمرار أن نبقي على هذا في تفكيرنا. يجب ألا نظن أننا نقدم خدمة لله عندما نحاول أن نبرهن للشخص غير المؤمن أن الله، من أي صنف كان، موجود. غير المؤمن، على كل حال، لا يحتاج إلى من يبرهن له هذا؛ فهو يعرف ذلك من قبل. ما هو أهم بكثير، وما يحتاج إليه غير المؤمن، هو أن ننقل إليه من هو الله بالحقيقة.

الله المثلث الأقانيم

ليس الله، إله المسيحيين، الله الواحد، الحي، والحقيقي، اللا محدود، والأزلي، وصاحب الكمالات التي لا تتغير وحسب، بل هو أيضاً مثلث الأقانيم. لماذا تؤمن الكنيسة بأن الله مثلث الأقانيم؟ لعل أبسط إجابة عن هذا هو كون الكتاب المقدس يعلم هذا كجزء من المسوغ الكتابي للإيمان بالثالوث، عندما مثلاً، النصوص الكتابية العشرون التالية حيث يطالعنا ذكر الأقانيم الثلاثة للاهوت بصراحة معاً بشكل أو بآخر.

  • إشعياء 48: 16: “… منذ وجوده أنا [متكلم إلهي] هناك. والآن السيد الرب أرسلني وروحه”.
  • إشعياء 61: 1: “روح السيد الرب علي [متكلم إلهي]، لأن الرب مسحني”. (راجع لوقا 4: 16-21).
  • إشعياء 63: 9، 10: “في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم. بمحبته ورأفته هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة. ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه”.
  • زكريا 2: 1-10: “هأنذا آتي وأسكن في وسطك، يقول الرب، أمم كثيرة… ويكونون لي شعباً فأسكن في وسطك، فتعلمين أن رب الجنود قد أرسلني إليك”.
  • متى 28: 19: “وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”.
  • مرقص 1: 10، 11 (مع النصوص الموازية في الأناجيل السينويتية): “وللوقت وهو صاعد [يسوع] من الماء رأى السماوات قد انشقت، والروح مثل حمامة نازلاً عليه. وكان صوت من السماوات: أنت ابني الحبيب الذي به سررت”.
  • يوحنا 14: 16-26: “وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق… إن أحبني أحد… يحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً. وأما المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء…”
  • يوحنا 15: 26: “ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحقن الذي من عند الآب ينبثق [إكبوروياتاي]، فهو يشهد لي”.
  • يوحنا 16: 7-15: “لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق… كل ما للآب هو لي. لهذا قلت إنه يأخذ مما لي ويخبركم”.
  • رومية 8: 9-11: “وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكناً فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له… وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم”.
  • 1كورنثوس 12: 4-6: “فأنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد، الذي يعمل الكل في الكل”.
  • 2كورنثوس 13: 14: “نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم”.
  • غلاطية 4: 4-6: “ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه… ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني. ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبا الآب”.
  • أفسس 1: 3، 14: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا… إذ سمعتم كلمة الحق، إنجيل خلاصكم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس”.
  • أفسس 2: 18: “لأن به [بالمسيح] لنا كلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب”.
  • أفسس 4: 4-6: “روح واحد… ربُ واحد… إله وآب واحد للكل”.
  • 2تسالونيكي 2: 13، 14: “…. الله اختاركم من البدء للخلاص، بتقديس الروح وتصديق الحق. الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا، لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح”.
  • تيطس 3: 4-6: “ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله واحسانه لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا”.
  • 1بطرس 1: 2: “المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق، في تقديس الروح للطاعة، ورش دم يسوع المسيح”.
  • يهوذا 20، 21: “وأما أنتم أيها الأحباء فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقدس، مصلين في الروح القدس، واحفظوا أنفسكم في محبة الله، منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية”[4].

إلا أن دليلنا على الثالوث، لا ينحصر بهذه التوكيدات الكتابية حيث يذكر الأقانيم الثلاثة ضمن قرينة واحدة، وبما أنه بإمكاننا التسليم بألوهية الآب وبوجوده الشخص، بإمكاننا أيضاً اكتشاف الدليل على الثالوث في مجموع المعلومات الكتابية التي تعلم عن ألوهية يسوع المسيح وعن الشخصية المميزة لله الروح القدس. بكلام آخر أي دليل كتابي من أي صنف كان، وأينما ورد في الأسفار المقدسة، والذي بإمكاننا الاستناد إليه لدعم ألوهية المسيح والروح القدس بصفته شخصاً مميزاً، يشكل أيضاً دليلاً آخر على الثالوث.

والدليل الكتابي الداعم لهاتين العقيدتين ظاهر بوضوح ووافر بكثرة. فالدليل على ألوهية المسيح، يشمل الإشارات إلى هذا الأمر في العهد القديم، والنبوات التي تتحدث عن مسيا إلهي، مع شهادة يسوع نفسه بالكلام والفعل، وقيامته من بين الأموات. عندنا أيضاَ الشهادة الموحدة لكتاب العهد الجديد لألوهيته، وبالتحديد باعتمادهم اللفظة ثيوس (“الله”) كلقب مسياني في أعمال 20: 28، رومية 9: 5، تيطس 2: 13، عبرانيين 1: 8، 2بطرس 1: 1، يوحنا 1: 1؛ 1: 18، 20: 28، 1يوحنا 5: 20.

والدليل على الروح القدس كصاحب شخصية مميزة، يشمل الضمائر الشخصية التي تعتمدها الأسفار المقدس معه في يوحنا 15: 26؛ يوحنا 16: 13، 14، أعمال 10: 19، 20، أعمال 13: 2. إلى ذلك، إنه يمتلك الخصائص الشخصية من صنف الحكمة (أشعياء 11: 2؛ 1كورنثوس 2: 10، 11)، والإرادة (يوحنا 3: 8؛ 1كورنثوس 12: 11)؛ والقوة (إشعياء 11: 2؛ ميخا 3: 8؛ أعمال 10: 38؛ رومية 15: 13؛ وأفسس 3: 16) التي تنسبها الأسفار المقدسة إليه.

إلى ذلك، تنسب إليه الأسفار المقدسة العديد من الأنشطة الشخصية (مرقص 13: 11ب؛ أعمال 13: 2، 21: 11؛ لوقا 12: 12؛ رومية 15: 30). بلا جدل، إن كانت الشهادة الكتابية تعطى حقها، فالله الذي تصفه، مع كونه الله الواحد، هو أيضاً في الوقت عينه في ثلاثة أقانيم.

المسيحيون في القرون الخمسة الأولى – في عبادتهم لله الواحد على غرار الإسرائيليين في القديم، والذين آمنوا في الواقع أنهم كانوا يعبدون الله، إله إسرائيل من خلال عبادتهم لله الآب، والله الابن، والله الروح القدس – شرعوا في صياغة عقيدتهم المختصة بالله بتعابير تتحدث عن التثليث، بكلام آخر، التثليث الداخل في قوانين إيمان الكنيسة الأولى، جاء نتيجة اقتناع بأن يسوع المسيح والروح القدس كانا شخصين إلهيين متميزين.

عملية الصياغة نفسها، التي جرى الإسراع في تتميمها خلال القرون الثلاثة الأولى، ولا سيما مع نشوء الغنوسطية في القرن الثاني وعلوم اللاهوت “لوغوس” المختصة بشخص المسيح، والموناركية التي ظهرت في القرن الثالث والأريوسية في مستهل القرن الرابع، كل هذه التيارات، دفعت الكنيسة إلى بلورة عقيدة الثالوث بشكل مبدئي لكن فعلي، وذلك في “قانون الإيمان النيقاوي” عام 325.

هذه البلورة، واصلت الكنيسة صقلها، ولا سيما بشأن شخص الله الابن في “قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني” لعام 381، وفي التصريح المناهض للنسطورية خلال مجمع أفسس عام 431، وبواسطة تعريف خلقيدون عام 451.

من الضروري توقير الجهود التي بذلها هؤلاء الآباء الأقدمون في معرض صياغتهم تصريحات قوانين الإيمان هذه. توضح تصريحاتهم هذه، وجود ثلاث عقائد ضرورية في المطلق للتعليم الكتابي عن الله المثلث الأقانيم:

أولاً، ثمة الله الواحد، الحي، والحقيقي، وغير القابل للانقسام منذ الأزل ولا يعتريه أي تغيير. هذه هي العقيدة الكتابية المتعلقة بوجود الله الواحد. وكل تنكر لهذه العقيدة، يعني السقوط في خطأ الإيمان بوجود ثلاثة آلهة.

ثانياً، الآب، والابن، والروح القدس، يشكلون أقانيم مميزين (رجاء ملاحظة كيف أنهم مميزون لكن غير منفصلين عن بعضهم بعضاً. فبما أنهم يشكلون معاً الله غير القابل للانقسام، هم يحلون بشكل متبادل في بعضهم بعضاً[5]).

هذه هي العقيدة الكتابية عن الخصائص الشخصية المميزة للأقانيم الثلاثة، أي الآب في قدرته الجوهرية على الإنتاج، وتوليد الآب للابن منذ الأزل، الأمر الي يستحيل شرحه بشكل مأمون بما يتخطى فكرة وجود ترتيب داخلي ضمن اللاهوت، وانبثاق الروح القدس الأزلي من الآب والابن، الأمر الذي نعود ونقول إنه المأمون عدم ذكر أي شيء عنه يتخطى فكرة وجود ترتيب داخلي ضمن اللاهوت[6]؛ حتى إن كل إنكار لهذه الخصائص المميزة، يعني اعتناق شكل من أشكال النمطية modalism.

ثالثاً، كل من الآب، والابن، والروح القدس هو الله بالكامل وبالتساوي. تشكل هذه عقيدة الكتاب المقدس عن الـ هوموأوسيان القائم بين الأقانيم الثلاثة، بمعنى “التماثل أي التساوي ضمن الجوهر الإلهي”. وأي إنكار لهذه العقيدة يعني اعتناق شكل من أشكال إحداث مراتب ضمن أقانيم اللاهوت.

يعني كل هذا أولاً أن كل أقنوم ضمن اللاهوت هو الله بالكامل، وأن كل أقنوم يمتلك في ذاته كل ملء الله (راجع كولوسي 2: 9). علينا عدم التفكير في الأقانيم الثلاثة وكأن كل واحد منهم يحتل ثلث الكيان الإلهي. وكل أقنوم لكونه الله، يمتلك كامل الكيان الإلهي. هذا يعني أن الأقانيم الثلاثة لدى أخذهم معاً، يجب عدم اعتبار أنهم يشكلون بذلك كائناً إلهياً أعظم من أي من الأقانيم بمفرده.

كذلك، يجب عدم النظر إلى أي من الأقانيم بمفرده على أنه كائن إلهي أقل قدراً من مجموع الثلاثة معاً. كما أن هذا يعني أيضاً أن كل أقنوم يمتلك كل خصائص الله الواحد، أو بكلام آخر، يمتلك كل أقنوم كيان الله غير المنقسم بأكمله.

يعنى كل هذا، ثانياً، بما أن الأقانيم الثلاثة حقيقيون وأزليون كما أن الكائن الإلهي الذي يمتلكه كل واحد منهم حقيقي وأزلي، علينا أن نتصور كل أقنوم ككيان مميز (لكن غير منفصل)، صاحب خصائص تميزه عن الاثنين الآخرين. فمن المألوف اعتبار أن الخاصة المميزة لدى الآب هي الأبوة، والخاصة المميزة لدى الابن هي البنوية، ولدى الروح القدس خاصة الانبثاق.

يعني كل هذا ثالثاً، أنه فيما علينا التأكيد، لكي نكون أمناء للأسفار المقدسة، بأن كل أقنوم هو كائن مميز عن الأقنومين الآخرين، لكن في ضوء واقع تشابههم الإلهي ضمن الجوهر غير المنقسم الواحد (اللفظة الشهيرة هوموأوسيا في إطار قانون الإيمان النيقاوي)، لا نستطيع أبداً التفكير بشكل صحيح بشأن الأقانيم الثلاثة على أنهم موجودون بشكل مستقل عن بعضهم بعضاً. فالله الآب هو منذ الأزل “أب للابن” والله الابن هو منذ الأزل “ابن الآب” فيما الله الروح القدس هو منذ الأزل “روح الله [الآب]” وأيضاً “روح المسيح [الابن]”

يعني كل هذا رابعاً، أن عقيدة الثالوث لا تعد بنداً حيوياً من الإيمان الحق وحسب، بل وكما لحظ “كالفن”، فإن الله الواحد الحي والحقيقي الذي أعلن ذاته في الأسفار المقدسة

… هكذا أعلن عن نفسه بصفته الله الوحيد، [وفي الوقت عينه] كما يجب التفكير فيه في ثلاثة أقانيم. وما لم ندرك نحن ذلك، فإن اسم الله الفارغ والخالي من أي معنى هو الذي سيعلق بأدمغتنا بمعزل عن الله الحقيقي[7].

لنلاحظ كلمات “كالفن”: “بمعزل عن الله الحقيقي [سيني فيرا ديو].” لقد أدرك “كالفن” أن التثليث في اللاهوت، ليس فكرة يجب إضافتها على الفكرة عن الله المكتملة قبلاً، لكن حق يدخل في صلب الفكرة عن الله الواحد، الحي، والحقيقي، من غير الممكن بمعزل عنها تصوره في حقيقة كيانه الإلهي.

بكلام آخر، بما أن الله الوحيد الموجود، هو في الواقع مثلث الأقانيم، إن كنا نفتكر بالله ونتحدث عنه وكأنه ببساطة كائن إلهي أسمى وغير متمايز (موناد)، نحن بذلك نفتكر بإله لا وجود له؟ في هذه الحال، نحن نفتكر – بحسب كلام “كالفن” – بـ “اسم الله الفارغ والخالي من أي معنى”. ليس هذا بالله الحقيقي على الإطلاق.

ما يصرح به أب “الإصلاح الجليل” للقرن السادس عشر هو التالي: إن كنا لا نعير الله المثلث الأقانيم التقدير اللائق به. إذ نتأمل به، نكون بذلك قد ابتدعنا لأنفسنا وثناً لا وجود له نتحدث عنه. فالإيمان بالله الواحد، الحي والحقيقي كالثالوث في الوحدانية والوحدانية في الثالوث، من شأنه وحده أن يحفظنا من الوقوع في الوثنية. من هنا، المؤمن بالله الواحد والذي يرفض عقيدة الثالوث، لديه فقط “في ذهنه اسم الله الفارغ والخالي من أي معنى”. أو كما يقول “هرمين وتسيس”: “شبح فارغ ووثن”[8].

من هنا أنا أحث على ضرورة عدم التحدث عن الله أمام غير المؤمن، وكأنه مجرد كائن إلهي أسمى وغير متمايز (موناد)، متذكرين باستمرار أن سمة التمايز الكتابية الخاصة بالله، إلى جانب كمالاته، هي تثليثه الذي يعد جانباً هاماً من “هويته”.

