أبحاث

مجتمع الله الجديد : طبيعة المجتمع الجديد

مجتمع الله الجديد : طبيعة المجتمع الجديد

مجتمع الله الجديد : طبيعة المجتمع الجديد
مجتمع الله الجديد : طبيعة المجتمع الجديد

مجتمع الله الجديد : طبيعة المجتمع الجديد

تحدثنا حتى الآن عن مجيء يسوع في إطار مجتمع جديد كان المعاصرون له يتوقعون حدوثه. وكانوا يتوقعونه على أنه الوقت الذي تتحقق فيه – وبشكل مثير – وعود العهد القديم فيما يتعلق بوضع إسرائيل في خطط الله وطرد الرومانيين من أرضهم إلى غير رجعة.

وليس من عجب إذاً أنه حين ظهر يسوع كنبي متجول بعد عماده وبعد التجربة في البرية[1]، وأعلن أنه “قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله” أن الناس باختلاف اتجاهاتهم أظهروا اهتماماً كبيراً لما قاله. فهذا هو ما كانوا ينتظرونه: مملكة جديدة لله تسحق إلى غير رجعة مملكة الرومان العتيقة. وأنهم كانوا يتوقعون تماماً (أي الشعب اليهودي) أنه سيكون لهم دور هام في هذه المملكة الآتية تحت قيادة مسيحهم (المسيا).

ملكوت الله

ولكن ما الذي عناه يسوع حين تكلم عن “ملكوت الله”؟ وما الذي نقصده نحن بهذا التعبير؟ إن القاموس الخاص بي يحدد “المملكة بأنها “الدولة أو الأرض التي تحكم بواسطة ملك”. وعلى هذا فلعل معاصري يسوع لم يكونوا قد أخطأوا على أي حال فيما ذهبوا إليه: فالله سيقيم دولة جديدة يحكمها بنفسه.

فهل هذا هو ما قصده يسوع حقاً؟ هل تحدث عن دولة جديدة أم مجتمع جديد؟ والفرق واضح تماماً، فإذا كان يسوع يتكلم عن دولة جديدة، فلا بد أنه نظر إلى نفسه كوكيل ملكية سياسية جديدة، أي أنه كان من طائفة الغيورين. أما إذا كان يتحدث عن مجتمع جديد، فلا بد والحال هذه أن يكون قد اعتبر أن عمله يهتم بصفة أساسية بنوعية الحياة التي يتمتع بها شعبه. والدولة الجديدة سيكون من شأنها ببساطة أن تستبدل النظام الاستبدادي العتيق بنظام استبدادي جديد. أما المجتمع الجديد فلسوف يعطي الشعب حقيقة جديدة ولذيذة عن الحرية والعدل ووجود الله في حياتهم.

وعلى هذا، فما الذي كان يتحدث عنه يسوع حقاً؟ اعتقد كثيرون من المسيحيين أنه كان مهتماً بصفة رئيسية ببدء مجتمع يحكمه الله، وذلك كمجتمع مميز عن الدول السياسية التي يحكمها رجال ونساء. وعلى سبيل المثال، كثيرون من رجال الكنيسة في العصور الوسطى، اتبعوا نهج القديس أوغسطينوس في الاعتقاد بأن ملكوت الله الذي كان يتحدث عنه يسوع هو المجتمع المنظم الذي نسميه نحن الكنيسة. وحتى في يومنا هذا، نجد الوعاظ المسيحيين يتكلمون في كثير من الأحيان كما لو أن “الملكوت” هو مجرد كلمة أخرى يقصد بها الكنيسة، وآخرون يتحدثون عن ملكوت الله كما لو كان نوعاً جديداً من إعلان سياسي. غير أنه هناك اعتراف على نطاق واسع الآن يسود أوساط الذين يدرسون العهد الجديد، بأنه أياً كان ما قصده يسوع بتعبير “ملكوت الله” فإنه لم يكن أياً من هذه الأشياء.

الملكوت والمجتمع الجديد

هناك إشارة إلى ما قصده يسوع حقاً بمقدورنا أن نجدها في اللغة التي تحدث بها. وعلى الرغم من أن يسوع ربما كان بالفعل يستطيع أن يتكلم لغتين أو ثلاثة، فمن المرجح أنه كان في معظم الأحيان يتكلم باللغة الآرامية وهي اللغة التي كان معظم الناس في فلسطين يعرفونها على نحو أفضل. ولقد كتبت الأناجيل باللغة اليونانية، مثل بقية العهد الجديد بالطبع، ولذلك ليس لدينا أي مستند مباشر للكلمات التي نطق بها يسوع بالفعل باللغة الآرامية، غير أنه حتى الكلمة اليونانية التي ترجمت “ملكوت Basilea” تعني بالأكثر نشاط الملك وليس الأرض التي يحكمها. والكلمة الآرامية التي يعتقد الباحثون أن يسوع نفسه استعملها وهي “Malkutha” من المؤكد أنه كان لها نفس المعنى. ولذلك نجد أنه لدينا من الأسباب ما يحملنا على افتراض أن يسوع كان يتكلم عما يمكن أن نطلق عليه “حكومة الله الملكية” وليس “ملكوته”.

