أبحاثإلحاد

بعيد عن العلم، ليس بعيداً عن العقل – جون ليونكس

بعيد عن العلم، ليس بعيداً عن العقل – جون ليونكس

العلم, العقل, جون ليونكس, ليونكس, جون لينكس, الإلحاد
العلم, العقل, جون ليونكس, ليونكس, جون لينكس, الإلحاد

بعيد عن العلم، ليس بعيداً عن العقل – جون ليونكس

 

«كم يدهشني أن الصورة العلمية للعالم الحقيقي المحيط بنا

قاصرة للغاية. فهي تزودنا بالكثير من الحقائق،

وتضع كل خبراتنا في نظام متسق عجيب، ولكنها تصمت صمتاً رهيباً

عن كل الأمور المتنوعة شديدة القرب من قلوبنا التي تشكل أهمية

عظمى لنا. فهي لا تنطق كلمة واحدة عن الأحمر والأزرق،

المر والحلو، الألم المادي واللذة المادية، وهي لا تعرف شيئاً عن

الجمال والقبح، الخير والشر، الله والأبدية. أحياناً

يتظاهر العلم بأنه يجيب عن الأسئلة في هذه المجالات،

 ولكن إجاباته غالباً ما تكون في منتهى السخف،

حتى إننا لا نعبأ بها.»

“إروين شرودينجر” Erwin Schrodinger

 

 

 

لقد بينت حتى الآن أن العلم بكل ما له من قوة لا يستطيع أن يتناول بعض ما نطرحه من أسئلة جوهرية، ومع ذلك فالكون يحوي دلائل معينة تشير إلى علاقتنا به. دلائل في متناول العلم. فمثلاً إمكانية فهم الكون بشكل عقلاني تشير إلى وجود “عقل” مسؤول عن وجود كل من الكون وعقولنا. وهو ما يمكننا من الاشتغال بالعلم واكتشاف البنى الرياضية الرائعة التي تمكن فيما نلاحظه من ظواهر. وليس هذا فحسب، ولكن زيادة إدراكنا للضبط الدقيق في الكون عموماً، وفي كوكب الأرض خصوصاً تتسق مع الوعي الشائع بأن وجودنا هنا مقصود، وهذه الأرض موطننا.

ولكن إن كان هناك “عقل” وراء الكون، وإن كان ذلك “العقل” يقصد لنا أن نكون هنا، فالسؤال الجوهري الآن هو: لماذا نحن هنا؟ وما غرض وجودنا؟ إن هذا السؤال هو أكثر ما يضني القلب البشري. والتحليل العلمي للكون لا يستطيع أن يجيبنا، كما رأينا أنه عاجز عن إجابة سؤال: لماذا صنعت الخالة ماتيلدا الكعكة؟ فالفحص العلمي للكعكة يمكن أن يخبرنا أنها صالحة للبشر، بل يخبرنا أيضاً أن الاحتمال الأرجح أنها مصممة على نحو يأخذ البشر تحديداً في الحسبان حيث إنها مضبوطة بدقة بما يتناسب مع احتياجاتهم الغذائية. وهو ما يعني أن العلم قد يتمكن من أن يشير إلى خلاصة مفادها أن للكعكة غرضاً، ولكنه لا يستطيع أن يخبرنا بهذا الغرض على وجه التحديد. ومن العبث أن نبحث عن الغرض داخل الكعكة نفسها. فالوحيدة التي يمكنها أن تكشف عن الغرض هي الخالة ماتيلدا. والعلم الحقيقي لا يجد حرجاً في عجزه في هذا المجال، ولكنه يعترف بأنه غير مؤهل لإجابة هذه الأسئلة. ومن ثم، فالبحث في مكونات الكون: مادته، وتراكيبه، وعملياته، لاكتشاف غرضه وغرض وجودنا يمثل خطأ منطقياً فادحاُ في المنهجية. ولكن الإجابة النهائية، إن وجدت، لا بد أن تأتي من خارج الكون، من شيء أو شخص تكون علاقته بالكون تشبه علاقة الخالة ماتيلدا بالكعكة.