انعكاسات الله المثلث الأقانيم على علم الدفاع

إن كان صحيحاً، كما قال “كالفن” أن كل تفكير في الله بمعزل عن سمة التثليث الخاصة به، هو ضرب من الوثنية، ففي هذه الحال ألا يسعى أحدنا لبرهان وجود أي إله، ومن ثم محاولة برهان كونه مثلث الأقانيم. وحتى لو نجح أحدهم في برهان أن إلهاً ما موجود، يكون كل ما فعله هو برهان وجود إله. لكن رابط الوجود هذا، لا يذكر أي شيء عن هذا الإله الذي يميزه بأي شكل عن أي شيء وعن كل شيء آخر.

ذلك لأن أي شيء وكل شيء، مهما كانت قيمته قليلة، هو موجود، إذاً، هل الله موجود؟ بالطبع، هو موجود! لكن، يعمل كل الفرق إن كان الله حلماً، أو سراباً، أو الجذر التربيعي لناقص واحد، أو الله الشخصي المثلث الأقانيم واللامحدود في الأسفار المقدسة. بكلام آخر، متى تحدث أحدنا عن “وجود” الله، يلزمه أيضاً الاهتمام بمسألة “هويته”. يكتب “فان تل” في هذا السياق:

الكلام عن وجود الله، وعن حقيقة وجود الله، من دون ذكر كل ما فعله الله للإنسان ولا يزال في المسيح من خلال الروح القدس… ليس بالأمر المبهم بالتمام وحسب، بل يعد أيضاً تشويهاً بالكامل. أن تنقل إلى أحدهم كون الله موجوداً، لا يعني أي شيء ما لم تنقل إليه أيضاً عمن هو الله وعما يفعل[9].

بالنسبة إلى ما فعله الله، يلزم أحدنا مراجعة ما أعلنه الله من نفسه في الأسفار المقدسة. كما أن جميع المحاولات لاكتشاف أمور موازية أو تشابه جزئي لطبيعة الثالوث على صعيد التفكير الديني الوثني، أو الطبيعة المادية، أو مجالات المنطق وقواعد اللغة، أو عمليات الذهن، أو إعادة تنظيم الأمور فلسفياً[10]، تبقى في نظري باطلة. أولاً، لأن أحدنا لا يجد في أي منها الشخصية الثلاثية ضمن وحدانية الجوهر؛

وثانياً، لأننا لا نعلم بشكل أكيد ما الذي نحاول بالتحديد إيجاد له تشابه جزئي، وذلك في غياب إجماع في الرأي حتى يومنا هذا بين اللاهوتيين المسيحيين حول معنى توليد الآب للابن وطبيعته، ومعنى انبثاق الروح القدس من الآب والابن وطبيعته.

يقترح “ناثان ر. ود” في كتابه The Secret of the Universe [11](“سر الكون”) أن المكان الثلاثي الأبعاد في الكون، مع الجوانب الثلاثة للزمان، وطبيعة الإنسان المكونة من ثلاثة أقسام، كما هو مزعوم (لكن خطأ)، كما ذهن الإنسان، وعاطفته، وإرادته، وتقسيم المادة إلى جامد، وسائل، وغاز، كل هذه تعكس الطبيعة الثلاثية للخالق.

لكن مفهوم الشخصية ناقص في جميعها ما عدا واحدة من هذه التشابهات الجزئية. كما أن ولا واحدة منها تشبه “التوليد” و”الانبثاق” للاهوت الكتابي، مهما عنت هذه الألفاظ من هنا، لا تصمد كأمور موازية شرعية. أنا أوافق “هرمن بافينك” الرأي بأن أياً من التشابهات الجزئية والأمور الموازية المزعومة “ليس بمقدورها برهان الثالوث الإلهي؛ لأننا بخصوص هذه العقيدة، نحن نعتمد بالكلية على الأسفار المقدسة”[12].

باختصار، كل تفكير في الله الوحيد الموجود كالله المثلث الأقانيم بمعزل عن ثالوثه، هو بمثابة الاحتفاظ بوثن في الذهن. لذا، عندما نحدث غير المؤمن عن الله الموجود، لنكن واضحين بأننا نتكلم عن الله، إله الأسفار المقدسة الذي ليس هو لا محدود، وأزلي، ولا يتغير في كيانه، وحكمته، وقدرته، وقداسته، وصلاحه، وحقه، وحسب، لكنه أيضاً في جوهره مثلث الأقانيم.

عمله كخالق

تعلم الأسفار المقدسة أن الله هذا الواحد، الحي، الحقيقي، والمثلث الأقانيم، خلق الكون، إكس نيهيلو، أي من العدم (تكوين 1، 2؛ عبرانيين 1: 2؛ 11: 3). لم يقدم على هذا بسبب حاجة وجودية في طبيعته لأجل تكميل نفسه (إشعياء 40: 12-13؛ أعمال 17: 25) لأن طبيعته بقيت على حالها بالتمام بعد عمله كخالق كما قبلها (المزمور 90: 2)، بل فقط لأنه شاء فعل ذلك (رؤيا 4: 11) وبهدف تمجيد ذاته (إشعياء 43: 6، 7).

فهو ليس في حاجة إلى أي شيء خارج إطار ذاته لكي يكون الله بالتمام. باختصار، الله، إله الأسفار المقدسة، هو مكتمل في ذاته وعنده اكتفاء ذاتي، حتى أن وجوده لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بخليقته[13].

الله، إله الأسفار المقدسة اللامحدود والشخصي، وخلافاً لإله المذهب الطبيعي، يواصل عمله للحفاظ على خلائقه متحكماُ بهم وبكل أفعالهم (المزمور 103: 19؛ 104: 24؛ 145: 17؛ متى 10: 29، 30؛ عبرانين 1: 3). وكل ما يفعله، وكل ما يحصل في السماء وعلى الأرض، تقرره مشيئته الأزلية (المزمور 115: 3؛ دانيال 4: 17، 25، 35؛ أعمال 2: 23؛ 4: 27، 28؛ رومية 9: 11-23؛ أفسس 1: 3-14؛ 1بطرس 1: 20).

في سياق هذا البحث المختص بكيان الله، من المعلوم أني أقصد من خلال اللفظة “الله”، إله الأسفار المقدسة الواحد، الحي، والحقيقي، والخالق المثلث الأقانيم، والذي أعلن لنا ذاته في يسوع المسيح. وجود هذا الإله آخر بصفته الله الحقيقي، فأنا ليس غنوسطياً وحسب، بل ملحداً عن اقتناع. أنا أنكر وجود أي إله آخر إلا ما يعد بمثابة تصورات وثنية في أذهان أناس خطاة “الذين استبدلوا حق الله بالكذب، واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق، الذي هو مبارك إلى الأبد. آمين”. (رومية 1: 25).

لماذا يؤمن المسيحيون بالله المثلث الأقانيم الذي أعلن ذاته في الأسفار المقدسة؟

سألني التلامذة الذين درسوا مساقي في كلية اللاهوت حول عقيدة الله، من حين إلى آخر، لماذا لا أبدأ بمحاضرة حول قيمة “البراهين” التقليدية أو الحجج على وجود الله، على غرار ما يقوم به العديد من كتب اللاهوت النظامي المنشورة (راجع مثلاً، كتاب “فرنسس تورتن” Institutes Elenctic Theology، وكتاب “تشارلس هودج” Systematic Theology، وكتاب “روبرت لويس دابني” Lectures in Systematic Theology، وكتاب “لويس برخوف” Systematic Theology). ردي عليهم ببساطة، كان ولا يزال: أنا ليس أحبذ هذه الحجج، كما سبق لي أن صرحت في كتابي [14]The Justification of Knowledge ذلك بما أنها حجج تجريبية، ليست صحيحة، ولا مجال البتة لجعلها كذلك.

وبما أن على المسيحيين عدم اعتماد حجج غير صحيحة، ولا يلزمهم حث غير المؤمنين على جعل ثقتهم في خلاصات الحجج غير الصحيحة لدى الترويج لحق إيمانهم. بالطبع، أومن بأن الله “موجود حقاً” بما أنه أعلن ذاته لكل الناس بشكل عام من خلال خلقه عنايته، بكلام آخر، لدى كل الناس وعي من قبل الله (سنس دايتاتس) من جراء صورته الإلهية فيهم وإعلانه عن ذاته في الطبيعية من الخارج كما من خلال معاملاته من داخل عالمه.

كذلك أعلن عن ذاته تحت شكل مبادئ في الأسفار المقدسة بعهديها القديم والجديد، وشخصياً في ابنه، الرب يسوع المسيح، وخلاصياً بواسطة عمل كلمته وروحه[15]. كما أومن بأنه “موجود حقاً” لأنه بمعزل عنه بصفته الحقيقية الكون النهائية والحاسمة، لا وجود لأية فطنة نهائية في أي مكان. لكني لن أعترف بوجوده بناءً على الحجج التقليدية على وجود الله. وسأعرض عليك أسبابي.

الحجة الوجودية

الحجة الوجودية، والتي كان قد صاغها “أنسلمس” (1033-1109) تحت شكل صلاة في كتابه Proslogion (1078)، تعتبر أن المفهوم نفسه لله في الذهن بصفته “الكائن الذي لا يمكن التفكير بما هو أعظم منه” يوجب وجوده، ذلك لأن هذا المفهوم يتصور وجود الكائن الأكثر كمالاً الذي يمكن تخيله. لكنه يعود ويقول:

على افتراض أنه موجود في الذهن فقط، عندئذ يكون بالإمكان تصوره في الواقع، الذي هو أعظم بعد.

لذا، إن كان هذا الذي لا يوجد ما هو أعظم منه موجوداً في الذهن فقط، فهذا الكائن الذي لا يمكن تصور من هو أعظم منه، هو من يمكن تصور من هو أعظم منه. لكن، من الواضح أن هذا الأمر مستحيل. من هنا، لا شك في وجود كائن لا يمكن تصور ما هو أعظم منه، وهو موجود في الذهن كما في الواقع.

هو موجود حقاً وبكل تأكيد، حتى لا يعود بالإمكان تصور عدم وجوده. ذلك لأنه بالإمكان تصور كائن لا يمكن تصوره بأنه غير موجود؛ وهو أعظم من الذي يمكن تصور أنه غير موجود. إن كان ما لا يمكن تصور ما هو أعظم منه، يمكن تصور عدم وجوده، لا يكون هذا من لا يمكن تصور ما هو أعظم منه. لكن في هذا تناقض لا جدل حوله. لذا، يوجد حقاً كائن لا يمكن تصور من هو أعظم منه، والذي لا يمكن تصور عدم وجوده؛ وهذا الكائن هو أنت أيها الرب إلهنا[16].

…. لماذا قال الجاهل في قلبه ليس إله، لأنه من الواضح للذهن العقلاني، أنك موجود وبأعلى نسبة ممكنة؟ لماذا؟ هل لأي شيء آخر غير كونه بليداً وغبياً!

كما جرى لحظ هذا غالباً هذه الحجة في أحسن حالاتها تبرهن فقط أن الناس غير قادرين على مراعاة مفهوم الله الكامل في الذهن، من دون أن يستتبع ذلك وجوده في الواقع. لكن مفهومهم لله الموجود في الواقع، والوجود الفعلي لإله كهذا، لا يشيران إلى الأمر عينه. فالأمر الأول لا يثبت الحقيقة الموضوعية للكيان المرتبط به، أكثر ما يعمل إدراج التاجر في دفتره لمجموعة من الأصفار من شأنه أن يزيد من ثروته الفعلية (فكرة الفيلسوف “كانت”).

“غونيليو” الراهب الفرنسي من “مارموتييه” والمعاصر لـ “أنسلمس” في معرض رده عليه تحت عنوان On Behalf of the Fool “بالنيابة عن الجاهل” صرح بما يلي: “لدي فكرة عن جزيرة لا يمكن تصور ما هو أعظم منها في كمالها، فكرة تشمل بالتالي وجود الجزيرة، لكن فكرتي عن جزيرة كهذه لا يعني أن الجزيرة موجودة فعلاً، لأن جزيرة كهذه غير موجودة فعلياً”.

وصف هذه الحجة بأنها محاولة للتعريف بالله على أنه موجود، ليس من دون شيء من المبرر له. إنه في الأساس ضرب من ضروب تكرار المعنى، الذي يكتفي بالتعريف بالله بصفته كائناً كاملاً من الضروري وجوده، وذلك من دون عرض أية موجبات لذلك يتخطى التعريف نفسه للتفكير في أن كائناً كهذا موجود فعلاً. لكن الفكر البشري بحد ذاته لا يفرض أية ضرورة على الأشياء.

“ج. أوليفر بسول، الابن”، يحاول اثبات صحة الحجة الوجودية بواسطة صيغة استقرائية (يعتبر أن عثر عليها عند “ديكارت”)، وذلك من خلال عرضه لبعض الموجبات التي تتخطى نطاق التعريف نفسه. فهو يكتب “بالطبع، نحن لا نقول إن على كل فكرة أن يقابلها وجود كائن مختص بها. إنما ما نتمسك له هو أن لكل فكرة في الحضارة البشرية سبباً ما”. ثم يعرض إيضاحاً لما يقصد قوله:

على افتراض أننا اكتشفنا جزيرة استوائية، حسب الظاهر مسطحة، وفي حال وجدنا أن الناس على الجزيرة عندهم لغة مختلفة عن أية لغة مألوفة لدينا، وفي حال اكتشافنا أن هؤلاء القوم على هذه الجزيرة الاستوائية التي ظاهرها مسطح، لديهم لفظة لوصف الجبل المكلل بالثلوج، علينا بالضرورة إجراء استقصاء حول مصدر فكرتهم.

علينا استنتاج أنه يوجد جبل مكلل بالثلوج بعيداً داخل جزيرتهم، أو لعلهم هاجروا من منطقة تحتوي على جبال عالية، أو لعل أحد المسافرين أخبرهم عن الجبال المكللة بالثلوج. فانطلاقاً من المعلومات عن جزيرة استوائية مسطحة، لا يمكن لسكان هذه الجزيرة الأصليين أن يكون لديهم فكرة عن الجبل المكلل بالثلوج[17].

نقطته التي يعرضها هنا، هي أن فكرتنا عن كائن كامل، هو الله موجود، هي النتيجة لسبب. هذا السبب (وهنا يكمن الاستقراء) هي المعلومات من الكون التي يستنتج الناس منها فكرتهم عن وجود الكائن الكامل، علة الكون النهائية والحاسمة.

إلا أن إيضاح “بسول” عن الجزيرة، يتجاهل حقيقة أن ليس كل فكرة تراود الإنسان بالإمكان أو يجب ردها إلى شيء تجريبي. فالناس لديهم مخيلات خصبة (لنتذكر قصصنا الحديثة من صنف “الخيال العلمي” وأفلام الرعب)، وحتى أوهام، كما أن كل حضارة طورت أساطيرها الخاصة بها. أي من جملة هذه الأسباب غير التجريبية، قد يكون المصدر في الأصل للعبارة لوصف الجبل المكلل بالثلج بالنسبة إلى هؤلاء القاطنين الجزيرة المسطحة. وبشكل مشابه، المخيلة الخصبة أو الأساطير المرتبطة بحضارة ما، قد تفسر فكرة وجود كائن كامل. إن محاولة “بسول” تثبيت الحجة الوجودية، لا تقنعني.