هذا هو السبب الذي حملنا على التفكير في رسالته هنا في إطار “المجتمع الجديد”. لأن يسوع كان مهتماً – وبأكثر من أي شيء آخر – بنوعية الحياة الإنسانية، وعلاقة الإنسان بالله، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

ويساعد هذا على تفسير بعض الأمور الأكثر صعوبة التي قالها يسوع، وعلى سبيل المثال، قال للفريسيين: “لا يأتي ملكوت الله بمراقبة… ها ملكوت الله داخلكم”[2]. وفي مناسبة أخرى قال لتلاميذه: “من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله”[3]. ومن الواضح أن الأراضي السياسية لا يمكن أن تكون جزءًا من حياة الناس كأفراد، فهم لا يستطيعون “أن يكونوا” دولة بل لا يمكن أن تكون “داخلهم”. لكن يسوع كان يقول إنه منذ اللحظة التي يملك فيها الله حياة شخص ما، يكون المجتمع الجديد قد أقبل بالفعل. كان يمكن أن يقول إن ملكوت الله داخل سامعيه، لأنه هو نفسه كان هناك، وكان الله يسيطر تماماً على حياته.

ومن المفيد أن “البروفسور و. ج. كوميل Professor W. G. Dummel” يلفت الانتباه إلى الطريقة التي قال بها يسوع إن “دخول الملكوت” معناه “دخول الحياة”. وهؤلاء الناس الذين يرثون الملكوت يرثون أيضاً “الحياة الأبدية”، والبوابة التي تؤدي إلى الملكوت هو “الطريق الذي يؤدي إلى الحياة”. والقصة الشهيرة عن الابن الضال الذي هرب من البيت تؤكد أيضاً حقيقة أنه كي تكون عضواً في الملكوت معناه أن تشارك في حياة الله، وتعرفه كأب. وكذلك يذكر بولس قراءه المسيحيين في كورنثوس بأن “ملكوت الله ليس بكلام بل بقوة” – قوة الله العاملة في حياة أولئك الذين سلموا أنفسهم لتوجيه الله بإرشاده.

وفي ذات الوقت، سنكون على خطأ إذا ما وضعنا التركيز كله على المجتمع الجديد على أنه جزء من علاقة شخصية بيننا وبين الله. وهناك أقوال كثيرة في الأناجيل تبين أن يسوع كان ينظر إلى ملكوت الله كمجتمع حقيقي ملموس، كما كان ينظر إليه أيضاً كحكم الله الداخلي في حياة أتباعه. فقد قال – على سبيل المثال – إن الناس “يأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب ويتكئون في ملكوت الله”[4]. وفي العشاء الأخير قال يسوع لتلاميذه: “إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله”. ويسجل لنا متى قوله إن أتباعه سيرثون “الملكوت المعد لهم منذ تأسيس العالم”[5]. لذلك يبدو أن المجتمع الجديد في مفهوم يسوع كان يتضمن أمرين. من ناحية، إنه حكم الله على حياة الناس الذين يسلمون له أنفسهم. ومن ناحية أخرى، فإنه شيء يمكن بل وسوف يظهر للعالم كله[6].

وكل من هذين المفهومين كان انعكاساً صادقاً لتوقعات العهد القديم. ومن المهم أن نتذكر أنه ليس كل كتبة العهد القديم أدركوا تدخل الله المستقبلي في شؤون البشر في إطار نزعة تتسم بالأنانية والقومية كما كان يفعل البعض من معاصري يسوع. وإنها لحقيقة أنه في بعض أجزاء العهد القديم نجد إدراكاً طاغياً أن سيادة الله على البشر ستظهر في شكل ملكوت منظم سيحل محل إمبراطوريات العالم.

