أبحاث

المعجزات هل هي علامات تشير لله أم سذاجة؟

المعجزات هل هي علامات تشير لله أم سذاجة؟

المعجزات هل هي علامات تشير لله أم سذاجة؟
المعجزات هل هي علامات تشير لله أم سذاجة؟

المعجزات هل هي علامات تشير لله أم سذاجة؟

 

“إن اعترفنا بالله، هل لا بد أن نعترف بالمعجزات؟ بالتأكيد. بالتأكيد. لا مناص من ذلك. هذه هي الصفقة الكاملة”.

سي. إس. لويس

من المؤهل للفوز النهائي؟

يجب أن نتوقف برهة ونجمع قطع اللغز التي اكتشفناها حتى الآن. وتذكر أننا نبحث عن الوحدة في التنوع. إننا نحاول أن نرتب قطع الحياة المتنوعة في صورة متسقة. وصورتنا المتسقة حتى الآن تبين لنا أن الحق موجود ويمكن معرفته. وأي إنكار للحق يفترض الحق مسبقاً. إذن لا مهرب من وجود الحق. وإن كنا لا نستطيع أن نعرف معظم الحق معرفة مطلقة نظراً لمحدوديتنا البشرية، إلا أننا نستطيع أن نعرف الكثير من الحقائق بدرجة كبيرة من اليقين (أي “بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي”).

ومن هذه الحقائق وجود الله وطبيعته. وطبقاً لما تناولنا من فروع الأدلة. أي الحجج الكونية، والغائية، والأخلاقية، يمكننا أن نعرف بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي أنه يوجد إله خلق الكون ويحفظه وله صفات معينة.

من الحجة الكونية نعرف أن الله:

  1. ذاتي الوجود، وخارج حدود الزمان والمكان، وغير مادي (فبما أنه[1] خلق الزمان والمكان والمادة، لا بد أن يكون خارج الزمان والمكان والمادة). وهو ما يعني أنه غير محدود، أي أنه لا نهائي.
  2. قوته تفوق الخيال، بما أنه خلق الكون كله من العدم.
  3. شخص، بما أنه اختار أن يحول حالة من العدم إلى كون مادية زمكاني (القوة اللاشخصية لا تقدر أن تختار).

من الحجة الغائية نعرف أن الله:

  1. يتصف بذكاء فائق بما أنه صمم الحياة والكون بهذا التعقيد والدقة المذهلين.
  2. له غرض، بما أنه صمم أشكال الحياة الكثيرة بحيث تعيش في هذه البيئة المحددة والمنظمة.

من الحجة الأخلاقية نعرف أن الله:

يتصف بالنقاء الأخلاقي المطلق (هو المقياس الثابت للأخلاق الذي تقاس عليه كافة الأفعال. وهذا المقياس يشتمل على عدالة ومحبة بلا حدود).

إن منظور الله الخالق الحافظ Theism هو المصطلح الدقيق الذي يصف مثل هذا الإله. والآن إليك الحقيقة المذهلة بخصوص هذه النتائج: الله الخالق الحافظ الذي اكتشفناه يتطابق مع إله الكتاب المقدس، إلا أننا اكتشفناه دون اللجوء للكتاب المقدس.

وقد بينا أنه بالمنطق السليم، والعلم، والفلسفة يمكن معرفة الكثير عن إله الكتاب المقدس. والحقيقة أن هذا هو ما يقوله الكتاب المقدس عن نفسه (مثلاً مزمور 19؛ رومية 1: 18-20؛ 2: 14، 15). ويطلق اللاهوتيون على إعلان الله عن نفسه بهذه الصورة مصطلح الإعلان الطبيعية أو العام (الذي يرى بوضوح بالاستقلال عن أي نص). أما إعلان الكتاب المقدس يطلق عليه الإعلان الخاص.

ومن ثم، نعرف من الإعلان الطبيعي أن الإيمان بالله الخالق الحافظ صحيح. ويساعدنا هذا الاكتشاف أن نعرف شكل سطح العلبة الصحيح، بل يساعدنا أيضاً أن نعرف الأشكال التي لا يمكن أن تمثل الشكل الصحيح. وبما أن عكس الصحيح هو الخاطئ (الفصل الثاني)، فإننا نعرف أن أي منظور للحياة يناقض الإيمان بالله الخالق الحافظ منظور خاطئ.

أن يمكننا التعبير عن ذلك بطريقة أخرى: لا يمكن أن يكون هناك دين صحيح إلا واحد فقط من بين أديان العالم الرئيسية التي تؤمن بالله الخالق الحافظ، أي اليهودية أو المسيحية أو الإسلام. وسائر الديانات العالم الرئيسية جميعاً لا يمكن أن تكون صحيحة لأنها لا تؤمن بالله الخالق الحافظ.

يمكن أن تكون صحيحة

(تؤمن بالله الخالق الحافظ)

لا يمكن أن تكون صحيحة

(لا تؤمن بالله الخالق الحافظ)

1 – اليهودية

1 – الهندوسية (تؤمن بوحدة الوجود وتعدد الآلهة)

2 – المسيحية

2 – البوذية (تؤمن بوحدة الوجود أو الإلحاد)

3 – الإسلام

3 – العصر الجديد (يؤمن بوحدة الوجود)

 

4 – الإنسانية العلمانية (إلحادية)

 

5 – المورمونية (تؤمن بتعدد الآلهة)

 

6 – الويكا Wicca (تؤمن بوحدة الوجود أو تعدد الآلهة)

 

7 – الطاوية (تؤمن بوحدة الوجود أو الإلحاد)

 

8 – الكونفوشيوسية (إلحادية)

 

9 – الشنتو Shinto (تؤمن بتعدد الآلهة)

 

وقد يبدو هذا الكلام زعماً متكبراً ينكر وجود الحق في العديد من ديانات العالم في هذه المرحلة. ولكن بالمنطق البسيط، وفقاً لقانون عدم التناقض، لا يمكن لديانات مضادة لبعضها البعض أن تكون جميعاً صحيحة. فكما يستبعد بعض لاعبي كرة القدم من سجل المرشحين للعب لأنهم يفتقدون للقدرات اللازمة، وهو إجراء عادل، هكذا تستبعد ديانات معينة في العالم من سجل الديانات التي يمكن أن تكون صحية، لأنها تفتقد للمؤهلات اللازمة.

لذا منطقياً، إن كان الإيمان بالله الخالق صحيحا، إذن كل الأديان التي لا تؤمن بالله الخالق خاطئة. إلا أن هذا لا يعني أن كل تعاليم الديانات التي لا تؤمن بالله خاطئة أو أن تلك الديانات تخلو تماماً من أي صلاح، بل من المؤكد أن هناك شيئاً من الحق والصلاح في معظم ديانات العالم. ولكنه يعني ببساطة أن الديانات التي لا تؤمن بالله خاطئة من حيث كونها طريقة لرؤية العالم (أي منظوراً فلسفياً للحياة)، فرغم أن بعض تفاصيلها قد تكون صحيحة، فهي خاطئة في جوهرها. وذلك لأنها منظومات بنيت على أساس خاطئ حتى إن كانت تشتمل على قدر من الحق.

فمثلاً يعلم الهندوس بأنك تحصد ما تزرع، وهو تعليم صحيح، إلا أن المنظور الهندوسي للحياة، ألا هو “أنك” لا توجد وجوداً حقيقياً لأن كل شيء يمثل جزءًا من واقع واحد لا يمكن التمييز بين أجزائه واسمه البراهمان Brahman، هو منظور خاطئ. والفلسفة الإنسانية العلمانية تؤكد حقيقة الشر، وهو تأكيد صحيح، إلا أن المنظور الإنساني للحياة الذي ينكر وجود مقياس موضوعي لتحديد الشر هو منظور خاطئ. والمورمون يعلمون أن هناك مقاييس أخلاقية يجب أن نتبعها، وهو تعليم صحيح، إلا أن المنظور المروموني للحياة الذي يقول بتعدد الآلهة منظور خاطئ.

وهذه النقطة الأخيرة بخصوص المورمونية تطرح سؤالاً، ألا وهو: لماذا يدحض وجود إله خالق فكرة تعدد الآلهة؟ إنه يدحض تعدد الآلهة لأن الله لا متناه، ولا يمكن أن يوجد أكثر من كائن واحد لامتناه. وذلك لأن التمييز بين كائن وآخر يستلزم وجود اختلافات بين الكائنات. ولكنهم لو اختلفوا في أي ناحية، فهذا يعني أن أحدهم ينقصه شيء موجود عند آخر. وإن كان أحد الكائنات يقصه شيء موجود عند آخر، إذن الكائن الناقص ليس لا متناه لأن الكائن اللامتناه لا ينقصه شيء بطبيعة الحال. لذا، يستحيل أن يوجد إلا كائناً واحداً لا متناهياً.

