الردود على الشبهات

إعادة نظر في نظريَّة “التَّراتبيَّة” Revisiting Subordinationism

إعادة نظر في نظريَّة “التَّراتبيَّة” Revisiting Subordinationism

التَّراتبيَّة (Subordinationism) أو “الخضوع”، يُقصد به وجود ترتيب من حيث الجوهر داخل الثَّالوث، و قد إستشفّ البعض من خلال كتابات آباء ما قبل نيقيه وجود مثل هذا الترتيب. رُبّما بدا مثل هذا التَّراتب ظاهرياً في بعض الكتابات و لكن هل قصد آباء ما قبل نيقيه إعتبار الإبن أقل جوهريّاً من الآب ؟، هل أنكر بعضهم لاهوت الكلمة ؟، و لماذا إستقر الوضع بعد نيقيه فلم يعد ملحوظاً ؟، هذا ما سأُناقشه في هذا المقال القصير تاركاً الإستفاضة لبحث مُفصَّل إن شاء الرَّب و عشت.
من خلال بعض كتاباتهم -و بحسب ما فهمها بعد النُقاد- إستنتجوا أن آباء الكنيسة في عصر ما قبل نيقيه قد آمنوا بأن الإبن و الرُّوح القُدُس أقل من الآب من حيث الجوهر، و توصَّلت بعض الدراسات لنفس النتيجة و لكن رُبّما أخطأ الكثيرين إذ تتبّعوا الأمر بغير تدقيق. و قبل أن أبدأ بالنظر في النصوص يجب أن أوضِّح أن ما ذُكر عن التَّراتُبيَّة ليس هو الصورة الوحيدة منها، بل هُناك تراتُبيَّة آريوس التي إعتبرت أن الإبن و الرًّوح آيونات إنبعثت من الجوهر الإلهي و لكنها ليست مُساوية له في الجوهر و لا الأزليَّة (ظن المُعترضون أن آباء نيقيَّه آمنوا بنفس هذا المنظور)، و تراتُبيَّة سابيليوس الليبي الذي إعتبر الآب و الإبن و الرًّوح القُدُس شخص واحد ذو ثلاثة ظهورات، و أيضاً تراتُبيَّة الغنوسيَّة التي تُعتبر نمط التفكير السَّائد في القرن الأوَّل و الثَّاني الميلاديين.