وهذه بصفة خاصة، نظرة الأقسام الرؤوية في العهد القديم. ففي سفر دانيال – على سبيل المثال – أن قديسي “العلى” الذين يمثلهم “مثل ابن الإنسان”[7] تسلموا ملكوت الله وتملكوه إلى الأبد. وهذه نوعية من التطلعات ازدادت وتم تضخيمها ألف ضعف بواسطة آخرين. بمعرفة كتاب رؤويين في وقت لاحق، وكان البعض منهم من معاصرين يسوع. وكانت تطلعات عبر عنها بعض أتباع يسوع حين أرادوا أن يقيموه ملكاً عليهم بعد معجزة إطعام خمسة آلاف شخص[8]. وكان هذا موقفاً وُجد حتى بين التلاميذ. فحين طلب يعقوب ويوحنا أن تكون لهما المراكز الأولى بأن يجلس واحد عن يمين يسوع والآخر عن يساره في مجده، فإنهما كانا يفكران في إطار سياسي خالص[9].

وعلى الرغم من أن يسوع وبخهما حين قالا ذلك[10]، إلا أنه لم يفكر إطلاقاً أن ملكوت الله سوف يؤثر بطريقة ما في المجتمع بالمعنى السياسي، بل أنه في بعض الأحيان كان يقول إن ذلك سيتم بطرق غير مثيرة نسبياً[11]، كما تعمل الخميرة في الخبز، أو مثل حبة الخردل التي تنمو في هدوء إلى شجرة كبيرة، إلا أنه كان أيضاً على قناعة تامة أن الله سوف يعمل بحسم وبصفة مباشرة[12]، ليس في حياة الأفراد فحسب، بل وأيضاً في حياة الأمم السياسية والاقتصادية.

هذا التوتر، أو ما يبدو وكأنه تناقض بين حكم مجتمع الله الجديد في حياة الأفراد والتعبير الخارجي عنه في قوى سياسية ملموسة[13]، كان موجوداً في أيام العهد القديم. فقد كان ينظر إلى الله على أنه “ملك” إسرائيل منذ عصر القضاة، وربما حتى قبل ذلك. والمزامير عامرة بالتعبيرات التي تؤكد سيادة الله على مجرى التاريخ[14].

وكثيرون من الربيين – في زمن يسوع – كانوا يؤكدون على أن سيادة مملكة الله على إسرائيل كانت موجودة بالفعل، حتى أيام الحكم الروماني، وأن الله كان يعمل من خلال الشريعة. وأحياناً كان معلمو اليهود يشيرون إلى أناس “يتثقلون بقيام ملكوت الله” وهم يقصدون بهذا أنهم يقبلون التوراة ويطيعونها كأداة لحكم الله على شعبه.

وإذا تفحصنا بإمعان أجزاء أخرى من العهد الجديد نستطيع أن نلمس أن هذا التوتر موجود دائماً بين ما يستطيع الله أن يفعله الآن في أولئك الذين يقبلون حكمه على حياتهم، وما سيفعله أساساً من خلالهم في المجتمع بصفة عامة. وعلى سبيل المثال، يقول بولس: “لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً. بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس”[15]. وبالنظر إلى أن هذه أمور يمتلكها المسيحيون بالفعل، فأن تكون جزءًا من ملكوت الله، يعني أن نسمح لله بأن يمارس سيادته المطلقة على حياتنا.

وفي ذات الوقت، نجد أن بولس، على الرغم من ذلك يربط بين وصول ملكوت الله والأحداث المرتبطة بنهاية العالم: “وبعد ذلك النهاية متى سلم الملك لله الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة”[16]. فقد توقع بكل وضوح أن الله سيدخل التاريخ ويغير مجراه – وهذا كان من ناحية ما مرتبطاً بمجيء مجتمع الله الجديد “الملكوت”. وهذا تم توضيحه تماماً في سفر الرؤيا حيث “صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه فسيملك إلى أبد الآبدين”[17] وهذا أيضاً عنصر هام في تعليم يسوع نفسه.

الأخرويات والمجتمع الجديد

موضوعات مختلفة نشير إليها حين نتكلم عن مجتمع الله الجديد يسمى “الأخرويات”. وكلمة “الأخرويات” مأخوذة عن عبارة يونانية ترجمتها “أفكار عن النهاية”. ولكن الأخرويات لا تتعلق فقط بما قد يحدث عند نهاية العالم. بل أنها بالضرورة تتعلق بملكوت الله، حيث يكون الله ملكاً، وبكل السبل المختلفة التي تجعل مجتمع الله الجديد نفسه محسوماً بواسطتها، سواء في حياة الناس كأفراد، أو في المجتمع، أو في النهاية الأخيرة للأمور.

في حوالي السبعين سنة الأخيرة، قدمت اقتراحات تدور حول المعنى الحقيقي لتعليم يسوع عن المجتمع الجديد أو “ملكوت الله”.