“المدافعون الليغونية” (“ر. س. سبرول”، “جون غرستنر”، و”آرثر لندسلي”)، يعرضون حجة وجودية في كتابهم[18] Classical Apologetics يجر بنا ذكرها. هو يؤكدون، في اتباعهم لـ “جوناثان إدواردس”:

… لدينا فكرة عن الكائن، ومن غير الممكن أن يكون لدينا حتى فكرة عما هو غير كائن. ألا يكون هناك أي شيء على الإطلاق، هو أمر مستحيل بالتمام.

لذا لا يسعنا التفكير في الكائن على أنه غير كائن على الإطلاق أو في أي مكان… نتيجة لذلك، هذا الكائن الأزلي واللامحدود، يجب بالضرورة أن يوجد لأنه لا يمكننا التفكير فيه بأنه غير موجود؛ والبرهان الأوحد الأخير والحاسم لوجود أي شيء، هو أنه لا يسعنا التفكير فيه على الإطلاق بأنه غير موجود[19].

هم يستخلصون أن هذا الكائن الضروري هو الله، هذا هو جوهر حجتهم.

أنا أفترض أن أول وأبسط شيء بالإمكان قوله بخصوص حجتهم، بمعزل عن حقيقة كون هكذا إله هو وثن، لأن لا شيء مذكور عن ثالوثه، هو أنها ساذجة. لأنه ما لم يكن قد فاتني شيء ما، أنا شخصياً، وفي ظني العديدين معي، بوسعنا فعل بالتحديد ما يصرون هم على أنه لا يمكن فعله، أي “التفكير [بمعنى تخيل] في الكائن على أنه غير كائن على الإطلاق أو في أي مكان”.

وحسب الظاهر، المدافعون “الليغونيه” أنفسهم لديهم أيضاً فكرة عما هو غير كائن؛ وإلا اللفظة كما يستخدمونها تكون خالية من أي معنى، وكلامهم لا يعبر عن شيء له معنى. “جون فرايم” يثير بدوره اعتراضاً على هذه الحجة:

غير أنه هناك اعتراض واضح على هذا، لا يأتي الكتاب حتى على ذكره. فمهما كانت عليه لا محدودية الكائن، تمتد فكرتنا المختصة بالكيان لتشمل الكائنات المحدودة أيضاً. لذا، إن كان الكائن إلهياً، ففي هذه الحال تكون الكائنات المحدودة جزءًا من ذلك الكائن الإلهي.

بكلام آخر، الحجة من دون إدخال بعض التعديلات عليها، تبرهن مذهب وحدة الوجود. كما أن الحجة يفوتها جعل أي تمييز بين صنف “اللامحدودية”، “الأزلية”، “الوجود في كل مكان”، إلخ. المنسوبة إلى إله وحدة الوجود، والخصائص المختلفة تماماً (مع أنها تلفظ بالطريقة نفسها) كما هي معلنة في الله، إله الأسفار المقدسة[20].

الحجج التجريبية

ولا أنا أعترف بوجود الله على أساس الحجج التجريبية أو الاستقرائية لمنهج اللاهوت الطبيعي[21]. كل الحجج التجريبية للاهوت الطبيعي (والمفسرة منهجياً[22]) على وجود إله، تكتفي فقط ببرهان وجوده، ولا تذكر أي شيء يختص بطبيعته. ويبدو أنه بالإمكان اختصار كل هذا بالحجة الكونية او بصيغ مختلفة لها[23]. هذه الحجة التي تتجاهل التثليث عند الله، الأمر الذي لا يجوز أبداً حصوله، تفترض خمسة أمور، على الأقل، لا ينبغي افتراضها، بل لا يمكن ذلك، بل يلزم برهانها لكي تصبح الحجة مقبولة:

  1. صحة نظرية المعرفة على الفلسفة التجريبية نفسها.
  2. وجود معيار تجريبي لإقصاء أية معلومات حسية غير مرغوب فيها.
  3. صفة “النتيجة” التي تطبع الكون.
  4. صحة علاقة السبب والنتيجة.
  5. استحالة حصول تراجع سببي لا محدود.

يفترض تثبيت صحة هذه المسائل وبرهانها (مع العديد سواها التي يجب مخاطبتها في الطريق)، انخراط المسيحي في عملية محاججة عويصة ولا تعرف أية نهاية لها. كما أن بروز أي خطأ عند أية نقطة في إطار تسلسله المنطقي، سوف يبطل مجهوده الذهني بأكمله. سأسهب في الكلام عن هذا من خلال تناولي النقاط العشر التالية:

أولاً، تثبيت صحة نظرية المعرفة التجريبية، كما يبدو لي، يستلزم أن يصار إلى تتميمها تجريبياً، فالتجريبيون المؤمنون بأن عالماً من “الحقائق الخام” هي “حقاً هناك” من أجل دراستها، وفهمها، و”عقلنتها” للمرة الأولى، يحثون على اكتساب المعرفة من طريق الأسلوب الاستقرائي للعالم – الملاحظة، وتكوين فرضيات، إجراء اختبارات، ومن ثم استنتاج خلاصات من هذه الاختبارات. هم يرضون بعملية كهذه تزود البشرية ببرنامج لاكتساب الحقائق الكونية الضرورية للحصول على المعرفة.

لكن، وإلى جانب حقيقة وجود آلاف الافتراضات المسبقة المتضمنة في المنهج الاستقرائي، على الذي يتبع بانتظام المنحى التجريبي لبلوغ المعرفة، التخلي عن العديد من الادعاءات بالمعرفة التي كان سيقوم بها من دون تردد لولا ذلك، أو يجد سبيلاً للتغلب على الاعتراضات التي يثيرها “جون م. فرايم” مع آخرين سواه، ومفادها أن:

…. التجريبية لا يمكنها تسويغ حقيقة مطلقة عامة، من صنف “كل الناس مائتون”…. وليس بوسعها تسويغ أية تصريحات عن المستقبل…. ولا يمكنها تسويغ أية تصريحات تتعلق بالقيم الأخلاقية [ذلك لأنك لا تستطيع أبداً الانتقال من “واقع” تصرفنا إلى ما “ينبغي أن يكون عليه” هذا التصرف – مؤلف هذا الكتاب].

من هنا، ليس بوسع التجريبية تسويغ التجريبية. ذلك لأن التجريبية هي نظرة إلى السبيل الذي ينبغي لأحدهم اعتماده (“ينبغي” أدبية ethical) لتسويغ معتقداته. كما أننا لا يسعنا. على أساس تجريبي، انطلاقاً من الاختبار الحسي تسويغ الحقيقة المطلقة ومفادها أنه ينبغي لنا تسويغ معتقداتنا بهذه الطريقة[24].

لذا، أولئك الذين يبدؤون من الاختبار الحسي، إنما يستعيضون بذلك عن بديهية الإعلان الكتابية المعصومة عن الخطأ ببديهية الحس الدنيوية. هؤلاء يفوتهم إدراك كيف أن بداية كهذه لا يمكنها تزويدنا بأية معرفة على الإطلاق. إلى ذلك، إن كان الله عصياً على التعليمات التجريبية بقصد تفحصه، فهو لكونه روحاً بحتاً بكل تأكيد بحسب التعليم المسيحي، من غير الممكن رؤيته، أو لمسه، أو تذوقه، أو شمه، أو سماعه، أو الإقدام على قياسه بأي شكل من الأشكال. من هنا، فإن المسيحي الذي يرتكز على الدلائل، بما أنه تجريبي، عليه برهان كيف أن تجريبيته هذه، لا تنفي منذ البداية البلوغ إلى أي وإلى كل الادعاءات بمعرفة الله، إله المسيحيين المثلث الأقانيم.

ثانياً، على المسيحي المستند إلى البراهين، مواجهة أيضاً حقيقة أنه ما إن يرتكز أولاً على المعلومات الحسية الخام كدليل على وجود الله، حتى لا يعود بوسعه استثناء أي من هذه المعلومات الحسية وعدم أخذها بعين الاعتبار ما لم يتمكن من عرض معيار تجريبي لحذف تلك المعلومات الحسية التي لا يبغي النظر فيها. وأنا شخصياً لم أر قط أحداً يعرض معياراً كهذا.

وبما أن المعلومات الحسية بحد ذاتها، تشمل الطبيعة التي لا يبدو عليها أنها في حرب مع الجنس البشري وحسب، الأمر الذي يتجلى من خلال ما يبذله هذا الأخير من جهود للبقاء على قيد الحياة، بل طابع العنف يظهر أيضاً على صعيد هذه الطبيعة نفسها من خلال مخالب الوحوش فيها وأنيابها. كما أن المعلومات الحسية تتضمن أيضاً الشرور التي شهدها التاريخ. فـ “هتلر” قضى على عدة ملايين من المسيحيين واليهود بالغازات السامة، و”ستالين” قتل عدداً أوفر من الأوكرانيين”.

“ماو” ذبح بدوره ثلاثين أو ربما خمسين مليون صيني، وكاد يبيد سكان “التيبت” عن بكرة أبيهم. وبالطبع، ظهر على مسرح التاريخ “جنكيز خان” و”إيفان الفظيع”، و”أتيلا الهوني”، ناهيك أيضاً بحصول الكوارث الطبيعية بشكل متكرر، من صنف الطوفانات، والقحط، والأعاصير، والحرائق، أو ولادة أطفال ذوي عاهات وراثية أو مرضى.

بكلام آخر، تقحم المعلومات الحسية معضلة الشر من ضمن البحث. لكن أضف هذه الاختبارات الحسية إلى النتيجة المختبرة لحركة الكُلة بحسب توما (راجع “سبيله الأول”) وانظر ماذا حل بالحجة التي تحاول برهان وجود الله الواحد الحقيقي على أساس المعلومات التجريبية وحدها.

الراعي/ اللاهوتي الطهوري العظيم “جوناثان إدواردس” الذي يعد بمثابة “القديس الشفيع” لمعشر المدافعين “ليغونيه” في سعيهم لإعادة إحياء في أيامنا علم الدفاع المبني على الدلائل. لمس بوضوح سخافة المنطق البشري العامل بمعزل عن الإعلان الخاص، في محاولته برهان وجود الله، من المعلومات الحسية فقط. وبالتحديد انطلاقاً من وجود الشر في الكون:

لا يمكنني القول إن كان أحدهم سيعتبر أعمال الخلق بمثابة نتائج، في حال لم يخبره أحد بوجود مسبب لها… لكن لدى تسليمنا بأن بمقدور كل إنسان أن يبرهن لنفسه أن العالم وكل ما فيه هو نتائج، وكان له بداية، الأمر الذي اعتبره سخيفاً إلى أقصى الحدود، وأنا أرى أنه من المستحيل تقريباٌ[25] على المنطق البلوغ إلى هكذا حدود من دون مساعدة؛ لكن، إن كان من الضروري نسب النتائج إلى مسببات مشابهة، وعلى النتيجة الصالحة والحكيمة افتراض وجود مسبب لها صالح وحكيم أيضاً، في حال اعتمدنا نمط التحليل نفسه، يصبح من الضروري نسب كل شر وشذوذ في العالم إلى مسبب شرير وغير حكيم.

وعليه، يجب أن يكون المسبب الأول صالحاً وشريراً، وحكيماً وجاهلاً في آن. وإلا من الضروري وجود مسببين: مبدأ شرير ولاعقلاني، إلى جانب مبدأ آخر صالح وحكيم. لذا، من شأن الإنسان المتروك لنفسه تحليل الأمور على الشكل التالي: “إن كانت المسببات والنتائج متشابهة ومتلائمة، فمن الضروري أن يكون للمادة مسبب مادي. في هذه الحال، ليس ما يبدو مستحيلاً أكثر من تخيل كيف باستطاعة المادة أن تكون وليدة الروح، أو أي شيء آخر ما خلا المادة”. إن أفضل محلل في العالم، في سعيه لاكتشاف المسببات وراء الأشياء، من خلال الأشياء نفسها، قد يجد نفسه وقد انقاد إلى اقتراف أفظع الأخطاء والتناقضات، لكي يجد نفسه في نهاية المطاف بأمس الحاجة إلى مدرس[26].

ثالثاً، صفة “النتيجة” لدى لصقها بالكون، يجب برهانها بمعزل عن افتراض، أولاً أنها نتيجة بما أن هذه الخاصة للكون، تشكل جزءًا رئيساً من المسألة موضوع البحث. بمعنى أنه يلزم المسيحي المعتمد على الدلائل أن يبرهن أولاً تجريبياً، أي انطلاقاً من المعلومات الحسية الخام، أن الكون ككل، شهد لحظة أولى قبل أن يكون بوسعه الشروع في التساؤل عن مسببه الأول.

لكن، إن أردنا تناول الأمر بصراحة، ما من تجريبي تمكن قط من ملاحظة الكون ككل. ذلك لأن ملاحظة أجزاء الكون فقط، لا يمكنها تزويده بهذه المعلومة الضرورية، بما أن الكون ككل قد يختلف بشكل أساسي عن مجموع أجزائه المكونة له.

رابعاً، تقترف الحجة الكونية، في نظري، المغالطة المنطقية المعروفة بـ (بتيسيو برنسيبي) (“المغالطة التي بموجبها تتضمن الفرضيات الادعاء بأن الخلاصة هي صحيحة”). ذلك أولاً من خلال نفي منذ البداية حصول أي تراجع سببي غير محدود كشيء من المحال، بما أن هذا لا يترك أي مكان لوجود مسبب أول. وثانياً، من خلال “جزم النتيجة”، أي بتأكيد أو الاكتفاء بعرض – من دون برهان – وجود الله بصفته المسبب الأول الذي يفسر وجود كل مفسر لاحق.

كما أنها ترتكب مغالطة منطقية أخرى من خلال إصرارها على كون هذا المسبب الأول في جوهره مختلفاً بالتمام (لا محدود، فوق الطبيعي، لا مسبب له، غير تجريبي) عن جوهر كل المسببات الثانية الأخرى التي تستند إليها لوجودها (محدودة، طبيعية، لها مسبب، تجريبية) بما أن في الأمر انتهاكاً للمنطق، أن ننسب إلى مسبب أية خصائص فوق تلك الضرورية لتفسير النتائج.

خامساً، الحجة الكونية، كما هو التقليد المتبع في صياغتها، هي في الشكل حجة استقرائية، وعليه تدعى بأنها حجة مبنية على الاحتمالات[27]. بالطبع، بمعزل عن الإيمان المسيحي بالله، إله الكتاب المقدس، فإن هذا العالم حيث الكلمة الأخيرة فيه هي للحظ، ما يجعل حتى مفهوم الاحتمال نفسه خالياً من أي معنى. وفي الواقع، لسنا هنا سوى أمام حجة إمكان حصول شيء ما والتي تبقى بعيدة كل البعد عن البرهان اليقيني أو الأكيد.