وهنا يمكن لأحدهم أن يقول إنه توجد كائنات متناهية (أو “آلهة”) أقوى من البشر. ففي الواقع، اليهودية والمسيحية والإسلام تعلم جميعاً بوجود ملائكة وشياطين. إلا أن هذا يختلف عن تعدد الآلهة الذي ينكر وجود كائن أعلى لامتناه سرمدي تدين له كل المخلوقات بوجودها ويكون كل البشر مسؤولين أمامه في النهاية. وبما أن الإيمان بالله الخالق الحافظ صحيح، إذن الإيمان بتعدد الآلهة خاطئ مثله مثل الإلحاد، ووحدة الوجود، وغيرها من المنظورات التي لا تؤمن بالله الخالق.

ولكننا ابتعدنا عن موضوعنا. فالنقطة الرئيسية هي أن سطح العلبة الصحيح للكون يظهر إلهاً خالقاً. وهو ما يعني أن واحدة فقط من ديانات العالم الرئيسية الثلاث هي المؤهلة للفوز النهائي: إما اليهودية، أو المسيحية، أو الإسلام. والآن، لا يمكن منطقياً أن تكون كل ديانات العالم هذه التي تؤمن بالله الخالق صحيحة، لأنها تزعم مزاعم تنفي بعضها البعض. فضلاً عن ذلك، من المحتمل أيضاً أن ليس هناك ديانة واحدة صحيحة تماماً من بين ديانات العالم هذه.

فربما أن إيمانها بالله الخالق هو الصحيح، وفيما عدا ذلك لا تحو من الحق إلا القليل. فهذا ممكن. إلا أنه بما أننا نعلم بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي أن الله موجود وأنه يتصف بالصفات التي عددناها أعلاه، وهي صفات تشتمل على التصميم، والغرض، والعدالة، والمحبة، إذن يجب أن نتوقع منه أن يكشف المزيد من نفسه وغرضه لحياتنا. وهو ما يتطلب منه أن يتواصل معنا. والاحتمال المتوقع أن واحدة من هذه الديانات الرئيسية الثلاث التي تؤمن بالله الخالق تحتوي على ذلك التواصل.

كيف يتواصل الله؟

كما رأينا، الله تواصل معنا من خلال الخليقة والضمير (الإعلان الطبيعي أو العام) الذي يزودنا بأفكار أولية عن وجوده وقوته ومتطلباته الأخلاقية. ولكن كيف يمكن أن يعلن الله نفسه بحيث نصل إلى فهم أكثر تفصيلاً لغرضه النهائي لنا؟ لماذا لا يستطيع أن يظهر لكل منا؟ يستطيع، ولكن هذا الأسلوب قد يقهر إرادتنا الحرة. سي. إس. لويس له أفكار ثاقبة في هذا الموضوع. ففي كتابه “رسائل خربر” يكتب الشيطان الكبير “خربر” الرسالة التالية لتلميذه “علقم”:

لا شك أنك تساءلت لماذا لا يزيد العدو [الله] من استخدام قوته حتى يكون حضوره محسوساً لنفوس البشر بالدرجة التي يبغيها وفي أي لحظة. ولكنك الآن فهمت أن طبيعة خطته في صميمها تمنعه من استخدام هذين السلاحين: ما يستعصي على المقاومة، وما يستعصي على الشك. فقهر الإرادة البشرية (الذي ينتج حتماً عن حضوره المحسوس في أبهت وأخف درجاته) عديم الفائدة له. فهو لا يستطيع أن يغتصب. ولكنه يستطيع فقط أن يبهر.

إن لم يستخدم الله هذا الخيار القاهر بأن يتعامل وجهاً لوجه مع كل شخص على الكوكب. إذن ربما أنه اختار طريقة للتواصل أكثر استتاراً. (والحقيقة أن الكتاب المقدس يقول إن الله ليس ظاهراً باستمرار على النحو الذي نتمناه [إشعياء 45: 15]). فمن المحتمل أن الله أظهر نفسه بطريقة ما لفئة منتقاة من البشر على مر قرون كثيرة وأوحى لهم أن يكتبوا ما شهدوه وسمعوه منه. واللغة المكتوبة واسطة دقيقة للتواصل يسهل نسخها بدقة ونقلها للأجيال المتعاقبة، وفي الوقت نفسه من يقرر بإرادته الحرة أنه لا يريد أن يزعج نفسه بالله يستطيع أيضاً أن يتجاهلها.

لذا فالكتاب وسيلة مناسبة للتواصل الإلهي ولكنها ليس قاهرة. ولكن كتاب من يا ترى؟ هل تواصل الله من خلال كتاب اليهود، أم كتاب المسيحيين، أم كتاب المسلمين؟ فإن كان أي من هذه الكتب يمثل بحق رسالة من الله، فكيف يمكننا أن نحدد هذا الكتاب؟

ختم الملك

قبل عصر الاتصالات الجماهيرية عندما كانت كل الرسائل التي ترسل إلى مسافات بعيدة تسلم باليد، كان الملك يضع ختمه على الرسالة. وهذا الختم هو علامة تبين لمتلقي الرسالة أنها أصلية، أي أنها مرسلة فعلاً من الملك لا من شخص ينتحل شخصية الملك. وطبعاً لإنجاح العمل بهذا النظام، كان لا بد للختم أن يتخذ شكلاً فريداً أو غير مألوف، ويسهل التعرف عليه، وكان يجب ألا يكون بحوزة أحد إلا الملك.

وقد تمكن الله من استخدام نظام مشابه ليؤكد أصالة رسائله، وهذا النظام هو المعجزات. فالمعجزات فريدة وغير مألوفة، ويسهل التعرف عليها، ولا أحد يستطيع أن يفعلها إلا الله. حتى المتشككون عندما يطالبون الله بآية يعترفون ضمناً أن المعجزات تثبت وجوده.

ما هي المعجزة؟ المعجزة هي فعل خاص يقوم به الله يقطع مجرى الأحداث الطبيعي. وهو ما عبر عنه الملحد أنتوني فلو Antony Flew تعبيراً جيداً حين قال: «المعجزة شيء ما كان ليحدث أبداُ لو تركت الطبيعة هكذا لأدواتها الخاصة». ومن ثم يمكننا أن نقول إن القوانين الطبيعية تصف ما يحدث بانتظام بواسطة المسببات الطبيعية، أما المعجزات، إن كانت تحدث أصلاً، تصف ما يحدث نادراً بالمسببات فوق الطبيعية.

فبالمعجزات استطاع الله أن يخبر العالم أي كتاب أو أي شخص يعبر عنه. لذا، إن أراد الله أن يبعث رسالة من خلال موسى، أو إيليا، أو يسوع، أو بولس، أو أي شخص آخر، كان باستطاعته أن يصب المعجزات من خلال ذلك الشخص. فإن كان الله يعمل فعلياً بهذه الطريقة، إذن المعجزة تؤكد الرسالة، والآية تؤكد العظة. أو يمكننا التعبير عن هذا المعنى بشكل آخر: المعجزة فعل يقوم به الله ليؤكد كلمة الله بواسطة رسول من الله.

السؤال هو: هل الله يعمل بهذه الطريقة؟ هل ملك الكون يستخدم هذه الآيات؟ هل المعجزات ممكنة أصلاً؟ عالمنا العلماني يقول لا. ولكنه مخطئ خطأً فادحاً كما سنرى.

هل الصندوق مفتوح أم مغلق؟

منذ قريب واجه أستاذ كلية اللاهوت رونالد ناش تحدياً كبيراً وهو في زيارة إلى روسيا ليتحدث إلى المعلمين الروس. فقد أراد أن يتحدث إليهم عن الله، ولكنه كان يعرف أنه لن يصل إلى أي شيء مهم معهم إلى إذا نجح في التغلب على تحيزاتهم القديمة المتأصلة ضد الإيمان بالله. فالروس تعلموا على مدى أكثر من سبعين عاماً منظوراً فلسفياً للحياة يستبعد الله مسبقاً. وكان الإلحاد الدين الرسمي للدولة، والمنظور الإلحادي للحياة يؤكد أنه لا يوجد سوى العالم الطبيعي المادي. وطبقاً لمعتقدات الملحدين، المعجزات مستحيلة لأنه ليس هناك عالم فوق طبيعي. ومن يؤمن بغير ذلك كمن يؤمن بقصص الجنيات.

فبدأ ناش بأن عرض أمامهم صندوقين صغيرين من الورق المقوى. كان أحدهما مفتوحاً، وكان الآخر مغلقاً. وبدأ كلامه قائلاً: «إليكم الفرق بين منظوركم الفلسفي للحياة ومنظوري». وقال مشيراً إلى الصندوق المغلق: “أنتم تعتقدون أن الكون المادي مغلق؛ أي أنه لا يوجد سوى الكون ولا شيء خارج الكون”. ثم انتقل إلى الصندوق المفتوح وواصل كلامه قائلاً: «أنا أيضاً أعتقد أن الكون المادي موجود، ولكني أعتقد أن الكون مفتوح، أي أن هناك شيء خارج الكون نسميه الله». ثم توقف ناش لحظة وأضاف: «والله خلق الصندوق!»