الأخرويات المستقبلية

أول هذه الآراء أن تعليم يسوع كجزء من “الأخرويات المستقبلية”. فنحن نقصد بها المستقبل من وجهة نظر الوقت الحاضر. فهناك مسيحيون كثيرون اليوم ممن يأخذون “الأخرويات المستقبلية” بمعنى أنهم يتوقعون مجيء ملكوت الله في شكل محسوس في وقت لا يزال في علم المستقبل. وكثيراً ما يعرّفون مجيء ملكوت الله بهذه الطريقة على أنه “المجيء الثاني (parousia) ليسوع نفسه. إلا أنه حين يتكلم المفسرون عن تقاليد الإنجيل، فإنهم يحجزون تعبير “المستقبلي” لتوقعات يسوع نفسه عن المجتمع الجديد، وليس لتوقعات المسيحين المعاصرين.

وكان “ألبرت شويتزر” المفكر اللاهوتي الألماني، والذي أصبح المرسل الطبي في إفريقيا – هو أول من أضفى الشعبية على الفكرة القائلة إن ليسوع توقعات خاصة بالأخرويات المستقبلية. وكان يعني بهذا أن يسوع يتبنى توقعات مماثلة لتوقعات الكثيرين من الكتاب الرؤويين اليهود الذين كانوا معاصرين له. وقد أشار إلى أن يسوع اعتقد أن الله كان على وشك أن يتدخل، وبشكل عاجل ومثير في شؤون البشر، وأن عمل حياته هو أن تكون الذروة الحاسمة للتاريخ – وهي ذروة سوف تأتي لذلك أثناء حياة يسوع على الأرض – وهذا، كما قال شويتزر هو ما قصده يسوع حين أعلن أن ملكوت الله قريب.

وقد صور يسوع نفسه على أنه المسيا المعين، الذي ستكون له السلطة الكاملة عند مجيء الملكوت، ولكنه مثل كثيرين من الرائيين، سواء قبله أو بعده، وجد أن حقيقة الحياة مختلفة عن هذه الأحلام المثالية. وتدريجياً بينما تواصل الحياة مسيرتها يبدو كما لو أن الحلم ليس سوى وهم. وفي وقت مبكر من مجرى عمله – كما يقول شويتزر – كان يسوع واثقاً بما فيه الكفاية ليقول لتلاميذه إن ابن الإنسان على وشك أن يظهر في مجد، وسيكون ذلك سريعاً حتى إنه بمقدروهم أن يتوقعوا وصوله خلال أيام قليلة (متى 1: 23). ولكن ذلك لم يحدث إطلاقاً، ومن ثم قرر يسوع أن يرغم الله وذلك بالذهاب إلى أورشليم والإلحاح على السلطات هناك فيما يتعلق بهذا الموضوع. وكان من نتيجة ذلك أنه تم القبض على يسوع وحوكم، وبطريقة مأساوية حكم عليه بالموت. وحتى عمل الإيمان المدهش هذا لم يأت بالنتيجة المرجوة. وعوضاً عن ذلك انتهى بهزيمة وبصرخة يأس على الصليب حيث أدرك يسوع أن الذي يخدمه قد تخلى عنه. وكما قال شويتزر في هذا الخصوص: “عجلة القدر لن تدور، ولذلك طرح يسوع نفسه عليها وترك حيث ما زال معلقاً هناك.

ومع ذلك، وبرغم أن آمال يسوع انتهت إلى الفشل إلا أن شويتزر يدعي أن قوة عظيمة قد نتجت عن هذا العمل الذي لا يصدق في الثقة التي لم تكن في محلها إلا أن تأثيرها أعظم مما كان سيحدث لو أن الملكوت الرؤوي كان قد جاء بالفعل. لأن يسوع كمثال لا يزال بمقدوره أن يترك تأثيراً أخلاقياً روحياً كبيراً بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في أن يكونوا مضيفين.

ومن المؤكد أن شويتزر نفسه وضع الدروس التي رآها هنا موضع التطبيق. وليس معنى هذا أنه أخذ تعليم يسوع الفعلي بجدية بالغة، لأنه كان ينظر حتى إلى الموعظة على الجبل على أنها “أخلاقيات فترة فاصلة، لم يقصد لها أن تطبق إلى لفترة وجيزة للغاية أثناء فترة خدمة يسوع. وبدلاً من ذلك كان يولي أهمية عظمى لأمانة يسوع لمعتقداته. ولقد قال إن هذا شيء لا بد وأن يكون له تأثيره على كل من يأخذه بجدية.

