الردود على الشبهات

الدافع اللاهوتى | فادى اليكساندر


الدافع اللاهوتى
 
فادى اليكساندر

 

الدافع اللاهوتى | فادى اليكساندر
 
 
 
هناك عدد متزايد من نقاد النص، يُؤكدون أنهم لا يرون “دافع لاهوتى” أو “غرض لاهوتى” خلف القراءات الموجودة فى العهد الجديد. ناقش ايرمان فى كتابه “الإفساد الأرثوذكسى”، ما يقرب من مائة و خمسين قراءة، هم كل القراءات التى أستطاع أن يرى فيهم “دافع لاهوتى”. و مع ذلك، فقد هاجمه العديد من العلماء.

منطق هذا الموضوع كالتالى: نحن لا نستطيع أن نعرف ما هى أسباب القراءات قطعياً، لأننا فى عصر متقدم عن زمن ظهور هذه القراءات، فلم نرى النساخ و هم ينسخون، لنعرف لما وضعوا قراءات أخرى. لكن من المعطيات التى أمامنا، نحاول أن نصل إلى السبب الذى دفع الناسخ لتغيير النص. فى نقطة الدافع اللاهوتى، يضع ايرمان فى صفحات كتابه احتجاج مباشر و رئيسى على أن النساخ الأرثوذكس (أى المستقيمى العقيدة فى مقابل الهراطقة) قاموا بتغيير النص فى بعض الأحيان (و يلزم التشديد على نقطة “فى بعض الأحيان” لئلا يظن أحدهم أنه عمل منظم، و قد شدد ايرمان على ذلك كثيراً أيضاً)، لتوضيح نصوص كان يستخدمها الهراطقة لتدعيم أفكارهم. و لأننا لا يمكننا القطع بسبب التغيير، لأن هذا يتطلب أن نكون معاصرين للنساخ، نحاول البحث عن أفضل سبب قد يكون دفع بالناسخ للتغير.

المشكلة الرئيسية، و التى من أجلها يرفض هؤلاء العلماء الدافع اللاهوتى، هو أن هناك أسباب مكافئة للدافع اللاهوتى، قد تكون هى التى أدت إلى وجود هذه القراءات. بمعنى أن هؤلاء العلماء يرون أسباب لنشأة هذه القراءات، تقدم تفسير أفضل من الدافع اللاهوتى. هناك من القراءات ما يمكن أن يكون نشأ عن طريق خطأ غير مقصود، و لكن ايرمان يقول أن هذا الخطأ نشأ بشكل متعمد بواسطة النساخ الأرثوذكس. لكن إذا كان هناك احتمال واحد لنشأة القراءة بشكل عفوى، يكون هذا الاحتمال أقوى من أى احتمال يقول بأن القراءة نشأت بشكل متعمد. لذلك فإن قاعدة “القراءة الأقصر هى المفضلة”، لا تستخدم أبداً إذا كان هناك أى احتمال لنشأة القراءة بشكل عفوى. لذلك نجد الكثير من العلماء و نقاد النص نقدوا بعض النصوص فى الإصدارات النقدية، حيث تم تفعيل قاعدة القراءة الأقصر، رغم وجود احتمالية الخطأ العفوى.

و رغم أن عدد هؤلاء العلماء ليس كبير، إلا أنهم أكبر و أهم نقاد النص فى عصورهم. ويستكوت و هورت، بحسب ما كتب هورت فى مقدمتهما للعهد الجديد اليونانى، و هما أكبر عالمان فى النقد النصى فى عصرهما و مؤسسا النظرية النقدية، لا يعتقدان فى وجود قراءات لأسباب لاهوتية فى تاريخ انتقال نص العهد الجديد. بربارا آلاند، أكبر علماء النقد النصى فى عصرنا الحالى، لا تعتقد فى وجود قراءات نشأت بسبب أى دافع لاهوتى على الإطلاق. جوردون في (من أكبر العلماء المعتبرين فى النقد النصى)، تومى ووسرمان (العالم الوحيد الذى فحص التقليد النصى الكامل لسفر ما من العهد الجديد)، بيتر ويليامز (الأكاديمى الأعلى تخصصاً فى التقليد السيريانى للعهد الجديد) و غيرهم، هى أسماء لعلماء من أكبر و أرفع المكانات فى البحث النصى للعهد الجديد.

أنا لا أعنى بذلك نفى هذا المسبب، و لكن أقول بأنه مشكوك فيه و محل خلاف بين العلماء، بل إن أحد هذه الأسماء المذكورة، يعمل على إصدار تفنيد كامل و شامل لكتاب ايرمان المذكور. ليس هذا التفنيد سوى بيان أن كل قراءة قال ايرمان أنها تمت بسبب لاهوتى، لها سبب أفضل يفسر نشأتها بشكل أفضل.