إنها بفعلها هذا، بالجهد تنصف المعلومات المبنية على الدلائل والتي يعرف المسيحي أنها تتضمن الإيمان بالله، إله الكتاب المقدس، وفيها معلومات ذات الصفة الإعلانية، وتشير إلى الله، بما لا يرقى إليه أي شك. فبموجب الحجة الاستقرائية، تعتمد هذه المعلومات الإعلانية والمبنية على الإيمان بالله، إله الكتاب المقدس، بطريقة توحي في أفضل حالاتها بخلاصة ممكنة، أما الحجة التي تحط من قدر المعلومات الإعلانية جاعلة منها مجرد “معلومات خام”، لا تشير في أفضل حالاتها سوى إلى إمكانية وجود الله، هي حجة طابعها الارتداد، ولا يجوز للمسيحيين استخدامها أو دعمها.

وكما هي الحال مع الحجة الوجودية، يعرض المدافعون “ليغونيه” صيغتهم الخاصة بهم للحجة الكونية، والتي – بحسب ادعائهم – تتغلب على معضلة الإمكانية (أو الاحتمال) هذه. هم يبدؤون بتأكيد أن لكل نتيجة، بحسب تعريفها، مسبباً سابقاً لها. والعالم ليس بوهم، ولا خلق نفسه بنفسه. إن كان موجوداً بحد ذاته، أي إن وجوده لم يحصل بشكل طارئ أو عرضي، فإنه يكون في الواقع متسامياً، ونحن نكون بذلك قد وجدنا “الله”.

وفي حال كان العالم وليد الحظ والصدفة، وبما أن تراجعاً لا محدوداً لمسببات سابقة ناتجة من طريق الصدفة (كما يؤكدون) هو أمر لا يمكن تخيله، عليه في هذه الحال أن يكون نتيجة كائن له وجود بحد ذاته لكنه يعتمد لوجوده على شيء غير مؤكد. ومرة جديدة، نكون قد برهنا وجود الله، بل في الواقع في أفضل الحالات وجود إله[28]. كما هي الحال مع الحجة الوجودية، عند “جون فرايم” شيء يقوله حول هذه الحجة:

لعل أكثر ما يستوقفني هنا، هو… كون المؤلفون يفوتهم بوضوح نفي احتمال وحدة الوجود كأمر بديلي، بمعنى أن الكون هو إله لنفسه. تقريباً، كل ما بوسعي العثور عليه في هذا الكتاب في معرض الرد على هذا الاعتراض، هو جملة واحدة: “(الله) هو شخصي بما أنه المسبب المنتشر والمتغلغل في كل الأشياء بما في ذلك القصد والبعد الشخصي” [123]. لكن ليس من الواضح بأي شكل من الأشكال أن على الكائن أن يكون بحد ذاته شخصياً حتى يكون المسبب وراء الشخصية[29].

إلى ذلك، ليست المسألة هنا ببساطة كونه من غير الممكن تصور حدوث سلسلة لا محدودة من المسببات السابقة ذات الطابع العرضي. فلا شيء غير منطقي في هكذا مفهوم. “ج. أوليفر بوسول، الابن” الذي يكن كل التقدير للحجج المبنية على الإيمان بالله، إله الكتاب المقدس، في كتابه Systematic Theology (“اللاهوت النظامي”)، يعرض هذا الإقرار في محله:

 علينا التخلي عن فكرة كونه من المستحيل تصور حصول تراجع لا محدود للمسببات. لكن نقيض ذلك، هو الذي يبقى من الصعب تخيله. أما التصريح بضرورة أن يكون هناك لكل حدث مسبب، الأمر الذي يحتم وجود حدث ما في البداية بلا مسبب، فهذه المحاججة هي مغالطة واضحة. … ليس هنا أي أساس للقول إنه من غير الممكن أن تكون قد وجدت سلسلة لا محدودة من الكائنات العرضية…

إن الزعم أن المشروط يستلزم ما هو مطلق وغير مشروط يعد… مغالطة… فما من سبب منطقي يحول دون أن يكون الكون بأكمله وليد أحداث عرضية وطارئة معتمدة بعضها على بعض[30]. من هنا، لست مقتنعاً من كون المدافعون “ليغونيه” قد نجحوا في برهان قضيتهم.

إلى ذلك، يصر هؤلاء المدافعون على تجنبهم مسيحية من المحتمل فقط أن تكون حقة بالتمام، وهم يستميتون في ذلك كما هي حال المدافعين الذين يرون في الإيمان المسيحي المبني على الإعلان الإلهي الأساس الأوحد للتفكير العقلاني. (على المسيحية، في نظرهم، أن تكون حقة بكل تأكيد؛ وإلا وجد في ذلك الناس عذراً وذريعة لعدم الإيمان).

لكنهم، وفي رفضهم أن يكونوا في مصاف الذين يعتمدون على الإعلان الإلهي لبلوغ هذا اليقين المنشود، هم يعتمدون كالأساس للاهوتهم الطبيعي على “افتراضات كونية وضرورية” أكيدة، من صنف قانون عدم التناقض، وقانون السببية، وما ينعم به الإدراك الحسي من موثوقية مبدئية.

هم يؤكدون أنه من غير الممكن التنكر لهذه بشكل ثابت ومنتظم، كما أنه يبدو لهم في مستهل بحثهم عن الله والحق، أنها أكيدة بشكل غير قابل للمساومة، حتى أكثر من الله نفسه. هذه الافتراضات، إلى جانب أي وكل ما تشير إليه ضمناً (هم يعتمدون على إحداها في معرض سعيهم لتبيان وجود الله، إله المسيحيين)، يجب النظر إليها بصفتها أكيدة.

لكن تأسيس اليقين المسيحي على افتراضات تعتمد منطق “الحياد” كما يظن هؤلاء المدافعون أنهم فاعلون، ليست مسيحية بشكل مميز بمعزل عن النظرة المسيحية إلى الأمور. كما أنه بالنسبة إلى الإدراك الحسي، بإمكانه بل غالباً ما يكون غير أهل للثقة، لذا يحق لنا أن نسأل كيف بمقدور افتراضات كهذه أن تشير ضمناً بشكل منطقي إلى أمور كونية، بل تفرضها، وكم بوسعها أقل من ذلك الإشارة إلى النظرة المسيحية إلى العالم؟

هل يمكن أنه يحصل على الطريق شكل من أشكال “الخداع” الذهني (أنا أعني بذلك وجود افتراض مسبق غير متعمد للنظرة المسيحية)؟ وفيما يدعي هؤلاء الدارسون أن حجتهم عن الله هنا، هي بمعنى من المعاني، “متسامية”، أي أنهم يعرضون افتراضات يزعمون أنها ضرورية للحياة ولإمكانية اكتساب المعرفة[31]. استنتاجهم الأخير والحاسم هو الله، كما يقولون.

في اعتقادي أن خلاصاتهم هي محفوفة بمشكلة الريب وعدم التأكد، هذه المشكلة التي لم تتمكن أنظمة الدفاع التجريبية من التغلب عليها، نظراً لمحدودية المعرفة التجريبية التي سبق لنا أن تناولناها، وبما أنه لا يمكن، بشكل خاص، الإركان إلى الإدراك الحسي. حقاً، لأنه غالباً ما لا يكون أهلاً للثقة.

سادساً، المنحى الكامل لمنهج اللاهوت الطبيعي، يعامل الناس (على الأٌقل، بعضهم) وكأنهم “محايدون” بخصوص وجود الله. “إنهم ببساطة يعملون ويتحركون بموجب الطبيعة البشرية”[32] وكأنهم منفتحون على – بل في حاجة إلى (بالنسبة إلى بعضهم على الأقل) – برهان وجود الله لهم. لكن الأسفار المقدسة تعلم ما هو خلاف ذلك – كون الناس ليسوا في حاجة إلى برهان خالقهم لهم.

فهم على علم من قبل، بنسبة ما على صعيد الوعي أو اللاوعي عندهم، بأن الله موجود لكنهم لا يمجدونه لكونه الله، ولا يشكرونه، حتى إنهم بلا عذر أمامه (رومية 1: 20 25، 32؛ 2: 14، 15)[33]. وهكذا بعيداً عن كونهم محايدين، يفعلون الآن كل ما بوسعهم، بما أن طبيعتهم الآن هي التي تملي عليهم ذلك، لحجز تلك المعرفة، جالبين عليهم من جراء ذلك الغضب الإلهي (رومية 1: 18).

سابعاً، يدعو الله، إله الأسفار المقدسة جميع الناس إلى “افتراضه مسبقاً” في كل تفكيرهم (خروج 20: 3[34]؛ أمثال 1: 7). لكن البدء في معرض طلبنا للمعرفة، على غرار المسيحي الذي يرتكز على الدلائل، ليسم ن الله كمعيارنا النهائي ونقطتنا المرجعية الأساسية لكل إعلان بشري (لتجنب الوقوع بأي ثمن في دوامة المنطق الدائري)، لكن إما في غياب أية معايير على الإطلاق، وإما مع المعايير “المؤقتة” لغير المسيحي، مع النظر إلى الحقائق كمجرد “حقائق غاشمة، وغير مفسرة”، فهذا:

يعرض استثناء على 1كورنثوس 10: 31، بحيث أنك في مستهل طلبك للمعرفة، لست في حاجة إلى التفكير “لمجد الله”؛ بوسعك تسويغ التفكير لمجد أي شيء/ شخص آخر[35].

غير أن بداية كهذه هي غير مطروحة بالنسبة إلى المؤمن المصلح، من في نظره “مخافة الرب هي بداية الحكمة”.

يعد “بنجامن ب. وارفيلد” مثالاً صارخاً على الذين أذنبوا من خلال شروعهم في دفاعهم عن المسيحية من المكان المغلوط. ففي سياق “ملاحظته التمهيدية” لكتاب “فرانسيس ر. بيتي” Apologetics (“علم الدفاع”)، يكتب ما يلي:

قبل استخلاصنا ذلك من الأسفار المقدسة، يجب أن نتأكد لأنفسنا من وجود معرفة بالله في الأسفار المقدسة. وقبل إقدامنا على ذلك، يجب أن نتأكد لأنفسنا من وجود معرفة بالله في العالم. وقبل إقدامنا على ذلك، يجب أن نتأكد لأنفسنا من كون معرفة الله هي متاحة للإنسان. وقبل إقدامنا على ذلك، يجب أن نتأكد لأنفسنا من وجود الله لكي نتعرف به[36].

هنا، يدعو “وارفيلد” إلى بناء لاهوت طبيعي كامل بالتمام بواسطة المنطق البشري (الخاطئ). لكن، إن كان بمقدور الناس بحد ذاتهم التأكد لأنفسهم من كل هذا – كون الله الواحد الحي والحقيقي موجوداً، وأن بمقدور الناس التعرف به، وكونه قد أعلن ذاته في العالم، وقد فعل ذلك بشكل مؤكد للغاية من خلال الأسفار المقدسة العبرانية – المسيحية – بحيث يؤكدون لأنفسهم كل هذا قبل أن يستخرجوا أي شيء من ذلك من الأسفار المقدسة، من الشرعي أن نسأل إن كانوا في حاجة على الإطلاق إلى أي إعلان كتابي؟

ألا تكون “ديانتهم” في هذه الحال مؤسسة على مجهوداتهم، هذا النصب التذكاري الذي يشيد بمدى ذكاتهم؟ الرئيس “إدواردس”، ومن خلال تعمقه أكثر فيما تحتاج إليه البشرية من تحليل للأمور من زاوية الإيمان بالله الذي أعلن ذاته يكتب ما يلي:

التفكير بشكل منطقي ومنهجي، في غياب …النور الروحي، لن يتيح أبداً لأحدهم امتياز رؤية الأمور من زاوية علاقتها الصحيحة بالأشياء الأخرى، وبالأشياء على وجه العموم… فالإنسان الذي ينطلق من معرض تحليله للأمور في غياب النور الإلهي، هو أشبه برجل يدخل في قتام الظلام بستاناً مملوءً نباتات جميلة ومرتبة بموجب أفضل الأساليب الفنية، ليقارن بين الأشياء من خلال انتقاله من شيء إلى آخر، وتلمسها لإدراك جمالها[37].

بالنسبة إلى المسيحيين الذين يتكلون على الدلائل، إن تحليلاً كهذا يصطبغ بالتحرك ضمن دائرة. وهذا التحليل الدائري، يشكل في نظرهم الأمر المرعب والفظيع الذي ينبغي تجنبه بأي ثمن. وهنا موضوع انتقادهم الرئيس لما يعرف اليوم باسم “علم الدفاع المبني على فرضية كون الإيمان المسيحي المبني على الإعلان في الكتاب المقدس، يبقى الأساس الأوحد للتفكير العقلاني”، (هذا مع كوني أفضل أن أطلق على هذا ببساطة صفة “علم الدفاع الكتابي”).

فالفرضيون، في نظرهم، “يفترضون مسبقاً” خلاصاتهم عوضاً عن برهانها، مع إصرارهم أيضاً على ضرورة أن يحذو غير المؤمنين حذوهم في ذلك. لذا، فالكنيسة – بحسب المعتمدين على الأدلة – هي متروكة من دون أي دفاع عن معتقداتها.

حرص المعتمدين على الدلائل، على عدم ترك الكنيسة بلا دفاع، يشكل بالطبع أمراً مشروعاً ويستحق الثناء. لكن الفرضيين أو “الكتابيين” لا يؤمنون بأنهم يتركون الكنيسة في هذه الحالة، كما يتهمهم بذلك المتكلون على الدلائل. بل على نقيض ذلك، هم يؤمنون أولاً بأن الذي يرتكز على الدلائل، هو الذي يترك الكنيسة تتخبط في تلك الحالة. بما أن الكنيسة تترك على أساس المعتمد على الدلائل، من دون أي سلطة أكيدة في المطلق.

وثانياً، يبقى المدافع الكتابي هو الذي يعرض وحده دفاعاً صحيحاً عن الإيمان المسيحي، هذا الدفاع الذي لا يساوم فيه في الوقت عينه على “الطابع الإلهي” لله الواحد الحي والحقيقي. وعلى ثالوثه، وعلى الأسفار المقدسة التي تصادق على نفسها بنفسها. كلمة توضيح وشرح لهذا المنحى الدفاعي هي في محلها. إنها في جوهرها بسيطة جداً فعلاً.

لدى إدراكنا أن لا أحد يقترب من مسألة ما وهو محايد، يستخدم الذين ينطلقون من الفرضيات المسبقة اللفظة “فرضية مسبقة” بالمفهومين المجرد والشخصي. هذه اللفظة، بمعناها المجرد، تشير إلى الأساس المتسامي الحالي للبعد الكوني وللوضوح الذي يمكن من الفهم، أي إلى الله المثلث الأقانيم. أما بحسب المفهوم الشخصي، فهي تشير إلى أكثر الالتزامات الأساسية على الصعيدين القلبي والشخصي لدى الإنسان.