ولقد نشرت آراء شويتزر في كتاب رائع ظهر لأول مرة في إنجلترا سنة 1909 تحت عنوان “ضالة يسوع التاريخ المنشودة”. ما زال يعد كواحد من أعظم الكلاسيكيات اللاهوتية. وكثير من بنود حجة شويتزر ما يزال ينظر إليها على أنها صحيحة حتى إلى يومنا هذا. ومن الصعوبة أن نجد من لا يتفق مع رأيه بأن تعليم المسيح عن المجتمع الجديد لا بد وأنه ظهر مماثلاً جداً للتوقعات الرؤوية للشعب في أيامه. ومن المؤكد أنه يشترك في كثير من الأمور مع توقعاتهم بأكثر مما يتفق مع الأفكار التي قال بها رجال الكنيسة في العصور الوسطى فيما يختص بالملكوت والكنيسة، أو مع أنصار اللاهوت المتحرر في العصر الحديث.

ومما لا شك فيه أن شويتزر كان على حق أيضاً في رؤيته أن عمل حياة يسوع، ولا سيما موته، كان بالضرورة جزءًا ضرورياً من تدخل الله في حياة الناس العاديين. ومع ذلك، هناك مصاعب كثيرة تكتنف قبول هذا كتفسير لحياة المسحي كلها وتعليمه. وذلك لسبب واحد وهو أن شويتزر دأب على تجاهل الأقوال التي لا ريب أن يسوع قالها عن أهميته، وأنه اقتصر بشكل يكاد يكون تاماً على أقول يسوع عن ملكوت الله. وسبق أن رأينا أن هذين الجزئيين من تعليم يسوع يجب أن يفهما معاً. ومن المستحيل فهم ما قصده بالنسبة لمجتمع الله الجديد دون أن نأخذ في اعتبارنا تماماً قوله بأن له علاقة خاصة بالله نفسه.

وما لم نكن على استعداد لإنكار كل المصداقية التاريخية لقصص الإنجيل، يكون يسوع كان هو مجيء العهد الجديد بدلاً من الصعوبة الاعتقاد بأن يسوع لم يدرك أهمية موته في أورشليم إلا بعد فشل كل جهوده السابقة لإقامة المجتمع الجديد. بل ولسنا في حاجة لأن نشارك شويتزر اعتقاده أن موت يسوع أخفق أيضاً في غايته المرجوة، ولم ينتج عنه سوى تأثير روحي طفيف على حياة أولئك الذين بذلوا الوقت في التفكير فيه.

وقد استغل شويتزر الكثير من أقوال يسوع لتلاميذه كتلك التي أدلى بها قبل تجليه “إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يرون ملكوت الله قد أتى بقوة” (مرقص 9: 1). وطبقاً لنظرية شويتزر فإن هذا لم يحدث إطلاقاً. ولكنه لم يصل إلى هذا الاستنتاج إلا بسبب موقفه المتشكك في دليل العهد الجديد. لأن كل اعتقاد الكنيسة الأولى هو أن الله قد تدخل حقاً في شؤون البشر بطريقة قوية ومثيرة بقيامة يسوع وعطية الروح القدس لأتباعه، وأن كلاُ من هذين الأمرين كان من النتائج المباشرة لموت يسوع على الصليب، وحين نتذكر أن الكثير من الكتاب المقدس “كتب في أقل من جيل بعد وقوع هذه الأحداث، يكون من الواضح أن الدليل المستمد منه لا يمكن دحضه تماماً وبالسهولة التي تخيلها شويتزر.

الأخرويات التي تحققت

على النقيض تماماً من نظرية شويتزر جاءت فكرة البروفسور “دود” بأن يسوع كان لديه ما نسميه “أخرويات. تحققت”، وطبقاً لما قاله “دود” المجتمع الجديد قد جاء بالفعل في شخصه. ومن ثم بوسعنا القول إن مجيء يسوع هو نفسه مجيء حكم الله. ومع أن المجتمع الجديد قد يحتاج إلى أن ينمو ويتطور، إلا أن العمل الأساسي والحاسم قد تم بالفعل، وهذا رأي له جاذبيته، ولا سيما بالنسبة لمن ينتمون إلى عصر علمي حديث. ونماذج الفكر المألوفة للرؤويين اليهود في القرن الأول تعد غريبة بالنسبة لنا فمعظمنا يجد أنه من الأسهل أن يعتقد أن مجيء يسوع كان هو مجيء العهد الجديد بلاً من الإغراق في التخمينات الغريبة التي لا فائدة منها والخاصة بالمستقبل، والتي حتى يومنا هذا ما تزال تشغل اهتمام بعض الجماعات المسيحية ذات الآراء الغريبة.