نأخذ مثال مشهور لهذا الموضوع، و هو نص “الله ظهر فى الجسد” (1 تي 3 : 16). اِفترض مع ايرمان أن القراءة الأصلية هى “الذى”، فما السبب لظهور قراءة “الله؟ اختتم ايرمان مناقشته لقراءة “الله” قائلاً:”لذلك، هذه القراءة يمكن تفسيرها (أى تفسير نشأتها) بأفضل شكل، على أنها قراءة نشأت ضد التبنويين، لتشدد لاهوت المسيح”

[1].

ايرمان ناقش احتمالين و قارن بينهما: أن القراءة نشأت بشكل عفوى عن طريق الخلط بين “الذى” و الشكل المُختصر لـ “الله”، أو أن القراءة نشأت بشكل متعمد للتشديد على عقيدة لاهوت المسيح، لمواجهة هرطقة التبنويين

[2]. المشكلة الجوهرية فى هذا الطرح، أن كثير من العلماء لا يقولون بأن هذه القراءة نشأت بدافع لاهوتى، و هم يقولون ذلك لأن هناك احتمالات ثلاثة و ليس اثنين كما طرح ايرمان.

عن بروس ميتزجر و روجر اومانسون، هذه الاحتمالات الثلاثة هى كالتالى

[3]:

· أن القراءة نشأت بشكل عفوى نتيجة الخلط بين “الذى” و الشكل مختصر لـ “الله”.
· أن القراءة نشأت بشكل متعمد لوضع “اسم” فى النص تعود عليه الأفعال المذكورة.
· أن القراءة نشأت بشكل متعمد لعمل “تدقيق عقيدى أكبر”.

السبب الأول مُستبعد لعدة أسباب: نُساخ الإسكندرية مُدربين على استخدام اختصارات الأسماء المقدسة، من الصعب تخيل اجتماع مخطوطات القرن الرابع و الخامس كلها على نفس الخطأ، و القراءة الثالثة التى تترجم فى الإنجليزية Which أو That (أى “الذى” و لكن لغير العاقل)، هى قراءة غربية خالصة نشأت فى القرن الثانى و من الصعب تخيل كيفية نشأتها عن قراءة “الله”.

السبب الثانى هو المُفضل لدى العلماء، لأن السبب الثالث “الدافع اللاهوتى”، لا يستقيم مع حال هذا النص. للأسف، لم يدرك المفسرين و اللاهوتيين العرب مدى تعقيد هذا النص، الذى يعرض اعترافاً للإيمان سابقاً على نص العهد الجديد. أى أنه كان شىء ما يشبه قانون للإيمان، لدى الجماعة المسيحية الأولى جداً. ايرمان نفسه لم ينكر ذلك، بل صرح به فى مناقشته للنص.

يقول النص:”وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ”. النص ترجمته بهذا الشكل صحيحة، لكنها ترجمة حرفية لا توصل المعنى الكامل له. لأن كلمة “بالإجماع” تعنى “نعترف” Confess، و تعبير “سر التقوى”، يعنى “الدين” أو “الإيمان المسيحى” بأكمله. أى أن النص يقول:”نحن نعترف: عظيم بالفعل ديننا: هو ظهر فى الجسد، تبرر فى الروح…”

[4]. و بالتالى، فقد كان الدافع لتغيير “الذى” إلى “الله”، هو وضع إسم تعود عليه الأفعال الستة التالية:ظهر، تبرر، تراءى، كُرِز، أُومِن، رُفِع. لذلك وضع ناسخ ما فى القرن الثالث هذه القراءة “الله”، و من ثم انتشرت؛ و سبب انتشارها أنها الأسهل فِهماً. لهذه الأسباب لا يفضل نقاد النص الدافع اللاهوتى كعامل وقف خلف هذه القراءة. إذن، فحتى لو أن قراءة “الذى” هى الأصلية، فإن الناسخ الذى استحدث قراءة “الله” لم يفعل ذلك ليشدد على لاهوت المسيح. ناهيك عن أن الإدعاء بأن هذه القراءة تم استحداثها لـ “اختراع” لاهوت المسيح، هو خرافة بحتة فى عقول الجهلاء فقط. هناك حوالى ستة عشر نص فى العهد الجديد، أُطلِق على يسوع فيهم لفظ ثيؤس (الله باليونانية)، و تسعة من هذه النصوص ثابتة لا تقبل أى خلاف سواء خلاف نصى أو ترجمى أو تفسيرى، و اجمع العلماء على أنهم تصريح واضح بلاهوت المسيح فى العهد الجديد[5].