ثم أدخل يده في الصندوق المفتوح وقال: «كما أستطيع أن أدخل يدي في هذا الصندوق لأتحكم في محتوياته، كذلك الله يستطيع أن يدخل في كوننا ويجري ما نسميه معجزات». ولسبب ما كان هذا التشبيه عميقاً في نظر الروس. وبدأت المصابيح تضيء في عقول المعلمين في القاعة كلها. فقد افترض هؤلاء المعلمون أن منظورهم الفلسفي الطبيعي للحياة صحيح ولم يفكروا في أي بدائل. ولكن ناش ساعدهم أن يفكروا في أنه من المحتمل أن بديلاً آخر كالإيمان بالله الخالق أدلته أقوى.

وكما رأينا من الفصل الثالث إلى السابع، الإيمان بالله الخالق أدلته أقوى فعلاً. فنحن نعرف بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي أنه يوجد إله خالق. وبما أن الله موجود، فالكون الذي يمثله الصندوق المغلق خطأ. إن الصندوق مفتوح وقد خلقه الله. إذن من الممكن أن يتدخل الله في العالم الطبيعي بصنع معجزات. والحقيقة أن المعجزات ليست ممكنة فحسب، بل المعجزات فعلية، لأن أعظم المعجزات جميعاً، ألا وهي خلق الكون من العدم، حدثت بالفعل. لذا، بخصوص الكتاب المقدس، إن كان تكوين 1: 1 صحيحاً «في البدء خلق الله السماوات والأرض»، إذن من السهل تصديق سائر المعجزات الأخرى الواردة في الكتاب المقدس.

فهل الإله الذي خلق الكون كله من عدم يستطيع أن يشق البحر الأحمر؟ وينزل ناراً من السماء؟ ويحفظ رجلاً داخل حوت لمدة ثلاثة أيام؟[2] ويتنبأ بأحداث مستقبلية بدقة؟ ويحول الماء إلى خمر؟ ويشفي الأمراض في لحظة؟ ويقيم الموتى؟ طبعاً. كل تلك الأحداث المعجزية مهام بسيطة بالنسبة لكائن قوي بلا حدود خلق الكون أصلاً.

إلا أن هذا لا يعني أن الله صنع تلك المعجزات الكتابية. فهذا ما سنراه لاحقاً. ولكنه يعني فقط أنه باستطاعته أن يفعل ذلك، أي أن تلك المعجزات ممكنة. ففي ضوء حقيقة أننا نعيش في عالم خلقه الله، يتضح بجلاء أن استبعاد المعجزات مسبقاً (كما يفعل الكثير من الملحدين) موقف غير مشروع. كما قال سي. إس. لويس: «إن اعترفنا بالله، هل لا بد أن نعترف بالمعجزات؟ بالتأكيد، بالتأكيد، لا مناص من ذلك. هذه هي الصفقة الكاملة”.

لذلك، لماذا يقول العديد من الناس اليوم إن المعجزات مستحيلة أو إنه لا يجب تصديقها؟ كيف يمكن للمتشككين ألا يؤمنوا بالمعجزات والكون كله يبدو معجزة مذهلة؟ يجب أن نتناول تلك الأسئلة قبل أن نبحث ما إذا كان الله قد أكد حق اليهودية أو المسيحية أو الإسلام بالمعجزات.

الاعتراضات على المعجزات

منذ أواخر القرن السابع عشر ظهر اعتراضان رئيسيان على المعجزات يجب أن نتناولهما بالفحص. أتى أولهما من بنيديكت سبينوزا Benedict Spinoza، وثانيهما من ديفيد هيوم. وسنبدأ باعتراض سبينوزا.

القوانين الطبيعية ثابتة لا تتغير Immutable:

كان بيندكيت سبينوزا، وهو يهودي يؤمن بوحدة الوجود، أول من نشر الحجة القائلة بأن القوانين الطبيعية ثابتة لا تتغير في سبعينيات القرن السابع عشر. وتقول حجة سبينوزا المضادة للمعجزات ما معناه:

  1. المعجزات خرق للقوانين الطبيعية.
  2. القوانين الطبيعية ثابتة لا تتغير.
  3. يستحيل خرق قوانين ثابتة لا تتغير.
  4. إذن المعجزات مستحيلة.

إن كان سبينوزا على حق، أي أنه إن كان مستحيلاً التغلب على القوانين الطبيعية، أو توقيفها مؤقتاً، أو التدخل فيها، إذن المعجزات مستحيلة. إلا أن مشكلة هذا الاعتراض أنه يصادر على المطلوب. فإن عرفت القوانين الطبيعية بأنها ثابتة، إذن المعجزات مستحيلة طبعاً. ولكن هذا هو السؤال الذي نبحث عن إجابته! فمن قال إن القوانين الطبيعية ثابتة؟

إن سبينوزا، تمشياً مع منظور وحدة الوجود، استبعد مسبقاً الإله الخالق دون وجه حق، ومن ثم استبعد المعجزات. ولكن إن كان الله موجوداً، المعجزات ممكنة. وكما رأينا أعظم المعجزات جميعاً، وهي خلق الكون من عدم، حدثت بالفعل. والخليقة نفسها تبين أن القوانين الطبيعية ليس ثابتة. فليس من الطبيعي أن ينشأ شيء من لا شيء. ولكن هذا ما حدث.

ونحن نعرف أيضاً أن القوانين الطبيعية ليست ثابتة لأنها توصيفات لما يحدث. وليست تعليمات تحدد ما يجب أن يحدث. إن القوانين الطبيعية لا تسبب فعلياً أي شيء. ولكنها تصف فحسب ما يحدث بانتظام في الطبيعية. فهي تصف آثار القوى الطبيعية الأربع المعروفة: الجاذبية، والمغناطيسية، والقوى النووية القوية والضعيفة. وما إن تدخل كائنات ذكية في الصورة، حتى يمكن التغلب على القوى الطبيعية. فنحن نعلم أن تلك القوى يمكن التغلب عليها لأننا نحن أنفسنا نفعل ذلك يومياً.

فمثلاً، عندما يمسك لاعب البيسبول الكرة وهو تسقط، فهو يتغلب على قانون الجاذبية. وهو ما نفعله كلما نقود طائرة أو نطلق صاروخاً في الفضاء. ففي هذه الحالات نحن لا نغير الجاذبية ولكننا نتغلب عليها. فإن كانت كائنات متناهية مثلنا تستطيع أن تتغلب على القوى الطبيعية، إذن من المؤكد أن الكائن اللامتناهي الذي خلق تلك القوى يستطيع أن يفعل ذلك[3].

المعجزات عديمة المصداقية:

 منذ عدة سنوات، دعيت (أنا نورم) لأتحدث في كلية لاهوت جامعة هارفارد، وهي من أكثر كليات اللاهوت ليبرالية في البلاد. وكان موضوعي بعنوان “وداع هارفارد للإنجيلية المحافظة قبل الأوان” “Harvard’s Premature Farewell to Evangelicalism“. صدق أو لا تصدق، هارفارد مثل معظم الجامعات في عصرها تأسست على يد مسيحيين إنجيليين محافظين لتعليم الطلاب معرفة يسوع المسيح. وميثاق هارفارد سنة 1646 ينص صراحة على الغرض منها (مع الاحتفاظ بالشواهد الكتابية المذكورة فيه):

ليتعلم كل طالب صراحة ويستحث جدياً أن يعتبر فعلياً أن الغاية الأساسية من حياته ودراساته هي معرفة الله ويسوع المسيح التي هي الحياة الأبدية (يوحنا 17: 3)، ومن ثم يجعل المسيح قاعدة حياته. باعتباره الأساس الوحيد لكل المعرفة والتعليم السليم. وإذ يدرك كل طالب أن الرب وحده واهب الحكمة، يوجه نفسه جدياً لطلب الحكمة منه بالصلاة السرية (أمثال 2: 3).

فكيف ابتعدت هارفارد كل هذا البعد عن ميثاقها؟ لأنها صدقت واحدة من أقوى الحجج التي صيغت ضد المعجزات. ولكنها ليست حجة سبينوزا. فنتيجة للتطورات التي شهدها العلم الحديث وفهمنا للعالم الطبيعي بشكل أفضل، ليس كثيرون اليوم يؤمنون فعلياً بثبات القوانين الطبيعية. ولكن الحجة المضادة للمعجزات المقبولة اليوم، والتي حظيت بالقبول في هارفارد، طرحها الشكوكي الكبير ديفيد هيوم (1711-1776) بعد سبينوزا بحوالي قرن من الزمان.