وفكرة أن يسوع رأى حياته وعمله على أنها مجيء مجتمع الله الجديد تساعدنا أيضاً على أن نفهم بمزيد من الوضوح طبيعة الأحداث التي سجلتها الأناجيل على نحو من الدقة. فالمعجزات، على سبيل المثال، من الممكن فهمها بشكل أيسر إذا ما اعتبرناها علامات ودلائل على أن الله كان يعمل بالفعل في خلق مجتمع جديد. مما لو كنا ننظر إليها بالطريقة التقليدية على أنها أدلة تثبت لاهوت المسيح.

وبالطبع يدرك “دود” أنه ليس من الممكن فهم كل مواد الإنجيل بسهولة في إطار أخرويات تحققت. فما الذي يمكن أن نفهمه على سبيل المثال، من الصور والأمثلة التي يبدو أنها الدينونة الأخيرة، مثل قصص العذارى العشر أو الخراف والجداء (متى 25: 1-13، 31-46)؟ ويفسر “دود” هذه القصص على أنها صور وليست دينونة أخيرة ستحل في نهاية العالم، بل هي نوع من أنواع التحدي الذي يقابل جميع الناس حينما تقابلهم الرسالة المتعلقة بيسوع والمجتمع الجديد.

ومن المؤكد أنه يوجد دليل كاف على أن يسوع اعتبر إعلان رسالته من ناحية ما كدينونة بالنسبة لأولئك الذين سمعوها ولم يستجيبوا لها. والإطار الذي أدان فيه يسوع الفريسيين يظهر في كثير من الأحيان أنهم أبعد ما يكونوا عن أن يخلصوا (مرقص 3: 28-30؛ متى 23)، وكاتب الإنجيل الرابع من المؤكد انه يعرض بشكل دقيق على الأقل جزءًا من رسالة يوسع حين يعلق قائلاً: “الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن به قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد وهذه هي الدينونة، أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو 3: 18-19). وعلى ذلك فإنه ليس من الصعب أن تجد فقرات في تعليم يسوع يمكن أن تدعم إلى حد ما نظرية “دود”. غير أنه ليس بمقدور النظرية أن تشرح كل تفصيلة من تفصيلات البرهان. وهناك عائقان كبيران يتمثلان في الآتي:

ç على الرغم من أنه توجد فقرات كثيرة في تعليم يسوع تساند النظرية، إلا أن هناك فقرات كثيرة لا تساندها. وفي كثير من الحالات يشير يسوع إلى ابن الإنسان “آتياً على سحاب السماء” وكل نظرية مصطبغة بلا ريب بنوعية التشبيهات المجازية الرؤوية التي لفت إليها شويتزر الانتباه بطريقة رائعة.

ç علينا أن نضع في الاعتبار أيضاً ما تقوله لنا بقية أجزاء العهد الجديد عن معتقدات المسيحيين الأوائل. ولسوف نجد بها خليطاً من الأخرويات “المستقبلية”، والأخرويات التي تحققت.

وفي الرسالة التي كتبها بولس إلى الكنيسة التي في مدينة تسالونيكي اليونانية في مطلع الخمسينات في القرن الأول، نجد تأكيداً كبيراً على توقعات المسيحيين الأولين بأن يسوع سيجيء ثانية في مجده، ومن الواضح أن بولس نفسه كان يشاركهم هذه التوقعات. ولو أن ذلك ليس بالطريقة المتطرفة مثل التسالونيكيين (1تس 4: 13 – 5: 11؛ 2تس 2: 1-12). وعلى صعيد آخر نجد أن بولس قابل في كورنثوس بعض الناس الذين كانوا يعتقدون أن الأوصاف التقليدية لنهاية الأشياء يجب أن تؤخذ كرموز لاختبارهم الروحي – وقد أكد لهم بولس ثانية اعتقاده أن يسوع سيأتي ثانية في المستقبل (1كو 15: 3-57). ولم يكن بولس متحيزاً تماماً في الموضوع، لأنه في رسالة غلاطية، التي ربما تكون أول رسالاته، اقترح وبمعنى حقيقي جداً أن مجتمع الله قد أتى، وهو يعمل بالفعل في المسيحيين.