ولكن كيف نكتشف ذلك؟ لقد بينا أن هناك “عقلاً” وراء الكون، عقل قصد لنا أن نكون هنا. ونحن لنا عقول. وعليه، فمن المنطقي أن أحد الأغراض الرئيسية لعقولنا ليس فقط استكشاف بيتنا الكوني البديع، بل أيضاً فهم “العقل” الذي منحنا هذا البيت.

علاوة على ذلك، نحن البشر قادرون على التعبير عن أفكار عقولنا وتوصيلها للآخرين. فمن الغريب جداً أن يكون “العقل” الذي اشتققنا منه أقل منا قدرة على التواصل والتعبير عن ذاته. وهو ما يأتي بنا فوراً إلى هذا السؤال: هل من أي دليل ذي قيمة ومصداقية على أن ذلك “العقل” تحدث إلى عالمنا مطلقاً؟

الكثير من علوم الكون القديمة ملأت الكون بآلهة من كل الأنواع. وكان الاعتقاد السائد أن هذه الآلهة تنبثق من فوضى المادة الأولية للكون، أي أنها في الأساس جزء من المادة الأساسية للكون نفسه. وهذه الآلهة لا يمكن أن تشكل الإجابة لسؤالنا لأننا بطبيعة الحال نبحث عن “عقل” يوجد مستقلاً عن الكون.

وقد صاغ الفيلسوف اليوناني أرسطو مفهوم “المحرك الذي لا يحرَّك” “Unmoved Mover” الذي رغم أنه في ذاته لا يتغير أسبغ التغيير على الأشياء الأخرى. وقد رفض الفكرة القائلة إن مبدأ التغيير يجب أن يكون داخل هذا “المحرك الذي لا يحرَّك” باعتبارها فكرة سخيفة، وعليه آمن أنه يوجد خارج الكون على نحو ما. إلا أن “المحرك الذي لا يحرك” عند أرسطو كان بعيداً جداً ومجرداً حتى إنه لا يهتم بالتحدث إلى العالم.

ولكن قبل أرسطو بزمن بعيد كُتب سفر التكوين. وهو يبدأ بهذه الكلمات: «في البدء خلق الله السماوات والأرض.» ويقف هذا التصريح في تناقض تام مع غيره من النظريات الأسطورية في أصل الكون، مثل النظرية البابلية حيث الآلهة هي جزء من مادة الكون، والكون مصنوع من أحد الآلهة. فسفر التكوين يقول بوجود الله الخالق الذي يوجد بالاستقلال عن الكون، وهو زعم جوهري في اليهودية والمسيحية والإسلام. وقد عبر عنه الرسول المسيحي يوحنا قائلاً: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس.»

وهذا التحليل يستحق أن نوليه انتباهنا في ضوء ملحوظة “بولكينجهورن” التي ذكرناها آنفاً من أن مدخلات الله كانت “معلوماتية”، وإن كان يتحدث في ذلك الصدد عن الخليقة الأصلية. فقد تطرقنا إلى تداعيات هذا التصريح الكتابي بخصوص أسبقية مفهوم المعلومات على المادة. وأود الإشارة إلى تداعيات أخرى. فاللفظة المترجم إلى “الكلمة” هي في اليونانية “لوجوس” Logos التي غالباً ما استخدمها فلاسفة اليوناني للإشارة إلى القانون العقلاني الذي يحكم الكون. وهنا نجد التفسير اللاهوتي لإمكانية فهم الكون بشكل عقلاني، ولما يميز مكوناته الفيزيائية من ضبط دقيق، وتعقيده البيولوجي الذي يشبه الكلمات. إنه نتاج “عقل”، عقل اللوجوس الإلهي. إن ما يكمن وراء الكون أكبر بكثير من مجرد قانون عقلاني. إنه الله، الخالق نفسه. فما يكمن وراء الكون ليس مفهوماً مجرداً، ولا قوة غير شخصانية. ولكن الله الخالق شخص. وكما أن الخالة ماتيلدا ليست جزءًا من كعكتها، الله كذلك ليس جزءًا من مادة كونه.