هذا مجرد مثال واحد، و لكن سأطرح مثال آخر لم يستخدمه ايرمان. لم يتطرق ايرمان فى كتابه “الإفساد الأرثوذكسى” للفاصلة اليوحناوية (1 يو 5 : 7 – 8) إلا بملاحظة هامشية يُسلم فيها بأنه لم يتناول النص لأنه غير مقتنع أنه دخل للمخطوطات لدافع لاهوتى

[6]. و القارىء المدقق لكتابه “سوء اقتباس يسوع”، و بالتحديد فى مناقشته للفاصلة، يلاحظ أن ايرمان لم يقل إطلاقاً أن هذا النص تم استحداثه لإختلاق أساس كتابى لعقيدة الثالوث؛ و لم يقل أن قراءة هذا النص استحدثت لدافع لاهوتى[7].

و فى الحقيقة، لا يوجد عالم واحد قال أن هذه القراءة قد نشأت لسبب لاهوتى أبداً. اتفق علماء النقد النصى جميعاً دون استثناء، على أن هذه القراءة نشأت بسبب عفوى غير مقصود.

ميتزجر يقدم لنا تاريخ انتقال هذا النص كالتالى:”واضح أن هذا التعليق ظهر حينما فُهِم المقطع الأصلى على أنه رمز للثالوث (عن طريق ذكر ثلاثة شهود: الروح، الماء، و الدم)، و هو التفسير الذى قد يكون كُتِب أولاً كملاحظة هامشية، ثم وجدت طريقها إلى متن النص. و فى القرن الخامس، اقتبس الآباء اللاتين هذا التعليق فى شمال افريقيا و ايطاليا كجزء من نص الرسالة، و من القرن السادس و ما يليه، وُجِد هذا النص أكثر و أكثر فى مخطوطات اللاتينية القديمة و الفلجاتا”

[8].

باختصار، هذه القراءة دخلت للنص بشكل عفوى غير مقصود. كانت القراءة عبارة عن تعليق أو تفسير للعدد الثامن (بحسب فانديك) فى المخطوطات اللاتينية، و من ثم دخلت لمتن النص. هذا هو اجماع العلماء على كيفية ظهور هذه القراءة، ولا يوجد ناقد نصى واحد يقول أن القراءة دخلت فى التقليد المخطوطى بهدف لاهوتى. حتى ايرمان، كما بينت سابقاً، يقول بذلك.

الدليل الذى دفع بالعلماء لهذا السبب، هو أن حوالى نصف المخطوطات اليونانية التى تحتوى على الفاصلة اليوحناوية، تضعها فى الهامش، و منها مخطوطات أقدم من تلك التى تضعها فى متن النص؛ مما يؤكد أن القراءة بدأت انتقالها فى هامش النص.

أما الخرافات و الخزعبلات التى يقولها البعض أن هذا النص هو الوحيد الذى يشهد للثالوث فى الكتاب المقدس، و أنه دخل نص العهد الجديد كى يختلق المسيحيين أساساً كتابياً للثالوث، فهو أضحوكة لطيفة! فبجانب أن هذا كلام خرافى لا أساس علمى له، ولا أساس وثائقى أو تاريخى له، فإنه يريد أن يقول لنا أن المسيحيين تذكروا بعد أربعة عشر قرن من تاريخ المسيحية، أنه لا يوجد لديهم أساس كتابى واحد للثالوث! بعد الف و ربعمائة سنة، اكتشف المسيحيين أنه لا يوجد لديهم نص واحد يشهد للنص، فقاموا بإضافته للنص. و حتى لو طبقت نفس الكلام على التقليد اللاتينى، سيظل لنا نفس النكتة: بعد سبعة قرون كاملة من نشأة المسيحية، تذكر المسيحيين أنهم لا يجدون أساس كتابى واحد للثالوث، فقاموا بإدخال هذا النص ليكون أساس كتابى لهم. دار ما دار من سجالات عقيدية رهيبة حول آريوس و مكدونيوس و نسطوريوس و غيرهم، و لم يقم ناسخ واحد باختلاق النص ليخترع أساساً كتابياً للثالوث، و تذكروا بعد انتهاء السجالات الكريستولوجية فى القرن السابع أنهم لا يمتلكون أساساً كتابياً للثالوث! و رغم أن كل هؤلاء الهراطقة من الشرق، يخرج النص من الغرب!

كوميديا حقاً!