وهكذا فإنه إذا كانت نظرية “دود” صحيحة تماماً، وأن يسوع كان يعتقد بالفعل أن المجتمع الجديد قد وصل بالفعل إلى صيغته النهائية، فإنه يكون من الصعب أن نفهم كيف ولماذا نسى المسيحيون الأوائل هذا التأكيد على هذا النحو من السرعة، وتحولوا بدلاً من ذلك إلى تخمينات عن المستقبل. وهذا بصفة خاصة يعد سؤالاً هاماً للغاية لأن كثيرين من هؤلاء المسيحيين لم يكونوا من اليهود، ومن الطبيعي أنهم لا يفكرون في المستقبل في إطار رؤوي يهودي. كما أنه يتعين علينا أن نتذكر أن تقاليد الإنجيل نفسها حفظت في الكنائس من أجل أن نستخدمها، ومن المؤكد أنه من غير المحتمل أن عدم التناغم الواضح بين تعليم يسوع والمعتقدات الفعلية للكنيسة لم يلاحظه أحد.

أخرويات بدأت بالفعل

بسبب الصعاب المتضمنة في كل من الأخرويات المستقبلية، والأخرويات التي تحققت، حسبما يرى يسوع، فإنه يوجد اليوم تأييد كبير لرأي يحاول أن يأخذ أفضل ما في النوعيتين. وهذا الرأي يدرك أنه من ناحية ما قد جاء المجتمع الجديد بالفعل في شخص يسوع لكن اكتماله تماماً لم تتم رؤيته بعد، ولكنه حاضر في شخص يسوع وتعليمه. ولهذا سميت بالأخرويات التمهيدية، وهذا يبدو لي أفضل تفسير للموضوع. وإنه لمن الضروري أن ندرك مع شويتزر أن خلفية يسوع كانت مكونة من يهودية القرن الأول، وأن تعليمه تضمن وجهة نظر كاملة لمجرى الأحداث في المستقبل بما في ذلك الدينونة الأخيرة، والقيامة النهائية كجزء من إتمام مجتمع الله الجديد. وإنه لمن المهم أيضاً أن نعرف أن ما قاله يسوع من ناحية أن المجتمع الجديد قد أتى بالفعل في شخصه، يوجب على الناس جميعاً أن يستجيبوا لمتطلبات الله منهم.

وربما يكون بوسعنا أن نوجز هذا الموضوع الذي يبدو معقداً إلى حد ما، بالقول إنه توجد نقاط هامة لفهم ما تعين على يسوع أن يقوله عن مجيء المجتمع الجديد:

ç من المؤكد أن يسوع استخدم لغة عصره وشارك آراء الذين كانوا يتوقعون المجيء الوشيك للمجتمع الجديد من خلال تدخل الله المباشر في شؤون الناس.

ç اعتقد يسوع أن الطبيعة الأساسية للمجتمع الجديد “أعلنت في حياته وعمله – وواضح في الأناجيل أن توقعاته مختلفة تماماً عن توقعات معظم اليهود، فهو لم يعلن عن مجتمع القوة السياسية المستبدة التي تحل محل روما، بل كشف عن مجتمع محب يتكون من الذين ولاؤهم لله نفسه.

تدخل الله المباشر يرى ليس فقط في حياة يسوع وتعليمه، بل يرى أيضاً في موته، وفي قيامته، وفي عطية الروح القدس لكنيسته. بل ولعله أيضاً في هذه الأحداث التي تحققت فيها بعض تنبؤات يسوع عن الأمور الأخيرة – على سبيل المثال – القول إن بعض تلاميذه سوف يرون المجتمع الجديد آتياً بقوة قبل أن يموتوا (مر 9: 1).

هنا تنوع كبير في اللغة التي استخدمها يسوع في وصف المجتمع الجديد حتى إنه من المستحيل فهمها إلا من خلال النظرة الأكثر شمولاً. فالملكوت يجيء سراً مثل الخميرة التي تعمل في العجين (مت 13: 23)، أو يمكن أن تأتي بظهور مفاجئ للمسيح في مجد مثل المجيء الثاني المتوقع (مرقص 13).

ملكوت الله وملكوت السماوات

من بين السمات البارزة في إنجيل متى أنه يداوم على استخدام تعبير “ملكوت السماوات” ليصف موضوع تعليم يسوع والاستثناءات الوحيدة لهذا نجدها في (متى 12: 28؛ 19: 24؛ 21: 31، 43) حيث نجد فيها تعبير “ملكوت الله” وهو التعبير الذي استخدم بصفة دائمة في إنجيلي مرقص ولوقا.