ولعلك تتذكر هيوم من الفصل الثاني. فهو الذي قال إن أي كلام عن الله عديم المعنى لأن هذا الكلام لا يشتمل على ملاحظة تجريبية ولا حقائق واضحة في ذاتها. وقد رأينا أن زعمه يفند نفسه.

إلا أن حجة هيوم ضد المعجزات أعقد قليلاً، ولا يسهل دحضها كما هو الحال في الحجة ضد الكلام عن الله. ولعل هذا هو أحد الأٍسباب التي تجعل الناس يصدقونها حتى اليوم. والحقيقة أن حجة هيوم ضد المعجزات تمثل واحداً من أعمدة المذهب المدعو التنوير Enlightenment (فعند هذه المرحلة يفترض أننا استنرنا بما يكفي للتخلي عن إيماننا الخرافي بالمعجزات، والإيمان بالعقل والحقائق التجريبية التي يكتشفها المنهج العلمي). وقد ساعدت حجة هيوم في تقدم المنظور الطبيعي الذي تفشى فيما بعد مع نظرية داروين في التطور.

وفيما يلي مجمل المادة التي قدمتها للحضور في هارفارد في ذلك اليوم. بدأت بتوضيح حجة هيوم المضادة للمعجزات ثم انتقلت إلى نقدها. إليك حجة هيوم في شكل قياس منطقي:

  1. القانون الطبيعي بطبيعته توصيف لحدث متكرر.
  2. المعجزة بطبيعتها حدث نادر.
  3. الأدلة على الأحداث المتكررة دائماً ما تكون أكثر من الأدلة على الأحداث النادرة.
  4. الحكيم دائماً ما يؤسس معتقداته على الأدلة الأكثر.
  5. إذن الحكيم يجب ألا يؤمن أبداً بالمعجزات.

إن كانت تلك المقدمات المنطقية الأربع صحيحة، فالنتيجة تتبع المقدمات بالضرورة. الحكيم يجب ألا يؤمن أبداً بالمعجزات. ولكن لسوء حظ هيوم ومن صدقوه على مر السنين أن حجته تشتمل على مقدمة خاطئة، لأن المقدمة الثالثة ليست بالضرورة صحيحة. فالأدلة على الأحداث المتكررة ليست دائماً أكثر من الأدلة على الأحداث النادرة.

للوهلة الأولى قد يهيأ لنا أن الأمر ليس هكذا. ففي العصر الذي يمكننا فيه مشاهدة اللقطة معادة في المباريات الرياضية في التو واللحظة. تبدو المقدمة الثالثة منطقية. فمثلاً، حكم مباراة كرة القدم يرى لعبة ما من زاوية واحدة بكامل سرعته. بينما نتمكن نحن من رؤيتها من عدة زوايا بالتصوير البطيء. وبذلك تتوفر لنا أدلة أكثر لأننا نرى اللعبة مراراً (الحدث المتكرر) أكثر من الحكم الذي لا يراها إلا مرة (الحدث النادر).

ولكن ما ينطبق على مباراة كرة قدم مصورة بالفيديو لا ينطبق بالضرورة على كل أحداث الحياة. وحتى ندحض المقدمة الثالثة ليس علينا إلا أن نأتي بمثال واحد مضاد. والحقيقة أن لدينا عدة أمثلة، وكلها من المنظور الطبيعي الذي ينتهجه هيوم:

1 – نشأة الكون لم تحدث إلا مرة واحدة: لقد كانت حدثاً نادراً غير متكرر: إلا أن كل أنصار المذهب الطبيعي تقريباً يعتقدون أن أدلة الانفجار الكبير تثبت أن الكون انفجر إلى الوجود.

2 – نشأة الحياة لم تحدث إلا مرة واحدة: وهي أيضاً حدث نادر غير متكرر: إلا أن كل من يتبع المذهب الطبيعي يؤمن أن الحياة نشأت تلقائياً من اللاحياة في مكان ما على الأرض أو في مكان آخر في الكون.

3 – نشأة أشكال جديدة من الحياة لم تحدث أيضاً إلا مرة واحدة: ولكن معظم أتباع المذهب الطبيعي يؤمنون إيماناً قاطعاً بتلك الأحداث النادرة غير المتكررة، ويقولون إن كل هذا حدث بعمليات من الماكرو تطور غير قابلة للملاحظة (أي نادرة).

4 – في الواقع تاريخ العالم بأكمله يتكون من أحداث نادرة غير متكررة: فمثلاً مولد ديفيد هيوم نفسه لم يحدث إلا مرة واحدة ولكنه لم يواجه صعوبة في تصديق الحدث!

في كل من هذه الأمثلة المضادة من منظور هيوم الطبيعي نفسه، نرى أنه لا بد من رفض مقدمته الثالثة أو اعتبارها خاطئة. فلو آمن هيوم فعلاً بتلك المقدمة، لما آمن بمولده ولا بمنظوره الطبيعي!

وهكذا نفهم من هذه الأمثلة المضادة أن مقدمة هيوم الثالثة، ومن ثم حجته بأكملها، لا يمكن أن تكون صحيحة. ولكن المشكلات المحددة التي ينطوي عليها هذا النوع من التفكير الطبيعي؟

أولاً، هذا التفكير يخلط بين إمكانية التصديق Belivability وإمكانية الحدوث Possibility. فحتى لو كانت المقدمة الثالثة صحيحة، الحجة لا تدحض إمكانية حدوث المعجزات، ولكنها فقط تشكك في إمكانية تصديقها. فحتى لو شهدت بنفسك مثلاً يسوع المسيح يقوم من الأموات كما تنبأ، أي أنك لو كنت في القبر، وتحققت أن الجسد كان ميتاً، ثم رأيته يقوم ويخرج من القبر، ففي هذه الحالة تقول حجة هيوم إنك (بصفتك شخصاً “حكيماً”) يجب ألا تصدق هذا الحدث. إن الحجة التي تخبرك بأن تُكذِّب ما تحققت من صحته حجة خاطئة.

ثانياً، هيوم يخلط بين الاحتمالية Probability والدليل Evidence. فهو لا يزن الدليل على كل حدث نادر، بل يضيف الأدلة على كل الأحداث المنتظمة إلى بعضها البعض ويستخلص أن كثرة هذه الأدلة تجعل كل الأحداث النادرة غير جديرة بالتصديق. ولكن هذا التفكير أيضاً معيب. فهناك الكثير من الأحداث غير المحتملة (النادرة) في الحياة نصدقها عندما تتوفر أدلة قوية عليها.

فمثلاً سقوط كرة الجولف في الحفرة من أول مرة حدث نادر، ولكننا عندما نراه لا نجد صعوبة في تصديقه. ومؤكد أننا لا نقول للاعب: «بما أن الأدلة على الأحداث المتكررة دائماً أكثر من الأدلة على الأحداث النادرة، فلن أصدق ضربتك إلا إذا وضعت الكرة على الحامل وكررت الضربة خمس مرات متتالية!» وكذلك من المؤكد أننا لا نقول للفائز بورقة اليانصيب الذي يفوز بنسبة 76 مليون إلى واحد أنه لان يحصل على المبلغ إلا إذا فاز به خمس مرات متتالية! لا، في هذه الحالات الدليل على الحدث النادر أقوى من الدليل على الحدث المتكرر.

فشهود العيان اليقظون العقلاء يقدمون دليلاً أقوى من سقوط الكرة من أول مرة بصرف النظر عن مدى تكرار خطأ اللاعب في إصابة الهدف في الماضي. وكذلك الورقة الفائزة تقدم دليلاً أقوى على أن شخصاً بعينه فاز باليانصيب عكس الاحتمالات المتوقعة بصرف النظر عن مدى تكرار خسارة ذلك الشخص في الماضي[4].

إذن القضية ليست تكرار الحدث أو ندرته، بل القضية هي قوة الأدلة على الحدث. لذا، علينا أن نزن الدليل على الحدث المعنى، لا أن نضيف الأدلة على كل الأحداث السابقة.

ثالثاً، الحقيقة أن هيوم يقدم حجة دائرية. فبدلاً من أن يقيم صدق الأدلة على كل زعم يقول بالمعجزات، يستبعد الاعتقاد في المعجزات مسبقاً لأنه يعتقد أن هناك خبرة عامة Uniform Experience ضد المعجزات. وكالعادة سي. إس. لويس عنده فكرة عبقرية:

والآن ينبغي طبعاً أن نتفق مع هيوم أنه إن كانت هناك “خبرة عامة” موحدة ضد المعجزات، أي إن كانت المعجزات لم تحدث مطلقاً، فلماذا؟ لسوء الحظ أننا نعرف أن الخبرة المضادة لها لا يمكن أن تكون عامة إلا إذا عرفنا أن كل روايات المعجزات خاطئة. ولا يمكننا أن نعرف أن كل الروايات خاطئة إلا إذا كنا نعرف أصلاً أن المعجزات لم تحدث أبداً. وفي الواقع نحن نحاج حجة دائرية.