هذا الالتزام ينعم (1) بأعظم سلطة على صعيد تفكر الفرد، بما أنه المعتقد الأقل قابلية للتفاوض حوله من ضمن شبكة معتقدات الشخص. و(2) هو الذي يشهد أعظم قدر من المناعة حيال مراجعته وإعادة النظر فيه.

إذاً، فيما يخص الالتزام الأخير، إن كان أحدنا منسجماً مع ذاته، فالخلاصة المقصودة من أسلوب المحاججة التي يعتمدها، ستشكل أيضاً المعيار أو الفرضية المسبقة التي تتحكم بالسبيل الذي يعتمده أحدهم في معرض المحاججة للبلوغ إلى تلك الخلاصة. وإلا لا تبقى الخلاصة المقصودة بمثابة الالتزام الأخير لأحدهم على الإطلاق. لكن شيئاً آخر يحل مكانها. بالنسبة إلى المسيحي الذي ينطلق من فرضيته المسبقة بإيمانه بالله وبالإعلان الكتابي، “يتطابق المفهومان، بما أن التزامه الأساسي هو ولاؤه لله الذي يشكل فعلاً الأساس لكل وضوح كوني يمكن من الفهم”[38].

المدافع الكتابي، انطلاقاً من إيمانه بأن “مخافة الرب رأس المعرفة” (أمثال 1: 7)، ومن كون المسيح هو “المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (كولوسي 2: 3)، وبالتالي فإن الله المثلث الأقانيم (و/ أو المسيح الشاهد عن نفسه بنفسه) هو الأساس المتسامي لكل معنى، ووضوح قابل للفهم، ومناداة. يؤكد هذا المدافع أن حق كلمة الله التي تصادق على نفسها بنفسها، كما استحالة ما هو نقيض ذلك[39]، من الضروري افتراضها مسبقاً منذ البداية وحتى النهاية في سياق شهادة المدافع.

وهكذا انطلاقاً من اقتناعه الراسخ بأن الأسفار المقدسة هو إعلان الله الأكيد واليقيني، هو يرفض تناول أية مسألة لها علاقة بالأسفار المقدسة وبالإنجيل، وكأنها موضوع شك، فعلى كل حال، ليس الله هو المذنب الذي يحاكم؛ بل هذا يصح على الناس. كما أن خلق الله وكلمته، ليسا هما موضوع التشكيك، إنما خلق الإنسان مع كلامه (أيوب 40: 1، 8؛ رومية 3: 4؛ 9: 20). ولا يفوتنا كون “هذا عالم أبيه السماوي هو”.

وعليه، لا يعود المسيحي في هذه الحال هو المنوط به تبرير وجوده في العالم، بل يلزم جعل غير المسيحي يشعر بثقل ضرورة تبرير آرائه غير المسيحية في هذا العالم المسيحي، المبني على الإيمان بالله الذي أعلن ذاته في الكتب المقدسة.

يؤمن المدافع “الكتابي” بأن نشره للإيمان كما دفاعه عنه، عليه تأديتهما بشكل ينسجم مع التزامه الأسفار المقدسة بشكل جوهري، لئلا يفقد ذلك فعاليته وتماسكه. وعليه، لا يؤمن بأن بوسعه إدخال أي تحسين على الرسالة بجملتها، التي كان الله قد أمره بضرورة توصيلها إلى أناس ساقطين.

وإذ يأخذ بكل جدية كل ما تقوله الأسفار المقدسة عن عجز البشر الساقطين عن فهم أمور الروح القدس (1كورنثوس 2: 14؛ راجع أيضاً رومية 8: 7-9؛ أفسس 4: 17، 18)[40]، إنه يتكلم رسالة الله (ويحاجج لأجلها) لا مع ما يعرف “بالشخص العقلاني والمحايد” الذي يدعي بأنه يقف أمامه (هذه هي الفرضية المسبقة المغلوطة التي يراعيها الإنسان الساقط عن نفسه)، بل مع العميان روحياً، والعدائيين روحياً والأموات روحياً الذي يصرح الله بأنهم يقفون أمامه.

وهو يقدم على ذلك واثقاً بأن روح الله العامل من خلال كلمة الله ومعها سوف يجدد أولئك المختارين لكي يدعوهم إليه. متى قام المرتكز على الدلائل ليعترض على كون المدافع الكتابي يكتفي “برمي صخور الإنجيل على رأس غير المؤمن”، وعلى إصراره أن يقبل غير المؤمن المعايير الكتابية لتفحص الحق، ومتى أعلن من جهة أخرى أن الثقل موضوع على المسيحي لكي يبرهن عقلانياً وتجريبياً وجود الله من طريق البراهين الكلاسيكية، يرد عليه المدافع “الكتابي” غير المتهيب والشجاع أنه يترتب عليه مواصلة اعتماد هذا المنحى، وذلك على غرار الطبيب النفساني الذي يلزمه مواصلة اعتماد المنطق مع المريض العقلي مع كونه لا يزال يعيش في عالمه المليء بالفوضى والتشويش، وفي ظنه أن الطبيب المعالج هو الفاقد عقله.

كما أنه يذكر المعتمد على الدلائل بأن الأسفار المقدسة لا تحاول أبداً برهان وجود الله، لكنها تفترض باستمرار العقائد المختصة بالله، والإنسان، والخطيئة، والفداء. المدافع “الكتابي” من خلال افتراضه مسبقاً الإيمان بالله الذي أعلن ذاته في الكتاب المقدس، إنما يتبع بذلك ببساطة مثال الأسفار المقدسة نفسها. بكلام آخر، إن كان الكتابيون يرتكزون على الإيمان وحده، بمعنى افتراضهم مسبقاً حق الكتاب المقدس، يصبح من الممكن وصف الأسفار المقدسة على أنها هي أيضاً ترتكز على الإيمان وحده.

يسر المدافع “الكتابي” بالطبع، في معرض محاججته مع غير المؤمن، أن يستخدم كل المعلومات الكتابية مع انعكاساتها على الطبيعة والتاريخ بصفتها دلائل (مفسرة إلهياً من قبل) على مصداقية الموقع المسيحي (وهذا الدليل مقتدر حقاً كما سبق لنا أن رأينا في النصف الأول من هذا الكتاب)[41]. لكنه لا يقبل أبداً بحياد سابق للتدين في معرض تقصي الدليل ولا يرى في الدليل سوى معلومات غاشمة أو غير مفسرة.

ليس هو على استعداد لمجاوبة “الجاهل الكتابي” (أي غير المؤمن) بموجب جهله، بمعنى أنه لن يحاجج في مسألة الإيمان المسيحي بالله الذي أعلن ذاته في الأسفار المقدسة، من منطلق الاختبارات التي يخضع غير المؤمن الحق لها من زاوية نظرته الخاصة به إلى العالم وإلى الحياة، وذلك لكي “لا يعادل الجاهل” (أمثال 26: 4).

لكن، متى “جاوب الجاهل حسب حماقته”، فإنه يقدم على ذلك فقط من قبيل شن هجوم على شخص غير المؤمن، بقصد إظهار له عدم القدرة على فهم هذا العالم بمعزل عن الله، مع النتائج المأساوية التي تترتب على عيشة هذا بانتظام بموجب نظرته إلى العالم هذه بعد أن حذف الله منها. (ذلك لأن ما من شخص غير مؤمن، كما حاجج “فرانسس شايفر” عبر السنين، يعيش أو بمقدوره العيش بانتظام بموجب نظرته هذه إلى العالم المناهضة لله). يقدم المدافع الكتابي عن هذا للحؤول دون أن يصبح غير المؤمن” حكيماً في عيني نفسه” (أمثال 26: 5).

يتمنى المدافعون “الكتابيون” لو يدرك المدافع المعتمد على الدلائل كيف أن له هو أيضاً فرضياته المسبقة، على شاكلة جميع الناس، كما أنه هو أيضاً يحلل الأمور بشكل دائري[42]. مثلاً، في الوقت الذي لا يسمح فيه المدافع المرتكز على الدلائل للكتاب المقدس بأن يصادق على نفسه بنفسه، إذ به يفترض مسبقاً (عن خطأ) أنا المعلومات الحسية (الكونية، التاريخية، المقتبسة من علم الآثار، إلخ).

تصادق على نفسها بنفسها[43]، وهو بالتالي يظهر “دوغماتياً” ومتمسكاً بعقيدة الاختبار الحسي على قدر ما يتمسك “الكتابيون” بدورهم بالإعلان. من هنا نجد كيف أن الاعتراض على التفكير الدائري الذي يثيره المعتمد على الدلائل ضد “الكتابي”، في الواقع ينطبق عليه هو أيضاً. لكن نهجه الذي يبدأ من حيث يبدأ، أي من معلومات حسية غاشمة “غير مفسرة”، تمسي غير صحيحة من الزاوية المنطقية من جراء الأسباب التي ذكرناها، وبالتالي لا يمكنها أبداً البلوغ إلى الله الواحد، الحي والحقيقي، أو الحصول على الحقائق.

ثامناً، يعلن الكتاب المقدس بتعابير واضحة وغير مبهمة أن الناس (بمن فيهم أرسطو، و”توما الأكويني” بعد اللذين حاولا، انطلاقاً من معلومات كونية، برهان وجود الله، المحرك الذي لا يتحرك)، لم يتمكنوا أبداً، بدءًا من أنفسهم، البلوغ إلى الله بواسطة منطقهم البشري (1كورنثوس 1: 21)[44]. كما أن مجرد محاولتهم القيام بذلك بحد ذاتها، مع أنهم قد لا يقصدون فعل ذلك عن وعي، إنما يعبر عن تفكير مرتد. إلى ذلك، إنه ببساطة ضرب من التاريخ القبيح، الإصرار على كون هذا قد حصل في وقت من الأوقات. وفي هذا السياق، يكتب الرئيس “إدواردس”:

… من يظن أن بوسعه برهان كون العالم تمكن في وقت من الأوقات من معرفة الله بالحكمة، أو كيف أنه كان بمقدور أية أمة على الأرض، أو أية مجموعة من الناس، أن يكتشفوا الطبيعة الحقة والعبادة الحقة للألوهية، وذلك بالاستناد إلى مبادئ المنطق وحده، ومن دون أية مساعدة من الإعلان، يلزمه العثور على تاريخ ما من العالم يختلف بالتمام عن كل الروايات التي يطالعنا بها كُتاب زمننا الحاضر، في الحقلين الديني والدنيوي على السواء. وإلا كان رأيه مجرد تخمين أو تقدير لما هو بالجهد ممكن. لكن، كل ما يؤكده التاريخ، لم يحصل قد فعلياً في العالم[45].

تاسعاً، ينقل نهج المدافع المرتكز على الدلائل، أساس الإيمان المسيحي لجعله يستند إلى عقائد يثبتها “الاحتمال” المعترف به لمجموعة الدلائل. وبشكل حاسم أكثر إلى مهارة، ودهاء، وفن الجامع البشري للدلائل وليس على حق كلمة الله. بكلام آخر، يصبح عمل الإنسان، لا كلمة الله، هو الأساس الأخير والحاسم للإيمان[46]. لكن بولس يرفض بوضوح أساساً كهذا، عندما يكتب:

وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة، لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله. (1كورنثوس 2: 4، 5).

عاشراً، وأخيراً، لا تنسجم منهجية اللاهوت الطبيعي مع واقع النشاط الدفاعي للكنيسة الأولى، كما يصفه لنا سفر أعمال الرسل. تكفي قراءة سريعة لسفر الأعمال لاكتشاف كيف أن كلاً من بطرس، واستفانوس، وفيليبس، وبولس، لم يقدموا قط في سياق عظاتهم الإرسالية إلى الأمم على حث الناس الهالكين على أي شيء آخر سوى التوبة عن الخطيئة والانحناء بالإيمان أمام الله الذي أعلن ذاته في يسوع المسحي.

لا تحتوي حججهم على أية إشارة ضمنية على أنه كان بالأمر المشروع أمام سامعيهم التشكيك في وجود الله، إله المسيحيين، كما في حق الأسفار المقدسة، أو في تاريخية موت يسوع المسيح وقيامته في الجسد، وذلك قبل إقدامهم على أي التزام شخصي.

لم يقصدوا قط من خلال استنادهم إلى “الدلائل” – مثلاً، الرجل الأعرج الذي شفي (4: 9، 10)، المطر والمواسم المثمرة (14: 17)، المذبح المخصص للإله المجهول (17: 23، 28) – الإشارة ضمناً إلى أن دليلاً كهذا، “من المحتمل” أن يعمل على تأييد رسالتهم. هم نظروا إلى “الدليل” على أنه غير قابل للجدل، وإلى رسالتهم كشهادة حريزة وحصينة للحق. كما أن السلطة وراءها، جعلت من غير المؤمنين والمشككين مذنبين بجعلهم “الله كاذباً” (1يوحنا 5: 10) لدى رفضهم الإيمان. وهكذا عملوا ونشطوا، لا كفلاسفة، بل كـ (كيريغماتكس) أي كمعلنين للحق الإلهي.

يشعر تابع منهاج اللاهوت الطبيعي أنه في ضوء المسافة الشاسعة في الزمان والمكان التي تفصلنا عن المحور التاريخي لنشاط الله الفدائي، لا يجوز الطلب من الناس اليوم الإيمان بالمسيح على أساس سلطة الرسل، قبل أن تتاح لهم فرصة للتأمل لأنفسهم بكل الدلائل، ما هو مع وما هو ضد، الداعمة للادعاءات المسيحية.

أنا لا أمتعض أو أستاء من إقدام غير المؤمنين على التأمل في الدليل الصحيح للمسيحية، بل حقاً أشجعهم على ذلك، لكني أعتبر أن هذا المفهوم مغلوط. ترى، هل يملك غير المؤمن العصري معيارً ما مستقلاً لفحص الأمور يمكنه، بل يلزمه تقرير حق الإعلان المسيحي، وذلك قبل الإيمان؟ لا أظن.

إلى ذلك، هل غير المؤمن العصري الموجود على أية قارة من الأرض، هو في وضع مختلف اليوم عما كان عليه ديونيسيوس الأريوباغي في أثينا في نحو العام 50م؟ لم يكن ديونيسيوس في وضع يسمح له بتفحص مدى مصداقية رسالة بولس على تلة أريوس باغوس، الأريوباغيتيكا.

في حال صح ذلك، من الأسهل علينا اليوم تفحص مصداقية المسيحية لسبب بسيط، مفاده أن في حوزتنا اليوم في الكتاب المقدس شهادات العديد من الرسل، وليس رسولاً واحداً. فالجميع بلغهم الأمر بضرورة التوبة والإيمان بسلطة الشهادة الرسولية. لكن الفارق الوحيد بين ديونيسيوس وغير المؤمن العصري هو أن الأول أصغى إلى بولس شخصياً بينما كتب بولس بعض الرسائل إلى كنائسه باستطاعة غير المؤمن العصري قراءتها أيضاً. لكن الجميع ملزمون أن يؤمنوا برسالة الرسول بما أن المسيح الإلهي والذي يصادق بنفسه على نفسه هو الذي كان قد كلفه بذلك.