يقول القدِّيس يوستين الشَّهيد [الذي علّمنا هذه الأشياء هو يسوع المسيح الذي ولد لأجل هذا الهدف، و صُلب تحت حكم بيلاطس البُنطيّ رئيس ربع اليهوديَّة في أيّام طيباريوس قيصر، و نحن نعبده عن قناعة إذ تعلّمنا أنَّه إبن الله الوحيد ذاته، و نضعة في المرتبة الثَّانيَّة و روح النبوَّة في الثَّالثة، و سنُثبت هذا(الدّفاع الأوَّل 13)].
مبدئيَّاً يبدو أن القدِّيس يوستين يعبد الإبن كما يقول [نعبده عن قناعة إذ تعلّمنا أنَّه إبن الله الوحيد ذاته]، كما سبق (في الدّفاع الأوَّل) فذكر نفس الإيمان فيقول [لهذا نُدعى مُلحدون، و نعترف أننا ملحدون مادامت هذه الألهة (الوثنية) مُعتبرة (آلهة)، بدون تقدير الإله الحقيقي الوحيد، أبو كل بر و تقوى و كل طهارة، الذي هو بار بلا شر، لكن إياه و الابن و روح النبوة نحن نعبد و نُسبِّح، عارفين إيَّاهم بالمنطق و الحق (الدفاع الأوَّل 6)]، و يصف الإبن بأنَّه الأبديّ [أظهر الله أن كاهنه الأبديّ المدعوّ أيضاً من الرُّوح ربَّاً، سيكون كاهناً عن هؤلاء الذي في الغرلة (الحوار مع تريفو 33)]، و في نفس الحوار يقول يوستين أيضاً [سأُعطيكم مثلاً آخراً من الكتاب يا أصدقائي، أن الله قد ولد مبدءاً قبل كل المخلوقات، الذي هو قوَّة عقليَّة من ذاته، الذي دُعي بالرُّوح القُدُس مجد الله، الإبن و أيضاً الحكمة و الملاك و الإله و الرَّب و اللوغوس … و لأنه وُلد من الآب بمشيئته، كما نرى في أنفسنا حين نقول كلماتاً، لا و كأنها إنقسمت و قلَّت من داخلنا حينما نطقناها، بل كما نرى في حالة النار التي لا تقل حينما تُشعل أُخرى … كلمة الحكمة الذي هو نفسه الإله المولود من أبي كل الأشياء، هو الكلمة و الحكمة و القوَّة و المجد الذي للوالد (الحوار مع تريفو 61)]. مما سبق يتَّضح تماماً إيمان يوستين بأن الإبن هو مُساوٍ للآب في الجوهر كما يصفه بالنار التي تُشعل ناراً أُخرى بلا نُقصان أو إنقسام، و عليه فإن الآب و الإبن من نفس الجوهر، هذا ما إستخدمه آباء نيقيه في دستور الإيمان حين قالوا [نور من نور، إله حق من إله حق].
يقول إكليمندس السَّكندريّ عبارة شديدة الشَّبَه بعبارة يوستين [لست أفهم شيئاً مُخالفاً عن الثَّالوث إلَّا أن الثَّألث هو الرُّوح القُدُس، و الإبن هو الثَّاني، الذي به كانت كل الأشياء بحسب مشيئة الآب (المُتفرقات 5 : 14)]. و يشرح إيمانه بالثَّالوث في موقع آخر فيقول [صورة الإله هو كلمته، الإبن الحقيقي الذي من العقل، الكلمة المُقدَّس، النور من النور الحقيقي المُطابق (النُصح لليونانيين 10)]، فهل كان الآب قبلاً بلا عقل أو صورة، هل كان بلا نور حتى جاء نوره في الزَّمن ؟، و هل نوره و عقله أقل منه بحسب الجوهر ؟، و في نفس الكتاب يقول [هذا هو يسوع الأبدي، الكاهن العظيم العليّ الذي لله الواحد (النُصح لليونانيين 12)]، و أيضاً [(يقول المسيح لشعبه) إسمعوا يا شعبي غير المعدود … أُنادى كُل جنس البشر، الذين هم خليقتي بمشيئة الآب … تعالوا إليَّ لأضعكم في مكانكم الذي تستحقونه تحت الله الواحد و كلمة الله الواحد … هذا هو الإبن، هذا هو المسيح، هذا هو كلمة الله و ذراعه، القوَّة التي في العالم (أي أن كل شئ يستمد قوته و وجوده من الكلمة) … أمسحكم بدهن الإيمان، الذي به تُلقون عنكم الفساد، و أُريكم الحق المُجرَّد الذي به تصعدون إلى الله (النُصح لليونانيين 12)]. و يكون السُّؤال الواضح عن تعبيرهما “مرتبة ثانيَّة” و عن الرًّوح “مرتبة ثالثة” مُجاباً بأن ما قدَّمه يوستين و إكليمندس السَّكندريّ هو ترتيب عقلي لا بحسب الجوهر، و يتضِّح أن الخلفيَّة اللاهوتيَّة التي إعتمد عليها أغلب لاهوتيو القرون الثّلاثة الأولى لم تكُن تُقدِّم تعبيرات إيمانيَّة مُتفق عليها بل حاول كل منهم شرح إيمانه بحسب الأدوات اللغويَّة المُتاحة له في وطنه و عصره و ثقافته.
و أيضاً إستخدموا تعبير القدِّيس إكليمندس الرُّوماني حين قال أن المسيح “خادم” الله الآب ليستدل على أن المسيح أقل من الآب بحسب الجوهر. و يبدو أنَّهم قد أغفلوا أن القدِّيس نفسه قد عبَّر بصيغة إيمانيَّة ثالوثيَّة فقال [أليس لنا إله واحد و مسيح واحد و روح واحد للنعمة خيَّم علينا (الرسالة الأولى 46 : 6)]. كما إقتبس المعُترضون قولاً للقدِّيس إيريناوس يتكلم فيه عن الله الآب بإعتباره الإله الوحيد، و بالتأكيد لا توجد إشكاليَّة هُنا لأنه لا آب بلا إبن و بالتَّالي حينما يُذكر الآب يُذكر الإبن المولود منه و الرُّوح المُنبثق منه و حينما يُذكر الإبن يُذكر الآب الذي ولده و الرُّوح الذي إنبثق من الآب و حينما يُذكر الرُّوح يُذكر الآب الذي إنبثق منه الرُّوح و الإبن الذي ولد من الآب، و للمزيد في شرح هذه النقطة يمُكن الرّجوع للكتاب الثَّالث بعنوان شرح الإيمان المسيحيّ للقدِّيس أمبروسيوس أسقُف ميلان :[كيف يمكن أن الإبن لا يسكن في نور لا يُدنى منه و إن كان هو في حضن الآب، إن الآب نور و الإبن أيضاً هو نور، و ذلك لأن الله نور، و لكن إن افترضنا وجود نور آخر بجوار الألوهة ليكون هو النور الذي لا يُدنى فيه، فهل يكون إذن هذا النور أفضل من الآب حتى لا يكون الإبن في ذلك النور (نور الآب)، بينما مكتوب عنه أنه مع الآب و في الآب ؟، ليت الناس إذن لا يستبعدون التفكير في الإبن حينما يقرأون لفظ “الله” و دعهم لا يبعدون التفكير في الآب عندما يقرأون لفظ “الإبن”. فهل تظن أن الآب (موجود) بدون الإبن في السماء ؟، كان الإبن في الجسد و عندما أقول (في الجسد) أو أقول (على الأرض)، فأنا أتكلم كأننا عشنا في أيام تجسّده على الأرض التي يرويها الإنجيل، لأننا الآن لا نعرف المسيح بعد حسب الجسد، إنه و هو في الجسد ليس وحده كما هو مكتوب “لأني لست وحدي، لأن الآب معي” (يوحنَّا 8 : 16)، فهل تظن أن الآب يسكن وحده في النور ؟، و لئلا تعتبر هذه المناقشة كأنها مجرد تأمل، فخذ هذه العبارة القويَّة جداً، يقول الكتاب “الله لم يره أحد قط، الإبن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر (يوحنَّا 1 : 18)”. كيف يمكن أن يكون الآب وحده إن كان الإبن كائناً في حضن الآب ؟ كيف يُخبّر الإبن و يكشف عن ما لم يره ؟ فالآب إذن ليس كائناً وحده (بدون الإبن)].
و أيضاً شرح لنوفاتيان الرُّوماني (قبل نيقيه) : [إن كان المسيح مجرّد إنسان فلماذا وضع لنا قاعدة إيمانيَّة بقوله (يو 17 : 3) “الحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ و يَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح”، إن لم يكُن يُريد أن يُفهم كالإله، فلماذا أضاف “وَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ” إلا إذا كانت إرادته أن يُقبل أيضاً كالإله. لأنه لو لم يكُن يريد ذلك لما أضاف “وَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَه.] (عن الثَّالوث 16 : 4)