إن هيوم يرتكب أخطاء الداروينيين نفسها، فهو يخفي النتيجة في مقدمة حجته بطرح افتراضات فلسفية مسبقة خاطئة. وافتراضه المسبق الخاطئ هو أن كل الخبرات البشرية مضادة للمعجزات. كيف يستطيع أن يعرف ذلك؟ لا يستطيع. لذلك، يفترضه مسبقاً. وكما رأينا، المعجزات ممكنة لأن الله موجود. ومن ثم، محتمل أن يكون البشر قد اختبروا معجزات حقيقية. والسبيل الوحيد للتحقق هو أن نفحص الأدلة على كل زعم يقول بحدوث معجزة. ومن ثم، يتضح أن الافتراض بأن كل زعم يقول بمعجزة خاطئ، كما يفترض هيوم، افتراض غير مشروع.

أخيراً، رغم أن هيوم يعرف المعجزة تعريفاً صحيحاً بأنها حدث نادر. فهو بعد ذلك يعاقبها على ندرتها! وكأن هيوم يقول: «لو تكرر حدوث المعجزات، لصدقناها». ولكن لو تكرر حدوث المعجزات على نحو منتظم مثلاً (حسب مصطلحات هيوم)، لما كانت معجزات (أحداث نادرة)، وقد نعتبرها قوانين طبيعية أو جزءًا من ظواهر طبيعية لا تفسير لها. ولكن ما إن نعتبرها طبيعية من حيث أصلها، حتى تتوقف عن لفت انتباهنا باعتبارها أفعالاً خاصة يقوم بها الله.

فندرة المعجزة تمثل واحدة من سماتها التي تميزها عما عداها. وللتعبير عن الفكرة بطريقة أخرى نقول إن ما يجعل المعجزات تلفت انتباهنا هو أننا نعرف أن هذا الحدث لا يمكن أن ينتج من القوانين الطبيعية.

لذا بناءً على منطق هيوم، حتى إن وجد أله يصنع معجزات، يجب ألا نصدق أي معجزات يصنعها لأنها ليست أحداثاً منتظمة. وهنا أيضاً نكرر أن الحجة التي تخبرك أن تكذب ما حدث بالفعل ححة معيبة. والحجة التي تطالب بألا تكون المعجزة معجزة حتى نستطيع أن نصدقها هي أيضاً حجة معيبة.

والخلاصة أن هيوم يصرح ببساطة، دون مبرر، أن الأحداث القابلة للتصديق هي فقط الأحداث المنتظمة، وبما أن المعجزة ليست حدثاً منتظماً، فهي تقصر عن بلوغ هذا المعيار المصطنع. وكما ذكرنا سلفاً، إن كنا لا نستطيع أن نؤمن بالأحداث النادرة، فلا نستطيع أن نصدق أي شيء من التاريخ. لأن التاريخ يتألف من أحداث نادرة متتالية غير متكررة. فمن الواضح أن هذا الموقف غير منطقي.

وبعد أن قدمت هذه المعلومات في جامعة هارفارد، لم أتلق أي أسئلة ولا تحديات لنقدي لهيوم، بل ساد المكان صمت رهيب. وأثناء هذه الفترة نفسها (ثمانينيات القرن العشرين) دعاني أحد الأساتذة في جامعة أخرى من جامعات رابطة “أيفي ليج”، وهي جامعة برينستون لمناظرته في هذا الموضوع. وطلب الأستاذ نسخة من المادة التي سأقدمها قبل المناظرة، وهو طلب غير معتاد بالمرة.

فعنصر المفاجأة في المناظرة ميزة لا يتنازل عنها معظم المناظرين. إلا أني كنت واثقاً تماماً من صحة نقدي لهيوم حتى أني أرسلته للبروفسور مسبقاً. وبعد أن استلم البروفسور نقدي لهيوم، اتصل بي ليقول إنه يفضل أني أقدم محاضرة لطلابه على أن أناظره، على أن يكون حاضراً حتى “يقود الأسئلة المضادة” أثناء فترة الأسئلة والإجابة. فوافقت.

وعندما وصلت إلى الحرم الجامعي في التاريخ والموعد المحددين، لم أعثر للبروفسور على أثر. وقال مساعده إن “ظرفاً شخصياً طارئاً” حدث وإن الاجتماع قد ألغي. وانتهى بي الأمر أني قدمت نقدي لمجموعة من الطلاب كان رافي زكراياس قد أحضرهم من كلية Nyack College. ومحاولتي للاتصال بالبروفسور فيما بعد باءت بالفشل.

وقد تلقيت استجابة مشابهة من أنتوني فلو الذي يعد حالياً واحداً من أبرز الفلاسفة الملحدين[5]. ففي أواخر الثمانينيات طلبت منه أن يعلق على كتابي “المعجزات والفكر الحديث” Miracles and Modern Thought الذي تناول بالنقد العديد من الحجج المضادة للمعجزات بما فيها حجته (وهي شديدة الشبه بحجة هيوم). فقبل أنتوني فلو أن يقدم نقداً مكتوباً في العدد التالي لإحدى الصحف الإنسانية الكبرى.

إلا أنه، في ذلك المقال، بدلاً من أن يحاول تفنيد الحجج التي قدمتها، مدحها بشكل غير مباشر بأنه أوصى أنه على الملحدين أن يأتوا بحجج أفضل ضد المعجزات حتى يردوا على المؤمنين بالله الخالق المعاصرين.

إن التقاعس عن التعامل مباشرة مع العيوب التي تشوب حجة هيوم يبين لنا أن عدم الإيمان بالمعجزات غالباً مسألة إرادية أكثر منه مسألة فكرية. فيبدو كما لو أن البعض يتمسكون بسذاجة بحجة ديفيد هيوم لأنهم ببساطة لا يريدون أن يعترفوا بوجود الله. ولكن بما أننا نعرف أن الله موجود، إذن المعجزات ممكنة. وأي حجة ضد المعجزات يمكن تلفيقها، ومنها حجة ديفيد هيوم، تسقط بهذه الحقيقة الواحدة. لأنه أن كان هناك إله قادر على الفعل، إذن يمكن أن يكون هناك أفعال إلهية (معجزات).

إذن، في النهاية، ليست المعجزات هي التي يصعب تصديقها، بل حجة ديفيد هيوم هي التي يصعب تصديقها! حتى إنه يمكننا أن نقول إن تصديق الكثير من الناس لها حتى الآن يعد “معجزة”.

ليس كل من يصنع معجزة هو الله: ما المعجزة، وما هو ليس بمعجزة؟ إذن الصندوق مفتوح، أي أن المعجزات ممكنة. ولكن إذا رأينا معجزة كيف نعرف أنها معجزة؟ للإجابة عن هذه السؤال، مهم أن نعرِّف المعجزة وما ليس معجزة حتى نعرف عما نبحث. كما هو مبين في الجدول، هناك على الأقل ستة أنواع مختلفة من الأحداث غير العادية وواحد منها فقط هو الذي ينطبق عليه وصف معجزة.

 

هناك على الأقل ست فئات مختلفة من الأحداث غير العادية:

 

الأحداث الشاذة

السحر

التأثير النفسجسمي

الآيات الشيطانية

العناية الإلهية

المعجزات

الوصف

أحداث غريبة في الطبيعة

خفة يد

القدرة على التحكم في المواقف أو المشكلات المادية بالعقل والإرادة

قوة شريرة

أحداث مرتبة مسبقاً

فعل إلهي

القوة

مادية

بشرية

عقلية

نفسية

إلهية

فوق طبيعية

السمات

حدث طبيعي ذو نمط موحد

غير طبيعية وتحت سيطرة الإنسان

تتطلب إيماناً؛ تفشل مع أمراض معينة

شر، زيف، قوى سحرية خارقة للطبيعة، قوى محدودة

تفسر طبيعياً؛ إطار روحي

لا تفشل أبداً، فورية، تستمر، تمجد الله

مثال

النحل الطنان

أرنب في القبعة

العلاجات النفسجسمية

التأثير الشيطاني

ضباب في نورماندي

إقامة الموتى

 

فلنلق نظرة سريعة على كل من هذه الأحداث غير العادية. وسنبدأ بالمعجزات لأننا إذا عرفنا ماهيتها، سنفهم بشكل أفضل لماذا لا تعتبر سائر الأحداث غير العادية معجزات.