إن لم تسر الأمور هكذا، فعلينا في هذه الحال استخلاص أن ديونيسيوس الأريوباغي، الذي آمن بالمسيح ببساطة بناء على شهادة بولس، وذلك قبل إقدامه على إجراء أي تقص تاريخي مباشر لما كان ينادي به بولس، كان هذا الرجل قد أظهر أنه أعظم مغفل وأحمق على تلة مارس في ذلك اليوم من سنة 50م.

(أعمال 17: 22-34)، وأن أكثر الناس فطنة وذكاء هناك، كانوا أولئك الذين قرروا الإصغاء إلى بولس مجدداً في فرصة قادمة! كلا، فالعظات الإرسالية التي ألقاها بطرس، واستفانوس، وفيلبس، وبولس، لم يحثوا فيها قط الناس الهالكين على القيام بأي شيء آخر سوى التوبة والإيمان. ولدى مناقشتهم الأمور، استخرجوا حججهم من الأسفار المقدسة (أعمال 17: 2؛ 18: 28).

هم خرجوا إلى العالم، لا كمختصين في شؤون المنطق أو كلاهوتيين بارعين في الفلسفة، بل كوعاظ وشهود، مقتنعين بأن رسالتهم لا جدل حولها ولا تقهر لجهة مصداقتيها. هم أصروا على كون التوبة إلى الله والإيمان بيسوع المسيح، يعدان الرد الوحيد الصحيح على الشهادة الرسولية. كتب “ج. أ. باكر” عن كل الحجج غير المسيحية لدعم صحة الادعاءات المسيحية:

… كل الحجج لبرهان وجود الله، وكل التفاسير التي تتناول التشابه الجزئي بين الكائنات والتناسب، والإسناد، وكل المحاولات لتكوين مفهوم واضح عن الله، مع كل المحاولات لإظهار انه لأمر طبيعي الإيمان بالله الذي أعلن ذاته في الكتاب المقدس، تبقى ضعيفة من زاوية المنطق. فهي لا تصرح سوى بمجرد إمكانات (لأن الاحتمالات تشكل صنفاً واحداً فقط مما هو ممكن) وهي كلها عرضة للمحاججة ضدها والتي لا تعرف نهاية.

من غير الممكن أن تبدو وكأن لا لبس فيها ولا جدل حولها. وفي حال عرضها بحد ذاتها، لن تقوى على الصمود أمام أي شخص عنده إلمام بشيء من المنطق. كما أن من شأنها الإساءة إلى أي لاهوت يبدو عليه أنه يتأسس على هذه الحجج ويعتمد عليها[47].

أنا أتفق من كل قلبي مع “باكر” مؤكداً مرة أخرى بينما أنهي هذا افصل، ما سبق لي أن أكدته في بدايته. أقصد بذلك إيماني بالله المثلث الأقانيم لكوني مسيحياً آمن بنعمة الله بمجموعة الدلائل، التي لا يرقى إليها أي شك، على المصداقية التي تثبت نفسها بنفسها ليسوع المسيح وربوبيته كما تعلن لنا ذلك الأسفار المقدسة المسيحية.

وباختصار، لدي التزام مسيحي في معرض سعيي لجعل من الكتاب المقدس وحده أساسياً. ولا يحاولن أحد – وبكل تأكيد أي مسيحي، وبالأخص أي مسيحي مصلح ملتزم معايير “وستمنستر” – نعت هكذا التزام إيماني بالإيمان الخالي من المنطق، بمعنى التزام الإيمان المؤسس على لا شيء، أو قفزة إيمان في الظلام.

ذلك لأن إيماني بالله المثلث الأقانيم وبالمسيح الشاهد لنفسه في العهد الجديد، إنما هو ثمر عمل روح الله المجدد في قلبي من خلال ومع الحق المجرد والمعلن لكلمة الله التي تبرهن عن ذاتها بذاتها وتؤكد صحتها بذاتها (الأمر الذي يجب أن يجمع عليه كل المفكرين المصلحين)[48]. كما أن التهمة بأن التزاماً كهذا يتأسس على مجرد التمني، مع أنه لا يقصد ذلك ربما، لا يزال في جوهره ضرباً من ضروب الارتداد التي لن تصمد أبداً، بل لا بد لها أن تتقوض وتنهار أمام دينونة الله.

الآن، كيف عساي أن أرد على من يزعم أن بوسع أي شخص يعبد “بوذا” أن يقول الأمر عينه عما يدفعه إلى الإيمان بديانته وكتبها؟ في معرض ردي عليه، سأعرب له عن سروري بان أستعرض مع البوذي، بكل عناية ولطف، الحجة بأكملها المختصة بالكتاب المقدس مع ما ترتبط بها من مجموعة هائلة من الدلائل الكتابية على مصداقية المسيحية. إنني بذلك، أظهر له أني أملك يسوع الحق فيما معبوده مزيف.

كما أن لدي الإعلان الإلهي الحقيقي والحرفي فيما كتبه مزيفة ومشحونة بالأخطاء. من ثم، سأحثه على ترك البوذية والتحول عنها من أجل الإيمان بيسوع الذي تعرفت به. سوف أقدم على ذلك لأن إعلان حق الأسفار المقدسة له، هو أجدى نفعاُ من الحجج غير المسيحية المزيفة، وذلك من خلال نقلي إليه الحقائق المطلقة التي سيستخدمها الروح القدس للإتيان بالشخص البوذي إلى الإيمان.

علينا ألا ننسى أبداً كيف أن الإيمان الذي يخلص، مصدره الله، وذلك من خلال الروح القدس العامل بواسطة كلمة الله ومعها داخل قلب الخاطئ لتجديد نفسه. يعلن المزمور 65: 4 كيف أن الله يختار إنساناً ما، ثم يجعله يقبل الحق المسيحي. لذا، فإن “غوردن هـ كلارك” هو على حق من خلال إعلانه:

لا يمكن في سياق العمل التبشيري، الاستعانة بأية مواد دنيوية وغير مسيحية أو اللجوء إليها. لكن ثمة لجوء واحد، إنه اللجوء إلى الروح القدس من خلال الصلاة لحمل الخاطئ إلى قبول حقائق الإنجيل. ولك لجوء آخر باطل ولا ينفع.

والآن، إن كان أحد يرغب في الحصول على إجابة مبدئية عن السؤال: ترى، لماذا يقبل أحدهم الإيمان، فيما يرفضه شخص آخر، أو لماذا يقبل واحد كتاب “بوذا” وآخر الكتاب المقدس؟ والجواب هو أن الله هو الذي يجعل أحدهما يؤمن. لكن في أثار أحدهم مسائل أخرى، أو أي اعتراض، يترتب على قراءة الحجة [في كتاب كلارك] من جديد[49].

 

[1] راجع كتابي حول الكمالات الإلهية تحت عنوان

What is God? (Ross-shire, Scotland: Mentor, 2007).

[2] A. W. Tozer, The Knowledge of the Holy (New York: Harper & Row, 1961), 5.

[3] Tozer, The Knowledge of the Holy, 10.

[4] لكن من دون اللقب العبراني إيلوهيم، أو 1يوحنا 5: 7، 8 من النص المستلم. راجع كتابي

A New Systematic Theology of the Christian Faith (Second Edition: Nashville, Tenn Thomas Nelson, 2002), 154, and Bruce M. Metzger, A Textual Commentary on the Greek New Testament (New York: United Bible Societies, 1971), 716-18.

من أجل الوقوف على الأسبا وراء عدم اعتماد هذين النصين كدلائل على الثالوث.

[5] هذا الجانب من التثليث الأرثوذكسي – عقيدة البريكوريزس التي تعد على العموم تعليم اللاهوت الكبدوكي ويوحنا الدمشقي في كتابه

Exposition of the Orthodox Faith, Book IV, Chapter XVIII

هو حيوي بالنسبة إلى الوحدانية الإلهية. أومن بأن هذا الأمر صحيح بالضرورة، وذلك في ضوء حقيقتي كون الله المثلث الأقانيم كائناً إلهياً غير قابل للانقسام، ولأن كل أقنوم يمتلك في ذاته الملء بالكامل، أي الكيان الإلهي غير المنقسم بأكمله (راجع كولوسي 2: 9). لكني لا أظن أن صحة هذا مردها إلى السبب الذي يعرض لها، أي ما صرحه يسوع في يوحنا 10: 38 “الآب فيّ وأنا فيه” (راجع أيضاً 14: 10، 11؛ 17: 21، 22).

كيف كان بإمكان أعداء يسوع المعاصرون له، بمجرد ملاحظتهم أعماله، استخلاص عقيدة التواجد معاً ضمن جوهر واحد لأقانيم اللاهوت. أو تداخلهم المتبادل معاً؟ لكن، كان بإمكانهم استنتاج ذلك من ملاحظتهم أعمال يسوع المعجزية كيف أن خدمته كانت تنسجم مع الإرادة الإلهية، وتنعم بالبركة الإلهية، وكيف أن الله كان بمعنى أو بآخر في اتحاد معه، وأنه كان هو بمعنى أو بآخر في اتحاد مع الله.

لعل تشابهاً جزئياً هنا هو التفسير الذي يعرضه اللاهوت المصلح لحرف الجر “إن” ضمن عبارة بولس إن خريستو وعبارته خريستس إن هيومن (كولوسي 1: 27) حرف الجر هذا عينه، الوارد في يوحنا 10: 38. هل يوجد بين اللاهوتيين المصلحين من يرى أن بولس يتحدث في عبارتيه عن تواجد معاً للأقانيم ضمن جوهر واحد او عن تداخلهم المتبادل؟ ألا يوجد تأكيد دائم على أن هذه العبارات تتحدث عن الوحدانية الروحية الحيوية القائمة ما بين المسيحي ويسوع المسيح؟

فعندما صلى يسوع من أجل كل شعبه “ليكون الجميع واحداً، كما [كاثس] أنك أنا أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا” (يوحنا 17: 21)، هل يوجد بين اللاهوتيين المصلحين من حاجج في أن المسيح كان يصلي لكي يختبر المسيحيون تواجداً معاً للأشخاص ضمن جوهر واحد أو عن تداخلهم المتبادل مع أنفسهم ومع اللاهوت؟

ولدى تصريح يسوع بأن المجد المعطى له من الآب، سيعطيه بدوره لشعبه “ليكونوا واحداً كما [كاثس] أننا نحن واحد” (يوحنا 17: 22)، هل يوجد بين اللاهوتيين المصلحين من حاجج في أن المسيح كان يعلم أن المسيحيين سوف يختبرون تواجداً متبادلاً معاً أو تداخلاً فيما بيهم؟ ألم يعلم اللاهوت المصلح بانتظام أن يسوع كان يصلي لأجل الوحدانية الروحية للكنيسة في القصد، والمحبة، والفعل في هذا العالم، والتي يمكن ملاحظتها؟

[6] Morton H. Smith, Systematic Theology (Greenville, S. C.: Seminary Press, 1994), I, 152.

يؤكد أن الطبيعية الدقيقة لولادة الابن الأزلية ولانبثاق الروح الأزلي “هي بمثابة لغز لنا”. يوافقه هذا الرأي عدد من الكُتاب الآخرين.

[7] Calvin, Institutes, 1. 13.2.

[8] Herman Witsius, The Economy of the Covenants Between God and Man, translated by William Crookshank (Reprint: den Dulk Foundation, 1990; distributed by Presbyterian and Reformed), 1: 52.

[9] Cornelius Van Til, “Response to Clark H. Pinnock” in Jerusalem and Athens, edited by E. R. Geehan (Nutley, N. J.: Presbyterian and Reformed 1971), 427.

[10] See Hermann Bavinck, The Doctrine of God (Reprint: Grand Rapids: Baker, 1977), 321-30.

[11] Nathan R. Wood, The Secret of the Universe (New York: Revell, 1932).

[12] Bavinck, The Doctrine of God, 322. Benjamin B. Warfield expreses the Same opinion in “The Biblical Doctrine of the Trinity” in Biblical and Theological Studies, edited by Samuel G. Craig (Philadelphia: Presbyterian and Reformed, 1952), 22-27:

“عقيدة الثالوث هي عقيدة معلنة بالكامل… فما من تشابهات جزئية لها في الطبيعة، ولا حتى على صعيد الطبيعة الروحية للإنسان المصنوع على صورة الله”. في هذا المقال، يناقش “وارفيلد” أيضاً حجة “ب. ككرمان” لأجل الثالوث انطلاقاً من الوعي الذاتي عند الله، وحجة “ريتشارد أف ساينت فيكتور” لأجلها انطلاقاً من طبيعة المحبة؛ وحجة “جوناثان إدواردس” الوجودية، مبيناً الشوائب في كل منها وطبيعة عدم الحسم لكل واحدة من هذه الحجج.

[13] ليس الله نفسه مكتملاً في ذاته وعنده اكتفاء ذاتي وحسب، بل إعلانه الخاص هو أيضاً يثبت نفسه بنفسه ويصادق على نفسه بنفسه، لأنه لو كان في حاجة إلى أي كان أو أي شيء للمصادقة على طبيعته الإلهية – انطلاقاً من مبدأ كون المصدر الذي يصادق على أمر ما، هو دائماً صاحب السلطة العليا والأخيرة (عبرانيين 6: 13) – لن يعود هذا الإعلان بمثابة كلمة الله.

[14] Robert L. Reymond, The Justification of Knowledge (Phillipsburg, N. J.: Presbyterian and Reformed, 1984).

[15] عليّ أن أوضح أمراً عند هذا الحد. فبينما أومن من كل قلبي بأن الله قد أعلن ذاته لي بهذه الطريق الأربع، لا أومن بأني عرفته كمخلص من خلال أساليب الإعلان الأربعة هذه، وذلك وفق التسلسل الذي به أدرجتها. فقبل اهتدائي، وبالرغم من “علمي” بالله وبأحكامه العادلة (أعمال 17: 23؛ رومية 1: 20، 21، 32؛ 2: 14، 15)، حجزت هذا الحق بسبب إثمي (رومية 1: 18) فعبدت وخدمت المخلوق من دون الخالق.

عرفته أولاً لخلاص نفسي فقط عندما عمل الروح القدس من خلال ومع إعلانه لمبادئه، فجددني وهكذا أعلن المسيح لي. عندئذ فقط، وليس قبل ذلك، أدركت بشكل صحيح الدليل الإعلاني عنه (والذي كان موجوداً طوال الوقت) في الخلق والعناية. أنا أوافق بالتمام على التعليق التالي لـ “كالفن”: “على غرار الكهول وضعيفي البصر الذين إذا جعلت قبالتهم أجمل كتاب، وحتى لو أدركوا انه شكل من أشكال الكتابة، يقدرون بالجهد تفسير كلمتين منه، لكنهم متى استعانوا بنظارات يصبح بمقدورهم القراءة فيه بوضوح، هكذا تعمل الأسفار المقدسة إذ تجمع معرفتنا المشوشة عن الله، وتبدد بلادتنا، مظهرة لنا بوضوح الله الحقيقي” (Institutes, 1,6,1).