والآن، إن كانت الحقيقة العظمى الكامنة وراء الكون إلهاً شخصياً، فهذا يجر تداعيات شديدة الأهمية على البحث البشري عن الحق، حيث إنه يتيح إمكانية جديدة لمعرفة الحقيقة النهائية بخلاف دراسة الأشياء (دراسة علمية). وذلك لأن الأشخاص قادرون على التواصل بطرق غير متاحة للأشياء. الأشخاص قادرون أن يكشفوا عن أنفسهم بالكلام. ومن ثم، يوصلون معلوما عن أنفسهم لا يمكن اكتشافها بإخضاع عقولهم لأحدث أجهزة المسح الضوئي. وبما أننا أشخاص، يمكننا أن نتعرف على أشخاص آخرين. وبالتالي، السؤال المنطقي الذي يمكن أن نطرحه الآن: إن كان الخالق شخصاً، هل تحدث مباشرة، بخلاف ما نعرفه عن بصفة غير مباشرة من بينة الكون؟ هل كشف عن ذاته؟ لأنه إن كان هناك إله، وإن كان قد تحدث، إذن ما قاله سيشكل أهمية قصوى فيما يختص ببحثنا عن الحق.

وهنا نصادف مرة أخرى زعماً كتابياً بأن الله تحدث بأكثر الطرق مباشرة وعمقاً. فالله الكلمة الشخص صار إنساناً ليبين بالكامل أن الحق الأعلى وراء الكون هو شخص. «والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءً نعمة وحقاً.»

إنه تصرح محدد جداً. فهو يؤكد أنه في وقت معين وفي مكان محدد شفّر الله الخالق ذاته في البشرية. وهو ما يمثل بالطبع زعماً صادماً عن فعل فائق للطبيعة من الطراز الأول. ولكن كما رأينا في الفصل الأخير، العلم لم ولن يتمكن من القضاء على ما هو فوق طبيعي. وكما يشير “شرودينجر” في الاقتباس المذكور أعلاه، هناك أشياء لا يمكن للعلوم الطبيعية أن تعرفنا بها، ولا يمكنها أن تزعم ذلك. إلا أنه إن كانت الكثير من القضايا تقع خارج اختصاص العلم، فهذا لا يعني أنه ليس هناك أدلة على صحتها. ولكن طرح تلك الأدلة يتجاوز حدود هذا الكتاب ويخطو بنا إلى عوالم التاريخ والأدب والخبرة البشرية. ولذا، يجب أن أكتفي باقتباس “آرثر شولو” Arthur Schawlow الذي فاز بجائزة نوبل عن إنجازاته في مجال مطيافية الليزر Laser spectroscopy: «إننا محظوظون بالكتاب المقدس، ولا سيما العهد الجديد الذي يخبرنا بالكثير والكثير عن الله بمصطلحات مفهومة لنا نحن البشر.»

وختاماً، أصرح بأن العلم لم يقتل الإيمان بالله، بل العكس تماماً. فنتائج العلم تشير إلى وجوده، بل إن المشروع العلمي نفسه لا يقوم إلا بوجوده.

ولا مفر أننا جميعاً، سواءً أكنا مشتغلين بالعلم أم لا، لابد أن نختار الفرضية التي نود أن نتخذ منها نقطة انطلاق لنا. والخيارات ليست كثيرة، فليس أمامنا سوى خيارين أساسيين. إما أن الذكاء البشري يدين بنشأته لمادة عديمة العقل، أو أنه يوجد خالق. والغريب أن البعض يزعمون أن ذكاءهم هو ما يقودهم إلى تفضيل الخيار الأول على الثاني.