هذين المثالين هما أشهر اثنين يُستخدمان بشكل خاطىء تماماً لدعم قضية “الدافع اللاهوتى”. و أنا قد وقعت فى نفس الخطأ سابقاً فى كتاب “المدخل إلى علم النقد النصى للعهد الجديد”، و بنعمة الرب سيتم تنقيح هذا الخطأ فى الإصدار الثانى للكتاب.

نستخلص من هذه الدراسة ثلاثة نتائج جوهرية:

1- الدافع اللاهوتى مازال مُسبب مشكوك به لنشأة القراءات.
2- نص “الله ظهر فى الجسد” (1 تي 3 : 16) لم ينشأ نتيجة دافع لاهوتى، بحسب أفضل تفسير ممكن لنشأته.
3- نص الفاصلة اليوحناوية (1 يو 5 : 7 – 8) لم ينشأ نتيجة دافع لاهوتى، بل هو خطأ نسخى عفوى لا يشوبه أى شك.

الرسالة واضحة لمن يفهم فقط!

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] Bart D. Ehrman, Orthodox Corruption of Scripture, P. 78
[2] هرطقة تقول بأن المسيح انسان عادى و لكن الله تبناه (فى المعمودية أو القيامة) فأصبح ابن الله “بالتبنى”؛ أى الضد المخالف تماماً لما يعلم به نص العهد الجديد فى كل أسفاره!
[3] Bruce M. Metzger, Textual Commentary on The Greek New Testament, 2nd Edition, P. 574; Omanson, Textual Guide To The Greek New Testament, P. 438.
أنظر أيضاً:
Philip W. Comfort, New Testament Text & Translation Commentary, P. 662-663; Daniel B. Wallace, NET Bible, P. 2321-2322
[4] لا أريد أن اخرج عن الموضوع الرئيسى “الدافع اللاهوتى”، لذا لن أخوض فى تفاصيل هذه الموضوع الواسع. أنظر المراجع التالية لدراسة هذا الموضوع بالتفصيل:
Daniel C. Arichea & Howard A. Hatton, A Handbook on Paul’s First Letter to Timothy, P. 80-87; Walter Lock, Critical & Exegetical Commentary on The Pastoral Epistles, P. 44-46; I. Howard Marshall & Philip H. Towner, A Critical & Exegetical Commentary on The Pastoral Epistles, P. 521-528; George W. Knight, The Pastoral Epistles: A Commentary on The Greek Text (NIGTC), P. 182-186; Martin Dibelius & Hans Conzelmann, A Commentary on The Pastoral Epistles (Hermeneia), English Translation By Philip Buttolph & Adela Yarbro, P. 61-63; Daniel B. Wallace, Greek Grammar Beyond Basics: An Exegetical Syntax of The New Testament, P. 341-342.
و أنظر القواميس التالية للمعانى المعروضة للكلمات اليونانية:
Timothy Friberg, Barbara Friberg & Neva F. Miller, Analytical Lexicon of The Greek New Testament, P. 282; G. Kittel & G. Friedrich, Theological Dictionary of The New Testament, Vol 5, P. 207-213; Horst Balz & Gerhard Schneider, Exegetical Dictionary of The New Testament, Vol 2, P. 514-517; Barclay M. Newman, A Concise Greek-English Dictionary of The New Testament, P. 125; W. E. Vine, Complete Expository Dictionary of Old & New Testament Words, Vol 2, P. 128; Joseph H. Thayer, Greek-English Lexicon of The New Testament, P. 446
[5] أنظر البحث الموسع فى:
Murray J. Harris, Jesus As God: The New Testament Use of Theos in References to Jesus (Baker Academic, 1992).
المناقشة الخاصة بنص 1 تى 3 : 16 تقع فى الصفحات 267 – 268.
[6] Ehrman, Orthodox Corruption, P. 45
[7] مناقشات ايرمان للفاصلة اليوحناوية فى “سوء اقتباس يسوع”، تقع فى الصفحات: 81 – 82، 102، 113.
[8] Metzger, Textual Commentary, P. 648
لم أعرض سوى ميتزجر كممثل عن كافة العلماء، لأنى لا أعرف عالم واحد، أو تعليق نصى واحد، يختلف معه. اومانسون (ص. 513) و كومفورت (ص. 785) يتفقان معه فى تعليقيهما النصيين. و الأعمال التالية تتناول تاريخ مفصل حول انتقال النص و كيفية دخوله للهامش و منه لمتن النص، بجانب فحص شامل للتقليد اللاتينى. أنظر:
Canon A. Brooke, A Critical & Exegetical Commentary on The Johannine Epistles, P. 154-165; Raymond E. Brown, The Epistles of John: A New Translation with Introduction & Commentary, P. 775-787; Brooke F. Westcott, The Epistles os St. John: The Greek Text with Notes & Essays, P. 202-209.