و ختاماً للمقال القصير الذي أعتبره مُقدمة لبحث، يُمكن أن نُفسِّر ما بدا من تراتبيَّة في كتابات الآباء السابقين لمجمع نيقيه في عدَّة نقاط، أولها الخلفيَّة الثقافيَّة التي شاع فيها الإستخدام الغنّوسي لمفهوم الآيونات، و إن كان فهم الآباء واضحاً لأزليَّة الإبن و كونه الخالق لا المخلوق. ثانياً و هو سبب غير مُفترق عن الأوَّل و هو أساليب التعبير المُتاحة في ذلك الزمان لم تكُن قد إتسمت بطابع مسيحي مُتفرِّد بل تشابهت كثيراً مع الطريقة الفلسفيَّة المُتواجدة في ذاك العصر، و حينما إزدادت المجامع بدأت اللُغة اللاهوتيَّة تتوحَّد مما أنهى بشكل كبير إمكانيَّة إستخدام التعبيرات التي قد تؤدِّي إلى الإلتباس في الفهم


و ما يلي بعض أقوال آباء ما قبل نيقيه عن الثَّالوث، أترك القارئ ليتمعَّن في الإسلوب و الفكر و يرى هل إعتُبر الإبن و الرُّوح أقل أم واحد في الجوهر مع الآب.