المعجزة: حتى يكون الفعل الإلهي آية من الله لا تخطئها عين، لا بد أن تتوافر فيه معايير معينة، وهي معايير تميز أفعال الله عن أي حدث آخر غير عادي. فآية الله مثل ختم الملك، يجب أن تكون فريدة، ويسهل التعرف عليها، ولا يستطيع أحد أن يفعلها إلا الله. وهو ما يعني أنها تتسم بسمات لا يمكن تفسيرها بالقوانين الطبيعية، ولا القوى الطبيعية، ولا أي شيء آخر في الكون المادي. فما هي هذه المعايير؟

كما رأينا من الحجج الكونية، والغائية، والأخلاقية، الله وحده عنده قوة لا متناهية (قوة تفوق القوة الموجودة في العالم الطبيعي)، وغرض وتصميم أعلى، ونقاء أخلاقي كامل. لذا، من المنطقي أن نفترض أن أفعاله تعكس أو تشتمل على عناصر من هذه الصفات. إذن معايير المعجزات الحقيقية تتضمن:

  1. بداية فورية لفعل قوي، وتدلل عليها الحجة الكونية (بداية الكون).
  2. تصميماً ذكياً وغرضاً، وتدلل عليهما الحجة الغائية (التصميم الدقيق للكون بغرض دعم الحياة، والتصميم المحدد والمعقد للحياة نفسها).
  3. تعزير السلوك الصالح أو الصحيح، وتدلل عليه الحجة الأخلاقية (القانون الأخلاقي المطبوع فينا).

إن عنصر القوة في المعجزات (أ) يعني أن الآية لا يمكن تفسيرها طبيعياً. لأنه إن كان من المحتمل وجود مسبب طبيعي، إذن الآية لا يمكن طبعاً أن تعتبر معجزة. فالمعجزة لها مسبب فوق طبيعي لا لبس فيه، إنه مسبب يتجاوز حدود الطبيعة.

وعنصر التصميم (ب) يعني أن أي آية تفعل دون غرض واضح، أي لتأكيد حق أو رسول يأتي بالحق أو لتمجيد الله، غالباً ليست آية من الله. أي أن الله لن يصنع معجزات بغرض التسلية. فكما أن معظم ملوك الأرض لن يستخدموا أختامهم لأغراض تافهة، كذلك ملك الكون. لن يستخدم ختمه لأغراض تافهة. وإن استخدم المعجزات لمجرد التسلية، سيصعب علينا التعرف على قصده عندما يريد أن يؤكد حقاً جديداً أو رسولاً جديداً. فحتى لا تكون المعجزات كالولد الذي أخذ ينادي كذباً “ذئب في حقلنا”، يجب أن تركز على تثبت زعم يختص بالحق، ولا بد أن تكون نادرة نسبياً حتى تكون مؤثرة.

والعنصر الأخلاقي في المعجزات (ج) يعني أن أي آية تنطوي على خطأ أو انحراف أخلاقي لا يمكن أن تكون آية من الله. فالخطأ والانحراف الأخلاقي ضد طبيعة الله لأنه المقياس الثابت للحق والأخلاق. فهو لا يستطيع أن يثبت الخطأ أو الانحراف الأخلاقي.

وبناء على هذه المعايير: القوة الفورية، والتصميم الذكي، والأخلاق، يمكننا أن نحدد الأحداث غير العادية التي تمثل آيات حقيقية من الله. لاحظ أننا استنتجنا هذه المعايير مما تعلمناه عن الله من العالم الطبيعي وما تعلمناه عن حدود الطبيعة نفسها. والكتاب المقدس يتفق مع تقديرنا بتوصيفه للأحداث التي تطابق هذه المعايير بأنها معجزات. وكل من الكتاب المقدس والقرآن يعلمان بأن المعجزات استخدمت لتثبيت كلمة من الله[6].

لذا الحدث المرتبط بزعم يختص بحق إلهي ويتسم بهذه السمات يسمى “معجزة”، أي فعل يقوم به الله ليثبت كلمة من الله. فمثلاً، إن كان يسوع قد قام فعلاً من الأموات، وهو رجل تنبأ بقيامته من الأموات، نقول إن معجزة قد حدثت. وهذا الحدث يعكس قوة فورية تتجاوز القدرات الطبيعية، وتخطيطاً مسبقاً وتصميماً ذكياً. وغرضاً أخلاقياً بتأكيد أن يسوع من الله (لذلك يجب أن نصغي لما يقول). وليس هناك قوة طبيعية أو أي مصدر آخر للقوة يمكن أن يفسر هذا الحدث.

علاوة على ذلك، إن كانت القيامة قد حدثت بالفعل، فهي لم تحدث “في فراغ” بل في محيط معين. وهو ما يعني أن القيامة كانت حدثاً تم في محيط كون يؤمن بالله الخالق، حيث تنبأ بها رجل يزعم أنه من الله ويصنع معجزات. وهذا المحيط يرجح أنها معجزة وليست مجرد حدث طبيعي لم يظهر له تفسير بعد. وباختصار، إن كانت القيامة قد حدثت بالفعل (وسوف نتناول هذه القضية بالفحص فيما بعد)، فإن “بصمات” الله تغطيها بالكامل.

العناية الإلهية:

إن المتدينيين، وخاصة المسيحيين، يستخدمون مصطلح “معجزة” استخداماً فضفاضاً نوعاً ما، فهم غالباً ما يسمون أحداث العناية الإلهية معجزات.

إن أحداث العناية الإلهية هي الأحداث التي يسببها الله بشكل غير مباشر، ولا بشكل مباشر. أي أن الله يستخدم القوانين الطبيعية لتنفيذها. ومن أمثلتها استجابة الصلوات والأحداث المفيدة غير المحتملة الحدوث. وعادة ما تكون هذه الأحداث لافتة جداً للنظر وتقوي الإيمان، ولكنها ليست فائقة للطبيعة. فمثلاً، الضباب في نورماندي كان من أعمال العناية الإلهية لأنه حجب جيوش الحلفاء أثناء استعدادها للهجوم على النظام النازي الشرير. فهو لم يكن معجزة، لأنه يمكن أن يفسر بالقوانين الطبيعية، ولكن من المحتمل أن الله كان وراء حدوثه. ولكن على النقيض من ذلك، المعجزة تتطلب حدوث شيء مثل خروج الرصاص من صدور شبابنا في هجومهم على الشاطئ.

الآيات الشيطانية:

تعتبر الكائنات الروحية الأخرى من المسببات المحتملة للأحداث غير العادية. فإن كان الله موجوداً. من الوارد أن توجد أيضاً كائنات روحية أخر. ولكن إن كان الشيطان والأرواح الشريرة موجودين، فقدراتهم محدودة. لماذا؟ لأنه كما ذكرنا آنفاً في هذا الفصل، مستحيل وجود كائنين لا متناهيين. وبما أن الله لا متناه، يستحيل أن يوجد كائن آخر لا متناه.

فضلاً عن ذلك، فإن الثنائية dualism المحضة – أي وجود قوة صالحة لا متناهية مقابل قوة شريرة لا متناهية – أمر مستحيل. ولذلك لأنه لا يوجد شر محض. ولكن الشر هو غياب الخير، أو هو طفيل على الخير، أي أنه لا يقدر أن يوجد بمفرده. فالشر كالصدأ للسيارة. إن نزعت كل الصدأ، تصبح السيارة أفضل. وإن نزعت كل السيارة، لا يتبقى شيء. لذا، لا يمكن أن يكون الشيطان هو الشر المعادل لله. والشيطان في الواقع يتمتع بصفات جيدة مثل القوة، وحرية الإرادة، والتفكير العقلاني، ولكنه يستخدمها لأغراض شريرة.

والخلاصة أن الله ليس له معادل. إنه الكائن الواحد اللامتناهي الذي يعلو فوق الخليقة كلها. وعليه، فالكائنات الروحية المخلوقة، إن وجدت، الله يضع لها حدوداً ولا تستطيع أن تؤدي نوعية الأفعال الفائقة للطبيعة التي لا يفعلها إلا الله.

لذا، نعرف من الإعلان الطبيعي فقط، دون إعلان من أي كتاب ديني، أنه إن وجدت كائنات روحية أخرى فهي محدودة القوة. وبالمصادفة، هذا هو بالضبط ما يعلم به الكتاب المقدس.

ولكن ما مدى محدودية هذه الكائنات الروحية الأخرى؟ هنا نحتاج إعلاناً خاصاً. فرغم أننا لم نثبت حتى الآن صحة الكتاب المقدس بما لا يدع مجالاً للشك المنطقي، فلنفترض أن هذه الكائنات حقيقية وتستطيع أن تتفاعل مع العالم الطبيعي كما يبين الكتاب المقدس.