ثم يكرر الشيء نفسه فيما بعد إذ يكتب: “… وكما أن العينين متى ضعفت من جراء الشيخوخة أو الوهن، أو بسبب علة أخرى، لن تعودا تقويان على تمييز أي شيء بوضوح، ما لم يستعن المرء بنظارات، هكذا هو حال ضعفنا البشري، لأنه ما لم ترشدنا الأسفار المقدسة في بحثنا عن الله، نرتبك فوراً” (1. 14. 1).

[16] بالطبع، في نظر بعض الديانات الشرقية، عندما ننسب إلى الله الوجود، نحن لا ننسب إليه الكمال، بل بالحري عدم الكمال. مثلاً، بحسب “بوذية هينايانا” النرفانا، أو حالة الاستنارة التي تشهد زوالاً للرغبة، والألم، وللوعي الذاتي. كما أن الهدف الذي يسعى في أثره جميع الأرهاتس أي الذين بلغوا مرحلة “الاستنارة” هو اللاوجود. أما على صعيد “بوذية الماهايانا” فالنرفانا ليس بموجود أو غير موجود، ولا غير موجود أو موجود. إنه مجرد فراغ.

[17] Buswell, Systematic Theology, I, 99-100.

[18] المدافعون الليغونية، من خلال كتابهم تحت عنوان Classical Apologetics (“علم الدفاع الكلاسيكي”) يقصدون الإيحاء بأن نهجهم الدفاعي حيث يبذلون جهداً لإنشاء نهج لاهوتي طبيعي قبل أي استناد إلى إعلان خاص، وبمعزل عنه. يعمل أسلوبهم ضد جماعة الذين يرون في الإيمان المسيحي الأساس الأوحد للفكير العقلاني، هذا المبدأ الأكثر حداثة الذي ينادي “بالإيمان وحده” أو “بقفزة الإيمان”، هذا المبدأ الذي لطالما اعتمده الجانب المفكر من الكنيسة. غير أن هؤلاء “المدافعين الكلاسيكيين” هم المنادون بالإيمان وحده، فيما الذين يرون في الإيمان المسيحي الأساس الأوحد للتفكير العقلاني ليسوا كذلك، كما سنظهر في هذا الفصل.

لعل الشائبة الرئيسة في كتابهم، هو تركيزهم على الإيمان وحده، والمعبر عنه في إيمانهم الأعمى والعنيد بقوى مجرد المنطق البشري لإنشاء نهج لاهوت طبيعي في وجه الاعتراضات المروعة حقاً لهذا الخط من قبل المنطق، ونظرية المعرفة، والأسفار المقدسة. يخصص الكتاب قرابة النصف عدد صفحاته لمحاولة دحض فكرة كون الإيمان المسيحي هو الأساس الأوحد للتفكير العقلاني، ناعتاً هذا التفكير بأنه ضرب من ضروب المنطق الدائري.

ثم ينتقل الكتاب للدفاع عن مجوعته الخاصة من البديهيات أو الفرضيات المسبقة، وبالتحديد لجهة صحة قانون السبب والنتيجة، وصحة قانون عدم التناقض، والموثوقية المبدئية بالإدراك الحسي (72)، وكاستخلاص للفرضية المسبقة الثالثة، التصريح بأن “الاستقراء قد يفضي إلى الحق المطلق” (89). الكُتاب من خلال إقرارهم بأن “التجريبية المجردة” هي عاجزة عن تجنب التيار التشكيكي، يكتبون “في غياب الإعدادات المسبقة، من صنف الأمور البديهية النقية عن المكان والزمان التي تحدث عنها “كانت”، أو القدرات على جمع الأمور، وربطها بعضها ببعض، والاستخلاص منها بحسب “لوك”، أو الفئات التي ذكرها “أرسطو”، لا يمكن للإحساس أن يتحول إلى إدراك” (85-86).

يا لهمن حساء غريب، يشكله هؤلاء الثلاثة: “كانت”، و”لوك”، و”أرسطو”، من وجهة نظر نظرية المعرفة! لكنهم يواصلون إصرارهم على كون الإنسان يمتلك إعدادات كهذه. لكن، هل كان كل من “كارل بوير”، و”ماكس بلاك”، و”برتراند راسل”، ناهيك أيضاً بـ “دايفيد هيوم” على خطأ لدى محاججتهم في كون الاستقراء هو مغالطة استدلالية؟ أين يظهر خطأ الكتاب؟ “برتراند راسل” مثلاُ يعرض مشكلة الاستقرائيين بهذا الشكل:

كل الحجج الاستقرائية في نهاية المطاف تختزل نفسها ضمن الصيغة التالية: “إن كان هذا حقاً، فذلك حق، الآن ذلك حق، إذاً هذا حق”. هذه الحجة، تنطوي بالتأكيد على مغالطة [مغالطتها تكمن في تأكيدها للنتيجة]. لنفترض أني قلت: “إن كان الخبز حجراً، والحجارة تغذي، إذاً من شأن هذه الحجر أن يغذيني؛ الآن هذا الخبز يغذيني فعلاً؛ لذا هو حجر والحجارة مغذية”. لو كنت لأعرض حجة كهذه، سينظر إليّ بالتأكيد كمختل، لكن لن يختلف هذا كثيراً عن الحجة التي تبنى عليها كل القوانين العلمية.

“كارل بوبر” أحد فلاسفة العلوم المتقدمين من القرن السابق، أكد أن العلم، المؤسس كما هو على معرفة تجريبية، ليس سوى “تخمينات وعمليات دحض” (هذه العبارة تشكل عنوان كتابه Conjectures and Refutations):

…. ولئن كنا نبذل قصارة جهدنا في العلم للعثور على الحق، نحن نعي تماماً حقيقة كوننا لا نستطيع أبداً التأكد من حصولنا عليه… نعلم أن نظرياتنا العلمية تبقى دائماً افتراضات… فما من “معرفة” في العلم بالمعنى الذي به فهم أفلاطون أو أرسطو اللفظة، أي بالمعنى الذي يشير ضمناً إلى أمر نهائي وحاسم؛ وفي العلم، لن يتوافر لدينا أبداً الموجب الكافي للاعتقاد أننا بلغنا الحق… كل محاولاتنا لرؤية الحق ولإيجاده، ليس نهائية بل منفتحة على التحسن… معرفتنا وعقيدتنا هما من قبيل التخمين؛ فنحن نحزر ونفترض، بدل الفوز بالحق الأكيد.

النهج الذي يعتمده الدفاع “ليغونية”، في تعويله كما يفعل على الإدراك الحسي كواحد من فرضياته منذ البداية، يدمر كل أمل بتحليل الأمور على أساس القياس المنطقي، واحد من الأمور الأساسية التي يتباهون بها. الإدراك الحسي بواسطة أفراد محدودين، حتى ولو سلمنا بأنهم معصومون (الأمر الذي لا ينطبق عليهم)، لن يخلو بالطبع من المحدوديات التي تلازم هكذا أفراد بشكل طبيعي، ولا يمكنها أن تؤدي إلى صياغة مبادئ كونية.

لكن، في غياب المبادئ الكونية، يكون من المستحيل إجراء أي تحليل بموجب القياس المنطقي. لأنه من قواعد القياس المنطقي أنه ما لم يكن البند الأوسط فيه موزعاً بين الفرضيتين، لا يمكن الخروج بأية خلاصة، أو تكون هذه الخلاصة ممكنة بشكل صحيح. باختصار، من المعترف به كونياً أن كل محاولة لاستخراج معرفة من مجموعة من البديهيات والفئات المسلم بها مسبقاً بالإضافة إلى المعلومات الحسية، مكتوب لها أن تلقى المصير نفسه الذي كان من نصيب نظام “كانت” ألا وهو التشكيك العنيد فيها بالكامل.

مدافعو “ليغونيه” لا يمكنهم ببساطة التباهي بأن “بمقدورهم الانتقال مما هو ظاهري إلى ما هو حدسي من خلال تطبيق قانون عدم التناقض، وقانون السببية، والموثوقية المبدئية للإدراك الحسي” (89)!

[19] R. C. Sproul, John Gerstner, and Arthur Lindsley, Classical Apologetics, 106.

[20] John M. Frame, Van Til and the Ligonier Apologetic, WTJ 47 (1985), 296.

[21] أعني بعبارة “منهج اللاهوت الطبيعي” ذلك الأسلوب اللاهوتي الذي كان قد اعتنقه مثلاً توما الأكويني الذي حاول الجمع بين بديهيتين: البديهية الدنيوية للإدراك الحسي الذي أخذها من أرسطو والبديهية المسيحية التي استقاها من الكتاب المقدس (راجع “طرقه الخمس” الشهيرة في كتابه Summa Theologica, I, 2, 3 and Summa Contra Gentiles, I, XIII). ففي “الطابق الأول”، تبنى أولاً المقدمة الفلسفية بالمنطق الطبيعي العامل بمعزل عن المعلومات الحسية، والتي يقال عنها أنها تبرهن مجرد وجود الله.

من ثم يجعل فوقه “الطابق الثاني” المكون من مجموعة من المعتقدات المأخوذة من الإعلان الخاص. في هذا الشكل من “اللاهوت الطبيعي”، الإعلان المسيحي، الذي لا يقصد منه إزاحة المقدمة الفلسفية من مكانها أو العمل كأساس لها، يقال إنه يفترض مسبقاً المقدمة الفلسفية وعلى ما يبدو، يثبتها ويكملها. حاججت ضد نهج التركيب هذا في كتابي The Justification of Knowledge والفصل الخامس، مبيناً كيف أن هذا التركيب الذي اعتمده توما أخفق. أمامنا تلك الحجة من جديد: حجج توما غير صحيحة، وذلك للأسباب التالية:

1 – لا يستطيع أحدنا ببساطة الشروع من وجود معلومات حسية، ثم يكمل من هناك، بواسطة قوانين المنطق الرسمية، للكلام عن وجود خلاصة غير حسية.

2 – اعتقد توما أن الذهن، قبل أن تصله الانطباعات الحسية، هو صفحة بيضاء. لكن الصفحة البيضاء من زاوية نظرة المعرفة، محفوفة بعوائق لا يمكن عبورها لتكوين المعرفة. لأنه إن كان كل ما على الذهن العمل معه هي الانطباعات الحسية كتقارير عما يحصل في العالم الخارجي، لن تتمكن المعرفة من الارتقاء إلى المستوى الكوني والضروري، ذلك لأنه من الدفق لا يخرج سوف الدفق. بكلام آخر، توما ومن خلال إنكاره أي وجود في الذهن لفكرة فطرية عن الله، أو وجود فيه على العموم أية أفكار فطرية، يجعل من المستحيل تكوين المعرفة.

3 – وبغية التوصل إلى محرك أول لا يتحرك، يحاجج توما في كون سلسلة الأشياء التي تحركها أشياء متحركة أخرى، لا يمكنها التراجع إلى اللامحدود، بما أن ترجعاً كهذا سوف ينفي وجود محرك أول. بالطبع، لا تتلاءم السلسلة اللامحدودة من العلل المتحركة مع محرك أول لا يتحرك. لكن، إن كان القصد من الحجة برهان وجود هذا الأخير، فإن وجود هذا الأخير، لا يمكن استخدامه قبل الأوان كواحدة من الفرضيات في الحجة. نحن هنا أمام “تأكيد للنتيجة” بشكل سافر.

4 – تستلزم حجج توما أن يكون الكون بجملته بمثابة نتيجة. لكن، ردنا بفظاظة على هذا، يجعلنا نصرح بأن لا أحد، وبالتأكيد المجرب على نحو خاص، لم يلاحظ الكون بجملته، وما من ملاحظة لأجزاء الكون التي بالإمكان ملاحظتها. تعطي هذه الفرضية الضرورية. ما من سبب قابل للبرهان لماذا لم يتكون الكون بجملته من مصادفات تشهد اعتماداً متبادلاً، والتي من خلال عملها معاً، تسند وتدعم بعضها بعضاً (راجع Buswell, Systematic Theology, I, 80).

5 – حيث أن توما كان مقتنعاً من أنه من غير الممكن تأكيد أي شيء يختص بالخلق بالمعنى نفسه لتأكيد ما يختص بالله، عندما يحاجج انطلاقا من “وجود” العالم إلى “وجود” الله، هو يقصد اللفظة “وجود” بمعنيين مختلفين، إنه بذلك يقترف المغالطة المنطقية المعروفة بالإبهام والتباس الأمور.

6 – في حال تسليمنا، لغرض الحجة، بصحة العلاقة بين السبب والنتيجة، إن كان يصح استخلاص من النتائج المنظورة وجود مسببها/ مسبباتها، لا يصح أن ننسب إلى مسببها / مسبباتها أية خصائص تتخطى حدود تلك الضرورية لإنتاجها. كل وجود لعالم محدود، يستلزم وجود مسبب/ مسببات تكون مقتدرة بما فيه الكفاية للتسبب به. إنها الصرخة القصية الصادرة عن الله الكلي القدرة في الكتاب المقدس.

إلى ذلك، بما أن الشيء الكثير مما يلاحظه أحدنا في العالم، هو ما يعرف عند المسيحيين بالشرور الأدبية، فكل تطبيق صارم لعلاقة السبب والنتيجة، يستلزم استخلاص كيف أن السبب النهائي والحاسم وراء هذه النتائج، ليس بجيد بالتمام أدبياً.

7 – في حال تسليمنا، مجدداً لغرض الحجة، بأن توما تمكن أن يبرهن من الحركة وجود محرك الذي لا يتحرك، قد نحتج ونعترض عندما يضيف: “وكل واحد يفهم هذا على أنه الله”. فالحجة لدى النظر إليها بشكل سطحي، تبرهن فقط وجود مسبب غير متحرك للحركة المادية. غير أن هذا المحرك لا يملك صفات الشخصية المتسامية.

ثمة أهمية بالغة، في نظري، لدى ملاحظة كيف أن الألفاظ التي يعتمدها توما في معرض وصفه الإله الذي يؤمن به والذي يبلغ إليه بواسطة هذا المنهج، هذه الألفاظ هي كلها محايدة، إنس، برفكتسيم، برايمم موفنس, إلخ، بكلام آخر، لو كانت حججة صحيحة، ففي غياب أي شيء متسام أو فوق طبيعي عند العلة الأولى بحسب توما، ستكون مدمرة للمسيحية مع الله إلهها اللامحدود والشخصي.

راجع رفض منهج اللاهوت الطبيعي لصالح “البديل الإعلاني” وعلى أسس مشابهة في كتاب “كارل ف. هـ. هنري” في God who Speaks and Shows, Vol. II of God, Revelation and Authority (Waco, Texas: Word: 1976), 104-23. راجع أيضاً مقاومة “كارل بارث” للحجج المستندة إلى الله، إله الكتاب المقدس، في كتابه Church Dogmatics, edited and translated by G. W. Boomley (Edinburgh, T. & T. Clark, 1957), II/I, 79ff.