القديس إغناطيوس الأنطاكي [لهذا السبب أيضاً تعرضوا للإضطهاد، إذ كانوا مُلهمين بنعمته إلى النهاية حتى أن الذين هم عصاة يصيرون مُقتنعين بأنه هناك إله واحد أظهر نفسه في يسوع المسيح إبنه، كلمته] (الرّسالة إلى ماغنيسيا)


و أيضاً [يوجد طبيب واحد للجسد و الرُّوح، مصنوع (مخلوق بحسب الجسد) و غير مصنوع (غير مخلوق بحسب لاهوته)، الإله في الجسد، الحياة الحق في الموت، من العذراء و من الإله، قابل للألم و غير قابل للألم، يسوع المسيح ربنا] (الرّسالة إلى كنيسة أفسس)


القدِّيس إيريناوس أسقُف ليون [هكذا نشرت بنا الكنيسة في كل أرجاء العالم حتي منتهي الأرض ما تسلمته من الرسل و تلاميذهم (و هي تؤمن) بإله واحد، الآب القدير خالق السموات و الأرض و البحر و كل ما فيها، و بمسيح واحد يسوع إبن الإله، الذي تجسد لأجل خلاصنا، و بالروح القُدُس الذي نطق و إعتنى بالأنبياء، و بمجيئ المسيح و ولادته من عذراء و آلامه و قيامته من الأموات، و بالصعود إلى السموات بحسب الجسد الذي ليسوع المسيح ربنا، و بمجيئه من السموات بمجد الآب ليجمع كل الأشياء إلى واحد و بقيامة أجساد كافة البشرية لتجثو كل ركبة مما في السماء و مما فوق الأرض و مما تحت الأرض و يعترف كل لسان لربنا يسوع المسيح ملكنا و ربنا و إلهنا و مخلصنا كمشيئة الآب السماوي الذي لا يُرى…] (ضد الهرطقات 1 : 10)


العلّامة أثيناغوراس الأثيني [لسنا وثنيين لأننا نعرف إلهاً واحداً غير مخلوق، أزلي، غير مرئي، غير مُتألم، لا يُفهم، لا يُحد، نعرفه فقط بالفهم و السبب، مُحاط بالنور و الجمال و القوة و القداسة، به خُلق الكون بواسطة كلمته (His Logos) و حُفظ في إستقراره و بقاؤه و نظام مستقر، و نعرف أيضاً إبن الإله، و يجب أن لا نظن أنه شئ هزلي أن يكون للإله إبناً، إذ يُصوّر الشعراء الألهة كرجال، تفكيرنا ليس كهؤلاء بخصوص الآب و الإبن، لكن إبن الإله هو كلمة الآب في الفكر و الحركة، لأن الترتيب به و فيه (الكلمة) كل شئ كان، الآب و الإبن هم كيان واحد (كائن واحد – يكونون واحداً). الإبن في الآب و الآب في الإبن، في وحدة و قوة الروح (الروح القُدُس) فهم و عقل الآب (νου̂ς καὶ λόγος) هو كلمة الآب، و بكن إن جاء في ذكائك الفائق (إسلوب إحترام لأنه يُخاطب الإمبراطور) أن تسأل ما هو المقصود بالإبن، سأشرح بإختصار بأنه أول أعمال الله ليس بإدخاله للوجود (الخلق) لأنه من البدء كان الإله العقل الأبدي و اللوغوس فيه، موجوداً بالطبيعة مع اللوغوس، صار خارجاً فكرة ذات قوة مهندسة لكل الأشياء، و كأنه طبيعة بلا مُسبب … هكذا يتفق روح النبوة إذ يقول (أم 8 : 22) اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ الْقِدَمِ. الروح القُدُس نفسه العامل في الأنبياء نحن نؤمن أنه إنبثاق من الإله، ينبثق منه و يعود إليه كشعاع الشمس، فكيف إذاً لا نتعجب حين نسمع رجالاً يتكلمون عن الإله الآب و الإله الإبن و الروح القُدُس، فهل من يوضّح قوة إتحادهم و كرامتهم بحسب الترتيب يُدعى ملحداً ؟.] (الدفاع عن المسيحيين 10)


و في نفس الدّفاع [“نؤمن بإله (واحد)، و إبن الذي هو كلمته (His Logos) و روح قُدُس (واحد)، متحدين في الجوهر، الآب و الإبن و الروح القدس، لأن الإبن هو ذكاء و عقل (νους) و حكمة الآب و الروح القُدُس هو الإنبثاق كما الشعاع من النار.] (الدفاع عن المسيحيين 24)

إلى هُنا أعانني الرَّب