وفقاً لتعليم الكتاب المقدس، لا يمكن إلا لله فقط أن يخلق الحياة ويقيم الموتى (تكوين 1: 21؛ تثنية32: 39). فسحرة فرعون الذين قلدوا أول ضربتين، لم يقدروا أن يقلدوا الثالثة التي خلقت حياة (في شكل بعوض). وقد اعترف هؤلاء السحرة أن الضربة الثالثة هي “أصبع الله” (خروج 8: 19).

إن الشيطان يقدر أن يأتي بخدع أفضل من أحسن السحرة، والكتاب المقدس يحوي أمثلة كثيرة على ذلك، إلا أن تلك الخدع لا تتوفر فيها سمات المعجزة الحقيقية. وكما رأينا، المعجزات الحقيقية تقود المرء إلى تعظيم الله. وتخبر بالحق، وتعلي شأن السلوك الأخلاقي. أما الآيات الكاذبة التي يأتي بها الشيطان لا تفعل ذلك. ولكنها تمجد الشخص الذي يؤديها في الظاهر، وهي غالباً ما ترتبط بالخطأ والسلوك غير الأخلاقي. وقد لا تكون فورية، ولا لحظية، ولا مستديمة.

وبإيجاز، الله وحده يصنع المعجزات الحقيقية، ولكن الشيطان يصنع معجزات كاذبة. وهذا هو بالضبط الاسم الذي يطلقه عليها الكتاب المقدس في 2تسالونيكي 2: 9 عندما يكتب بولس: «الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة». وطبعاً إن لم يكن المرء مميزاً، يمكن أن ينخدع بهذه الآيات ويظنها معجزات (متى 24: 24).

ويلخص الجدول التالي الاختلافات بين المعجزة والآية الشيطانية:

 

المعجزة الإلهية

الآية الشيطانية

– فعل فائق للطبيعة بحق

– تحت سيطرة الخالق

– لا ترتبط إطلاقاً بالقوى السحرية الخارقة

– مرتبطة بالإله الحقيقي

– مرتبطة بالحق

– مرتبطة بالخير

– تتضمن نبوات حقيقية

– تمجد الخالق

– مجرد فعل فائق للعادة Supernormal

– تحت سيطرة المخلوق

– مرتبطة بالقوى السحرية الخارقة

– غالباً ما ترتبط بالإيمان بوحدة الوجود أو تعدد الآلهة

– مرتبطة بالخطأ

– مرتبطة بالشر

– تتضمن نبوات كاذبة

– تمجد المخلوق

 

التأثير النفسجسمي: منذ سنوات كثيرة، أصبت (أنا نورم) بما ظننته حساسية الربيع أثناء تفتح الزهور. فبدأت أتناول عقاراً قوياً في ربيع ذلك العام لتخفيف الأعراض. وفي صباح يوم أحد هذا الربيع دعيت لأعظ في كنيسة محلية، فذهبت قبل الموعد لألتقي بالشيوخ. وعندما اقتربت من المنبر رأيت بعض الزهور على منضدة بالقرب من المنبر. فبدأت على الفور أعطس وبدأت عيناي تدمع.

فقلت لأحد الشيوخ: «لن أقر أن أعظ في وجود هذه الزهور لأنها تهيج حساسيتي. فهل يمكن أن تنقلها من هنا؟»

فنظر إليّ وقال: «إنها زهور بلاستيكية!»

فقلت لنفسي: «جايسلر، أنت تعطس من زهور بلاستيكية. لقد أصبحت تلك الحساسية في عقلك فقط!» فأقلعت عن تناول الأدوية ولم أعد أعاني من تلك المشكلة إلى اليوم.

إلا أن هذا لا يعني أن أي حساسية نفسجسمية صرف. ولكن من المؤكد أن بعض الأمراض والعلاجات نفسجسمية، وهي حالات موثقة جيداً. فمثلاً نورمان كزينز Norman Cousins يصف بالتفصيل في كتابة “تشريح مرض” Anatomy of an Illness، كيف ساهم ضحكه حرفياً في شفائه من السرطان. لا شك أن التوتر العقلي يمكن أن يؤثر على الصحة البدنية تأثيراً سلبياً، في حين أن التوجه العقلي الإيجابي، أو الإيمان، أو السعادة يمكن أن تأتي بتأثير إيجابي يؤدي للشفاء (انظر أمثال 17: 22).

إلا إن بعض الحالات المرضية، مثل إصابة النخاع الشوكي أو بتر الأطراف، لا يمكن شفاؤها بسيطرة العقل على المادة لأنها ليست أمراض نفسجسمية. ولكن شفاء تلك الحالات يتطلب معجزة حقيقية. والخلاصة أن العلاجات النفسجسمية طبيعتها نفسية، وليست فائقة للطبيعة. وهي تدل على أن تأثير العقل على الجسم محدود ولكنه كبير. ويجب ألا نخلط بينها والمعجزات.

السحر: ربما يعتبر السحر أكثر الأحداث غير العادية المألوفة لنا. ويقوم السحر على خفة اليد البشرية أو تضليل العقل. فالساحر الماهر يستطيع أن يجعلك تظن أن شطر امرأة إلى نصفين، أو أخرج أرنباً من قبعة، أو أخفى فيلاً. ولكن كلها خدع ذكية. وعندما تعرف السر تقول: «كيف لم يخطر ذلك ببالي؟» والسحر، من حيث إنه خدعة تحت سيطرة البشر، ليس معجزة. الله وحده هو من يستطيع أن يصنع المعجزات.

الأحداث الشاذة: الحدث الشاذ هو حدث غير في الطبيعة لا تفسير له. فمثلاً، في فترة معينة لم يستطع العلماء أن يفهموا كيف يمكن للنحل الطنان أن يطير. فأجنحته صغيرة جداً بالنسبة لجسمه. واعتبر العلماء أن طيران النحل الطنان حدث شاذ، حتى اكتشفوا فيه نوعاً من “المصدر الكهربائي” الذي يعوض صغر الأجنحة. وقد عرفوا أنها ليست معجزة لأنها تتضمن نمطاً موحداً قابلاً للملاحظة، ألا هو أن كل النحل الطنان يطير. وهو ما دفعهما للاستمرار في البحث عن تفسير طبيعي حتى وجدوه.

وقد يتساءل المتشكك: «إذن لماذا لا نعتبر قيامة يسوع حدثاً شاذاً؟» لأن القيامة تم التنبؤ بها. وكان رواءها تصميم ذكي، أي أن بصمات الله تغطيها بالكامل. ولكن الأحداث الشاذة لا ترتبط بمزاعم عن الذكاء تدعي أنها حق، وهي لا تتضمن أبعاداً أخلاقية ولاهوتية. لذا، إن كانت قيامة المسيح قد حدثت بالفعل، فهي ليس حدثاً طبيعياً شاذاً.

لماذا لا نرى المعجزات الكتابية اليوم؟

الكثير من الناس اليوم ينظرون نظرة ضيقة جداً للتاريخ وللخبرة البشرية. فهم يقولون: «إن لم أر شخصياً أحداثاُ معينة تحدث اليوم، فمن المحتمل أنها لم تحدث أبداً». والمعنى الذي تنطوي عليه هذه الجملة بخصوص المعجزات واضح. فالمقصود إنه «طالما أنه ليست هناك معجزات علنية معجزات الكتاب المقدس تحدث اليوم (ولو كانت تحدث، لرأيناها على قناة فوكس نيوز Fox News)، فلماذا يجب أن أصدق أنها حدثت في الماضي؟» سؤال في محله.

إلا أن هذا السؤال يكمن وراءه مفهوم خاطئ شائع، وهو الاعتقاد بأن الكتاب المقدس مملوء بمعجزات تحدث باستمرار عبر تاريخ الكتاب المقدس. إن هذا الاعتقاد صحيح جزئياً. فصحيح أن الكتاب المقدس مليء بالمعجزات التي حدثت في حوالي 250 مناسبة[7]. إلا أن معظم تلك المعجزات تحدث في أوقات قصيرة جداً في التاريخ، وذلك أثناء ثلاث فترات زمنية محددة: أثناء مدة حياة موسى وإيليا وأليشع، ويسوع، والرسل. لماذا؟ لأن هذه هي الأوقات التي كان الله يؤكد فيها حقاً جديداً (إعلاناً إلهياً) ورسلاً جدداً يحملون ذلك الحق[8].

فإن كانت معظم المعجزات تتركز في هذه الفترات الثلاث، فما الأحداث المعجزية التي تقع أثناء الفترات الأخرى التي يغطيها الكتاب المقدس؟ لا شيء. ففي الحقيقة هناك فجوات زمنية شاسعة في الكتاب المقدس (تصل إلى مئات السنين) لا تسجل فيها أي معجزات من الله. لماذا؟ لأن هذه الفترات لم يكن فيها كلمة جديدة من الله، ومعظم المعجزات كانت تؤكد كلمة جديدة من الله.