يبدو أن المدافعين البروتستانت على وجه العموم اليوم، والذين تشكل التجريبية المصدر الرئيس لمعرفتهم، وبالأخص معشر المدافعين “ليغونيه”، لم يتعلموا سوى الشيء القليل من إخفاق توما. وإن كانت مجهودات توما باءت بالفشل، قد يسأل أحدنا، كما أفعل أنا في الحاشيتين 18، 40، إن كان المدافعون “ليغونيه” قد تكللت مساعيهم بالنجاح.

[22] إنه لأمر مشروع التحدث عن اللاهوت الطبيعي بصفته وعياً لدى جميع البشر بحكم كونهم مخلوقين على صورته. وأيضاً في ضوء إعلانه ذاته لهم في الطبيعية بشكل لا مفر منه (رومية 1: 20). (بالطبع. هذا “اللاهوت الطبيعي” تسعى البشرية جاهدة لإسكاته). أنا شخصياً لا أجد أية مشكلة منع هذا الاستخدام للعبارة، لا بل أدعم من كل القلب استخداماً كهذا.

[23] راجع كتابي The Justification Knowledge. 118-30.

[24] John M. Frame, The Doctrine of the Knowledge of God (Phillipsburg, N. J. Presbyterian and Reformed, 1987), 117-118.

[25] كان بمقدور الرئيس “إدواردس” أن يوفر على قارئه عناء التأمل في عبارته هذه “تقريباً”، ذلك بسبب عجز أي إنسان عن ملاحظة “كل الأشياء” التي يحتوي عليها العالم. من أجل برهان صفتها كـ “نتائج”.

[26] Jonathan Edwards, “Observations on the Scriptures: their authority – and necessity”, in Miscellaneous Observations from The Works of Jonathan Edwards (Edinburgh: Banner of Truth, 1974 edition), 2, 476.

[27] راجع مثلاً، صفة “الاحتمال” التي تصيغ النهج الدفاعي الذي يعتمده “وارفيل” في مقاله:

The Real Problem of Inspiration, “in The Inspiration and Authority of the Bible (Phillipshburg, N. J. Presbyterian and Reformed, 1948), 218-19.

وأنا كنت قد حاججت في الفصل الثامن في أن الأمر من غير الممكن أن ينطوي على حجة احتمالات بسبب عدم القدرة على حساب الاحتمال الحسابي لمصداقيته. لذا، لا معنى للحديث عن معتقد ديني معين في ضوء الاختبار التجريبي، على كونه “محتملاً أو “غير محتملاً جداً”. وفي الواقع، وبمعزل عن الإيمان المسيحي بالله، إله الكتاب المقدس، يكون هذا العالم من نتاج الحظ. ويتحكم به الحظ، حتى أن مفهوم الاحتمال نفسه، يخلو في هذه الحال من أي معنى.

[28] R. C. Sproul, John Gerstner, Arthur Lindsley, Classical Apologetics, 111, 116-123.

[29] John M. Frame, “Van Til and the Ligonier Apologetic”, 294.

[30] Buswell, Systematic Theology, 1, 79-80.

[31] في سياق رسالة خاصة موجهة إليّ بتاريخ 3 نيسان (أبريل) 1996، وصف “جون فرايم” التسامي الذي ينادي به معشر “الليغونيه” على أنه في “أفضل حالاته “بمثابة (أد هومينم) أي حجة تعتمد على مهاجمة الشخص الآخر”. هم يأملون أن يذعن غير المؤمن لهذه الافتراضات هذا ما سيفعلونه في معظهم. ثم ينكب “الليغونيه” على استنتاج أمور. لكن، يصادف حقاً أن تلتقي بعض المشككين الذين يرفضون أية افتراضات أولية.

[32] هذا هو حال المدافعين “الليغونيه” Classical Apologetics, 233يسأل “فرايم” في محله: “بكل جدية الآن، هل عقيدة السقوط هذه تليق بالكالفينيين؟ (Van Til and the Ligonier Apologetic”, 292).

[33] بعض اللاهوتيين، وفي ضوء ورود اسم الفاعل (غنونتس) في زمن الماضي الأول في رومية 1: 12، رأوا أنه فيما الجبلة البشرية بجملتها قد تكون قد عرفت الله عند نقطة ما من الماضي، لم تستمر هذه المعرفة إلى الحاضر، حتى إن اسم الفاعل في زمن الماضي الأول، لا يصف كل شخص اليوم. رد “جون فرايم” على هذه الحجة في كتابه

Apologetics to the Glory of God (Phillipsburg, N. J.: Presbyterian and Reformed, 1994), fn. 12.

على النحو التالي:

إن قصد بولس في هذا النص… هو جرء من قصده الأشمل في 1: 1 – 3 : 21، وهو إظهار كيف أن الكل أخطأوا وبالتالي ليس بوسع أحد أن يتبرر من طريق أعمال الناموس (3: 19-21). فهو يظهر في الفصل الأول كيف أن الأمم، حتى من دون أن يكون لهم وصول إلى الناموس المكتوب، هم مذنبون أمام الله من جراء خطيتهم (الفصل 2 يتناول اليهود).

كيف بالإمكان اعتبارهم مسؤولين من دون أن يكون لهم وصول إلى الناموس المكتوب؟ ذلك بسبب معرفة الله التي كانوا قد اكتسبوها من الخلق. إن كنا ننسب هذه المعرفة إلى الماضي، علينا في هذه الحال استخلاص أن الأمم في الحاضر ليسوا مسؤولين عن تصرفاتهم، الأمر الذي يتناقض مع 3: 9. الصيغة في الماضي معتمدة هنا (مع اسم الفاعل) لأن زمن الماضي هو السائد ضمن القرينة. هذا الأمر ملائم لأن بولس يتولى في الأعداد 21-32، عرض “تاريخ حجز الحق”.

لكن من الواضح أنه لا ينظر إلى أحداث الإعداد 21-32 على أنها تاريخ من الماضي ليس إلا. إنه يعتمد بوضوح هذا التاريخ لوصف الحالة الراهنة للأمم أمام الله. لذا، من الضروري عدم فرض على الماضي الأول (غنونتس) كونه يشير إلى الزمن الماضي حصرياً. ومع استمرار الحجز، تستمر معه أيضاً المعرفة التي تضفي على هذا الحجز صفة المذنوبية.

[34] يخبرنا “التعليم المسيحي الأوسع” لـ “جماعة وستمنستر”، والسؤال 106، كيف أن اللفظة “أمامي” في الوصية الأولى، المقصود منها من جملة أمور أخرى، “إقناعنا بضرورة القيام بكل ما نفعل به في خدمته وكأنه يحصل تحت ناظريه”.

[35] John M. Frame, “Van Til and the Ligonier Apologetic”, 287.

[36] Benjamin B. Warfield, “Introductory Note” to Francis Beattie’s Apologetics (Richmond, Va.: Presbyterian Committee of Publication, 1903).

[37] Jonathan Edwards, “Miscellanies # 408”, The Philosophy of Jonatan Edwards, ed. By H. G. Townsend (Westport, Conn.: Greenwood, 1972 reprint of the 1955 edition), 249.

[38] مقتبسة من مراسلة خصوصية بيني وبين “جون فرايم” بتاريخ 6 أيار (مايو) 1996.

[39] أقصد من خلال هذه العبارة “استحالة ما هو نقيض ذلك” عجز أنظمة الفكر غير المسيحية عن تفسير العقلانية والأخلاق. كما أن هذه الأنظمة تنزلق في نهاية المطاف إلى التشكيك واللاعقلانية.

[40] يشير “ريتشارد ب. غافن” في مقاله

“Some Epistemological Refliction on 1Corinthians 2: 6-16”, WTJ 57 (1995), 122-23.

إلى ما يلي: “…. حيث أكثر ما كنا نتوقع تناول [1كورنثوس 2: 6-16] في:

[Classical Apologetics, sush ad in chapter 4, “The Biblical Evidence Confirming Natural Theology”, 13, “The Noetic Influence of Sin”, 16, “The Self – Attesting God’, or 17, “The Internal Testimony of the Holy Spirit”]

لا يطالعنا أي شيء من هذا القبيل، ولا حتى إشارة عرضية [ولا حتى يقتبسون أفسس 4: 17، 18]. وأكثر ما يلفت الانتباه، العدد 14 (الذي يتحدث عن عجز غير المؤمن عن الفهم) ونقيض ذلك في العددين 14 و15 لا نجد أي تطرق لهما، ولا حتى يؤتى على ذكرهما”. غافن، في نظري، هو مبرر عندما يسأل: لا ينفع أبداً في معرض السعي لدعم قضية اللاهوت الطبيعي أن يكتفي أحدنا ببساطة بتجاوز 1كورنثوس 2: 6-16.

فمؤلفو Classical Apologetics يعتبرون، حسب الظاهر، أن لا صلة لهذا النص بموضوعهم. يلزمهم في هذه الحال أن يبينوا لنا ذلك. مثلاً، …. كيف أن العجز الفكري لدى غير المؤمن في العدد 14 لا تستثني قدرته العقلانية على البلوغ به إلى لاهوت طبيعي صحيح، أو كيف العبارة “كل شيء” في العدد 15، كيف يجب تحديدها حتى لا تشمل الحقائق المختصة بهكذا لاهوت. (123).

[41] راجع John Calvin, Institutes, 1.8 هذا الفصل لطالما كان موضوع بحث ونقاش، كما أنه يكون من الأفضل في نظري أن يظهر تحت العنوان: “Evidences from Scripture for the Credibility of Scripture” (“الدلائل من الأسفار المقدسة على موثوقية الأسفار المقدسة”) أما قراءته بعناية، فتظهر برأيي أن “كالفن” يعرض بشكل رئيس معلومات كتابية لصالح مصداقية الكتاب المقدس.

مبدئياً، كل حججه على أهلية الكتاب المقدس للتصديق، (“الطابع السماوي لعقيدته” و”جلاله السماوي نفسه”، و”الانسجام الرائع السائد بين كل أجزائه”، مع “معجزاته التي لا تقبل الجدل” و”نبوته المثبتة”) كان قد استخرجها جميعها من الكتاب المقدس. أما النزر اليسير من الأدلة التي يعرضها والتي لم يكن قد استخلصها مباشرة من الأسفار المقدسة (العجز عن إزالة من الوجود الأسفار المقدسة عبر العصور، ما تحظى به من قبول على نطاق واسع بين الأمم، استعداد الكثيرين للاستشهاد في سبيلها) (1، 8، 21، 31) ليست الأمور التي يركز عليها الفصل بشكل أساسي.

وبرايي، لمجرد كونها غير مستخرجة من الأسفار المقدسة، ليس ملزمة بما أن الأمر نفسه قد يقال في كتب أخرى فهو في ضوء نسبة استخدامه لها، ساوم بذلك على مبدئه الخاص به (سولا سكريبتورا).

[42] John Frame, The Doctrine of the Knowledge of God, 130-33.

[43] غير أن الإذعان التالي الصادر عن “وارفيلد” المرتكز على الدلائل، ينسف مبدئياً نظام دفاعه المبني على الدلائل:

إن كانت العقائد التي لا تربطها أية علاقة بالحقائق هي أساطير، وأكاذيب [وهكذا هو حالها… RLR مؤلف هذا الكتاب]، فالحقائق في هذه الحال التي لا ترتبط بما نسميه عقيدة. لا تعود تكتسب في نظرنا أي معنى مهما كان. إن ما نطلق عليه التسمية عقيدة هو الذي يضفي على الحقائق كل أهميتها كل حقيقة بمعزل عن العقيدة، تبقى مجرد حقيقة غير مفهومة. فإن ذلك العنصر الذهني الذي يأتي به العقل في معرض التأمل في الحقائق.

والذي نسميه “عقيدة”…. هو الشرط لأي استيعاب صحيح للحقائق. تلك العناصر الذهنية هي منصهرة معاً إلى حد كبير – تلك العناصر التي قوامها المعرفة السابقة، أو المعرفة المشتقة من مصادر أخرى – بالحقائق كما تأخذها عقولنا بموجب فعل الإدراك المركب، حتى إنه فاتنا عادة الفصل بينها. وبالتالي، في سياق عبادتنا لما نسميه بطلاقة “الحقائق العارية”، قليلاً ما تأملنا فيما هي عليه الحقيقة البحتة وأي معنى قليل قد يكون لها عندنا.

(“The Right of Systematic Theology”, Shorter Selected Writings [Nutley, N. J.: Presbyterian and Reformed, 1973], 2, 235-36]

[44] إن كان بوسع الناس القيام بذلك وقد أقدموا عليه فعلاً، فبولس في هذه الحال يكون على خطأ في إعلانه: “العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة”. لكن، إن كان بولس على حق، فإنه يترتب علينا استخلاص أن كل الحجج المختصة بالله التي يجري إطلاقها من الأرض نحو السماء، وحتى لو لم نتمكن من تحديد ما تنطوي عليه من مغالطات، يفوتها تتميم ما يدعي مناصروها بشأنها.

[45] Jonathan Edwards, “Miscellanies #986”, The Philosophy of Jonathan Edwards, 213.

[46] بالإمكان الوقوف على مثال كلاسيكي على هذا التحول في دفاع “وارفيلد” عن الوحي في:

“The Real Problem of Inspiration”, in The Inspiration and Authority of the Bible (Phillipsburg. N. J.: Presbyterian and Refomed, 1948), 169-226.

بالأمكان مراجعة نقدي الشخصي لنهج الدفاع عند “وارفيلد” في الفصل الثامن.

[47] J. I. Packer, “Theism for One Time” in God Who is Rich in Mercy (Grand Rapids: Baker, 1986), 13.

[48] يؤمن المسيحيون الملتزمون لاهوت معايير “وستمنستر”، بأن “سلطة الأسفار المقدسة، التي يجب الإيمان بها وإطاعتها، لا تعتمد على شهادة أي إنسان أو كنيسة. بل بالحري على الله (الذي هو الحق عينه) مؤلفها. وبالتالي، يترتب علينا ضرورة قبولها بما أنها كلمة الله” (I، 4).

هم يؤمنون أيضاً أن الأسفار المقدسة “تبرهن عن ذاتها” بوفرة على كونها كلمة الله (I، 5) بواسطة حجج واضحة ولا تقبل الجدل من صنف “الطابع السماوي للمضمون. وتأثير العقيدة، و جلال الأسلوب، والتناغم السائد بين كل الأجزاء، والقصد من الكل (ألا وهو إعطاء كل المجد لله), الاكتشاف بالكامل الذي تقوم به للسبيل الأوحد لخلاص الإنسان (رفع النقاب عنه)، مميزاتها التي لا تضاهى، ومجمل كمالاتها” ( I، 5).

[49] Gordon H. Clark, Three Types of Relotious Philosophy (Nutley, N. J.: Craig, 1973), 123.

انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان

مختصر تاريخ ظهور النور المقدس

هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!

هل الله يتغير؟ وهل يعبد المسيحيون الجسد؟ – المذيع المسلم يذيعها مدوية: أنا لا أعرف شيء

عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث

الله المثلث الأقانيم في المسيحية – الله الواحد الثالوث

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)