وعلى أساس هذا الفرق اعتقد البعض أنهم يستطيعون أن يميزوا بين مرحلتين منفصلتين تماماً في تعليم يسوع، وأنه ليس هناك شك في أن التعبيرين يشيران إلى الشيء نفسه. وهذا ما يمكن توضيحه بسهولة تامة بمقارنة نفس الأقوال في إنجيل متى والإنجيلين المتشابهين الآخرين. وعلى سبيل المثال – حيث يلخص مرقص رسالة يسوع فيقول: “اقترب ملكوت الله فتوبوا” (مرقص 1: 15) نجد في متى: “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات” (متى 4: 17).

والعبارتان وردتا في نفس السياق تماماً (بداية خدمة يسوع التعليمية)، ومن الواضح أنه توجد نسخ مختلفة لنفس هذه العبارة. وهناك أمثلة أخرى كثيرة لنفس هذا التناول في بقية الأناجيل.

وتفسير هذا الاختلاف في التعبير يرجع إلى أن متى كان يكتب لقرائه من اليهود، في حين أن مرقص ولوقا كانا يكتبان لغالبية غير يهودية. ولم يكن اليهود يحبون أبداً استخدام اسم “الله” خوفاً من أن يجدوا أنفسهم قد كسروا دون قصد الوصية القائلة: “لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً” (خروج 20: 7)، ولذلك كانوا يستخدمون كثيراً تعبيرات أخرى بديلة. وكلمة “السماء” كانت بديلاً مفضلاً. ولذلك كان متى يتحدث عن “ملكوت السماوات” كي يتجنب مضايقة قرائه. ولكن غير اليهود ليس لديهم هذا التحفظ وتعبير “ملكوت السماوات” كان سيشكل لهم تعقيداً ليس له أية ضرورة، ما لم يعتبرونه بلا معنى على وجه الإجمال. ولهذا يستخدم مرقص ولوقا عوض ذلك تعبير “ملكوت الله”.

ربما يخطر على فكر البعض بأنه نظراً لأن تعبير “ملكوت السماوات” كان التعبير اليهودي، فلا بد أنه التعبير الأساسي الذي استخدمه يسوع نفسه، ثم اقتبسه مرقص ولوقا في وقت لاحق لاستخدامه للقراء من غير اليهود. إلا أن الاحتمال الأرجح أن يسوع كان يستخدم تعبير “ملكوت الله”، وأن متى هو الذي استخدم بدلاً منه تعبير “ملكوت السماوات” لأسباب ترجع إليه. وهناك سببان لهذا الاعتقاد:

ç لم يُظهر يسوع إطلاقاً أي تحفظ عند الحديث عن الله، وأنه لم يقل إنه يعرف الله بطريقة وثيقة وشخصية فحسب، بل وتجرأ وقال إنه “أبوه”.

ç كما سبق ورأينا، أنه توجد أربعة أمثلة في إنجيل متى استخدم فيها تعبير “ملكوت الله”. وهذا يمكن فهمه بسهولة إذا افترضنا أن متى تغاضى عن ورود الكلمة هذه المرات الأربع، غير أنه من غير الممكن أن نعتقد أنه في هذه الحالات الأربع غيّر عبارة أصلية “ملكوت السماوات” إلى “ملكوت الله” من أجل فائدة قرائه اليهود.

ولعل التشكيلة المحيرة التي وصف بها المجتمع الجديد كان تستهدف تعليمنا درساً مهماً للغاية عنه، وهو أن ما يستطيع الله أن يعلمه بين الناس بواسطة يسوع المسيح هو شيء أعظم بكثير مما يقدر أي واحد منا أن يستوعبه تماماً. فحين يعمل الله فهو يفعل ذلك بطريقة بارزة وهو يعمل ذلك أيضاً بطريقة بسيطة حتى يكون بمقدور كل واحد أن يفهم عنه ما فيه الكفاية لكي يستطيع أن يتجاوب مع الدعوة. وهذا هو السبب الذي حمل يسوع أن يقدم الكثير من تعليمه في شكل أمثال أو صور بسيطة. ولكي نذهب إلى أكثر من ذلك في سبيل فهم مجتمع الله الجديد، علينا أولاً أن نتأمل بعضها.

 

[1] مرقص 1: 15.

[2] لوقا 17: 20-21.

[3] مرقص 10: 15.

[4] لوقا 13: 29.

[5] لوقا 22: 18.

[6] متى 25: 34.

[7] دانيال 7: 13-18.

[8] يوحنا 6: 15.

[9] مرقص 10: 35-45.

[10] متى 13: 33.

[11] متى 13: 31-32.

[12] مرقص 13.

[13] قضاة 8: 22-23.

[14] مزمور 96: 10؛ 99: 1؛ 146: 10.

[15] رومية 14: 17.

[16] 1كورنثوس 15: 24.

[17] رؤيا 11: 15.