إذن لماذا لا نرى معجزات كتابية اليوم؟ لأنه إن كان الكتاب المقدس صحيحاً ومكتملاً، فالله لا يؤكد أي إعلان جديد، ومن ثم فلا محل عنده لهذا الغرض الرئيسي من صنع المعجزات اليوم. ليس هناك كلمة جديدة من الله يريد أن يؤكدها.

ولكن لا تسيء فهمنا في هذه اللحظة. فنحن لا نقول إن الله لا يستطيع أن يصنع معجزات اليوم، أو إنه لا يصنعها أبداً. بل بصفته خالق الكون وحافظه وله السلطان، يمكنه أن يصنع معجزة وقتما يريد. ولكن كل ما في الأمر أنه قد لا يكون عنده سبب ليظهر قوته علانية كما فعل في أزمنة الكتاب المقدس؛ لأن كل الحقائق التي أراد أن يكشفها كشفت فعلياً وتأكدت فكما هو الحال في بناء بيت، الأساس لا يوضع إلا مرة واحدة. والمعجزات الكتابية كانت أفعالاً إلهية خاصة وضعت أساس إعلانه الدائم للبشر.

 

الملخص والخلاصة

1 – يمكن اكتشاف السمات الجوهرية لإله الكتاب المقدس دون الكتاب المقدس عن طريق الإعلان الطبيعية، كما يتضح من الحجج الكونية والغائية والأخلاقية. وتلك الحجج المؤيدة بأدلة قوية جداً تظهر لنا أن هذا الكون خلقه إله ويحفظه. وبما أن الحال هكذا، إذن الديانات التي تؤمن بالله الخالق الحافظ فقط، هي “المؤهلة للفوز بنهائي” الحق حتى الآن. ولكن كل الديانات التي لا تؤمن بالله الخالق الحافظ مبنية على أساس مزيف لأنها خاطئة في مفهومها عن وجود الله وطبيعته.

2 – بما أن الله موجود، إذن المعجزات ممكنة. والحقيقة أن أعظم المعجزات جميعاً، أي خلق الكون من عدم، قد حدثت بالفعل، وهو ما يعني أن تكوين 1: 1 وسائر المعجزات الكتابية كلها قابلة للتصديق. والحجج المضادة للمعجزات فاشلة لأنها تقوم على افتراضات فلسفية خاطئة لا على أدلة قابلة للملاحظة. والنتيجة أنها تعجز عن نفي المعجزات. فالله يستطيع أن يتدخل في الكون الذي خلقه رغم ما يقوله ديفيد هيوم.

3 – المعجزة الحقيقية عمل لا يستطيع فعله إلا الله، وهو ما يعني أنها تتضمن سمات تتناسب مع الله، مثل القوة الفائقة للطبيعة، والتصميم الذكي، وتوكيد السلوك الأخلاقي. وبهذه السمات يمكن تمييز المعجزات عن غيرها من الأشكال الأخرى للأحداث غير العادية مثل أحداث العناية الإلهية، والآيات الشيطانية، والشفاء النفسجسمي، والسحر، وشواذ الطبيعة.

4 – نحن نتوقع من الله، بناءً على طبيعته الأخلاقية، أن يوصل لنا غايته المحددة بمزيد من التفصيل (أي بما يتجاوز الإعلان الطبيعي وصولاً إلى الإعلان الخاص). وقد استطاع الله أن يستخدم المعجزات كعلامة تؤكد لنا إعلانه الخاص. والمعجزة عندما تستخدم على هذا النحو تعد فعلاً إلهياً لتأكيد رسالة من الله.

 

 

[1] هذا الكائن شخص عاقل، لا جماداً غير عاقل. ونحن نعلم أن هذا الكائن له شخصية لأنه فعل شيئاً لا يفعله إلا الأشخاص، أي أنه اختار. لقد اختار أن يخلق.

[2] كثيراً ما نسمع مسيحيين يحاولون شرح قصة يونان المعجزية بالاستناد إلى قصص يفترض أنها حقيقية عن صيادين عاشوا فترة معينة داخل حيتان. وحتى إن كانت تلك الأحداث صحيحة، فهي لا تمت بصلة لقصة يونان على الإطلاق. فالقصد من قصة يونان أن تكون قصة معجزية، أي أنها شيء لا يستطيع أن يفعله سوى الله. فمؤكد أنه ليس هناك رجل يستطيع أن يعيش في بطن سمكة عملاقة لمدة ثلاثة أيام ثم تتقيؤه السمكة على بقعة معينة من اليابسة.

إلا إذا كان ذلك عملاً إلهياً. وإن كان يبدو شيئاً يستحيل تصديقه لأن العالم لا يسير بتلك الطريقة عادة، فالهدف من الحدث هو أن يبدو بهذا الشكل الذي يصعب تصديقه! فالمعجزة التي يمكن تفسيرها بالوسائل الطبيعية ليست معجزة. والمحصلة النهائية هي أن الله الذي صنع أعظم المعجزات جميعاً، أي خلق الكون بما فيه من حيتان وبشر. لا يجد أدنى صعوبة في تصميم معجزة يونان.

[3] القوانين الطبيعية تختلف عن القوانين الأخلاقية من حيث أنها لا تقوم على طبيعة الله. ومن ثم فهي قابلة للتغير. فرغم أن الله لا يستطيع أن يخرق القوانين الآخلاقية. لأنه هو المقياس الثابت للأخلاق. يستطيع أن يغير القوانين الطبيعية أو يوقفها مؤقتاً كما يشاء. فالواقع أن الله كان يمكنه أن يخلق واقعاً مادياً. بما فيه القوانين الطبيعية والبيئية الطبيعية والكائنات الحية. بسمات تختلف كلية عن سماته الحالية.

[4] معظم الناس يعتقدون خطأ أنهم كلما لعبوا اليانصيب في الماضي. زادت فرص الفوز هذه المرة. ولكن ليس المهم عدد مرات لعب الشخص لليانصيب في الماضي لأن كل ورقة يانصيب حدث فريد من نوعه لا يتأثر بأحداث اللعب الماضية. فالنسبة كل مرة 76 مليون إلى واحد (أو أياً كانت النسبة). وهيوم كان سيقترح أن تكرار خبرة الخسارة في الماضي يجب أن يجعلك تكذب الفوز إذا فزت. ولكنك إذا فزت يوماً ما، فأنت فزت بالفعل، رغم أنك خسرت ألف مرة فيما سبق. وهكذا، يمكن أن تحدث المعجزة بصرف النظر عن عدد المرات التي لم تحدث فيها هذه المعجزة في الماضي.

[5] صدرت النسخة الإنجليزية من كتابنا هذا سنة 2004، إلا أنه في العام نفسه اعترف أنتوني فلو بأنه تحول إلى الإيمان بالخالق. وفي سنة 2007 أصدر كتابه الأشهر “يوجد إله: كيف غير أعتى ملحدي العالم رأيه” There Is a God: How the World’s Most Notorious Atheist Changed His Mind قبل أن يرحل عن عالمنا سنة 2010 (http://www.bethinding.org/atheism/professor-antony-flew-reviews-the-god-delusion)، تم الاطلاع على الرابط بتاريخ 5/11/ 2016 (المترجمة – المحرر)

[6] الكتاب المقدس: خروج 4: 1-5؛ عدد 16: 5 وما بعده؛ 1ملوك 18: 21، 22؛ متى 12: 38، 39؛ لوقا 7: 20-22؛ يوحنا 3: 1، 2؛ أعمال 2: 22؛ عبرانيين 2: 3، 4؛ 2كورنثوس 12: 12. القرآن سورة آل عمران (3): 184؛ الإسراء (17): 102؛ قارن سورة المؤمنون (23): 45.

[7] بعض هذه المناسبات تضمنت معجزات عديدة. فمثلاً يذكر عدة مرات أن يسوع شفى “كثيرين” عادة عندما كان أهل المدينة يجتمعون حوله (مثلاً مرقص 1: 3-4؛ 3: 10؛ 6: 56؛ لوقا 5: 15؛ 6: 18؛ 9: 11). وكان الرسل أيضاً يصنعون عدة معجزات في مناسبة واحدة (أعمال 5: 16؛ 8: 7؛ 19: 11، 12).

[8] من الناحية اللاهوتية تشترك الفترات الثلاث الكبرة للمعجزات في سمات معينة: كان موسى يحتاج للمعجزات ليخلص إسرائيل ويعول هذا الشعب الكثير في البرية (خروج 4: 8). وإيليا وأليشع صنعا المعجزات لتخليص إسرائيل من عبادة الأصنام (انظر 1ملوك 18). ويسوع والرسل صنعوا المعجزات ليؤكدوا تأسيس العهد الجديد وما يقدمه من خلاص من الخطية (عبرانيين 2: 3، 4).

المعجزات هل هي علامات تشير لله أم سذاجة؟

تقييم المستخدمون: 5 ( 2 أصوات)